تقديم لا بد منه
هل يرمز المترو إلى رحلة الاغتراب، ومعاناة المنفيين، وبالتالي كشف العلاقة بالوطن من خلال مدى التقرب، والعذاب، أم أن المترو وسيلة نقل للآراء والأفكار التي تتشكل في الغربة بين منفي وآخر، أم أنه ركوبه ليس غاية في الانتقال الموضعي، وإنما انتقال إلى عوالم متخيلة تنبعث من رتابة سير العجلات لتجعل الراكب يعيش أحلام يقظة، ومنها للخلاص إما بالتصالح مع الذات، أو الانتهاء إلى العدمية.
هذا السؤال يخطر على بال القارئ والمشاهد، وهو يرى لأسلوب المؤلف في تقديم نماذج من عذابات المغتربين، ومن يصادقهم في بلد أوروبي مثل المجر، فيعمد لأسلوب التمثيل المتبادل الذي يمثل بديلاً معاصراً لنمط الراوي، فقد أوجد فاروق أوهان في مسرحية سيدة المترو الأصفر، شخصيتي المؤلف والمخرج اللذين يتحاوران في إبداع عمل مسرحي يتناسب وإشكالية الاغتراب وتعقيدات العلاقة بالوطن حتى بين المنفيين، ومن خلال عذابات كل منهم، فقد شكل المؤلف للمسرحية أرضية تتناسب والقضية المطروحة، ولنبدأ هذا الوصف: (المسرح مظلم بعد فتح الستارة، يفتح باب الدار خلسة، وكأن لصاً يحاول السطو، يمد المتنكر يده لزر الإضاءة، فيسطع الضوء، في الممر، نرى المؤلف يحمل أكياس تسوّق، يتقدم من الممر في عمق المسرح من جهة اليسار، البيت متكون من باحة حوش شرقية، مثلما في دمشق، تونس، الموصل، إستانبول، هو بيت في عمارة على الطراز العثماني القديم، في أوروربا) ( ). ويبدو أن التمهيد لدخول الأحداث لا بد من مقدمات يرتجلها المؤلف\الممثل كشخصية سوف تروي لنا الأحداث، وتقترح على شخصية المخرج\الممثل في محاورات تمتد على طول العرض عن المسرحية المزمع كتابتها لتمثل أنموذجاً لمعاناة المنفيين في الغربة القسرية، ومع هذا فإن هناك أحداث تقتحم سياق الأحداث يؤكد فيها أوهان وجود مؤلف وراء شخصية المؤلف \الممثل لعله يسرق اهتمامنا حين يشغلنا في عالم مؤلفه البعيد عن التأليف، وهو يعيش يومه كباقي الناس، ولكنه كقارئ، ومؤلف لا يتوانى عن مراقبة شخصيات تحيطه ليبتكر من حياتها مادته الإبداعية هكذا: المؤلف: (يضع الأكياس على الطاولة الجانبية في الشرفة، بحذر من صديق الجارة، ويدخل إلى غرفته بهدوء ظاهر لإحضار مزهرية، وهو يدندن)… (ثم) (يستمر بالدندنة، وهو يرتب الزهور، ينتبه للجمهور، يراقب بين لحظة، وأخرى نافذة غرفة إيلونا): يبدو أن جبو لم يستيقظ من قيلولته بعد، وإلا لما استطعت تجميع أفكاري، هه، هه، أنتم هنا، والله نسيت واجبي، أجل، أجل فقد أحضرت لكم حكاية شيقة من مكتبة بودابست العربية الوحيدة ( ).
ولا تكتمل أطراف البداية للمقترح إلا بمحاورة بين الشخصيتين المحوريتين اللتين تقومان بدورين مزدوجين لكل منهما، المؤلف كراوي، وشخصية الجار، والصديق كممثل ومخرج معاً، ومن خلالهما لا بد أن تتساوق الأحداث، وتبرز معاناة الشخصيات، وهاهو المخرج ينبثق باستدعاء من المؤلف الممثل: أقول لكم ربما أطرح فكرة تقديم هذه الحكاية على مخرج أعمالي أبا الزهراء المّلقبة بفيان، فهو المختص في كيفية توظفيها لتسهيل فهمكم لها، وهو الوحيد الذي يمكنه أن يستدعي الشخصيات وتصويرها بالشكل المناسب، وربما هو أجدر بتحريكها، وابتكار أحداث ملائمة لها، وفي ذلك فوائد كثيرة، فهو سيبتكر المشاهد المشخصة بينما أعتني أنا بالطبيخ، إضافة لمساعدتي له في اختصار الأحداث، ورواية ما يصعب تشخيصه (طرق على الباب) المؤلف: هذه طرقات أبا الزهراء السرية، أذكروا الذئب وأحضروا القضيب (يذهب المؤلف لفتح الباب الخارج للبيت فيدخل المخرج) ( ).
هامشيون، ولكن
إن محور الحكاية تدور عن شخصية هامشية في المجتمع، ولكن الظروف تبلورها، وتجعل الغربة منها أحد الأبطال، وبهذا تستحق شخصية جبرائيل أن تكون الشخصية المحورية التي تدول حولها، ومن خلالها الأحداث، رغم تعدد الشخصيات الهامة حولها، ولكن جبرائيل يخلق حوله هالة من خلال طيبة فطرية، وحكايته الطويلة مع الأمم المتحدة، جبرائيل هو الأخر انتهت به المقادير إلى بودابست، لعل معرفته بمن كانوا معه في الجزائر قد جذبته رائحتهم إليها، وفيها يتعرف على ماريا\إيلونا الهنغارية، ورغم اختلاف الطباع، وعدم التواصل في اللغة، لاصرار جبرائيل أن يتكلم بلهجته العراقية فقط لكنهما يعيشان حياة وفاق تستمر حتى نهايتهما لنرى جانباً من هذه العلاقة كيف صورها أوهان من خلال وصف المؤلف\ الممثل لها، وهو يراقبها كجار يسكن في نفس البيت المبني على الطراز العثماني فيه غرف مستقلة متوفرة فيها كافة المستلزمات، بما يشبه الشقق السكنية، ولكنها منفتحة على حوش كبير يرى الجيران بعضهم من النوافذ عن الدخول والخروج، وبخاصة لو كان الجار أو الجارة فضولياً يراقب الآخرين، ولكن فضول المؤلف\ الممثل هنا من نوع آخر:
إيلونا: “تعرج، وهي تقدم الحساء على المائدة” آزا سيب آزا سيب . آكيناكي سما كيك.
