حسين سرمك حسن : ضياء الخالدي في “قتلة”؛ الفن العظيم ينتعش حتى في الجحيم

hussein sarmak 3# مخاطر إحساس الروائي بالقدرة الكلية :

يحمّل الكاتب ، الذي يتحمس لعمله ، شخوصه ما لا طاقة لهم عليه أحيانا من الناحية الفكرية والسلوكية . وهي من المخطر التي ينبغي على الكاتب أن يتنبه لها دائماً . الفعل الإبداعي ، وخصوصا في مجال الرواية حيث يتحقق مجال أوسع لفعل “الخلق” والمشاعر المصاحبة له التي تنفخ في روح الكاتب إحساساً كبيراً بـ “القدرة الكلية – omnipotence” التي قد تجعله يوسّع ظلال إمكاناته المعرفية والفنّية لتجعل بعض الشخصيات التي لا يسندها مستواها التعليمي أو خلفيتها الثقافية والإجتماعية تتحدث بمعرفية وثقافة الكاتب العالية وتساؤلاته الحرجة . خذ هذا الحوار بين عماد ، وشكرية العجوز ؛ المومس السابقة وقارئة البخت الحالية، الأمّية التي علّمها أحد الشباب من روّادها، القراءة والكتابة في الخمسينات، ولم تتبحر سوى في كتب الطالع والتنجيم :
(قلتُ [= عماد] لشكرية :
-هل تخافين الموت ؟
-تريد الصراحة ، نعم . أخافه .
-هل لأن ماضيك أسود؟
-لا . إنما لأني لا أعرف ماذا بعد الموت .
-الحساب ، والجنة والنار .
-أعتقد أن الله سيُدخل العراقيين الجنّة بلا حساب . لكني أخاف العالم الجديد الذي سأكون فيه – ص 64) .
وقد جعل الروائي حتى صانع الشاي البسيط “شمخي” يشارك في الإجتماع الأول للجماعة ، ويقترح اسمين لتصفيتهما ، وهو يقطع بارتباطهما بالأجنبي بصورة غريبة :
(شابان يرتبطان بالخارج ، وأجرتهما تُدفع بالأوراق الخضر – ص 68) .
dia 4وبفعل تأثير الشعور بنفس هذه القدرة إكتفى ضياء بالإشارة السريعة إلى “شكرية” في أحد مواقف الرواية ، محاولاً تعميم حضورها كرمز لبغداد وتأريخ العراق :
(أعوام شكرية الثمانون تعني العراق ، فكيف سأكون بإمكاني أن أبتعد وأهرب من تلك العباءة السوداء ، وكيس تبغها الأحمر ؟ – ص 168) .
وأعتقد أنها واحدة من أسوأ الإحالات التي وقع فيها الكاتب في روايته ، لأنه لم يوفّر الشروط المطلوبة لجعل شكرية المومس رمزاً ، ولكنه انجرف – كما قلت – بتيار الإحساس بالقدرة الكلية الذي دغدغ نرجسيته ، وجعله “يعتقد” أنه قد استوفى تلك الشروط .

# المقارنة الظالمة بين المومس والسياسيين :

وفي التفاتة قد تبدو مبتذلة أمام النظرة العادية ، يحاول عماد ، ذات ليلة ، استكشاف التاريخ السرّي الشائن للعجوز شكرية . تخبره ببساطة وبلا خجل أنها كانت عاهرة منذ الخمسينات حتى تركت المهنة نهاية الثمانينات . عرفت الرجال لمدّة تزيد على ثلاثين عاما . عاهرة الأفندية والموظفين .. مومس لطبقتين . يعلّق عماد على كلامها في حوار داخلي :
(وهبتْ اللذة حتما للشيوعيين والبعثيين والقوميين وكل الأحزاب . عراقية لا تفرّق بين واحد وآخر – ص 78) .
وهنا ، وبرغم ما في آرائي من استفزاز للقارىء ، فإن ضياء يحفزني لأستعيد العبارة النمطية التقليدية التي يوصف بها السياسيون “السيّئون” بأنهم مثل المومسات أو أسوأ منهن . أرى في هذا التشبيه ظلما وتجنّيا ومجانبة للحقيقة . المومس في حقيقتها تعمل بعناء وأحيانا تُذل ويُستباح وجودها . وفي مهنتها تقدّم لك المتعة مقابل المال ، ولا تسلبك حقوقك أو تقتلك . فما الذي يفعله السياسيون السيّئون عليهم لعنة الله . إنهم يذلونك ويستبيحون وجودك ، بل يحطّمون حياة شعوب كاملة في بعض الأحيان . فأي مقارنة ضيزى وظالمة هذه ؟!
وفي أوقات الأزمات، كالحروب والإحتلالات والصراعات الكبرى في حياة الشعوب ، تنتعش هذه المهنة ، وتتزايد الحاجة النفسية العميقة للمومسات ، ليس بسبب انتعاش المهنة ، بفعل العوز والحاجة المادية والتحلل الإجتماعي وهشاشة السلطة المصاحب حسب ، بل كدفاع أصيل لدى الإنسان ضد الموت وقوى الفناء ، مثلما يحصل الإنتصاب والقذف لدى الجنود في الخنادق عندما يشتد القصف أو تقترب موجات الأعداء المهاجمة ، ومثلما يحصل ذلك لدى بعض الطلبة في قاعات الإمتحانات .
kh diaوفي ظل الأنظمة الطغيانية التي تهدّد وجود الإنسان بالمحق ، تصبح المومس أنموذجاً “أموميا” – وبالمناسبة ، وفي التحليل النفسي، تشكل المومس الوجه المسكوت عنه لعملة الأمومة في مكبوتات اللاشعور – حانياً يجد عنده الإنسان المقهور ، والسياسي المعارض خصوصا ، ولهذا تشغّل الأجهزة الأمنية المومسات للإيقاع بالسياسيين المعارضين – الإستقبال والطاعة المحسوبة والصبر والإستماع خصوصا حين تترافق المعاشرة مع فعل الخمرة ، الخمرة التي يصفها معلّم فيينا بأنها “حليب البالغين” . وفي دليل غير مباشر يمثل المقارنة الغير معلنة بين أفعال السياسيين الحمقاء والمهينة للكرامة الإنسانية التي لا تقيم اعتبارا لأي طروف أو محاذير ، تتذكر شكرية حادثة دخول الشرطة السرية زمن الباشا نوري السعيد إلى مخدعها ، وهي تضاجع شابا اسمه جواد قُذف من فوقها مرعوبا بركلة شرطي وسُحب إلى الشارع شبه عار (ص 78) . حتى القحاب والقوادين في المبغى كانوا مصدومين من تصرف السلطة كما تقول شكرية .
ووفق التجربة التاريخية ، يكون للجيوش المحاربة “ذيل” من تجّار المتعة والعاهرات لإشباع حاجات الجنود الجنسية التي تشتعل في المعارك خاصة . وليس المجال هنا مناسبا لتناول ظاهرة النساء المحترمات اللائي “يتطوعن” لإشباع حاجات الجنود في الجبهات كواجب وطني في الحرب العالمية الثانية . لكن من المؤكد أن دور المومس يتألق كمصدر للإشباع ، وكتوكيد لعدم إنخصائية الإنسان في وجه غولة الحرب ، ووجه قادتها بغض النظر عن طبيعة الحرب . إنه عدوان مزاح من الأم الحقيقية المذلة المستباحة إمرأة وأرضا وعائلة ، إلى أم بديلة ملوّثة تشعل طبيعة استباحتها حفزات “عقدة الإنقاذ” الأوديبية التي تمور في نفوس الأبناء عادة . وفي مغامرة أخرى من مغامرات شكرية ، ضحك عماد كثيراً برغم أنها تشتمل على المعاني النفسية السابقة كلّها :
(دخل عليها شاب حليق الرأس ، كان جنديا وسيذهب للإلتحاق بالجبهة. تبتسم وهي تصفه “كان كئيباً”.. قال إنه يعشق الناضجات.. عند إدخال عضوه بفرجي صرخ (وحدة)، ثم أخرجه ، وأدخله صارخا (حرية)، بعدها (اشتراكية)، وبقي يكرر العملية والصراخ حتى ركلته وضربته بيدي قائلة له : (تريد تسجني بمالتك ؟) – ص 78) .
ضياء يضعنا أمام صورة لـ “المومس الفاضلة” ، المومس المعطاء الضحيّة، والتي – كما صوّرها جان بول سارتر من قبل أروع تصوير – والتي تعرف ، بفطرتها وليس بالتنظيرات والنفخ الأيديولوجي ، أن لها مسؤولية – ولو غائمة ومرتبكة بتلقائيتها – تجاه “آخر” قد يكون حبيباً – ولو مجافياً – أو وطناً أو حزبا . وقد تكون حماستها التي تأتي ذروتها مميتة لها عادة ، تعبيراً عن الإستعداد المجهض للإضطلاع بالدور الأمومي أصلا ممزوجا بنزوع لائب للتكفير عن آثام مستديمة ومؤرقة . وها هو ضياء الماكر لا يكتفي بتوظيف هذه الرؤية إلى دور المومس الفاضلة حسب بل يربكنا بارتباطات محلّية بين محطات امتهان شكرية للدعارة ، والحوادث السياسية الفاصلة في تاريخ البلاد والأمة :
(تقول شكريّة إنها ابتدأت بالدعارة متأخرة ، في العشرينات من عمرها وذلك عام 1956 ، قبل مظاهرات العدوان الثلاثي على مصر، وكم تمنت أن تعمل وقتها مع شهيرات تلك الفترة ، لم يحدث ذلك ، بسبب تهديد عمّتها وقوّاديها لها بالقتل إن تركت البيت … تاريخ للذة كتبته الرغبات . تجارب لم تدوّن حتى تحوّلت شكرية إلى قوّادة في بداية الثمانينات ثم ابتعدت عن المضاجعة تماما عند احتلال مدينة الفاو من قبل الإيرانيين عام 1986 كما تروي . قرّرت وقتها في موقف وطني : “سأرجع للفراش عندما يسترجعها جيشنا المقدام” ، وأضافت :
-أخبار الحرب كان يعلمها حتى الأطفال . إنه زمن  – ص 79) .

