إشارة : أهم ما تتوخاه اسرة موقع الناقد العراقي من الحوارات التي تجري على صفحات الموقع بالإضافة إلى تنشيط وإغناء المشهد الثقافي ، هو تأصيل أخلاقيات الحوار ، وهذا الحوار بين الباحثين د. حسن سرحان و د. حسين سرمك حسن هو أنموذج في أخلاقيات الحوار الرصينة المهذبة التي نتمناها .. فتحية لهما .
يجب علي، إذ وجدت الفرصة للرد على الملاحظات المهمة التي أوردها أخي الناقد الدكتور حسين سرمك بخصوص مقالتي (بعض تجليات الأدب الشعبي في رواية ما بعد الحداثة) التي نشرها موقع الناقد العراقي قبل أيام، اقول يجب علي، قبل الاسترسال، أن أعتذر لأخي حسين عن تأخري في الرد عليه. والتأخير لا ذنب لي فيه، إذ فرضه علي انشغالي طيلة الأسبوع الماضي بأعمال مؤتمر بغداد الدولي الثالث للترجمة حيث كنت باحثا مشاركا فيه وعضوا في لجنته التنسيقية العليا.
توخيا للدقة، سأرد على ما جاء في ورقة أخي الدكتور حسين من ملاحظات بحسب الترتيب الذي أوردها فيه.
أولا: هذه الملاحظة، التي تؤشر متابعة دقيقة وقراءة متمعنة من جانب الناقد لما جاء في المقالة، صحيحة تماما حيث أني فعلا لم أعرب كل المصطلح بل ترجمت نصفه الثاني littérature”” واحتفظت بالبادئة “pare” وقد فاتني التنويه الى ذلك وتلك زلة لا أظن أن أخي حسين لن يغفرها لي.
ثانيا: مثلما فعلت بخصوص الملاحظة الأولى، اقر هنا بالحرف الواحد ما جاء في الملاحظة الثانية فما ذكره أخي حسين هو عين ما كنت أفكر فيه واحيي فيه قدرته على استظهار بعض ما لم أصرح به. مع ذلك، أرى من المهم الإشارة الى أن البادئة para ليست عصية على الترجمة إذ من الممكن جدا ترجمتها، كما أورد ذلك الدكتور حسين، ب “الموازي” أو “الى جانب” وسيكون معنى مصطلح paralittérature”” باللغة العربية “الأدب الموازي” أو “الأدب الذي يوجد الى جانب ما يسمى بالأدب الرفيع”. ما يمنعني من اعتماد هذه الترجمة للباراأدب هو أنها تتضمن تهميشا وتبعية الى ما يعرف بالأدب المؤسساتي من قبل كيان فني له وجود تأريخي مستقل قد سبق بوجوده الأدب الرفيع فضلا عن امتلاكه لجماليات تعبيرية راسخة ومتطورة تدعم القول باستقلاليته إن على مستوى الموضوع أو على مستوى آليات إكتتاب النصوص أو نظمها شفاها عندما يتعلق الأمر بالأنواع الشفاهية من الفنون التي تندرج ضمن مسمى الباراأدب. قبل الانتهاء من هذه النقطة، أجد من المفيد ألفات النظر الى أن القواميس الفرنسية تضيف للسابقة para”” معنى آخر هو “ضد” أو “عكس”. من الممكن جداً تبني هذه الترجمة عند الحديث عن نتاج مؤلفي ما يعرف ب “الرواية الجديدة” الذين لا يخفون معارضتهم لتقنيات الكتابة الروائية الموروثة عن رواية القرن التاسع عشر والتي كان يصر بعض كتاب النصف الأول من القرن العشرين على إتباعها والتمسك الحرفي بالياتها. إذا ما تبنينا الترجمة الأخيرة المقترحة للبادئة para فسيكون معنى مصطلح “paralittérature” “الأدب المضاد” أو “الأدب المعاكس” على أنه لا فرق كبير بين الترجمتين. يبقى الإشكال الوحيد الذي يمنع من تعميم استخدام الترجمة الأخيرة للمصطلح موضوع المناقشة يتمثل في أن ليس كل من يكتب في حقل الباراأدب يبغي معارضة تقنيات سرد الرواية الكلاسيكية. وهذا مانع يعتد به ويقطع الطريق على اقتراح ترجمة paralittérature بالأدب المضاد إلا إذا حصرنا استخدامه على كتابات الروائيين الجدد وقصر الاستخدام على نماذج روائية دون أخرى لا يتوافق، قطعا، مع التعميم.
ثالثا: نعم كنت اقصد حصراً المنجز الباراأدبي للثقافة الأوربية وأضيف هنا المنجز الباراأدبي المكتوب وليس المنقول شفاهاً. وفي الحقيقة لم يدر بخلدي أن أقارن ما توصلت اليه بما يناظره في ثقافتنا العربية الثرة. ربما كان يجب علي التنويه الى ذلك كي لا يضطرب فكر القارئ أو تتشوش آليات تلقيه. لعل من الواجب علي، هنا، وقد حصلت مني الغفلة أن أسجل اعتذارا ثانيا لأخي حسين كما للقارئ الكريم.
رابعا: ليسمح لي أخي المهذب حسين بأن أخالفه في ملاحظته الرابعة والتي تمس النماذج الروائية التي أوردتها للتدليل على استعارة رواية الحداثة وما بعد الحداثة لبعض ثيمات الباراأدب ولبعض أنماط شخصياته. أظن ان باستطاعتي التأكيد على أن أغلب ما أوردت من أمثلة مترجم الى العربية ومنذ زمن بعيد. ربما لم يتسن لأخي حسين الإطلاع على تلك الترجمات لقدم زمن ترجمتها أولا ولعدم توفرها في أسواقنا، غير المعروفة بميلها التجاري ولا بذائقة روادها الفنية الى الرواية الفرنسية، ثانيا. التمس في هذه النقطة الأخيرة كل العذر لأخي حسين ذلك أن الأمر خارج حدود إرادته.