جبرائيل : “يشفط من الحساء” لذيد، لذيذ، سيب .
إيلونا: نيي آز فينوم، نينج سيب.
جبرائيل : فهمنا، والله فهما هذا ليس سيب أي حسن، إنه فينوم، أي لذيذ، هفوة لسان لا
غير أيتها الحبيبة ماريا، أيتها الماريا، يا ماريتي الزيتونية انهضي واجلبي لنا بقية
العشاء، والله فقد طال انتظاري لك، ولمائدتك الشهية، يا ماريتي يا ربة البيتي تعجن
البطاطة بالزيت ( ).
ومع هذا فأوهان المؤلف يعكس معاناة المؤلف\الممثل في إصابته بمرض العصر، وكيفية متابعته للفحوصات، لكنه لا يخضع للضغط النفسي، وما يشغله أكثر هو أن لديه عمل فنية عليه أن ينجزه، فقد راهن على يجعل من شخصية هامشية بطل في مسرحيته، ولهذا لا يكتفي هو والمخرج الممثل من النقاش، ومتابعة يوميات جبرائيل، وتشخيص صفاته:
المخرج: إذن ما هي علّة ابن جبرائيل، وأين هو؟ إنني لا أرى شيء يدل عليه هنا.
المؤلف: حسناً (مستمر في تحريك الطعام) لنبدأ من حيث استطاع جبرائيل الخروج من الوطن، وقد كان الداعي لذلك، حجة لمعالجة ابنه في الخارج، ساعدته على الهروب لينجو من الطاغية الذي يلاحق الأبرياء، ويصطادهم من خلال عيونه في كل حارة، وزقاق.
المخرج: وهكذا انتهى به المطاف في بودابست، ولكن لما بودابست لا لندن مثلاً
المؤلف: لم يأت مباشرة لبودابست أيها النابه، وتقول أنك معجب بالحكاية؟
المخرج: تصفحتها، وشوقتني نوعية العلاقة بين البطلين،، أي جبرائيل وماريا.
المؤلف: لقصة هروب جبرائيل ديباجاتها التي رتبها الثور بعنوان تحمل اسم ابنه جهاد، ويبدأها بالقول: (يتقمص صوت، وهيبة جبرائيل) سوف أروي لكم عملية جهاد؟ (ثم) ويتابع الاثنان طريقة جبرائيل في تكرار روايته لحكايته لكل من يتعرف عليه للتو ( ).
وفي البيت يدوّخ حبيته إيلونا ماريا في كثرة اقتنائه الحاجيات المستعملة من سوق البولون، فقط لكي يرضي رغبة التسوق لديه، لأنه لا يبيعها، ولا يستعملها، بل يصر على وهبها لكل من يتعرف عليه، أو يزوره، لهذا تتحاشى ماريا\إيلونا الرجوع إلى البيت، قبل موعد العشاء بساعة لأنها لا تريد أن تسمع سرد يوميات جبرائيل، وترى إلى الحاجيات التي جلبها، ووصفه لمميزات كل منها، فعليها عند الحضور أن تتلهى في المطبخ لتحضيرة السفرة، وبعد العشاء مباشرة تأوي إلى فراشها، وتخلد للراحة من طنين كلمات جبرائيل التي لا تفهم 5% منها، إن ما يعزيها فيه حميمته في الفراش، وصدق نواياه تجاه حبهما: (تقاطع مع ماريا، تهيم في السوق) إيلونا : (تسير وقد حملت أكياس التسوق، تردد مع نفسها، لكنها تدور في دوّامة من دكان إلى آخر دون أن تشتري شيئاً) إن هذا المغترب غير مستقر الرأي، والوضع, والقرار، إنه يرفض حتى لغتي بحجة أنه غير مستقر، وليس هذا البلد إلا محطة مؤقتة له، فهل أكون أنا أيضاً ليس إلا محطة يعبر من خلالها إلى نقلة ثانية، وثالثة.
ولا بد من كشف للعديد من الأمور التي يعاني منها جبرائيل في الغربة، نتيجة لما تعرض له من مضايقات لحقته في مراحل تغربه، وانتقاله من منفى إلى آخر، ومنها خوفه من سرقة تاريخه، وأوراقه الثبوتية التي يتعرض لها كل مغترب في المنافي، من قبل عصابات تصطاد الغرباء، وتسرقهم، وقد تؤدي العملية لجرح، أو قتل لو قاومت الضحية، ومن هذا الموقف الاحترازي الذي سمعه عمه جبرائيل، وما حصل لجليل\المخرج الممثل، زادت من حرصه بشتى الطرق، وذلك بإيجاد طرق لا تخطر على البال لإخفاء أوراقه الثبوتية، تستعصي حتى على إيلونا الوصول إليها، في التيه والفوض الذي خلقته الأغراض الي تسوقها:
إيلونا: (بين صناديق، وعلب فوق بعضها، وأكياس نايلون معلقة، تتعثر بينها) لعنة الله على يوم الذي أخذته فيه إلى ذلك السوق لأعرّفه عليه، لأنني ضجرت من عدم تحرّكه من البيت، فبيكا – ثوري الجميل يخاف من التورط في دخول الأزقة فيتيه، ويأتي شبان البنغس، ليسرقوا أوراقه الثبوتية. (تقاطع مع المؤلف في بقعة ضوئية والمخرج غائب في دورة المياه، جليل والبنغس في بقعة ضوئية أخرى).
ويكون للمؤلف دوره في التعليق على الحوادث التي يعرض لها الغرباء بقوله:
المؤلف: كما فعلوا بجليل العزي، فقد عمدوا إلى تخديره بمادة رشاشة، فلما لم يجدوا لديه شيء هام، سلبوا أوراقه، ومزقوها عندما اكتشفوا أنها لدولة مكروهة بسلطتها وحكامهم، وقد نجا جليل بأعجوبة، بعد علاجات مركزة، ولكنه ما يزال يعاني من تأثير المادة المخدرة.