# وقفة على عبقرية اللغة العربية :

لو عدنا إلى معاجم اللغة العربية لوجدنا أمراً عجبا، يتعلق بالجذر “قاد”. فالمعلن من معانيه هو ما يرتبط بالقيادة عموما ، والقيادة السياسية خصوصا ، كمفهوم حديث في الثقافة العربية . قاد – يقود ، قيادة ؛ قاد الجيش : كان رئيسا عليه يدبر خططه وشؤونه . قِيَادَةُ شَعْبٍ : تَدْبِيرُ شُؤُونِهِ ، تَرَؤُّسُهُ . قاد الدابة إذا أخذ بقيادها وسيرها .
وفي علوم النفس، تعني القيادة قدرة على معاملة الطبيعة البشريّة أو على التَّأثير في السُّلوك البشريّ لتوجيه جماعة من النّاس نحو هدف مشترك بطريقة تضمن بها طاعتهم وثقتهم واحترامهم .
ويبدو أن السياسيين المعاصرين، ومن ينظّر لهم من اللغويين، فرحوا بما لديهم من ترجمة مقابلة لمصطلح “leadership” الأجنبي، من دون أن يعرفوا ما يضمره لهم مكر اللغة العربية ، وعبقريّتها الدلالية الهائلة . فالقيادة تعني أيضا الجمع بين الإثنين على الحرام ، أي على الزنا أو اللواط أو المساحقة ، ويقال له قوّاد  .ويبدو أنه – من الناحية النفسية والإجتماعية – ينطوي عمل القوّاد على جهد كبير في الترويض والإقناع والمخادعة والتوفيق . لكنني أعتقد أن خيطاً خفيّاً يصل بين روحي دلالتي الدورين حيث يلتقي في عمقهما معنى “التسليم” لآخر “فاعل” يفترض دوره “المفعولية” من قبل المقود حتى لو كان ضد قناعاته أحيانا ! القيادة السياسية – على مستوى اللاشعور – هي الجمع بين إثنين فأكثر على “حرام” الرأي إذا جاز التعبير .

# عودة :    

.. ولم تنته خبرة شكرية الطويلة في الدعارة إلا في التسعينات مع الحملة الإيمانية التي أطلقها صدّام ، وانتهى معها عهر البيوت في الأحياء الفقيرة ، لكن عهر البيوت المدعومة من رجال السلطة بقيت كما هي . كان العهر للسلطة فقط ، حتى تبعثرت عاهرات العاصمة الشعبيات وقتها، وأُغلقت البيوت السرّية خوفاً من بطش رئيس لا يرحم (ص 79) .
ومن الظواهر التي تكشف جانبا كبيرا من الأوالية الدلالية التي تكتسب بها جذور اللغة معانيها برغم ما يبدو على سطحها من تناقض من ناحية ، وتؤكّد على ما افترضناه من اللقاء اللاشعوري بين مضموني الجذر في شكليه المتضادين من ناحية ثانية مكمّلة ، هو أن كل العراقيين كانوا يلاحظون – وبغرابة عصيّة على التفسير في العقول غير التحليلية العميقة – تعلّق قطاع واسع من الهرم القيادي العائلي الحاكم آنذاك – الذي يعاني من “عقدة إنقاذ” أمومية حقيقية هائمة في اللاشعور – بالنساء الغجريات في الوقت الذي تتوفر فيه ، وفي متناول أيديه ، مومسات “حداثويات” يانعات إذا ساغ الوصف . ذات مرّة حدّثني أحد مرضاي عن أنه عجز عن تنفيذ واجبه المقدس في ليلة الدخلة ، خصوصا أن الجماهير النسوية العائلية الحريصة كانت تدق الدفوف قرب الشبابيك ، تستعجل الفتح العظيم . وقد طالت محاولاته كل ليلة لأسبوعين . ولم يستطع افتراع زوجته إلا ذات نهار حينما شاهدها تنظف البيت بثوب متّسخ وشعر منفوش .
وقيادات الهرم العائلي السابق كانت تمارس رد فعلها الضد – إنخصائي برهاوة مع الغجريات ، محقّقين استيهامات “عقدة الإنقاذ” لأكثر النماذج “الأمومية” انحطاطا ،  “يقودونهن” في الظاهر باطمئنان ، في الوقت الذي “يقدنهم” في الباطن باقتدار . المومس هي أقدر الناس على “تمثيل” دور الأم بإخلاص إلى الحد الذي “تتفوّق فيه على نفسها” كما يعبّر الممثّلون . ولاحظ أن من كانوا غارقين إلى أذقانهم في مستنقع “الكاوليات” ، هم الذين ينبرون لاتخاذ الإجراءات الرادعة الدينية التي تنادي بالقداسة ، فأي بحر من الشعور بالذنب كانوا غارقين فيه ، يسقطونه على أبناء الشعب المسكين . قطعوا رؤوس المومسات العظيمات المناضلات بلا رحمة للحفاظ على قيم الشرف والطهارة .
وحين يخبرنا ضياء عن سيرة شكرية المبكرة ، والعوامل التي أوصلتها إلى طريق البغاء ، فإنه يوفّر سببا آخر للتعاطف مع المومس الفاضلة ، فهي ضحية ظروف اجتماعية ظالمة وجائرة . (توفيت الأم والاب تزوّج من أخرى أذاقتها الويل ، فهربت في أزقة المدينة . نامت مع الرجال في الخانات والفنادق الرخيصة قبل استقرارها في بيت يهب المتعة لمن يشتري – ص 79 ) .
المومس دفعها التفكك العائلي والظلم والضياع إلى طريق العهر والإعتياش من شرفها العزيز ، لكن ما هي الظروف التي تدفع القائد السياسي السيّء إلى أن يمارس الدعارة “المبدئية” ؟
وقد لخّصت شكريّة بمفرداتها المرتبطة بسيرتها وطبيعة شخصيّتها محنة البلاد الأخلاقية بأكملها بعد الإحتلال حين قالت لعماد :
(قبل خمسين سنة ما كان العهر معروفاً . كان فقط في بيوت البغاء . أمّا الآن فقد خرج إلى الشوارع – ص 107) .
لقد اندلق العهر على أيدي السياسيين السيّئين من المنطقة الخضراء ليغرق الشوارع في بغداد بل البلاد بأكملها .
ولكن حتى في ظلّ هذا الوضع المتعهّر ، لم تتشوّش أحكام المواطن البسيط في نظرته المنصفة إلى المومس ، وفي مقارنتها بالسياسي السيّء (ومثله الطائفي اللعين) ، حيث عبّر عن ذلك سائق التاكسي البسيط :
(نمرّ بمحاذاة السيدية فتبكي زوجتي بصوتٍ عالٍ هذه المرّة . يلتفت السائق مستفسراً ، فأوضح له أن منزل العمر هنا . تركناه لابن طائفتنا الشيخ مؤيّد . امتعض السائق وشتم الكل من دون استثناء ، لم يستثني أحداً . ثم اضاف :
-تكرم الأخت .. الـﮘحبة أشرف من الجميع .
-نعم . إنها لا تؤذي . بل ربّما تنفع – ص 154) .