الملاحظات خامسا وسادسا وسابعا تحيل الى ما ذكر في ثالثا من أن الإطار العام للدراسة لا يتعدى حدود الثقافة الغربية وما أفرزته من أنواع وفنون ونماذج شخصيات باراأدبية. على أن بعض فنون البارأدب العربي (الحكاية الشعبية تحديدا)، لا تعدم وجود قسم لا بأس به من نماذج الشخصيات التي ذكرتها في مقالتي. فالمشاكسون للسلطة والزناة والسكارى والثوريون الفوضويون (كأولئك الذين يسرقون من الغني لإطعام الفقير) والنساء الخاضعات ( من على شاكلة سندريلا مثلا) من أكثر أنماط الشخصيات حضورا في تراثنا الحكائي العربي. لدي فقط إشارة سريعة لما أورده أخي حسين في ملاحظته الخامسة حين كتب ما نصه” وحسب معرفتي لا توجد روايات بوليسية أو روايات تجسس في الأدب الباراأدبي العربي.” لن أعلق هنا على مسألة وجود أو عدم وجود الأنواع الباراأدبية المذكورة في تراثنا العربي ولو أني أميل الى القول بوجود بعض بذرات الرواية البوليسية ورواية التجسس في ألف ليلة وليلة كما في غيرها من إرثنا الباراأدبي. أريد هنا التعليق، وأرجو أن يتسع صدر أخي الدكتور حسين لما سأقول، على استخدامه الغريب لمصطلح الأدب الباراأدبي العربي. هذا الاستخدام يتضمن، قصد ذلك أخي حسين أم لم يقصد، إلحاق الباراأدب بالأدب وما عاد ذلك مقبولا اليوم بعد أن اكتسب الباراأدب أو الأدب الشعبي (أترك أمر التسمية الى الدكتور حسين الذي له أن يؤثر التسمية التي يشاء) استقلاليته وشخصيته حتى وان كانت حدوده لا زالت غير نهائية. أفترض هنا، وفرضُ سلامة النية محمودٌ، أن الأمر، قدر تعلقه بالقول بتبعية الباراأدب الى الأدب، لا يعدو السهو المقبول الذي وقع فيه أخي حسين وهذا من ضمن المسموح به والمتعارف عليه، أقصد الغفلة والسهو اليسيرين، داخل دائرة البحث العلمي.
ثامنا: هنا لا بد من وقفة. يقول الدكتور حسين معلقا على مقترحي باستخدام مصطلح الباراأدب : “ما أراه مناسباً هو أن لدينا مصطلحات شائعة ووافية ومستخدمة منذ عشرات السنين، تغنينا عن إشكاليات المصطلح المقترح الجديد، ومن تلك المصطلحات : الأدب الشعبي والموروث الشعبي والتراث الشعبي والأدب الشفاهي وغيرها.”
أقر أن المصطلحات التي ذكرها أخي الدكتور حسين شائعة ومستخدمة من عشرات السنين لكني لا أقر أبدا بكونها وافية ولا أنها تغني عن استخدام المصطلح الذي اقترحته. لا أقول ذلك قصد الانتصار لما أرى، وإن لم يكُ في ذلك غضاضةٌ على أية حال، لكني أقوله من منطلق أن المصطلحات المذكورة اما تتضمن انتقاصا من فنية الباراأدب (وهذا حال مصطلح الأدب الشعبي) أو أنها قاصرة عن الإحاطة بجميع فروع الباراأدب (وذلك حال مصطلح الأدب الشفاهي الذي يقر استخدامه أخي الدكتور حسين والذي هو، كما يفترض أن أكون قد أوضحت في مقالتي المنشورة على موقع الناقد العراقي، جزء من الباراأدب وذكرُ الجزء، وأخي حسين مني بذلك أعلم، لا يمكن أن يجزي عن ذكر الكل). أما بالنسبة لمصطلحي الموروث الشعبي والتراث الشعبي فلا حاجة للوقوف عندهما كثيرا للتدليل على عدم صلاحيتهما للإشارة الى الباراأدب بحسب التعريف الذي أوردته له في مقالتي الموجودة على موقع الناقد العراقي وبالإمكان العودة اليها لمراجعة التعريف.
في مطلق الأحوال، أقول ذلك كي أختم ردي على ملاحظات أخي الدكتور حسين سرمك، فان وجود مصطلحات شائعة، بغض النظر عن موقفنا منها، لا يتعارض واقتراح مصطلحات غير تلك التي اعتدنا على استعمالها وليس في التعريب، كما لمح الى ذلك الدكتور حسين، انتقاص من عبقرية لغتنا العظيمة فذلك مما سارت عليه وألِفتْه لغات لا تقل عظمة ولا روعة عن لغتنا البهية.
أشكر، صادقا، أخي الدكتور حسين على ما منح مقالتي من عناية واهتمام وأتمنى له التوفيق في كل مساعيه وأعفيه من أي التزام بخصوص نشر ردي على ملاحظاته الا إذا قدر، وكلي ثقة بحسن تقديره، أن في ذلك بعض الفائدة ويسير الخدمة لثقافتنا التي نرجو ألا تُطيلَ إغفاءتها فقد غادر القوم، مَنْ حولنا ومن هم ابعد من الذين حولنا، منذ زمن ليس بالقريب إلى مناطق وآفاق سيصعب علينا ارتيادها إن تأخرنا أكثر.
أخوكم حسن سرحان