وحدي أجلس على مقعد مهمل في زاوية من حديقة هجرها المحبون خوفاً من رصاص طائش، أبتكر قصصاً لا تخطر على بالي أيام كنا معاً، أكتبها بحروف مرتعشة وأدرجها في زاوية معتمة من رأسي.. وحدي أجلس، أعيد لقاءات انتهت صلاحيتها وأدمدم بأغنيات أصبحت في ذمة النسيان، من يتذكر اليوم زكية جورج وصديقة الملاية وصبيحة إبراهيم وإنصاف منير؟
لديّ من الوقت ما يسمح بالكثير من الثرثرة، ومن الهذيان أيضاً.. الطقس مضطرب، مثلي تماماً، كتلة هواء حارة تلفح وجهي حاملةً معها غباراً كثيفاً ينتشر في المكان.. ثم.. يهدأ كل شيء.
ألملمُ خصلات شعري التي تناثرت، وألملم حروف الحكايات لأصفّها من جديد وأبرم معها خيوط روحي قبل أن تفر من جسدي.. وجسدي ينتفض حين تلمسه بقايا منك ما تزال عالقة بخشب المقعد، وللخشب رائحة شتاءات مشبعة بالذكريات الصدئة.
تنوس قناديل الحديقة، مثل ذبالات أوشك زيتها على النفاد، يذوب الضوء الباهت رويداً، وينسحبُ مُفسحاً المجال للعتمة لكي تتسلل وتلف غصون الأشجار.. الأشجار تبدو عند المساء مثل هياكل خرافية مندثرة، يمكنني سماع خشخشة وحفيف ورفرفة ولهاث مكتوم وغامض بين الغصون المتأرجحة، ويمكنني أن أرى كل الوجوه التي غادرتني، وقد نتسامر معاً في قلب الليل.
وحدي أجلس، مُؤطرة بالذكريات التي لها طعم العسل، والحنظل أيضاً، تأتي وتنفلت، تقترب وتنأى تاركة في المكان خيالات رجل عاد من الحرب بملامح مشوهة وخيالات بنت بدأت للتو تضفر جدائل عشقها للحياة، وقلبي الذي يشبه طائراً مقصوص الجناحين ينبض ببطء مرة، ويخفت حتى أكاد لا أسمع دقاته في وحشة المكان.
الفراغ الذي يلف المكان يحيلني الى جذاذات ذائبة في حرارة المساء، إحساس كثيف بالعزلة يملؤني فتسّاقط من رأسي حكايات مرتجلة لا عناوين لها، أقرر الشروع بكتابتها على الورق حالما أعود الى البيت، وأعرف أنني حين أعود ستكون الحكايات قد هربت من رأسي، وتكون أدراج رأسي قد فرغت تماماً، كما لو أن عاصفة كنستها وجرفتها بعيداً.
سأملؤها ـ أقول لنفسي ـ فما يزال أمامي متسع من الوقت، والوقت لا نهاية له، وليس ثمة ما يشغلني.. سيمتلىء رأسي بالحكايات حين أجلس على المقعد المهمل، حيث ساعات الليل تمتد وتتموج وتتمطى، وحارس الحديقة سيمر بالقرب مني ويتجاهلني كما في كل مرة.
سأكرر طقسي، وأمضي الى الحديقة وسيعم السكون.. لا شيء سوى ما يحدث بين الأغصان المتشابكة، خشخشة وحفيف ورفرفة ولهاث غامض وصفارة حارس ليلي يمر بالقرب مني ويتجاهلني، أو ربما اعتاد على الفراغ حيث لا أحد يجيء الى هذا المكان منذ صار الرصاص طقساً يومياً وصار عليه أن يحرس العصافير الخائفة وقامات الأشجار الآيلة لليباس، وسيفترض أنني أما مجنونة أو هاربة من شيء ما.. أو أنني شبح امرأة ماتت برصاص طائش وبقيت روحها تتسكع في المكان.
للّيل عيون تلصف مثل عيون القطط، وله أبواب موصدة، سأقرعها واحداً واحداً لعلّ أحداً يفتحها ويسألني من أكون وماذا أريد ولماذا أقلِقُ صمت السيد الليل بحكايات لم يعد من أحد يصغي إليها.. لكنني سأواصل الطرق وأفتح ثغرات واسعة في مفاصل الأبواب وسأدخل الى هناك، الى قلب الليل وأهتك سريته، وأعيد ضجيج الناس وآهات المحبين وعراك الأطفال وشقاواتهم ونداءات الأمهات وضحكاتهن التي تخرج من القلب وإليه تعود، وأعيد الشوارع الى الناس وأوقف صفارات الإنذار وطيش الرصاص وحروب الجنرالات الخائفين من خيالهم، المحتمين بحراسات هشة تدّعي البطولة.
سأعيد كل شيء الى ما كان، وأنا أجلس على المقعد المهمل كل مساء، أصف الحروف على الحروف، وأدوّن حكاياتي المرتجلة في قلب الليل، ما دام النهار قد اختفى الى الأبد.
هدية حسين : في قلب الليل
تعليقات الفيسبوك