# الهامش المعادي :

ويمهّد الكاتب للتحوّلات المدمّرة التي عصفت بالبلاد بعد الإحتلال الإجرامي بانطباعات وأفكار وملاحظات عن العوامل التي نخرت جسد المجتمع العراقي – البغدادي أي العاصمة خصوصا – وهيّأته ليكون هدفا سهلا لقوى الخراب النهائي التي غزته بفعل الإحتلال . لقد انمسخت قيم بغداد – كما يرى الروائي – من قبل سكّان حزامها ؛ الحزام الذي يحيط بها ، والمتكوّن من سكان نزحوا من محافظات أخرى بفعل القهر الإقطاعي والفقر ، وأغلبهم من أصول ريفية هي في حقيقتها بدويّة مغطاة . حزام سمّاه بعض المتفلسفين بـ “الهامش” ليضفوا عليه شرعية القهر والإهمال مع القدرة التفسيرية لمغاليق المتن ، وهي في حقيقتها مناطق (تصدّر للبلاد سنويا عشرات الأولاد الصغار ، الذين تراهم يملأون طرقاتها بالضجيج والشتائم . لا أعرف كيف يترك الأهل أطفالهم حفاة الأقدام ، وأحيانا تشاهد مؤخراتهم بين الأزبال . ترى المراهقين يتخذون من الطرقات مكانا دائما لهم . كأنهم ينامون ويفطرون عند أرصفة وشوارع أكلتها المياه الآسنة – ص 36) .
هذا الحزام خلق مكوّنا هجينا أضاع المشيتين حسب الحكمة الشعبية الباهرة من جانب ، ومسخ الصورة القديمة المستقرة من جانب آخر . أناس لا هم بدو ولا هم حضر ، يلهثون وراء كل صرعة وموضة بسبب ضياع الهوية ، وانخلاعهم عن المكان المرجعي الذي ترسم تقاليده وأعرافه أسس سلوكهم . هي صورة الفتاة الريفية التي تلطّخ وجهها بالاصباغ ، وهي تزور المدينة ، وهي رمزيا صورة المومس الهائمة الجوّالة . ومن الطبيعي – وهذا أمر نفسي مؤكّد – أن تختزن موجات عدوان هائلة مبيّتة على كل مظاهر الحضارة الراسخة والأخّاذة التي ينظر إليها المرء الهجين بقلب ناقم من بعيد . ولأنه لا يستطيع الحصول عليها أولا ، ولا يستطيع تمثّل مضامينها الاجتماعية الدخيلة عليه ثانيا ، فإن الحل الأمثل ، لاشعوريا ، هو تدميرها أو سلبها . وكانت عملية “التمسيخ” هذه تتم بهدوء وبطريقة “القضم” الهادىء الصبور .. لقد “قتلوا” روح بغداد :
(العاصمة غُزيت من المدن القصيّة ، وماتت البغددة التي استنشقتُ تراثها من الكتب ، ومن جنسية أبي العثمانية . تمزّقت الصورة الرمادية وتاه مترو العاصمة بين الدشاديش والرايات . من حقّي أن أبوح للحمام ، والسماء ، والجن والحشرات – ص 36 و37) .
وعماد عانى كثيرا كي ينتقل من حي التراث إلى حي الأطباء بأي ثمن ولم يستطع . وفي محاولات هروبه يوغل في تأمل أبعاد كارثة “البدونة” ، وليس الترييف حسب ، فلا يستطيع إعفاء ذاته ، ومعه قطاع المثقفين من مسؤولية الإنحطاط هذه . فيوما بعد آخر يتأسس “حق” جديد لكائنات الحزام أو ما يسمى الهامش بصورة باتت تهدّد مشروعية المركز ، وتشكّك في مرجعيته ، بل تُنذر بموته :
(الكارثة التي تنخر جسدي كالأرضة أنهم لا يعلمون ذلك . مطعم قذر يأكل منه أناس قذرون ، والمسؤول الصحّي قذر . ولكن ، ماذا لو كنت أنا وأمثالي متطفلين على هذا العالم ؟ ومثلي يجب أن يُطرد خارج الخريطة والتفكير ؟ – ص 37) .
لكن حماسة الكاتب لآرائه ووجهات نظره ، قد تتحوّل إلى إفراط أو إلى نوع من الإنتقائية . ففي موقف آخر يتحدث عن زوجته العاقر التي لا يطلّقها ، لأنه لا يريد أن يسبّب لها ألماً ، ويقارن موقفه هذا بموقف الزعيم الذي لم يتزوج ولم ينجب أطفالاً . ويحاول أن يحل محل الزعيم – وهذه كارثة معرفية – في تبرير موقفه فيقول :
(الزعيم لم يتزوّج ولم ينجب أطفالاً . أراد تنفيذ ما يدور في رأسه من أمور تسحب البائس من الوحل – ص39) .
والزعيم حاول الزواج ولكن الفتاة المطلوبة رفضت .  وهذا من الأسباب التي وقفت خلف بعض ممارساته مثل زيارة مدارس البنات وزيارات تلك المدارس له في مقره في وزارة الدفاع حيث قال الأستاذ “محمد صدّيق شنشل” وزير الإرشاد في عهد قاسم :
” إن زيارات قاسم لمدارس البنات وكذلك زيارات المدارس لقاسم في مقره في وزارة الدفاع كانت لسبب ، هو أن الفتاة التي خطبها قاسم قبل الثورة ورفضته هي معلمة في إحدى مدارس البنات ، وعند زيارة وفد المدرسة التي توجد فيها هذه المعلمة رأى حلقة الزواج في يدها . وعند ذلك منع زيارات المدارس إليه ” (4).
ويواصل ضياء حديثه عن إجهاض خطط الزعيم الذي رفض الزواج لينقذ الفقراء :
(لكنهم لم يمهلوه . الريف حاصره في وزارة الدفاع . العاصمة مقيّدة ولا تستطيع فعل شيء – ص 39) .
والعسكريون الذين حاصروا الزعيم في مقره إنما يعيدون السيناريو الذي قام به الزعيم نفسه . كما ينسى ضياء أنه قال قبل قليل أن الزعيم يُحسب على العسكريين من أصل ريفي أيضا .
لكن مخاطر الترييف الجسيمة لا تتوقف عند هذا الحد المغثي من التغيير القيمي :
(المناطق الفقيرة التي كانت تحيط بالعاصمة صارت تخترقها . ينقلون عادات لا تتفق أبداً مع المدينة . أطفال عراة تماما بين الأزبال ، أو نسوة يعرضن غسيل ملابس العائلة على الحيطان الخارجية ، أو رجل حافي القدمين يغسل سيارته في الشارع من دون أن يعبأ بفيضان المياه على الرصيف.
أزقّة لا تنام إلا مع نيام (كذا!) الصبية ، جلسة النميمة النسائية أمام عتبات البيوت – ص 75 و76) .
لكن هذا التسميم القيمي والتلويث السلوكي الكاسح ، قد تفجّر في التسعينات خصوصا ، فأصبح كاسحا لأن الوضع القانوني والقيمي العام الذي تقوده الدولة المؤسساتية صار ضعيفا ومتآكلا ، فصارت الحياة تُقاد بصورة غير معلنة من الشارع . والشارع هو مجال نشاط “الحزام” أو “الهامش” بكل تحلّله واعتماده على المعاملات “اللحظية” السوقية والعابرة التي لا توفّر أي التزام أو “أثر” إنساني أو أخلاقي بين المتعاملين . ومن هذا الخراب القيمي غير المشرعن في التسعينيات ، أشادت ضغوط الإحتلال سبلاُ “قانونية” للحسم النهائي لهذا الصراع القيمي لصالح حزام الشارع وقيم الهامش ، وتحققت المخاوف التي افصح عنها عماد و “قتلت” القيم الجمعية والمؤسساتية النبيلة :
(حمّى من العادات تحتاج إلى أدوية تنتجها الدولة وتفرضها بالقانون . لكن كل الخوف أن نصل إلى دولة يديرها رجال غسلوا سياراتهم في الشارع ، أو نساء نشروا غسيلهم (كذا !) على الحيطان الخارجية – ص 76).
إن ضياء يقدّم مع كل تعليق حزمة من الإحالات الغير مباشرة التي تردّد الكثيرون في الإفصاح عنها . فمع هذه الوقفة المستفيضة برغم “سرعتها” السردية التي ليس شرطا أن تنطبق على الزمن الطبيعي ، نمسك بتداعٍ في غاية الأهمية عن دور المثقف في هذا الحراك المدمّر ووسط هذا الصراع القيمي المتأجج الذي أقول بلا تردد إنه قد حُسم أخيرا بـ “هزيمة” صاعقة للمثقف العراقي ، وانتصار الدين والعشيرة وطوابير الأميين المتصارعين على الأبواب الإنتخابية . قبل أيام ظهرت على شاشة إحدى الفضائيات المصرية أستاذة جامعية تحدثت عن النتيجة المتوقعة لإصرار الحكومة على إجراء الإنتخابات في موعدها ، فقالت بمرارة إن نسبة الأمية في مصر هي في أفضل التقديرات 65% من السكان . هؤلاء الأميون سوف ينتخبون لأن هذا حقهم .. والنتيجة النهائية لهذا أن الأميين سوف يقودوننا نحن اساتذة الجامعة .
مسخرة الديمقراطية هذه تجري على قدم وساق وبفرح عام في بلدان العالم الثالث منذ عقود .. حق انتخاب لشعوب يكتسحها الجهل والمرض والأمية والغيبيات والعفونة (في مصر رائدة الحداثة يصرف السكان 4 مليارات جنيه سنويا على السحر والزار والرقى! .. أما الهند فحدّث ولا حرج) . وفي أواخر الثمانينات على ما أتذكر كنت في القاهرة ، وتابعت انتخابات مجلس الشعب وشاهدت بأم عيني طوابير من البشر تقف على أبواب المرشحين لاستلام صحون الطعام . وقبلها منح الحزب الوطني “قرضا” من مجموعة نواب لحزب الوفد لكي يصبح عضوا في المجلس .. إلخ .. مساخر ونكات وآلام وكوميديا سوداء .. وكلّها تشير إلى الهزيمة العارمة للمثقف العربي . احتاجت أوروبا إلى أربعة قرون من الكفاح الدامي لتتحول إلى دول مؤسسات ديمقراطية يحكم فيها الشعب نفسه ، وفي العراق اصدرت الديمقراطية بقرار من “بول بريمر” لعنه الله ، وكانت خطوتها الأولى ضد الديمقراطية بإنشاء مجلس حكم طائفي .. والسماح بتشكيل ميليشيات مسلحة للأحزاب !! والطائفية كما هو معلوم ضد الديمقراطية .. والعشائرية ضد الديمقراطية .. أول مرة أسمع عن شيخ ديمقراطي .. وهذه هي لعبة وصول من يغسلون سياراتهم في الشارع بالسطولة ، وقد أدخلوا دشاديشهم في لبسانهم الداخلية إلى سدة الحكم والقرار. وهذا لن يتم إلا بإزاحة العقل المتنور الذي يمثله المثقف ، العقل الذي يقوم فعله – في الديمقراطية الحقيقية – على الكلّيات ومنها الشعب والأمة والإرادة والحرية ، في حين يقوم عقل الحزام – في مسخرة الديمقراطية – على الجزئيات ومنها الطائفة والعشيرة والملّة والفخذ والذراع . وفي بلادنا إنتصر عقل الجزئيات على عقل الكليات .. وهزم المثقف شر هزيمة :
(الطائفة ملاذ السياسيين وبيتهم الكبير . من دونها لا يساوون شيئا . نوازع وأحلام تستيقظ ، فيكون التاريخ بمثابة ورقة رابحة تُرمى في صندوق . سنابك خيل ، وصليل سيوف ، وغبار متطاير شاهدناه في الانتخابات الماضية . كان كل فرد يحمل سيفا ، ودرعا ورمحاً . لن ينفع الجدل أو العتاب لأن ساعة الحقيقة أزفت . مسكين المثقف ، ذلك الذي خرج على طائفته ، فصوته يعادل صوت إنسان لم يشاهد المدينة ، ولا يملك التلفاز أو المذياع . راعٍ يعيش مع أغنامه في البادية ، لكنه محبّ لطائفته ، وسيسأل عن رجالها المخلصين حين يصل إلى المدينة ، وهناك يعيش مثقفاً مع أفكاره وتصوّره عن الحياة – ص 65) .
وقد حدثتني أديبة أردنية “تورّطت” ورشّحت نفسها في انتخابات مجلس النواب كيف كان لزاما عليها أن تزور شيوخ القبائل وتطلب منهم العون وتوجيه اتباعهم لانتخابها .. وبرغم تقديمها فروض ولاء جارحة وتناقض شخصيتها “المثقفة” ، فإنها لم تفز .