ولكي نتعرف على تكوين شخصية جبرائيل، وعلاقته بماريا\إيلونا نتابع معه والمخرج الممثل تداعيات إيلونا في إحدى حالات هروبها من البيت، وقد استقلت المترو الأصفر الذي يدعى بالمجرية “فيلاموش” لتصف لنا كيف تعرفت على جبرائيل، وكيف توطدت علاقتهما:
المخرج: وماذا قررت ماريا – إيلونا في رحلتها (ماريا في بقعة ضوئية جديدة)
المؤلف: لم تقرر هي بل قدماها هما اللذين قاداها لا إرادياً لمقعد في مترو( ). (ثم)
إيلونا: إن سلوك الغريب مع زملائه مريح، ورائع عندما يلاقوه، رغم القلق، والخجل الذي يعتريه، وهو لوحده، ولا يستطيع طلب أي شيء إلا بعدما يحضر أحدهم، حتى نظراته كانت كسيرة. أجل تذكّرت إن هذا الغريب كثيراً ما تجول حولي في ساحة الرسم على مدخل شارع فاتسي أوتسا، ينظر للرسوم كالأخرس، حتى خلته أصم، وأبله، لكن له منحنيات في جسده بحاجة، لدراسة تشريحية، وله خدود تتورد مثل الفتيات الصغيرات.
ولكن تداعيات إيلونا تذهب بعيداً في القدم، إلى حيث كانت صغيرة، وها هي تسترجع حادثة مؤلمة، لا تني تعاودها في أحلامها ككوابيس، وترافقها أينما ذهبت، لا تطيق رؤية رجل عحوز يقترب، أو يرافق طفلة: (إيلونا الصغيرة تصرخ مستغيثة بالجيران من نافذة غرفتها) أيها العم لاسلو، أيتها الخالة آنّا أغيثاني. (طرق على باب الشقة، ثم يندفع الباب، ويدخل رجل مفتول العضل بيده سوط ترويض الخيول، يتبع رجل شرطة).
رجل الشرطة: (يتقدم إلى زوج الأم، الذي لم يفه بكلمة) تفضل معنا إلى القسم
المؤلف: وكأنه كابوس لم يطل، ذاب مع فتح باب الشقة وقدوم رجل الشرطة، إذ يبدو أن أحد الجيران قد اتصل بالشرطة. فأخذوه قبل مجيء أمي.
صوت إيلونا: ومن يومها لم أره، فقد أجرت أمي مراسيم الطلاق، خوفاً عليّ، وبشهادة الجيران، وسوابقه التي مارسها معي( ).
ولكن إيلونا لا تستطيع أن تبعد عن مخيلتها ذلم الأسلوب المراوغ لزوج أمها في كيفية استدراجها ليمارس استمنائه، وهو يراقب الطفلة عن بعد:
إيلونا: ربما تكون قطتي هيلانة، ما أجملها، أين اختفت (تلاحظ حركات يديه المرتعشة، وهو يدفعها إلى داخل شقته) ( ).
وبرومانسية وشفافية يرسم أوهان علاقة جبرائيل وإيلونا السرية من خلال لغة الجسد، التي تتجاوز كل لغات العالم، ويبين قدسيته: (صمت مع الموسيقى الملائكية).
المؤلف: وما أن تصل ماريا – إيلونا إلى السرير مع رائحة البخار، والصابون، وعطرها الخاص لتنسكب كالسحاب في الفراش، فيلامس جسدها صدر جبرائيل، فيفتح عينه ليقبلها من وجنتها كأنه يحيها تحية المساء الأخوية. فتسترخي بين يديه، وكأنها سحابة مأزومة بالماء لا يعوزها سوى شرارة برق حتى ينزل مطرها، يطفأن الأضواء. وهكذا يبدأ فصل الحب، فيناولها قدح الشراب، فترتشف شفاهمها من نبيذ معتق يذكي الإحساس بقبلات نارية، وتأخذهما نوبة حب جامحة، فيستلقيان على ظهريهما لكي يسعدا بالهوى، والغذاء الروحي الأزلي، فيطوي جبرائيل إيلونته مثل وسادة ناعمة يحتضنها، حتى يغفيا على وسادة واحدة.
(إظلام يعلو الشخير من خلال موسيقى هادئة) وبعد ساعة (إضاءة خافتة).
ازدواجيات
وينتقل أوهان لتمرير ما تمر به الدول الأوربية عند تحولها من مجتمع ونظام مستقرين إلى فوضى عالم المال، واستغلال الإنسان: (امرأة بكامل قيافتها تقف وراء برميل القمامة، تطفئ عقب سيكارتها برشاقة، وتسحب السيكار منها لتضعه في حقيبة يدها، تفتح غطاء برميل القمامة، وتعبث بالموجودات، ابتسامة عريضة على وجهها، ترفع نصفها الأعلى، وتخرج يدها بنصف ربع قطعة من البيتزا، البيتزا موضوعة على كارتونة خاصة بالبيتزا، تباشر بقضم قطعة منها، يخرج المؤلف الذي يقوم بدور جار ماريا – إيلونا، فيرتاب بأمر المرأة) ( ).
ومن خلال هذا التمرير يعود أوهان للتأكيد على قضية علاقة جبرائيل بالأمم المتحدة، في إحدى لجانها الخاصة بحقوق الإنسان، والمنفيين، وهي قضية هيمنة على عقل، وتداعيات، ومسيرة حياة جبرائيل في الغربة، يرسل الرسائل، ويستقبل الردود، ولا يعفي أحد ممن حوله من غير أن يسرهم بهمومه، وما صار إليه حاله مع الأمم المتحدة:
حميد: (منكفئ على قراءة الرسالة) دعني أركز يا جبرائيل
جبرائيل: (يصمت، ثم) أعرف أنك قد سمعت الحكاية لمرّات، ولكن قل لي ماذا أفعل ( ). (ثم)
المؤلف: وبهذا يكون كل صديق لجبرائيل قد عرف أن أصدقائه قد عرفوا أسرار جبرائيل، بل وقاموا بمناقشة محنته، وسيرته، وطريقته في التعامل من ورائه, ويبقى جبرائيل الوحيد الذي يتوهم, أن الآخرين حتى وهم مجتمعون لا يعرف بعضهم عن الآخر ما يعرفوه عنه هو.. وعند كتابة الجواب في مراحل المسودات يستعين بالمترجم والناسخ والطابع، والحقوقي، والسياسي. (تقاطع مع ماريا ترسم، وجبرائيل يقرأ رسالته بصوت عال جيئة وذهاباً) ( ). (ثم)
المؤلف: أفففف أفف أفففف، لهذا يحار جبرائيل في أي شيء يكتب، ويتعب عندما يقرر كتابة الشعر، فتجافيه المعاني، والأبيات فيعود لينام إلى جانب ماريا، ولكن النوم هو الآخر يجافيه في بعض الليالي، لهذا يعمد مباشرة للنوم بعد دروس الحب، (يتحرك جبرائيل على الوصف) وبمجرد أن تغفو ماريا ويغطيها، يتظاهر بالجلوس برهة أمام المصباح، ثم يذهب ليغتسل، ومن ثم يعود إلى الفراش فإذا ما تصادف وأن فتحت ماريا عينها، لتعرف الوقت، يشير لها بأصابع كفه بساعتين أكثر من الوقت الحقيقي. (إظلام)
المسرحية الآيلة للظهور
وفي متابعته لكتابة المسرحية، وتطور خطواتها لا ينسى أوهان المحاورات المستمرة بين المؤلف\ الممثل. والمخرج\ الممثل وهما منهمكان في المناقشة:
المخرج: (يأتي مسرعاً من الباب الخارجي)، أبا عمر ها قد انتهيت من وضع الخطوط
الرئيسة للعملية الإخراجية، فهل لديك أي تبديل في المساقات العامة للحكاية.
