من ينظر الى الفن العراقي القديم والفن الفطري القديم والحديث، بصورة عامة والسومري والبابلي والأشوري بشكل خاص، والفن الإفريقي وفن الشعوب الأخرى البدائي والفطري، يقف إمام إشكال اقرب الى الحلمية منها الى الواقع، هناك ترابط واضح في تشكيل البشر والأشياء، لما اصطلح عليه الفن السريالي، وهذا موجود في الكثير من الفنون البدائية والفطرية للشعوب، ما يجعلنا نقول إن روح الفن السريالي متوفرة في بنية الإنسان منذ ولد على هذه الأرض، ولكن تحديدها كما جاء بها لوتريامون والسرياليون بعده في القرن التاسع عشر وما كتبه اندريه بريتون في بداية القرن العشرين، هو كمن يكشف الغطاء عن المستور، أو يعيد صياغة الأشياء كما هي ولكن ضمن منهج، ولعل التطورات التي حدثت في المجتمعات الغربية من مجتمع إقطاعي يتسم بالهدوء والمراوحة الزمنية ومجتمعات تمجد العائلة وتجمعاتها، الى المجتمع الصناعي الذي تتحرك به الحياة بسرعة غير ملاحقة، والانفلاش المجتمعي، حيث لم يعد للعائلة تلك السطوة ولا للأبوة، هو الذي جعل رواد السريالية من نبش وجودها في داخل النفس البشرية، لإيجاد الإنسان المنعزل المتوحد والبحث عن وجودها في التراث والوجود المعاش، وعندما ننظر الى إعمال الفنان الهولندي هيرونيموس بوش ( 1450- 1516 ) وهو الذي يعتبر أول من أسس للسريالية ومهد السبيل إليها، في رؤيته للحياة بان كل شئ موجود محبط، ولا أمل ولا جدوى من المساعي الإنسانية، ثم يأتي الفنان الهولندي أيضا بيتر بروغل ( 1525- 1569 ) على غرار هيرونيموس، يتوضح إن السريالية تتعايش مع الإنسان اثر الاحباطات التي يعيشها ونتاج اللاوعي وما يراوده من أحلام، وقد أخذت
بعدها في مختلف الأنساق الثقافية لأنها بنت وجهة نظرها على السخط من التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنها في المنطقة الشرقية تأخرت لأنها لم تكن موجودة إلا على ارض التراث الميثيولوجي. وعندما انبثقت المشكلات الآنية التي حملتها التيارات الفكرية الغربية للشرق، ظلت تراوح السريالية كمذهب يعطي صياغات الحياة اليومية، فليس هناك مشكلات معقدة في مجتمع زراعي تحول الى الكمبرادورية (التجارة) قافزا على مراحل متعددة في واقع الحياة، مثلما يحدث في المجتمعات الصناعية، مما جعل التفكير يتغاير ليس في علاماته التي انطبعت في المجتمعات الغربية، ولكن بما يحمله الشرق من خصوصية تفترق ولا تقترب من خصوصية الغرب، وهو الافتراق بين المادي الغربي والروحي الشرقي، وبالتالي لم يكن أمام الفنان الشرقي إلا الاستعانة بالتراث والتاريخ لبناء العلاقة، فجاءت الإعمال التي قدمت على مر عدة
عقود لا تحمل طفح المشكلات الآنية للإنسان، وإنما حملت تطابق الفكرة مع رؤية الفنان في العصور المتأخرة، كما نشاهد هذه المؤثرات في منحوتات الفنان جواد سليم وميران السعدي، وبعض تشكيلات راكان دبدوب والفنانون الفطريون منعم فرات وحيدر الجعيفري وهادي كاظم التميمي وآخرون، حتى أخذت المنحى الذي يقترب كثيرا من فلسفة السريالية على يد الفنان علاء بشير، وعلامة الإنسان السريالي هو الإنسان المبحر بعالم لا ينسجم مع العالم الواقعي الذي يعيشه انه مرتحل أبديا، الحلم رفيقه في كل لحظة تمر عليه، ولهذا فكل أفعاله غير منطقية، وهو ما يشبه ما يطلق عليه علم النفس (الانفصام المزاجي)، لأنه دائم التأمل في داخله في عالمه الخاص، يستمد من اللاوعي اكتشافه لسر وجوده قبل إتباعه إي طريقة أو سلوك في الحياة، وحتى عندما نتناول الفنان العراقي مؤيد محسن فإننا لا نستطيع إن نقول انه سريالي بمعنى الفلسفة التي قامت عليها السريالية، فمؤيد محسن يرسم صورة واقعية متقنة لحدث متشابك ذاتي واني بطريقة سريالية مثيرة للدهشة لجر المتلقي الى التأمل والتفكير بما يريد الفنان إن يقوله، ومن هنا لا يمكن اعتبار لوحاته إعمال سريالية خالصة مثل بعض إعمال علاء بشير التي تحمل بصمات الفلسفة السريالية، ولكننا نجد الفلسفة السريالية بلا جدوى الوجود تأخذ مجالها في بعض إعمال الفنان المغترب بشير مهدي، وإذا وقفنا إمام معرض الفنان ثائر الكركوشي الذي أقامه في قاعة وزارة الثقافة في المدة الأخيرة سنتساءل ما هو النهج الذي اتخذه، هل يمكننا إن نقول عن نصوصه، هل هي جزء من الفكر الفلسفي للسريالية، إن إعمال الفنان ثائر الكركوشي تنتمي ولا تنتمي الى الفلسفة السريالية، ولهذا فالمنهاج الذي يرسم به يحاور السريالية ولا يتعمق بها، فهو يرسم ضمن حدود الفكرة التي تنبثق لديه بشكلها الآني، إي انه يحاول إن يتعايش مع الواقع ضمن رؤية حلميه غير بعيدة عن الفلسفة السريالية ولكنها ليست قريبة منها.