# لعبة الوثيقة لم تكتمل :

يدخل الروائي متغيّرا آخر لم يستطع استثمار الإمكانات الكامنة في طبيعته كما حصل في روايات سابقة معروفة كثيرة ، وهي موضوعة : الوثيقة . فشقيق سلمى حصل على وثيقة كانت موجودة بين طيات كتب قديمة اشتراها من أحد باعة الكتب . الوثيقة خطيرة وموقّعة من قبل سياسي عراقي عاش في زمن الأخوين عارف ، تشير إلى ما سيحدث للعراق بعد أربعين سنة . وحمدان لا يعرف بدقة الأسماء المذكورة فيها لكنه يؤكّد وجود مفردة الأمريكان فيها . يتفق عمد مع ديار على شرائها من شقيق سلمى الطمّاع ، ولكن الإتفاق لا يتم . ولم يعد غريبا أن تسمع بوجود وثائق أو اتفاقات سرية تتحدث وتُخطط لغزو العراق من قبل الأمريكان قبل عشرات السنين . تحدّث الرصافي في مذكراته عن خرائط بريطانية لمنطقة الفلوجة قبل مئة عام من معركتها عام 1941 . وحتى وقت قصير كنا نتحدث عن الغزو البريطاني الأول للعراق عام 1914 وكأنه كان بريطانيا صرفا . بعد أن صدرت مذكرات “كرمت روزفلت” (5) ظهر أنه كان قائدا لوحدة عسكرية أمريكية شاركت في غزو العراق آنذاك . كرمت هذا اصبح مسؤول العمليات الخاصة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي في بدء تأسيس وكالة المخابرات الأميركية ، واشبع العرب والمسلمين مؤامرات وخرابا . لكن الوثيقة في الحكاية تختفي عدا إشارة يتيمة قبيل نهاية الرواية .. ثم يختفي صاحبها شقيق سلمى .. ثم تختفي سلمى من دون أن يطوّر الكاتب أو يوسّع عملية توظيفها .