المؤلف: أية حكاية منهما، الحكاية القصصية، أم الحكاية في الدراما المسرحية
المخرج: بالتأكيد الحكاية المسرحية،
المؤلف: هوه هوهوووو، جرت كثير من التعديلات، وحتى العنوان فقد تغير
المخرج: أخبرني
المؤلف: سأكتفي بالعنوان فقد أصبح اسم المسرحية (حكاية اغتيال إنسان)
المخرج: ارجو أن تتبعها بمسرحيات على نفس النمط. (ثم) (ينظر في ساعته) علي المغادرة، أرجوك كن شجاعاً، بطل كما عهدناك، وداعاً. (ثم) (ينهض المؤلف عن أوراقه، ويتمشى في فناء الدار، وقد أحس بنوع من الحرية) ها قد خرج جبرائيل بخطى مسرعة لإنجاز مهمة التصريف، ومنها ينعطف إلى ركنه في مقهى الفيرشمارتي حيث لقاء الأحباء من أصدقاء الوطن في الغربة. (بقعة ضوئية على طاولة في مقهى فيرشمارتي، حيث يجلس مجموعة أشخاص من الطلاب العرب، والمنفيين. بعضهم ممن يدرسون الدراسات العليا، تعلو الأصوات في نقاشات مختلفة) ( ).
التقمص داخل الأدوار
وفي محتوى هام من نوع التمقمص في تبادل الأدوار يضع أوهان جبرائيل في مجابهة مع نفسه، مرة أمام المرآة، ومرة في محاولته لعب الشطرنج بشخصيتين ابتكرهما لنفسه، لكي يبعد الوحشة عن نفسه أولاً، ويصل إلى الآخر فيه، في حوارية هزيلية لكنها عميقة المعاني في توضيح أبعاد شخصية جبرائيل: (وهو يعد تشخيص للعبة النرد هذه المرّة)
جبرائيل: (يجلب صندوق لعبة النردة بأحجارها، وزاريها، ويضعهما على الطاولة وسط الصالة، ويحاور أحدهم)، أسود، أم أبيض، (لا جواب) أههههه فهمت، (يقوم بنفس محاولاته للعبة الشطرنج، لتشكيل ظل مرآة له، ولكن هذه المرة لشخصية بطرس، فيجلب كرسي يضعه مقابل كرسيه بحيث يكون مقابل للجمهور، ويضع جاكيته القديمة على أكتاف الكرسي) هكذا سنستقبل خوني بتو، علينا إذن أن نضيف السيدارة (يضع سيدارة سوداء ملكية فوق عكاز يثبته في وسط الكرسي) أهلا بخوني _ أخي بطرس (صمت) سيدارة الشماس بتو الذي نكر سيده، (برهة) أعرف ما الذي يجعلك تتكلم (يجلب مرآة بيضوية بقاعدة يضعها على قادة الكرسي فيرى وجهه فيها) ها إهههه، صرت أراك كما تراني يا خوني بتو، هل صحيح (نحنحة، ثم همهمة) هه مكانك غير مريح، أنت الآخر تحتاح إلى وسادة، (يجلب الوسادة ويضعها وراء المرآة، فتستقر، ويبدو الشكل كأن رجلاً يجلس على كرسي بسيدارة عراقية ملكية، وجهه في بطنه) حسناً تكلم أليس صحيحاً. (ثم) هكذا مكتوب، هل ستبدأ، أم أبدأ، يبدو أنك قد اخترت لي الحجر الأسود منذ البداية، فأنا دائماً قلبي ابيض كما تعرف( ). (وهكذا يحق لكوركيس، أو بطرس أن يلومان جبرائيل العنيد الذي لا يتعلم من تجاربه، لكنه يهتم بترتيب الحاجيات التي اشتراها لهذا اليوم قبل مجيئ إيلونا فقد كوم ما اشتراه اليوم في الصالة – غرفة النوم. (ثم): وعندما ينتهي يمارس إعادة كتابة رسالته المليون للأمم المتحدة، ويظل يقرأها بصوت عال كأنما يترافع أمام منصة القضاء( )).
وتبحث إيلونا مع حميد الذي يتقن الهغنارية أحوال جبرائيل كغربية يداخلها الشكك من غموض شخصية من ينام معها تحت سقف، وسرير واحد من عقد رسمي، ولكنها مهتمة به كفنانة قبل أن تكون ممرضة، وقد أعجبتها تلقائيته وهو يمثل أمامها كموديل لكافة لوحاتها، وبلتقائيته هذه سحرها، رغم جلافة تعابير، وعبثيته: (في بقعة ضوئية).
حميد: (يحاول جاهداً وصف شخصية جبرائيل) سيدتي، ولست أدري كيف أبدأ،
إيلونا: تفضل يا سيد هميد، إذ يبدو أنك من أقرب أصدقاء غبرييل،
حميد: لهذا أحاول في البداية يا سيدتي الفاضلة، لو سمحت أن أقرب لك خواص،
وصورة الرجل الشرقي، ليس بالمعنى الذي فهمتيه من وانطباعات المستشرقين ( ).