التمرد الفني من سمات العصر الرأسمالي…
وتفسير ذلك أن الفنان جزء من منظومة فكرية تتبع نسق فلسفي يحول الأفكار والإحداث ضمن واقعه المعاش ومؤثرات مجتمعه الى قيم جمالية تشارك في إبداعها معالجة المشكلات الإنسانية عبر منظومتها الجمالية، وقد حاولت ما بعد الحداثة الرأسمالية إن تغير هذه التركيبة، وتجر الفنان للغوص في الذات التي ظهرت نزعاتها طيلة عقود ما بعد الحرب العالمية الأولى، وان تذوبه في صميم تفكيرها المادي الخالي من المشاعر والأحاسيس، الذي لا يدرك إلا مصالحه الخاصة، وهو أساس الصراع الذي انتظم عبر عقود بين الفنانين والسوق الرأسمالية، وان انتصرت السوق الرأسمالية بعض الشئ إلا إن الفنانين عادوا للتمرد من جديد بعد خضوع بعضهم لفترة من الزمن، والمذهب السريالي احد المناهج المتمردة منذ بداية القرن العشرين على ظلم الرأسمالية، وهذا سبب تراجعه في الحقبة التي تلت منتصف القرن العشرين مع موجة ما بعد الحداثة، إلا أنها انتعشت في البلدان المضطهدة والواقعة تحت نير وعبودية الرأسمال العالمي، وبالذات شعوب الشرق الأوسط التي شكلت مع التعبيرية المجال الأرحب، وهذا ما يجعلنا نتوقف مع الفنان ثائر الكركوشي في تعبيريته التي يطعمها بالانزياح نحو المذهب السريالي، فهو يحاول إن يتحدث بلغة السريالية، الوحدة والبحث عن الذات في المجهول، ولكن تبقى رسوماته تفتقر الى الغوص في معاني الوحدة لاكتشاف سر وجودها وحالة القلق التي تلف الإنسان المعاصر، لاشك انه اشتغل على بناء لوحة تمتلك مقوماتها وعناصرها الجمالية في الخط واللون والتعبير، ولكنها تبقى خليط بين الواقعية والتعبيرية بإدخالات الفكر بروحية المنهج السريالي، وهو فرق بين إن تكون اللوحة ذات منحى فلسفي تكشف حالة الإنسان في هذا العالم في وحدته وانعزاله، وتتبع حلمه في اللاوعي، وبين لوحة تتبع الرؤية كأساس لبناء الفكرة، ولكن هذا لا يمنع إن ندرك إن الفنان ثائر يمتلك القدرة الرائعة على الرسم الواقعي بأسسه الأكاديمية، ويمتلك قوة الخط وشفافية اللون، وان أخذت النصوص منحى غير الذي انطلق من اجله، وهو ما يحتاجه لترسيخ ما يريد إن يقوله، وكما سبق إن ذكرنا إن الفنان منظومة فكرية تتحسس نبض الشارع ، وتشعر بما يصيب الناس والحياة من ظلم وقهر، وهذا يدلنا على عمق ما يشتغل عليه هو هذا الإحساس المباشر بما يقع على إنسان هذه المنطقة من ظلم وتعسف، وتبقى إشكاله ترتدي حلميه التحول إلا أنها حبيسة وجودها الآني، تتسم بنائية لوحته بقوة إدراكه للون وتماسك الخطوط والتوازن العام للوحة ببعدها الإنشائي، واختياراته للألوان الشفافة التي تمنحنا أجواء حلميه، وخيال مبحر .
مؤيد داود البصام : ثائر الكركوشي وأحلام اليقظة ..
تعليقات الفيسبوك