# الوثيقة والنكوص :

لكن ما تثيره موضوعة الوثيقة ، وضمن الحدود التي وظّفها ضياء في إطارها ، هي عملية “النكوص – regression” النفسيّة التي تُوصِل إليها وتصاحبها ، والتي اشرنا إليها سابقا . فكلّما اشتدت الضغوط التي لا يجد لها الإنسان مخرجاً ، نكص إلى مراحل بدائية طفلية من طرق التفكير ، وطرز السلوك . ومنذ عام 1991 ؛ العام الذي تحوّلت فيه حرب تحرير الكويت إلى حرب مجرمة لتدمير العراق وخرابه وإعادته إلى العصور الوسطى ، اكتسحت المجتمع العراقي عودة عجيبة إلى الفكر السحري والخرافي كان من بين اشكاله “لعبة الوثائق” التي ترى ، بنرجسية بالغة الإفراط وطفلية الطابع ، أن العراق مركز الكون و”جهاته الأربع” ، وأن “المؤامرات” الحالية لاحتلاله مخطط لبعضها قبل مئات السنين . أمر لا ينكر أن القوى الغربية التي كلما زادت حداثة ، اشتدت عنفا وضراوة ودمويّة ، وهي ظاهرة غريبة حيث من المفروض أن سطوة العقل تلجم غرائز القتل والموت ، كانت تخطط باستمرار لغزو العراق والسيطرة عليه . لكن شيوع “نظرية المؤامرة” الوثائقية في أغلب جوانب حياتنا لتبرّر كل مظاهر الخلل والعجز والإنحطاط ، هو أمر عصابي صارخ ومعوّق و “نكوصي” . وها هو “أبو نوار” شقيق سلمى يأتي بوثيقته إلى مكتب ديار معلنا :
(-حلّ مشاكل البلد ، وربما العالم في هذه الوريقات – ص 89) .
ومن دون أن يعلم عماد ، فإنه يُفصح عن “نكوص” مماثل لا يقل إفراطاً ، حيث يعيده منظر أوراق الوثيقة الصفر ، و “رائحة قِدَمِها” إلى ذكريات طفولته المنسيّة والشاحبة الممزوجة بذكرى “الزعيم” بصورة لا معنى لها :
(كانت الأوراق الصفر تطالعني، وعند تقليبي للأوراق استنشقت رائحة قدمها التي أيقظت فيّ الذكريات : بيت العائلة ، أصدقاء الطفولة ، الجيران ، سجائر جمهوري ، السينمات ، العادة السرّية فوق السطح أو بين الأشجار أيام الصيف ، الزعيم ، المسرح المدرسي وأدوار البطولة التي لم أنلها – ص 89) .
وفي هذا الموقف من الرواية وغيره ، وكسمة صارت طاغية على النصوص السردية التي كُتبت بعد الإحتلال المجرم ، وتتعلق أيضا بظاهرة “النكوص” العصابية ، نقف أمام هذه الإستعادة المتكرّرة لشخصية “الزعيم” . في ظل الشدائد الفاجعة ينكص التفكير الإنساني المحاصر إلى مرحلة طفلية مبكرة يتوسّم فيها العقل الطفلي “القدرة الكلّية – omnipotence” الخارقة في الأب “المنقذ” . هذا أمر مبرّر حين تمسك به القاعدة الشعبية العريضة . لكن أن يصدر عن الفرد المثقف ، فإن هذا السلوك يصبح من نتائج الخراب وعلاماته . بل ومقدّماته . هنا تتجلى سمة إيجابية مضافة لنص ضياء . نحن نبحث ، من جديد ، وكأننا في عود أبدي نيتشوي ، عن “منقذين” نضفي عليهم القدرات الخرافية ، ونسلّمهم مقاديرنا ليتلاعبوا بنا كيف يشاؤون ، لنصحو على خراب جديد .. وهكذا .
المشكلة أن لا أحد من المثقفين العراقيين ، الذين يقال لنا إنهم الطليعة الواعية ، في حين أن لا دور لهم مطلقا على أرض الواقع ، فهم شريحة من شرائح الأبناء “المخصيين” ، تتحمّل الإقرار بحقيقة أن الزعيم كان رجلا “مضطرب الشخصيّة – personality disorder ” ، ولا يصلح ابدا لقيادة دولة . حتى الجواهري أعلن ذلك مرارا وشرحه تفصيليا في مذكراته . لكن العراق جبل عظيم أي شخص بسيط الإمكانات يحطه القدر على كتفيه يصل رأسه إلى النجوم .

# وقفة :

يقول “طالب مشتاق” في كتابه “مذكرات سفير عراقي في تركية ” :
” وأصبح عبد الكريم قاسم يعتقد بأنه أهل لهذه النعوت والأوصاف ، وأن العناية الإلهية أرسلته ليحقق المعجزات وليكون زعيماً للعرب . وانسياقاً وراء هذه العقيدة الوهمية التي رسخت في ذهنه واستحوذت على تفكيره ، أضحى يصدّق حتى ببعض الخرافات التي كانت تُنقل إليه على لسان الإنتهازيين، رغماً عن كونها خرافات لا تنطلي على أبسط الناس ، فمثلا :
“كان بعض الضباط جالسين في ساحة وزارة الدفاع ، وكان القمرُ بدراً ، وإذا بأحد  الضباط يقول انظروا إلى القمر ، إن صورة الزعيم في وسطه فصدّق الضباط ذلك ونقلوا هذه الخرافة إلى قاسم ولربما آمن بها وصدّق – ص 393 ” (6)
ويقول أيضا : والحادثة الأخرى الأغرب منها :
” إن أحد  افراد الشرطة من مرتبات شرطة لواء الرمادي راجع متصرف اللواء وبيده بيضة رُسمت فوقها صورة الزعيم قاسم ، وادّعى أن دجاجة في بيته قد باضتها بهذا الشكل ، وابتدأت الاتصالات ببغداد منذ تلك اللحظة بالتلفونات والمراسلات ، وحتى أصبحت لدى المتصرفية ملفة ضخمة تحتوي على كل هذه المراسلات حول المعجزة الربانية التي منحها الله لعبد الكريم قاسم ، والزعيم يسمع ما يُقال عن هذه المعجزة فيبتهج ويطرب حتى وإن كان لا يؤمن في قرارة نفسه بصحتها – ص 393″ (7)

# عودة .. نكوص الطلائع المثقفة :

ومسألة “النكوص” في العلاقة بين المثقفين العراقيين – من الماركسيين خصوصا – والقاعدة الشعبية عموما ، كانت طافية حتى في ظل وجود الزعيم :
(عبد الكريمي
حزب الشيوعي بالحكم
مطلب عظيمي)
هذا التركيب اللغوي لهذه الأهزوجة هو تركيب لغة أطفال رياض الأطفال أو المراحل الأولى من الدراسة الإبتدائية ، هذه الأهزوجة كان يرددها خيرة مثقفي العراق وهم يتقدمون الصفوف . والمصيبة أنهم كانوا يدعون الزعيم إلى الإعدام والقتل والإبادة :
(إعدم .. إعدم
لا تقول ما عندي وقت )
(ما كو مؤامرة تصير
والحبال موجودة )  … إلخ
ودور المثقف الأساسي هو الدعوة للحب وإشاعة ثقافة السلام والأخوة والتسامح .
ولو عدنا إلى نص ضياء السابق سنتساءل : ما الذي جاء بالزعيم مع العادة السرّية ؟ هذه هي الخلطة الطفولية العجيبة التي لم ينجو منها حتى كاتب الرواية .
وقد يقول قائل ، وفق بعض أطروحات الحداثة الغربية وما بعدها ، إن هذه الأفكار والتداعيات والنكوصات إنما هي من لسان حال الشخصيات الروائية التي تعمل بصورة مستقلة عن الكاتب وأفكاره وهواجسه . وأنا أقول إن استقلالية الشخصيات الروائية عن مؤلفها ، و”موت” مؤلف الرواية بعد كتابتها ، هي أخدوعة مضلّلة (وبالمناسبة فقد تراجع رولاند بارت نفسه عنها ولكن نقادنا الأشاوس استمروا متمسكين بها !) .