الاغتيال
وعودة لمحاورة المؤلف والمخرج، حول تقدم الكتابة في المسرحية، وتقدم الوضع المتأزم بين من يعارضون دخول الأمريكان إلى العراق، وبين من ذهبوا ليتمرنوا على السلاح في معسكر الأمريكان في المجر بما فيهم حميد، ويا لها من مفارقة، فلم يبق غير جليل وجبرائيل رافعين علم المناهضة لدخولهم على ظهور الدبابات الأمريكية إلى الوطن، هذه المعادلة بين التخلص من الدكتاتور والوقوع في شراك الاحتلال أعمت أبصار حتى من ناضلوا في سبيل وطن حر وشعب سعيد وقتها، وفيما بعد أحسوا بخطأهم فندموا، ونقدوا أنفسهم ذاتياً :
المخرج: أنت لاتطاق، (يغطي وجهه، ويدير ظهره) علي الإسراع (يخرج)
المؤلف: شد ما آلمتني محاوراتهم، وفبركتهم للأمور الزائفة، يكذبون، ويصدقون كذبهم، لعل جليل لديه الحق كله في وصفهم، وجبرائيل هذا الذي لا أحد يحسب له حساب، قد وقف بوجههم من غير أن يحتاج لتفكير طويل (بقعة ضوئية على المقهى، والنقاش محتدم):
جميل: لا أنتم لا تعرفون ما الذي يحصل في العالم الغربي
جبرائيل: ألسنا نعيش كلنا في الغرب (ثم) ممن ظلوا يكردشون عظام الطاغية حتى انتهت فوجدوا لهم فضلات موائد أكثر حضارية، وأكثر دسماً، وأغنى سموماً
جميل: (يتضاحك بهستريا) ويقول أنه غير موتور، لا بد أن جليل قد افسد مخك
حميد: إن جبرائيل نظيف ومخلص، لكنه لا يجد الوقت المناسب لكلامه ( ).
لكن جبرائيل له همه، ومعاناته، وهو مصر على عدم العودة إلى الوطن\ العراق تحت أية راية أجنبية، ويفضل أن يبقى لاجئاً في الدول الشمالية لحين يتحرر العراق من كوالبيس، فها هم من يريدون في سبيل إسقاط الدكتاتور، يسلمونها لقمة سائغة للمحتل:
المؤلف: طوى جبرائيل الرسالة عائدة لغرفته، وصار يحسب الأيام التي ستغيب عنه
إيلونا حتى يجتمعان من جديد بناء على معاملة جمع الشمل، وعليه الآن قبل أن يفعل أي شيء أن يحرك إجراءات زفافهما الذي أجّله طويلاً، بل جمّده لكي يقدمه هدية هامة لإيلونته الوردية، فقام وخرج إلى المقهى لعله يلاقي المحامي مفيد لكي يستعجل الإجراءات، وعلى جليل أن يقوم بإجراءات حجز قاعة للمناسبة، طالباً كتمان السّر عن إيلونا حتى اليوم الموعود.
أما إيلونا فلم تزل مواضبة على برنامجها في استقلال المترو الأصفر حتى نهاية الخط لتتأمل وهي في الطريق كل علاقتها بجبرائيل، وأملها في أن يرحلا معاً إلى دولة شمالية كما وعدها، وفي تأملاتها لا تنسى الساعات الجميلة التي تقضيها معه، وهي تقوم برسمه، خارج البيت أحياناً، وبخاصة في الأماكن الشهيرة من بودابست، كجبل الققم الثلاث، وقلعة ستاديللا:
المؤلف: بعد كل ما تذكرته ماريا عن علاقتها بجبرائيل، وهي في ساحة الأبطال، ومن شدة إعيائها وإحساسها بهاجس، جلست ماريا – إيلونا منهارة على مصطبة عربة المترو في طريق عودتها إلى البيت، وفيها هاجس بان شيئاً ما قد حدث لجبرائيل، إيلونا: أخشى أن يكون قد حاصره أحدهم، ربما يأتون إلى البيت، علي الإسراع، فقد تأخرت كثيراً، (صمت، وموسيقى ملائكية حزينة، تتخللها أصوات عجلات المترو الحديدية) أحس بأن غبرييل قد تغير سلوكه، ومزاجه في الفترة الأخيرة، لا بد من أمور هامة غير أوراقه تقلقه، وتؤرقه، (تنهض في اللحظة الأخيرة قبل تحرك المترو لتنزل، تنزلق رجلها الصحيحة من درج المترو، وتعلق الثانية بتحرك المترو، تبقى معلقة، حتى تلفظ أنفاسها).
وحدس إيلونا قبل موتها كان في محله فقد حيكت مؤامرة في اغتيال جبرائيل، لكي لا يبقى أحد وراء المطبلين ما عدا جليل المنبوذ، والذي بتشويه صورته لا أحد يصدقه، وسيبقى ينبح حتى يمل: (بقعة ضوئية في المعسكر)
جميل: أنت تعرف كيف تستفزه يا سامر زيدون
حميد: ولما الاستفزاز، أنه رجل مسالم، فماذا تريدون منه
سامر: نريده أن يدعمنا، بل يأتي معنا،
جميل: عليه أن يتدرب هذا البغل، لكي يكون خير حادلة ألغام
حميد: منطق غريب
سامر: ما هو المنطق الغريب، أليس تافه يستحق أن يكون بغل حمل؛؛
جميل: كاسحة ألغام، يكون في المقدمة ( ).
وتأتي خاتمة المسرحية باردة كالجليد السويدي، فقد حصل جبرائيل مؤخراً على موافقة الحكومة السويدية لكي يكون لاجئاً لديها، بنصيحة مكتب المهاجرين للأمم المتحدة، ولكن:
موظف سفارة: هل هنا بيت جبرائيل كوركيس (ثم) القنصلية تبعث بتحياتها، وتريده أن يحضر لاستلام جواز سفره،،
الجار: لا لزوم لذلك فقد تأخرتم كثيراً
الموظف: لماذا هل حلت أموره أخيراً (ثم) هل عاد للوطن
الجار: كلا، فقد عاد في طريق أقصر.
الخاتمة
يغلف أوهان مسرحية سيدة المترو الأصفر في إطر استقدام مادة من أرض الواقع إلى الحياة على المسرح، وبهذا يقوم بسحب المتفرج من أرضية لها علاقة بأحلام المسرح، إلى تورط في عيش واقع يمارسه المؤلف\الممثل، وكأن ما يحصل في المسرحية داخل المسرحية هو أمر ينشأ ارتجالياً، ومن أفكار آنية للمؤلف\الممثل. وعلى القسوة التي تمر بها الأحداث في النهاية، فإن موضوعة الحب تشمل العرض بكامله، خاصة وأنه حب مجرد من مصالح الطرفين، ليس سوى علاقة إنسانية الحب الذي يفسره الفيلسوف فيورباخ بقوله: “كما ان الحب هو المعيار الموضوعي للكينونة، كذلك هو معيارها الذاتي كما هو معيار الحقيقة ومعيار الواقع. حين لا يكون هناك حب لا تكون ثمة حقيقة. ومن يحب شيئاً يكون وحده شيئاً ما. ألا تكون وألا تحب هما الشيء نفسه. فبقدر ما نوجد نحب”. وهذا هو نوع حب جبرائيل لماريا، وللوطن.