# وقفة مع سخافات “بارت” :

ويهمّني هنا أن أنقل مداخلة في غاية الأهمية حول هذا الموضوع للفيلسوف الأمريكي “ليونارد جاكسون” حول كتاب رولاند بارت س/ زد الذي حلل فيه بنيويا قصة بلزاك الطويلة (novel) “سارازين” :
(السجال في س/ زد : التصورات والأوهام بوصفها نقداُ
دعونا نلتفت الآن إلى واحدة من حالات تغيير الإتجاه التي أقحمها بارت في نصّه والمتعلّقة بنظرية السرد . وهي حالة نجدها في الصفحة (135) من طبعة س/ زد الإنجليزية ، الصفحة (141) من الطبعة الفرنسية .
سارازين حرّ في أن يبالي بتحذير الرجل المجهول أو يرفضه. وهذه الحرية الإختيارية هي بنيوية : إنها تسم كل مفردة من سلسلة وتضمن تقدّم القصّة في ضروب من “الإرتداد – trebondessements” . لكن سارازين ، وبصورة ليست أقل بنيوية ، ليس حرّاً في أن يرفض طلب الإيطالي ، ذلك أنه لو اكترث به وأحجم عن السعي وراء مغامرته ، لما كانت هناك قصة. وبعبارة أخرى فإن الخطاب هو الذي يدفع سارازين إلى الوفاء بمواعيده مع زامبانيلا ، وهكذا تكون حرّية الشخصية محكومة بغريزة البقاء لدى الخطاب.
كيف يمكن لنا أن نفهم هذا ؟ فلنبدأ بمحاولة أخذه على محمل الجد . هل هو صحيح ؟ هل تتأثر الإرادة الحرّة لدى شخصية قصصية بواقعة أن حصيلة القصة محددة مسبقا ؟
إن الحرية – وهي هنا حرية الإرادة – هي خاصية لا يمكن أن تُعزى إلّا إلى البشر الواقعيين . أما الشخصيات القصصية فلا يمكن أن نقول عنهم بهذا الصدد سوى أنهم ممثَّلون أو غير ممثَّلين ، كحملة لحرية الإرادة . وهكذا تكون لدى مرغريت تاتشر حرية إرادة ، أمّا كليتمنسترا فممثَّلة كحاملة لحرية الإرادة . وحين نقول إن لدى كليتمنسترا حرية الإرادة في القصة يُفهم من ذلك أن القصة تُظهرها حاملة لحرّية الإرادة . وحين نقول إن لدى كليتمنسترا حرية إردة فعلية ، ونعني ما نقول ، فإن ذلك ينطوي على أننا نفكّر بكائن بشري فعلي لا شخصية في مسرحية .
وحين نفكر بكليتمنسترا واقعية ، فإن شيئا في قصة لاحقة عنها لا يمكن له أن يؤثر على ما فعلته أو كانت عليه . وحين نفكر بأنها شخصية متخيّلة في مسرحية لإسخيلوس ، فإن التحديد المسبق لنهاية قصتها لا يؤثر أيما تأثير على ما إذا كان أسخيلوس يمثلها حاملة لحرية الإرادة . حيث يمكن لأسخيلوس أن يقول إنها “تختار بحرية أن تقتل زوجها” (فيجعل بذلك من اختيارها الحرّ سببا لنهاية القصة) كما يمكنه أن يقول إن “القدر هو الذي حتّم ذلك، فلا خِيار أمامها سوى أن تقتل زوجها ” (جاعلا بذلك من النهاية المحددة مسبقا سببا لخِيارها).
وهكذا فإن ما من وضع قابل للتصوير يمكن فيه للتحديد المسبق لنهاية القصة أن يؤثر على مسألة حرية الإرادة لدى البطلة . فإذا ما كانت شخصاً ، يمكن لها أن تحمل حرية الإرادة هذه ، بصرف النظر عمّا تقوله القصة ؛ وإذا ما كانت شخصية متخيّلة  فلا يمكنها سوى أن تمثّل كحاملة لحرية الإرادة ، بصرف النظر عمّا تقوله القصة .
ولذا فإن سجال بارت هو سجال سخيف منافٍ للعقل ، قائم على التباس ومواربة . والسؤال المثير ، الذي لا يستطيع المرء أن يجيب عنه من أسلوب بارت ، هو إلى أي مدى كان بارت مدركا لذلك . كما يبقى السؤال مفتوحا ً : “كيف لنا أن نفهم هذا السجال ، خاصة وقد تبيّن الآن أنه سخيف ؟” .
أول ما ينبغي النظر فيه هو الغرض الذي يستخدم بارت هذا السجال من أجله ؟ (..) بارت يبني على هذا سلسلة من السجالات المماثلة ، كل منها غامضة كمثيلتها ، لتنتهي بتورية مضاعفة ثلاثا حول كلمة مصلحة :
اللعبة هي لعبة اقتصادية : فمن مصلحة القصة أن يتجاهل سارازين نصح الغريب له بالعدول عن الأمر ؛ فهو لابد أن يفي بمواعيد القهرمانة مهما كان الثمن … لكي يضمن بقاء الحكاية … لكي يحفظ صنفا من السلع ( وهو السرد ) لم يوضع بعد في سوق القراءة : “مصلحة” القصة هي “مصلحة” منتجها (أو مستهلكها) .
أين سبق لنا أن التقينا هذا النوع من السجال ؟ … مهرّجوا شكسبير كانوا يفعلون ذلك طوال الوقت ، غير أن المقصود من ذلك كان الضحك والتسلية . كما يمكن لقصيدة حب أن تشتمل على العديد من السجالات المماثلة ، ندعوها تصورات أو أوهاماً . ولا نأخذها إلا على نصف محمل الجد، من أجل المتعة التي تقدمها .
ولكن ما هي الفائدة من كل ذلك ؟ إن في س/ زد ثلاثاً وتسعين من هذه المقالات الصغيرة السخيفة المتذاكية . وإن هذا لقدْر مرعب من الكفر أكبر من أن نتوقعه . والحقّ أن المتعة لم تكن من بين ارتكاساتي تجاه هذا الكتاب . وما أتذكره بدلا من ذلك ، هو السخط، والقنوط، وفوق ذلك كله الملل والضجر – ص 237 – 240) (8) .

# السخرية كسلاح للبقاء :

تعدّ السخرية سلاحا مهماً تتمنطق به النفس البشرية في مواجهتها لمواقف القلق والتهديد والفناء . وهي من بين الآليات النفسية الدفاعية – psychological defence mechanisms” المعروفة التي يلجأ إليها الفرد لتخفيف شدة التوترات التي تجتاح كيانه ، وتنذر بانفلات زمام السيطرة على الموقف من بين يدي إمكاناته العقلية ، وخبراته المختزنة . وفي الظروف التي لا يتوفر فيها منفذ للتحكم بالتهديد المقلق أو المخيف ، لا يوفّر الظرف وروح الطرافة التهوين من المخاطر المحتملة والكامنة حسب ، بل تفتح نافذة غير متوقّعة للفرد المُحاصر للنظر إلى المعضلة بمنظار جديد يعيدها إلى حجم من الممكن التحكم به ، مثلما تتيح للعقل المُربك فرصة للسيطرة من موقع “أعلى” ؛ موقع يلتقط جوانب غير متوقع الإمساك بها في الوضع الإستقبالي السلبي . ففي طريقه إلى كركوك هاربا من عماد وزمرته ، يشعر بالأمان :
(فكلما صعدنا شمالا لا تعود الطائفة تعني شيئا ، وكلما هبطنا جنوبا تزدحم الجثث على الهوية . لم اسأل بلال إن كانت الجن تنقسم إلى طوائف ، ولم أعرف منه إن كان الجنّي الذي يسيّره مسلما أم مسيحيا أم يهوديا ؟ – ص 171 ) .
ولا أعلم لماذا قفزت إلى ذهني مقولة ماكرة لأدونيس من كتابه “المحيط الأسود” يقول فيها :                                                                                ( سألني طفل : هل يحلق ملاك شاربيه ؟                                                              فوجئت . ولم أعرف أن أجيبه .                                                                           غير أنني وعدته بأن أستفتي العارفين وأنقل إليه جوابهم )
وفي موضع آخر تأتي السخرية كوجه من وجوه جلد الذات الممزوج بالحطّ من قيمة الجلاد القاهر . وهنا يتصعّد فعل السخرية إلى مستوىً حارقٍ من خلال مزجها بالمرارة لتصبح سخرية سوداء خانقة :
(.. بعدها فرح العراقيون أشدّ الفرح ، ليس لأن صدام قتل زوجي إبنتيه ، بل لأن فيلم “الأيام الطويلة” لن يظهر بعد الحادثة على شاشة التلفاز المحلي في كل مناسبة حزبية . البطل الذي جسّد شخصية القائد الأوحد بات خائناً . صدام كامل تلبّس دور عمّه النضالي ، وها هو مقتول مع أخيه الكبير في السيدية – ص 172) .
وفي موضع ثالث تعبّر السخرية المريرة عن تمسّك مستبسل بالحياة رغم حشرجة الآمال القتيلة :
(مات ليل العشاق في بغداد ، وتحوّل شعراؤها إلى كتالة مدوّنات الرثاء . جدران كونكريتية عالية أغلقت المدن ورُصفت أمام واجهات الدكاكين (..) وتفنّن أبناء البلد في الكتابات الساخرة ، منها : “حلاقة هاني ، أطفر وتلـﮝاني” ، أو “بائع اللفّات خلف الصبّات” . بالتأكيد لا تخلو هذه الجدران من لافتات العزاء السود ؛ بعضها لفاجعة الحسين ومصائب آل بيته ، وبعضها الآخر لضحايا سقطوا بالمصادفة – ص 116) .
وحين اتصل بلال بعماد باكيا ، ليخبره بأنه وشى بهروبه إلى كركوك ، لأن ديار هدّده بخطف ابنه مصطفى ، صار عماد يتساءل عن هزيمة جنّي بلال :
(لكن أين الجنّي يا بلال ؟ … بلال انهار ، وأسقطته السيول المندفعة في الأزقة . قُتل جنّي بلال وطار رأسه بسيف لامع ، وربّما ثُقب جسده بالدريل وشُدّ بالبرغي والصامولة – ص 188) .
ويبدو أن تاريخ الواقع العراقي المديد ، وعبر اكثر مراحله توهّجا ، كان يحمل هذه السمة من السخرية السوداء المهينة للإعتبار الذاتي . فبغداد الرشيد الذي كان خليفتها يتحدى الغيمة بأن خراجها سيعود إلى صرّته الخرافية أينما حلّت على ظهر لمعمورة ، كانت المدينة الأكثر اكتظاظا بالشطّار والعيّارين والبرصان والعرجان والشحّاذين ! وفي التسعينات حيث أصبح البلد أكثر ثراء في العالم ، فقد كانت ثروته بأيد أخرى غير أمينة ، وظلت بغداد المدينة الأكثر اغتصاصا بالشحّاذين ، تتلوى من الجوع والمرض وخليفتها يبزّ هارون الرشيد جدّه ببناء القصور ، وسط صمت المؤمنين كما يقول ضياء :
(الخرس أصاب المؤمنين وقتها . كل قارئي القرآن ، وكل الصائمين ، وكل الحجاج ، والناطقين بالشهادتين . لا أحد يتكلم مثلا عن البذخ في عيد ميلاد الرئيس يوم 28 نيسان من كل عام ، بينما أجهزة الأمن تطارد أصحاب معامل الحلويات لأنهم يصرّون بالإقتصاد الوطني باستعمالهم السكّر . الحلاوة فقط لكعكة الرئيس ، وليأكل الناس التمر ، ففيه من الفوائد الكثير كما تروّج برامج التلفزيون الحكومية – ص 152) .
وحين نقرأ هذه الرواية في ضوء معلومة سمة السخرية لتي قدمناها الآن ، سنلتفت إلى سمة اسلوبية لدى ضياء وهي أن خيطا أسوداً من التهكم والسخرية يمتد ليربط وقائع الرواية من بدايتها حتى نهايتها ، وذلك بدءاً من مقطعها الإستهلالي الذي تحدّث فيه عماد عن شعر زوجته الأشيب “المنفوش” ، وهي تحدّثه عن الجرذ اللعين الذي أخذ يقرض كتب مكتبته العامرة ، وحتى الموقف الختامي المشبع بروح المفارقة الجارحة التي من جديد تجمع بين جلد الذات ومشاعر الإنسحاق ، وخفّة التحوّلات من الإنهمام المبكي إلى النوم العميق اللامكترث ، وممارسة شرب الخمر المستخفة بالأهوال والآلام والمحتل ، كتعبير عن الإيمان بأن لا شيء قد تبقّى للخسارات من جانب ، وبأن شيئا ما “قد” يحصل غداً من جانب ثان ، وبالظفر بفرصة للراجة والنوم العميق مع تخدير العقل وتعطيله الوقتي عن الإنشغال والتحليل والبحث عن الفرج المستحيل من الله أو القدر :
(طلبتُ من زوجتي أن تمدّد جسدها على المقعد الخلفي للسيارة لترتاح قليلا . كان بصري يمتد حيث سخام الليل ، فيتراءى لي السيّد الرئيس بلحيته الكثّة ، ومصباح جندي أمريكي يوجّه لأسنان ناصعة البياض ؛ أسنان تلمع أمام كاميرات الدنيا .
أكدتُ لمديحة أننا سنعود إلى منزلنا في بغداد ، فتوقفتْ عن البكاء وتمدّدت على المقعد وغرقت في نوم عميق .
نزلتُ من السيارة وشاركتُ السائق شرب العرق ، وقد بدا مسروراً وراح يحدثني أحاديث مضحكة وكأننا صديقين منذ زمن طويل .
أنهينا قنينة العرق والأمريكان لم يتحركوا . تمدّدنا على حصيرة القش وغرقتُ في نوم عميق لم اذق مثله منذ زمن طويل – ص 190 – الصفحة الأخيرة من الرواية) .
وقد يرى بعض القرّاء والنقّاد من المحتقنين أيديولوجيا بشكل خاص ، وهم الكثرة الغالبة من المتلقين في الأدب العراقي ، أن هذه النهاية غير موفّقة ، لأنها لا تعني أكثر من حل تخديري سيصحو عماد بعده على الكارثة ، صباحاً ، فيجد الإحتلال الأمريكي المجرم جاثما على صدر بلاده ، وديار وعبود يطاردانه ، ومسلسل القتل الطائفي مستمراً ، والخراب الشامل مستفحلاً .. وهكذا . ولكنني أرى أن أي روائي غير معني بطرح برنامج وطني شامل للتحرير وكبح الصراع الطائفي ، ومعالجة عوامل الخراب .. إلخ . إنه معني بمتابعة المصير الفردي لبطله عماد كأنموذج إنساني محطم يمثل شريحة واسعة منّا ، أدرك ضياء سلوكيات وصراعات وأفكار مختارة من سيرته في المدة الزمنية المحدّدة لوقائع الرواية ، وصوّرها أحسن تصوير وأشده إحكاما ، وجعلنا “ننفعل” لمحنته وبها حدّ الإحساس الممزق لنفوسنا المثكولة بوطن ضائع ومضيّع ، إنفعال يتصاعد في بعض المواقف حدّ الإختناق وتقطيع القلب والدموع المسفوحة . وقد أجاد ضياء الخالدي السيطرة وتوظيف على كل هذه المرتكزات الأساسية وتوظيفها في بناء رواية ناجحة ، هي واحدة من العلامات السردية في أدب عصر المحنة خصوصا ، والفن السردي العراقي عموما في العقد الأخير . إن من يقارن رواية ضياء الكبيرة هذه ، بروايته الأولى “يحدث في بلادنا السعيدة” التى صدرت في عام 2006 ، سيلمس مقدار التطوّر الهائل الذي حقّقه هذا الروائي في الإمساك بأسس بناء الرواية مبنى ومعنى ، والتحكّم باللغة السردية ببراعة واقتدار ، والإلتحام الصادق العنيف بواقع بلاده المستغيثة المحطمة التي لم يبق لها من منقذ غير مبدعيها . إن جهد ضياء الخالدي الخلاق والهائل هذا يدق جرس البشارة بثبات قدمي روائي عراقي كبير على سدّة الرواية في المستقبل المنظور إن شاء الله .