ولهذا علينا في الختام أن لا نستهين بالعمل، حين التعرض لإنتاجه، أو نقده بل علينا أن نقرأ ما كتبه المؤلف أوهان كتوجيهات فيقول: لا بد للمخرج، أن يأخذ بعين الاعتبار مستويات العرض: الحدث من حيث علاقته بالمكان، فالعرض يعتمد على البقع الضوئية لإشاعة جو يتناسب ومشاهد حدثية قصيرة. لهذا يبقى الإطار العام محيط حوش البيت، وما يرى من الداخل إلى الخارج. أما علاقة الحدث بالزمان، فهناك تداخل في الزمن بين التداعيات، وحتى تمرير الأزمان. وعلى مستوى الشخصيات هناك تداخل، بين شخصية ماريا الجارة، وماريا–إيلونا التي يكتبها المؤلف أمام الجمهور، ولا بد من الحذر في الخلط بينهما، وهذا ينطبق على شخصية المؤلف عندما يمثل دور الجار، وعلى المخرج الذي يؤدي دور جليل إلى حد ما، وهو الشخصية الأكثر سيطرة لعدم تداخل الدورين في مكان، وزمان محددين.
هوامش :
– مسرحية سيدة المترو الأصفر، تأليف فاروق أوهان، إصدار مركز الحضارة العربية بالقاهرة 2010 (المسرحية اقتباس للمؤلف عن قصة إيلونا إيسلن، نشرت ضمن مجموعة قصص البحر يغرق لنفس الدار عام 2000).
– مرجع سابق مسرحية سيدة المترو الأصفر: (في الطابق الأرضي نزيلان: منزل أول للمؤلف يسار الخشبة بغرفة، وشرفة المنزل الثاني لإيلونا، وجبرائيل غرفتين، وحمام، وشرفة بمستوى الحوش يميناً، طابق علوي، بغرفتين في الوسط للمؤجرين، يتم الوصول إليه بدرج أسفل يمين).
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: مكتبة الملاحم العربية للكتب العتيقة، (يدخل يده مراراً في كيس الزهور فيخرج كتباً) مواويل غجرية، قصة الإنسان للمسرحي المجري ماداج، إلسا وعيون إلسا لأراغون، مختصر سيرة سيف بن ذي يزن، بقايا صور لحنا مينا، النخلة (ثم) ما علينا (يمد كتابه) هه أهه مجموعة قصص
البحر يغرق، إثنتى عشرة قصة، وهل يغرق البحر، طض على مؤلفها، وناشرها، ولو فالبحر يغرق بشبر ماء، وإلا لما حصل تسونامي، أو كاترينا، وأو ريتا المسكينة. (ثم) افتحوا الصفحة من فضلكم، لنقرأ سوية، إيلونا ماريا إيسلن، لا بد أنها من عائلة الناقد المسرحي مارتن أيسلن المجري الأصل، تقول الحكاية: تعرج ماريا إيلونا في تيه بشوارع مدينة بودابست هرباً من كثرة ما سمعت البيت الشعري القائل: إيلونا ربة البيت، تصب الخل في الزيت، (ثم) (يتنقل وعينه على نافذة الجارة، وهو يستطرد بهمس المرّة).
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر:
المخرج: لم استطع الانتظار، أولاً لأسأل عن نتائج فحوصاتك الطبية؟
المؤلف: أحالوني إلى فحص الأشعة المقطعية، وسوف يتصلون بي لتحديد الموعد
المخرج: والأمر الثاني يا أبا عمر فقد عثرت على الحكاية المناسبة في مجموعتك القصصية الأخيرة،
المؤلف: أية مجموعة
المخرج: البحر يغرق
المؤلف: (يسقط بيده، ويغمز له) أنا أيضاً اشتريت المجموعة اليوم،
المخرج: اشتريتها، وهل يشتري المؤلف كتبه (للجمهور) هل ادعى أنها لمؤلف غيره
المؤلف: لا تفضحنا، فأنا لا أجيد غير فن الطبخ، والرواية.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: (ماريا، وأمامها يجلس جبرائيل بجلسة غير منتظمة)
ماريا: كوسونوم من فضلك غيرئييل، لا تتحرك كثيراً
جبرائيل: جوكولوم (يرسلها لها قبلة في الهواء من بين أسنانه المفارقة، وانهماكه في تركيب أجزاء راديو قديم) قبلة يا حبيبتي، ولكنني كما ترين مشغول بتصليح هذا الراديو البولندي اللعين.
ماريا: نيم تودوم، لا أعرف بما يهذر حبيبي، (بيكاي) ثوري السمين (تنهمك مجدداً بالرسم).
المؤلف: ورغم أن ماريا – إيلونا تقضي ثمان ساعات كممرضة في مستوصف منطقة فيريهاج التي تستقر فيه ببيتها، لكنها تفضل قضاء أكثر من ساعتين إضافيتين خارج البيت بحجة الذهاب للتسوق.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر:
المؤلف: مبارك عليك، تهنأ به (قطع على جبرائيل في المترو مع ماهر القدسي)
جبرائيل: خيو ماهر، وهكذا بدأ المشوار بتصديق الشهادات، وجمع الوثائق الثبوتية
لتقديمها لدائرة السفر، والجنسية والهجرة، وما أن وصلت وابني إلى أنقرة واستقريت لبعض
الوقت حتى اكتشفت أنني ضائع، وعلي إذا أردت البقاء لفترة طويلة في الغربة التي
اخترتها، أن أجد عملاً، (قطع).
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر:
صوت إيلونا:: (ماريا-إيلونا: أمام معتداتها في ساحة فرشمارتي) أول مرّة رأيت فيها غبرييل ثوري الغالي، وكنت وقتها قد خرجت يوم السبت على غير عادتي إلى مقهى الفيرشمارتي الذي لا يجلس فيه غير السياح، (ماريا في بقعة ضوئية ترسم أحد السياح) والأجانب تاركة مكاني الذي حجزته بين الرسامين لأمارس هوايتي في يومي السبت، والأحد، وهي الجلوس وراء حامل أوراق الرسم أفرز مواهبي في هذه الساحة التي يكثر فيها الرسامون، والسياح الأجانب. ولا يهمني أن يأتيني أحدهم لأرسمه كما يفعل من معي بالصف طوال الأسبوع، لأنهم يعتاشون من مهنة الرسم، بينما أمارسها كهواية لا غير.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: المؤلف: لهذا اصطنعت ماريا جمل جاهزة للاعتذار أمام لموظفة، تدور حول نسيانها العنوان، وهكذا مما يتيح لها المبرر للخروج من الدور، والذهاب إلى منصة الكتابة لتبقى هناك تُشاغل نفسها، وهي تنظر إلى أطول صف دور ستأتي بتثاقل إليه وهكذا الأمر حتى ينتهي دوام البريد. وعندما تكون في الدور الجديد يأخذها سهومها في هذا اليوم إلى وجه العجوز إيغور، (تقاطع مع شقة إيغور العجوز جار أم ماريا، نرى إيغور يقف وراء باب شقته متلصصاً، ويتلفت يميناً، ويساراً، وهو يكلم ماريا الصغيرة). وفي استرجاعاتها وهي في المترو تتذكر إيلونا الحادثة لمرات من غير أن تنسى فقرة، وهي ما تملأ كوابيسها الليلة: إيغور: هلا ساعدتني يا صغيرتي بالبحث عن قطة ضالة دخلت إلى شقتي، وصارت تحت السرير، فأنت صغيرة يمكنك البحث في الأماكن الضيقة.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: المؤلف: يفتش إيغور مع ماريا على قطتها التي تصورت أنها دخلت في شقته المقابلة لشقة والدتها، والعجوز إيغور يتعمد مماطلتها في البحث على القطة التي لم تدخل أصلا إلى شقته،
إيغور: ربما تكون في المطبخ فإني أسمع صوت خربشات هناك
المؤلف: ويحاول إيغور الالتصاق بماريا، ويشم رائحتها الغامرة بتفتح زهرة يانعة. من غير أن يقوم بأي لمس عامد،
إيلونا: (تنتبه ماريا للجو الغريب، فحركات إيغور، وعيناه الزائغتين تشعرانها بالتقزز) أرجو المعذرة يا جدي لا بد أن قطتي لم تترك مكانها في بيتنا، دعني أذهب لأتأكد إذن
المؤلف: فقد انتبهت لجو غريب لا تستطيع المواصلة معه، خصوصاً وإنها خبرت بعض هذه الأجواء مما حصل لها مع زوج أمها.
إيلونا: المعذرة يا جدي فعلي الخروج بسرعة،
إيغور: (يخفي نفسه وراء ستار، وكأنه يقوم بممارسة فعل شائن بنفسه) لماذا يا صغيرتي، لماذا، (صوته يرتجف) ألا تريدين أن تجدي قطتك (ثم)
إيلونا: لم أكن وقتها أقدّر ماذا يفعله الكبار بينهم، وبين أنفسهم. (تجفل ماريا لانعكاس حوارها على أحدهم في الدور وهو يلكزها لأنها صارت بمواجهة وموظفة شباك البريد من جديد،
موظفة البريد: عجلي يا سيدتي،
إيلونا: (مترتبكة)، طابع بخمسة وعشرين فلوين
الموظفة: ربع فورنت.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر:
المؤلف: (بدور الجار) مين دان، هوج، من هناك، ماذا تفعلين هناك
المرأة: (بصوت أجش، مبحوح) أتناول وجبة طعامي، هل تمانع
المؤلف: (وهو يضع أرواقه على الطاولة في الشرفة) لا، هو لك (يدخل ليجلب بقية لوازم الكتابة، تنتهي المرأة من مضغ الطعام، تخرج ورقة تشوو كلينكس من حقيبتها، تمسح شفتيها ويديها، وترمي منديل ورق “تشوو الكلينكس” في برميل القمامة، تقفل البرميل بعناية كاملة، تضع حقيبة يدها على سطح البرميل بعد أن تمسحه، تخرج قلم شفاه، ومرآة، وتبدأ بتزويق شفاهها، يخرج المؤلف – الجار، فينظر إليها).
المرأة: هل تمانع، أنا أضع اللمساة الأخيرة على وجهي (تلبس قفازيها بعناية بالغة).
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: حميد: لا يهمك، ولكن عليك التحلي بالصبر،
جبرائيل: (ينهض منزعجاً) الصبر، تقول لي الصبر، أنت مثلهم، لا تختلف عنهم حميد: حميد: لا لم أقصد هذا، ولكن على كل شخص يريد لقضيته أن تنجز، أن يصبر، يداري الأمر
جبرائيل: (يجر حميد من ردن جاكيتته) هذا عين الجنون، فهل بقي لدي صبر، ياعلبة الصبر اسقيني من اكسيرك العذب (يلكم حميد بيديه منفعلاً، وحميد يتحاشاه)
حميد: اهدأ اهدأ يا جبرائيل، أنا لست المسؤول.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: جبرائيل: (يثور من جديد) أليست قضيتي مع السلطة إنسانية، وهل تحريض زوجتي بتركي من قبل أهلها ليس إنسانياً، لقد فبركوا لها حجة قانونية لتركي، على أنني مصاب بفصام عصبي.
المترجم: (يتشاور مع الموظف) وقتك انتهى، وعليك المراجعة عندما نرسل إليك خطاب مواجهة، أرجوك لدينا مواعيد أخرى مع آخرين
جبرائيل: وماذا عما حصل لي مع مدرسي مدرسة أبي حنيفة الجزائرية الذين سرقوا جواز سفري، فهل كان ذلك لأنني كنت مشاكساً، وهل عقابي هو أن أفقد أهم هوية لي في غربتي.
الموظف، والمترجم: (ينهضان، ويحاولان إيصال جبرائيل إلى الباب، وهو يصرخ)
جبرائيل: (عند البوابة) وهل تحشيد العامة من المتطرفين لرميّ بالرصاص, وسرقة جواز سفري، شيء طبيعي، هذه كلها شواهد على صدق قضيتي. (تقاطع مع المؤلف ثم مع جبرائيل في نفس مكانه بعد نوم ماريا بنفس الليلة).
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: علي: حبيبي الحصار من أجل تجويع الشعب العراقي، وإذلاله، وتمكين السلطة
سعيد: بالضبط، فمن المستفيد من برنامج النفط مقابل الغذاء
ناظم: هناك صفقات سرية، وبروتوكولات تحت الطاولة
لقمان: حتى في الأمم المتحدة
جبرائيل: (داخل في الكلام وهو يجلس قبل التحية) وهل اليوإن منزهة، هناك كواليس اسألوني أنا (ينتبه لدخول حميد، وهو يحمل أكياس تسوق مواد غذائية) اسمحولي دقائق (ينهض ليعد مكان على طاولة قريبة له ولحميد) أهلاً بالبودائي العتيد، ها نحن نراك كل أسبوع مرة (ثم)
جليل: هللو يا جماعة، هاي (يتجه مباشرة لطاولة جبرائيل التي كان ينوي تركها) أرأيت صديقك المخلص، لم يكلف نفسه بالتحية، ولا حتى بالابتسامة، وفرد الشفتين (ثم) لم تجر دماء بيننار(ثم) كانت مجادلة استفزته لأنها جاءت على الوتر الحساس.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: جبرائيل: (يبدأ اللعب برمي أول زار) أنت قلتها، لا غش هنا، ولا ربط زار (ثم) جبرائيل: التجأت للجنة حقوق الإنسان في الجزائر العاصمة
جبرائيل: (يرمي طاولة النرد أرضاً، وينزع طربوش بتو، فينتهي الكلام) اخرس الآن.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: المؤلف: وفي هذه الأثناء كانت قد تشكلت في ذهن جبرائيل فكرة، لما لا يقوم بشكاية أمره إلى الآخر فيه، إلى شفيعه كوركيس، لكن والدته أصرّت على إضافة اسم بطرس لكوركيس فصار له اسماً مزدوجاً في المعمودية هو: كوركيس – بطرس. (يجلب جبرائيل لعبة الشطرنج برقعتها، وأحجارها، ويضعهما على الطاولة وسط الصالة، ويحاور أحدهم)، أسود، أم أبيض، (لا جواب) أههههه فهمت، يجلب كرسي يضعه مقابل كرسيه بحيث يكون مقابل للجمهور ويضع جاكيتة حربية من سوق البولون على أكتاف الكرسي) هكذا سنستقبل خوني كوركيس، علينا إذن أن نضيف الخوذة (يضع خوذة حربية قديمة فوق عكاز يثبته في وسط الكرسي) أهلا بخوني _ أخي كوركيس (صمت) خوذة مار كوركيس قاتل التنين، (برهة) أعرف ما الذي يجعلك تتكلم (يجلب مرآة بيضوية بقاعدة يضعها على قادة الكرسي فيرى وجهه فيها) ها إهههه، صرت أراك كما تراني يا خوني كوركيس، هل صحيح (نحنحة، ثم همهمة) هه مكانك غير مريح، تحتاح إلى وسادة، (يجلب الوسادة ويضعها وراء المرآة، فتستقر، ويبدو الشكل كأن رجل يجلس على كرسي بقبعة، وجهه في بطنه) هذا الشيء الوحيد الذي لا يعجبني، لا بل يتعبني، أنت تراني مباشرة ولكني أراك منعكساً في المرآة ومن وراءك كم كبير من الناس، لا أشعر بالوحدة وأنا أكلمك.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر: حميد: أنت لمّاحة يا سيدتي، لهذا أرجوك أن لا تستغربي من حالة جبرائيل، وهو يتعرف على كل صديق جديد، فإن مادته الأولية هي أن يطلع هذا منذ التعارف الأول على مراسلاته، حول وضعه، مع أهله في أمريكا، أو مشاكله التي العالقة مع لجنة حقوق الإنسان، لا لشيء إلا ليأخذ رأيه فيها، رغم أن أي من الآراء لم يفده، ولم يستعن به، فهو يقع في الأخطاء نفسها لأنه يسأل، ولا ينصت للجواب، والرأي..
إيلونا: أفهم، وأقدر كل ما تقوله، أنا بحسي الفني، ومنذ اتخذته موديلاً لي عرفت جوهر
طيبته، وبساطته التي تصل إلى حد السذاجة.
حميد: عندما فقد جبرائيل جواز سفره بدأت معاناته من خلال مطاردة بينه وبين المتطرفين، فأنا الوحيد الذي حضر الحالة وعايشها، بحكم وجودي في ضواحي الجزائر العاصمة، فقد لجأ جبرائيل ليحتمي بداري.. وقضى لديّ أسبوعين، حتى استيقظت في أحد الأيام ولم أجد جبرائيل، فدرت العاصمة كلها، ولم أجد له أثراً، لعل جبرائيل كان خائفاً على مصيره بعد رحيلي القريب وعائلته إلى المجر، وسوف يكون بلا ملجأ، ففضل الذهاب في صبيحة انقضاء الأسبوعين ليطرق باب لجنة حقوق الإنسان فرع الجزائر.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر:
جبرائيل: بل هو عين الوقت
جميل: ما علينا لسنا هنا لنناقش بل لنفذ، كم عدد المتطوعين لدخول معسكر التدريب
سامر: بعضهم يسأل عن الراتب
حميد: وبعضهم يريد أن يعرف ما المهمة، وما الموقع
جميل: مرافقون للقوات، وفي مكان آمن، وبرواتب مغرية
حميد: لقد تغربوا كثيراً، ويريدون معرفة ما المناصب التي سيكونون فيها بعد العملية
جميل: بعد التحرير
جبرائيل: بعد الغزو
جميل: اخرس (ثم)
سامر: تصور جبرائيل يقول:، إنه وجليل يرفضان أن يكونا حمار يمتطيه جندي أجرب من اليانكي يركبان دبابة تدنس أرض الرافدين.
– مرجع سابق، مسرحية سيدة المترو الأصفر:
المؤلف: وتلتم الشلة بين منافق، ومحايد، ومحرض، وفاعل، فيعبرون جسر إرزبيث باتجاه ساحة أستوريا، وينعطفون إلى شارع كاترين، ويكون جبرائيل في أحلى ساعات القيلولة، (تقاطع مع جبرائيل يفتح الباب المؤدية إلى الممر الخارجي ليستقبل ضيوفه، بعد أن يطمئن لوجود حميد معهم) ويفتح جبرائيل الباب الخارجي بنصف عينين، وقد ميز من بين المجموعة حميد الذي يطمئن له، وفي سجال غير محسوب، وارتفاع الأصوات، وتكالب الأكف، يطعن حازم النغل جبرائيل، وكأنه يداعبه، فيبهت هذا، وتنفجر الدماء من حلقه في دهشة حميد، واسقاط الأمر بيده، وكأن الخمسة قد اشتركوا بقتله، وبخاصة حميد، يا ويلتاه، فما أقساها من لحظات يرى جبرائيل حميد بأم عينيه يشهد اغتياله، وكأنهما قيصر، وبروتس، ويخرج الجميع على عجل، بينما يحار حميد في كيفية الخروج، فهل يتركه، وهو ينازع، أم يبقى لكي يلفظ جبرائيل انفاسه بين يديه، إنها لحظات شديدة الألم لكليهما معاً (يطرق الباب الخارجي، فيذهب المؤلف الذي يقوم بدور الجار الآن ليفتح الباب).