# اللغة الشعرية المنضبطة :

تحدثت – وقبلي نقاد كثر – في العديد من الدراسات عن ضرورة أن يكون لفن القص لغته ولفن الشعر لغته ، وحذّرتُ من الإفراط في استخدام اللغة الشعرية في الرواية خصوصا ، ودعوت إلى أن يكون استعمالها منضبطا وبجرعات محسوبة تناسب مستوى الشخصية الثقافي والتعليمي وخلفياتها الإجتماعية من جانب ، وتلائم الموقف الروائي المقصود من جانب آخر . وقد استخدم ضياء اللغة الشعرية في روايته هذه بصورة منضبطة ومحسوبة ، ولم يفرط ويجنح بعيدا في سماوات اللغة الشعرية فاقدا اتصال قدميه بأرض وقائع الرواية إلا في مواضع قليلة . ولكي أتجنب إعادة أفكأري السابقة ، سأضرب مثلا عن استخدام ضياء المنضبط للغة الشعرية ، وملاءمتها للحدث وللوعة أرواح الشخصيات وسخطها واشمئزازها من الواقع المحيط بها ، ويتمثل في اللغة الشعرية التعبيرية الحارقة التي استخدمها ضياء على لسان عماد ، وهو يحدثنا عن آخر ليلة أمضاها في وداع الرسام “أمجد السعيد” قبل هروبه من بغداد إلى كركوك ، وهو مثل يغني من كل إضافة أو تفسيرات :
(ودّعتُ أمجد السعيد في سهرة لا تُنسى . ثرثرنا حتى امتلأت الغرفة بالاسئلة وتساقطت من الشرفة على الحديقة . اختنقت الحديقة بعلامات الإستفهام وتطايرت مع الريح . دخلت أسئلتنا الحسينيات واندفعت إلى المآذن في الحي المجاور . اجتازت شارعاً يُسمى خطّ التماس بين الحيّين ، وشاهدتْ الدكاكين المقفلة والجدران التي بدت عاجزة عن مداواة وجهها الذي خرّبته الرصاصات . أسئلة أرهقت الجلابيب وأربطة العنق والكوفيّات معاً . لم يصلنا جواب واحد رغم كل الأسئلة التي طرحناها – ص 170 و171) .
فانظر أي روعة وعظمة تعبيرية يحققها الشعر في السرد حين يأتي في محلّه المدروس وبجرعاته المحسوبة . ولاحظ أي تأثير موغل في الأذى يحققه الروائي حين يستخدم اللغة الشعرية بصورة منضبطة بعيداً عن الهيجان ، بل قل الإنسعار ، الشعري الذي صار تخبّطاً على أيدي روائيي أمريكا اللاتينية ، واصابت عدواه المسمومة الروائيين العرب من الشباب خصوصا .
ويأتي مثال آخر أكثر روعة وإبهارا على هذا الإستخدام المدروس بحذق ومهارة ، وذلك حين دخل عماد ومعه زوجته إلى مقام الإمام زين العابدين ، منهاراً باكياً ومرتميا على كفّي القيّم يبغي تقبيلهما . يلخّص ضياء كل خسارات عماد وتمزّقاته وهزائمه ، ومن خلالها كل خساراتنا ، بل خسارات أجيال عراقية كاملة بتمزّقاتها وهزائمها ، وهو يفكر كيف يرد على الشيخ القيّم الذي طلب منه أن يقص عليه حكايته كي يتمكن من مساعدته . هكذا ببساطة ، لأن القيّم لا يعلم أنه يطلب من عماد سرد حكاية شعب بكامله :
(غمرني ضيق ووهن في جسدي . حكايتي ؟ كيف أروي حكايتي ؟ تدور المروحة وأسمع صوتها . أتوقع سقوطها على جمجمتي ، فيتناثر مخّي في مقام الإمام ، وتتلطخ دشداشة القيّم البيضاء بقطع من أفكاري . يقفز أنف لينين على السجّادة ، وأذنا فهد على الرف ، وجبهة ميشيل عفلق على النافذة ، وتنفجر ملامح الناس الذين عرفتهم طيلة حياتي ، مثلما انفجر رأس أبي حمدان في العامرية – ص 180) .

# الروائي سيكتب “بغداد في الألفية” :

وقد تساءل ضياء على لسان بطله عماد، وهو يرى أضلاع بغداد، وقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها ، عمّن سيتصدى لكتابة واقع “بغداد في الألفية” ، مثلما كتب المحامي “عباس العزاوي” واقع “بغداد في العشرينات” ، ويشير إلى أن “كلا الزمنين ينتابهما الوهن، ولكن الضعف القديم مبرّر لأنه كان بداية لعصر جديد (ص 75). أمّا الآن ، فما هو المبرر أن تهزل المدينة الأم في البلد الأكثر ثروة في العالم ؟ وبعد أن ترسخ وجودها الرسمي كدولة لأكثر من ثمانين عاما ؟
ولعل في هذا الجانب تكمن واحدة من الحسنات الكبرى لجهد ضياء الفني هذا . لقد قدّم ضياء “وثيقة” عن حال بغداد في العقد الأول من الألفية الثانية يمكن أن يعود إليها أبناء الأجيال اللاحقة في أي وقت ليروا صورة عاصمتهم الحبيبة وقد تخلى عنها حتى الله ، مقطّعة الأوصال هزيلة بشحوب الأموات ، ومواطنيها حائرين في حال يجعل الولدان شيبا، وهم يحسبون كل يوم عدد الجثث المجهولة الهوية التي تُرمى في المزابل مقطعة الرؤوس ومثقبة العيون وأسماؤها مكتوبة على صدورها العارية بالمثاقب الكهربائية :
(أحدّق ببلاهة في شاشة التلفزيون ، حين أسمع أعداد الجثث المجهولة الهويّة . لن تكفي المرء دمعة تسقط فيرتاح ، أو ينوح لبعض الوقت في غرفة لوحده – ص 74) .
لقد كتب ضياء فصلاً من كتاب “بغداد في الألفية” المنتظر بنجاح واقتدار .. شكلها وبنيتها .. أماكنها ، أحياءها .. شوارعها .. محلّاتها .. أناسها وسلوكياتهم ومزاجهم وتمزّقاتهم ومخاوفهم وآمالهم .. أحزانهم .. وأحزانهم ، فلا أفراح لديهم .. سلوكياتهم المأتمية والعلاقاتية وانشغالاتهم النهارية والليلية .. أسواقهم وحالاتهم المعيشية وتبادلاتهم .. لمحات عن أزيائهم وخصوصا أزياء مسلّحي الميليشيات ..
يقول الروائي الراحل ( عبد الرحمن منيف ) :
( لقد سبق كتاب (لينين) ( ما العمل ؟ ) رواية بهذا العنوان ، وتتناول نفس أسئلة لينين ، لكن بطريقة أخرى . طريقة فنية . ولينين نفسه لم يكن ليعرف ما ينبغي عمله لو لم يقرأ غوغول ودستويفسكي وتولستوي . لقد عرف روسيا بشكل أفضل بعد أن قرأ لهؤلاء وغيرهم ).
ثم يقرر منيف حقيقة مهمة بقوله :
( إن العصر الذي نعيشه الآن ، وربما الذي سيأتي غدا ، هو في الجانب الفني ، عصر الرواية ، لأن الهموم والتعقيدات والمشاكل التي تواجه العرب الآن وفي المستقبل ، ستكون الرواية الأداة الأقدر والمهيئة أكثر للتصدي لها . فالرواية تسبر وتعكس وتكشف المراحل الأكثر أهمية في حياة الشعوب ، إذ تقرأ أفكار الناس وأحلامهم وطموحاتهم خاصة حين يعجز هؤلاء عن ترجمة هذه الأفكار والأحلام إلى أقوال واضحة أو إلى أفعال ملموسة . وربما ليس من المبالغة القول إن الرواية تنمو وتزدهر حين تعم المأساة ويزيد الظلم . في تلك اللحظات التاريخية الهامة تصبح الرواية لسان حال الناس والمرآة التي يرون فيها أنفسهم ، وقد يدهشون أن حالتهم وصلت إلى هذه الدرجة من السوء ، ولابد أن يتساءلوا هل نحن مذلون مهانون بهذا القدر ؟ ) (9) .
ويمكن القول بثقة إن ضياء الخالدي قد كتب رواية الألأفية التي ستجعلنا نتساءل بعد خمسين سنة مثلا هل كنّا مذلّين ومهانين إلى هذا الحدّ ؟ هل وصلت حالنا إلى هذا الحدّ من السوء ، في بغداد مثلا للعراق ، تتلاعب بنا إرادات الإحتلال والميليشيات المجرمة ؟ هل كنّا مرعوبين وخائفين إلى حدّ الشلل والإنرعاب كالفئران الهاربة ؟

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *