ناطق خلوصي : مصادر توثيق التجربة الابداعية؛ تجربة ماركيز نموذجا

يعمد النقاد والباحثون الى تفحّص سيَر كبار المبدعين قبل الشروع بالتوغل في دراسة تجاربهم الابداعية. فالتجربة الابداعية انما هي نتاج تداخل الحياتي والابداعي  وتفاعلهما معا ً، وتوفرالسيرة  فرص التعرف عن كثب على طبيعة مكونات حياة صاحبها: ظروف نشأته وسيرورة تكوينه اجتماعيا ً ونفسيا ً وفكريا وسياسيا ً ، والعوامل التي أثـّرت فيها ايجابا ً او سلبا وانعكاساتها على تجربتهً . وثمة  ما يدعو الى توثيق  هذه التجربة وتتمثل مصادر توثيقها في مجمل ما ينجزه المبدع من أعمل وما يدوّنه بنفسه من سيرته الذاتية (          autobiography  ( أوما يكتبه غيره عن سيرته الشخصية ( biography  ) ، فضلا ً على الحوارات التي تجريها وسائل الإعلام معه والدراسات النقدية التي تكتب عنه .
تحظي تجربة غابرييل غارسيا ماركيز باهتمام خاص مستمد من موفعه المتميزوحصوله على جائزة نوبل عام 1982 ، الى جانب ارتباط اسمه بمصطلح ” الواقعية السحرية ” . لقد  حفزني ، كقارىء ،  اعجابي  به على أن أقرأ له وعنه كثيرا ، مما وفر لي  فرصة تناول تجربته الابداعية من خلال هذه القراءات .
كتب ماركيز العديد من الروايات والمجموعات القصصية ومنها ما نال رواجا ً واسعا ًوصدر بعدة طبعات وقد قرأت عددا منها. وقرأت أيضا ً كتابه ” قصص ضائعة ” وهو مجموعة  نصوص ومقالات
صحقية له جُمعت في هذا الكتاب الصغير، وترجم محمد العشيري عن الاسبانية أحاديث مع ماركيزفي كتاب تحت عنوان ” رائحة الغوافة ” . وفي عدد (The New Yorker      ) ليوم 27 ايلول 1999 ظهرت دراسة سيَرية موسّعة  كتبها جون لي اندرسون  تحت عنوان ” سلطة غابرييل غارسيا ماركيز ” شعرت حين انتهيت من قراءتها بأهميتها لأنها تلقي الضوء على جوانب خفيّة من حياة ماركيز فشرعت بترجمتها الى العربية وحين انتهيت منها  دفعتها  للنشر فنـُشرت في حلقات ، في ” أبعاد ثقافية ” ، الملحق الثقافي الاسبوعي لجريدة التآخي التي تصدر في بغداد . وقرأت بعض ما كُتب وتُرجم عنه الى جانب  كتاب مذكراته أو سيرته الذاتية وقد تمت ترجمته أكثر من مرة وبعنوان  تختلف صياغته بعض الشيء في كل مرة . فقد ترجمه صالح علماني تحت عنوان ” عشت لأروي ” وصدر عن دار المدى ، وترجمه رفعت عطفة تحت عنوان ” تعيشها لترويها ” وصدر عن دار ورد للطباعة والنشر ، في حين ترجمه طلعت شاهين تحت عنوان ” أن تعيش لتحكي ” وقد صدر عن دار سنابل للنشر والتوزيع ، وهي الترجمة التي اعتمدتها  ، مثلما  اعتمدت ما قرأته له وعنه ، مصادرَ لما أكتبه عن تجربته الابداعية  فهي توثق هذه التجربة وتكشف عن التداخل الحاصل بينها وبين سيرته . لقد تُرجمت أعمال ماركيز الى عدة لغات وتُرجمت الى اللغة العربية عن هذه اللغات ، لذلك احتلفت وتعددت صياغات عناوينها مثلما تعددت صياغات عنوان كتاب مذكراته ، ونشير هنا الى بعض هذه الصياغات :
1 ــ الجنرال في متاهته ، الجنرال في مصيبته ، الجنرال في محنته
2 ــ عاصفة الأوراق ، الأوراق الساقطة  ، الورقة الجافة
3 ــ مأتم الأم الكبيرة ،  جنازة الماما الكبيرة ، جنازة والدتي الكبيرة
4 ــ ليس للكولونيل من يكاتبه ، ليس للعقيد من يكاتبه ، لا أحد يكتب للعقيد ، لم تصل                        العقيد أية رسالة
5 ــ في ساعة نحس ، الساعة السيئة
6 ــ خبر اختطاف ، أخبار عن اختطاف
7 ــ موت معلن ، أخبار موت معلن ، تقويم لموت متوقع
8 ـ،ـ ذاكرة غانياتي الحزينات ، ذاكرة عاهراتي الحزينات ، ذكريات غانياتي الحزينات

ثمة مفردات تتشكل منها مكونات السيرة  ، فالمكان  والزمان والوعي بالتاريخ والنشأة والبيئة الطبيعية والاجتماعية وعالم الطفولة  والتحولات والمستجدات التي تطرأ  وكل ما تختزنه الذاكرة من قراءات ووقائع وأحداث : الايجابي منها والسلبي على حد سواء ، تمثل كلها ركائز ترتكز عليها السيرة و بالتالي فهي روافد تغني التجربة الابداعية  نفسها .
ولد ماركيز، وهو قاص وروائي وصحفي وناشر وناشط سياسي ،  في السادس من آذار عام 1927.( وثمة من يقول عام 1928 ) ، في مدينة اراكتاكا الكولومبية وأكمل دراسته في جامعة العاصمة بوغوتا . كانت أراكاتاكا  قرية صغيرة  في بادىء الأمر، ظلت معالمها شاخصة في ذاكرته لتجد طريقها الى ما كتبه فيما بعد .  عاش طفولته وصباه في تلك المدينة التي كانت مغمورة قبل أن تحل فيها ” شركة الفواكه المتحدة  ” لتستغل مزارع الموز المنتشرة فيها فازدهرت بشكل كبير أيام الرفاهية الكاذبة لشركة الموز تلك ، لكن ذلك الازدهار كان مؤقتا ً انتهى برحيل الشركة لتعود المدينة الى بؤسها السابق ، فكان لهذه التحولات أثرها الكبير على ماركيز . . فقد كشفت أيام ازدهارها عن عمق الهوة الطبقية بين سكانها الأصليين والوافدين الجدد المحكومين بروح الاستغلال، وعن التفاوت بين النمط المترف لحياة موظفي الشركة الأجانب والنمط البائس لحياة الناس العاديين ، وشكّلت السكك الحديد  حدا ً فاصلا ً بين  عالمين : عالم الفقراء من عمال التراحيل وعالم المدن الخاصة التي أنشأها الأمريكيون في المدينة حيث كانت النساء يرقصن عاريات أمام  أقطاب المال الذين  يشعلون سجايرهم  بأوراق نقدية  ، ولم تكن شركة الفواكه المتحدة تمتلك أغلب المزارع لكنها كانت تشتري الموز من المزارعين وتسيطر على السكك الحديد التي تنقله الى الميناء وتدير عملية  توزيع مياه الري ، بما كان يتيح لها احتكار تجارته واستغلال المزارعين والعمال الأجراء . ان هذا التفاوت الصارخ أكسب ماركيز وعيا ً طبقيا ً مبكرا ً عمّقه النهج الماركسي   الذي فتح عدد من مدرسي مدرسته الثانوية عينيه عليه فوجد ذلك له انعكاسا ً على المنحى الفكري الذي اعتمده فيما بعد لكنه لم يصبح شيوعيا ً.
يعترف ماركيز في كتاب سيرته الذاتية وفي الحوارات التي أجريت معه انه عاش  حياة بؤس في مطلع شبابه  . وهو لا يتردد في القول بأنه كان يلوذ بأرخص الفنادق وبيوت الدعارة والفنادق الخاصة بها لأنه لم يكن يملك ما يكفي للمبيت في أماكن غيرها . كانت اسرته كبيرة وكأن أبويه كانا مهووسين بالانجاب ربما للتعبير عن عمق قصة الحب التي ربطت بينهما قبل أن يتحقق زواجهما الذي كان يبدو مستحيلا ً في البداية ، لتجد قصة الحب هذه طريقها الى روايته ” الحب في زمن الكوليرا ” فيما بعد .
يتكرر حضور اسم ” ماكوندو ” في أعمال ماركيز : ” عاصفة الأوراق ” و ” مائة عام من العزلة ” وبعض قصص ” مأتم الأم العجوز ” . وماكوندو اسم لقرية متخيلة صنعها خياله . وكان قد قرأ الاسم عندما توقف قطار أراكاتاكا ، وكان هو ذاهبا ً بصحبة أمه لبيع بيتهم القديم في المدينة ، في محطة بلا قرية ومر بعد ذلك من أمام مزرعة الموز الوحيدة فوجد الاسم مكتوبا ً على بابها ، ثم بحث عن معنى الاسم فوجد انه لشجرة استوائية لا تزهر ولا تثمر ، وقرأ في الموسوعة البريطانية ان ماكوندو اسم لقبائل رحل . ولعله استخدم هذا الاسم كمكان سردي من أجل الايماء لحياة الجدب التي عاشتها مدينته وعاشها هو شخصيا ً في مطلع شبابه . وكان سفره ذاك  مع أمه يمثل رحلة استرجاع أيقظت ذاكرته على وقع ما كان قد شاهده من معالم وسمعه من أحداث بما أعانه على كتابة روايته الأولى ” عاصفة الأوراق “.
عاش ماركيز حياة ً بوهيمية في شبابه ، متمردا ً على واقعه وواقع أسرته ومدينته وواقع كولومبيا العام . لم يكن يملك نقودا ً فائضة عن الحاجة لكي يصرفها على شراء الكتب ، لذلك  كان يستعيرها من أصدقائة لمدة قصيرة فيضطر للسهر لقراءتها واعادتها في الموعد المتفق عليه . كما انه لم يكن يملك ثمن شراء نسخة من الجريدة التي نشرت أول قصة له فوجد نفسه مضطرا ً لطلبها من شخص لا يعرفه كان يحمل نسخة منها . والى ما قبل صدور روايته ” مائة عام من العزلة ” كانت حالة العوز تلازمه حتى ان زوجته مارسيدس ، وهي حفيدة رجل ينحدر من أصول مصرية ، كانت ترهن مجفف شعرها وسخانهم الكهربائي لكي تدفع أجرة ارسال مخطوطة الرواية بالبريد وعلى دفعتين لأنهما لم يتمكنا من ارسالها كلها مرة واحدة . لكن الأمر اختلف فيما بعد  في قفزة نوعية صارخة في مسار حياته .. فبعد أن كان لا يجد مكانا ً لائقا ً يبيت فيه ، أصبح مالكا ً لبيوت تتوزع في جنوب المكسيك وبرشلونة وباريس  وهافانا وقرطاجنة ( شمال غرب كولومبيا ) وبارنكيا ( شمال  كولومبيا على ساحل الكاريبي ) . وكل بيت من هذه البيوت ، كما يقول صديقه جون لي أندرسون ، مؤثث بطريقة واحدة : سجاد أبيض ومناضد زجاجية كبيرة وأعمال من الفن الحديث وجهاز صوت مختار بعناية وجهاز كومبيوتر متشابه ، مما يجعله قادرا ً على أن يكتب حين يكون في أي مكان من هذه الأمكنة . وربما أسهمت رواية ” مائة عام من العزلة ” في هذا التحول في حياته فقد بيع منها ما يقرب من ثلاثين مليون نسخة  بعد أن تُرجمت الى لغات كثيرة وكانت وراء منحه جائزة نوبل بمردودها المعنوي والمادي .
أمضى ماركيز طفولته الأولى في بيت جده وجدته لأمه كشرط أملاه جده على أبيه الذي كان قد اعترض بشدة على زواج ابنته من موظف البرق الغريب عن المدينة الذي استطاع أن يلقي شباك عاطفته عليها الى الحد الذي جعلها تتمرد على سلطة أبيها فوجد نفسه مضطرا ً للموافقة . كان الجد نيكولاس ماركيز محاربا ً ليبراليا ً قديما ً شارك في الحروب الأهلية التي وقعت في كولومبيا وحصل على لقب كولونيل من خلال ذلك ، لكنه خرج منها خالي الوفاض وظل ينتظر حصوله على معاشه التقاعدي دون جدوى . وقد وجد ماركيز الحدث يتكرر معه شخصيا ً بصورة أخرى . فقد عاش أيام عوز وهو في باريس حين تم اغلاق الصحيفة التي كان يراسلها من هناك وكان في انتظار وصول الرسائل التي تحمل ( الشيكات ) لكنها لم تصل ، فأوحى له انتظاره وانتظار جده من قبل بكتابة رواية ” ليس للكولونيل من يكاتبه ” التي كتبها تسع مرات كما يقول .
يعترف ماركيز بدور جده في طفولته وهو دور انسحب  تأثيره على سنواته اللاحقة . فهو أول من وضعه  أمام أول حرف مكتوب عندما بلغ الخامسة من عمره ، وهو الذي فتح عينيه على آفاق المعرفة وكان يأخذه الى كل سيرك يحل في المدينة لكي يتعرف على ما هو غريب . وعلـّمه الرجوع الى القاموس حين تستعصي عليه معرفة معنى كلمة لا يعرفه  ، وحدّثه عن الحروب الأهلية ووجد  صورة سيمون بوليفار معلقة في غرفته وحكى له عن تاريخه فاستلهم هذه الشخصية في رواية ” الجنرال في متاهته “، وكان قد أخذه معه للمشاركة في مراسيم دفن صديقه البلجيكي الذي مات منتحرا ً فأوحى له ذلك برواية ” عاصفة الأوراق ” التي كتبها وهو في الثانية والعشرين  من عمره .
يقول ماركيز انه لايوجد سطر في رواياته ليس مبنيا ً على الواقع . وفي حوار أجري معه  يشير الى ان كل حدث في أعماله هو من نتاج الواقع ، وان كتبه خـُلقت من مراقبة الواقع ثم وضعه في طابع شعري غنائي مع بعض المبالغة وكل الحيل البنائية ، ولم تكن قصصه سوى مقاطع من الحياة اليومية يجعلها أكثر جاذبية من خلال اضافة تفصيلات متخيلة . وإذا كان قد استمد أحداث أعماله من الواقع ، فانه استعار نماذج شخصياته من القريبين منه في وسطه العائلي بشكل خاص . فحضرت شخصية جده في رواية ” عاصفة الأوراق  “، وشخصية جدته ضونيا في ” مائة عام من العزلة ” ، أما شخصية أمه فقد ظهرت في ” مائة عام من العزلة ” و ” أخبار موت معلن ” وعاصفة الأوراق ” مما يدلل على سعة حجم تأثيرها فيه وتأثره بها  . ولأن جده حدثه كثيرا ً عن الجنرال رافاييل أوريبي أوريبي الذي كان قد عمل تحت قيادته ، فقد أخذ الكثير من ملامحه ليضعها في شخصية أورليانو بوينيديا في ” مائة عام من العزلة ” .
ارتبط اسم ماركيز بمصطلح الواقعية السحرية أو الواقفعية الغرائبية كما يقول بعض النقاد ، وهي مزيج من الواقع والخيال .  يقول دليل أوكسفورد للأدب الانكليزي ان ” الروايات والقصص القصيرة الواقعية السحرية تتوافر بصورة نموذجية على دينامية سردية قوية يندمج فيها الواقعي الذي يمكن تمييزه ، بغير المتوقع والمتعذر تفسيره ، وترتبط فيها الأحلام والقصص الخرافية والميثولوجيا مع اليومي ، في نمط موزائيكي أو متغير الأشكال ” . وتقول موسوعة  الأدب العالمي في القرن العشرين انها ” اندماج متفرد لمعتقدات وخرافات مجموعات ثقافية مختلفة . وشأنها شأن الأسطورة فانها توفر أيضا ً طريقة توثيقية واجمالية بصورة أساسية لوصف الواقع، وقد وجدت أرضيتها في الواقع اليومي وعبّرت عن دهشة الانسان ازاء عجائب العالم الواقعي ، وهي تنقل رؤية للسمات الخيالية للواقع ” . فما هي مصادر المنحى الواقعي السحري الذي اعتمده ماركيز وارتبط اسمه به ؟ انه يرد اهتمامه بها الى الى حكايات جدته فهي التي قادته اليها ، ذلك ان الخرافات والأساطير واعتقادات الناس كانت بالنسبة لها جزءا ً من حياتها اليومية . وهو يشير الى ان اشارات سرية بينه وبينها كانت تجعلهما يتواصلان مع العالم الخفي ، فقد كان عالمها السحري يدهشه نهارا ً ويشيع فيه الرعب ليلا ً إذ كانت كل تصوراتها ونذورها ومخاطبتها للموتى تتجسد ليلا ً .
لقد عاش في طفولته في بيت جده بين حشد من النساء : العمات والخالات والخادمات فضلا ً على جدته وأمه ، في وسط حافل بالشعوذة والخرافات والتقاليد الشعبية . عاش هناك حياة هموم وحنين وتشكك ، كما يقول ، في عزلة بيت ضخم ظل طوال سنوات يعتقد ان تلك المدة تحولت الى كابوس يتكرر في كل الليالي حتى انه في مراهقته وهو فيي المدرسة الثانوية الداخلية ، كان يستيقظ في منتصف الليل باكيا ً وكان الخوف من الظلام يطارده طوال حياته . وفي بيت الجد كان لكل قديس غرفة ولكل غرفة ميت . كانت جدته تجلسه ، وهو ابن خمس سنوات ، على كرسي وتمنعه من الحركة وتخيفه من الموتى الموجودين في البيت . وظل هذا الخوف يلازمه حتى في كهولته وشيخوخته ، حيث يقول انه يستيقظ في جنح الليل حين يكون في أحد الفنادق في روما أو بانكوك ، فيسيطر عليه من جديد للحظة ذعرُ طفولته القديم من موتى يسكنون الظلام . وهو يؤكد انه لم يستطع التغلب مطلقا ً على الخوف من البقاء بمفرده وبشكل خاص في الظلام بسبب كونه يعيش في الليل تخيلاته ممزوجة ً بتشاومات جدته التي يقول انها كانت متطيرة وواسعة الخيال . لقد طارده شبح العزلة دائما ً وهو طفل ضائع في بيت جديه  ، ثم وهو طالب فقيرثم وهو كاتب شاب ينام في فنادق عابري السبيل في برانكيا فوجدت العزلة حضورا ً لها في أعماله و بشكل خاص في ” عاصفة الأوراق ” و  ” ليس للكولونيل من يكاتبه ، و ” في ساعة نحس ” و ” خريف البطريرك ” فضلا ً على ” مائة عام من العزلة ” .
يعترف ماركيز انهم خلاسيون (لاتينيون من أصول مختلطة من السود والبيض ) وثقافتهم خلاسية . وقد اكتشف ذلك في زيارة له الى أنغولا . ينحدر جداه من جيليفيا ( مقاطعة اسبانية ) وقد جاء من هناك كثير من الحكايات التي كانا يحكيانها وهو ارث أفريقي . كما ان العنصر الأسباني جزء من شخصيتهم الثقافية نفسها .  ففي المنطقة التي ولد فيها  توجد أشكال ثقافية ذات جذور أفريقية تختلف كل الاختلاف عن تلك الموجودة في المناطق المرتفعة التي تتجلى فيها الثقافات المحلية . لقد امتزج في منطقة الكاريبي خيال العبيد السود الأفريقيين بخيال السكان الأصليين ما قبل الكولومبيين  ثم بخيال الأندلسيبين وبإجلال الجليقيين لكل ما هو فوق طبيعي وللقابلية الخاصة للنظر الى الواقع بطريقة سحرية خاصة بالكاريبي  . وكان قد جاء الى بارانكيا ، المدينة الصناعية التي كبرت  ، ناس  من بلدان مختلفة منهم سوريون ولبنانيون وأردنيون قبل جيلين أو ثلاثة ، مهاجرين ولابد من انهم نقلوا جوانب من ثقافاتهم اليها  وبذلك يكو ن الكاريبي منطقة ثقافات متداخلة تركت بصمات تأثيرها على ماركيز الذي  يقول : ” أعتقد ان الكاريبي علمني أن أرى الواقع بطريقة أخرى ، وأن أقبل العناصر فوق الطبيعية كشيء يشكـّل جزءا ً من حياتنا اليومية ” .
ان المكونات النفسية لطفولته وطبيعة البيئة الاجتماعية التي نشأ في ظلها ، شكـّلت القاعدة الأساسية للمنحى الواقعي السحري لديه والذي بلورته قراءاته المتعددة والمتنوعة
ومنها رواية ” السيدة دالاوي ” لفرجينيا وولف .  يقول ان اهتمامه بكتابة الرواية بدأ في الليلة التي قرأ فيها رواية ” المسخ ” لكافكا وقد أدهشته شخصية بطلها غريغوري سامسا الذي استيقظ صباحا ً ليكتشف بأنه تحول الى حشرة .  لكن المنعطف المهم في قراءاته تمثـّل في تعرّفه على كتاب ” ألف ليلة وليلة ” واهتمامه بحكاياتها بما ساعد في بلورة هذا المنحى . اننا نقف الى جانب الرأي الذي يقول بأن حكايات الليالي بمحتواها الغرائبي شكلت البذرة الأولى للواقعية السحرية بمفهومها العام .  يقول ماركيز انه عثر في صباه ،  في مخزن بيتهم ، على كتاب يكسوه الغبار ، سحره جدا ً وأدهشه ومرت سنوات قبل أن يعرف انه كان جزءا ً من ” ألف ليلة وليلة ” وأن أكثر ما أعجبه من حكاياته قصة قصيرة جدا ً وبسيطة جدا ً لا يزال يعتقد انها أجمل قصة مكتوبة  تقول ان صيادا ً وعد جارته بأن يهديها أول سمكة يخرجها من البحر، وعندما فتحت المرأة بطن السمكة عثرت على ماسة بحجم اللوزة . ويضيف بأنه اكتشف ان الكتاب مهم جدا ً بعد أن قرأ الطبعة المخصصة للكبار التي لم تحذف منها بعض المقاطع الصعبة ، لأنه كان يعتقد دائما ً ان الكبار لا يمكنهم أن يصدقوا ان الجان يخرج من الزجاجات أو ان الأبواب تفتح بكلمة سحرية . يقول في كتاب ( قصص ضائعة ) : ” لقد قرأت ألف ليلة وليلة حين بدأت أعي الدنيا وربما كان ذلك واحدا ً من الأسباب التي تجعلني أعتبره كتابي الذي لا ينسى ، لكنني كلما سمعت أحدا ً يروي قصة العشيق مقطوع الرأس تنبعث فيّ انفعالات هاجعة من قراءات طفولتي الضبابية ، لكنني أعجز عن العثور غلى القصة في الطبعات المختلفة التي أملكها من حكايات شهرزاد الخيالية ” .
لقد استلهم ماركيز المؤلفين الأمريكيين بشكل خاص ، وهو يقول ان معظم الروايات التي قرأها وأعجب بها في مطلع رحلته الأدبية لم  يكن يهتم فيها سوى بما يمكن أن يتعلمه  منها في تقنيتها . قرأ لجويس وولف وكالدويل ودوس باسوس وهمنغواي ، أما  الروائيان اللذان يعيد قراءتهما بمثابرة أكبر فهما كونراد وسانت أكزوبيري اللذان يتفقان في طريقة اقتحام الواقع بشكل غير مباشر يجعله يبدو شعريا ً حتى في لحظات امكانية كونه عاديا .ً ويعترف بأنه تأثر بفوكنر ، كما يؤكد بأن ” السيدة دالاوي ” لفرجينيا وولف هي التي دلته على الطريق الى كتابة روايته الأولى لأنها غيّرت تماما ً مفهومه للزمن ، وان غراهام غرين وهمنغواي أمدّاه بدروس ذات طابع تقني خالص . وكان يقول انه يتمنى لوكان هو كاتب رواية ” بيت الجميلات النائمات ” للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا الحائز على جائزة نوبل عام 1968 ، فكان أن كتب  رواية ” ذاكرة غانياتي الحزينات ” متأثرا ً  بتلك الرواية .
يستعير ماركيز من ذاكرة طفولته ملامح شخصياته ويستلهم أحلامه في كتابة القصة ، ويشير الى ان جميع شخصياته تكاد تكون كألغاز مركبة بأجزاء أشخاص مختلفين كثيرين وبأجزاء منه هو شخصيا ً أيضا ً وإذا كان قد وظف شخصيات أمه وجدته وجده في أعماله فإنه لم يتحدث عن شخصية أبيه كثيرا ً لأن معرفته عنه محدودة جدا ً فقد كان يحمل في ذهنه وهو في الثامنة من عمره صورة أبوية راسخة هي صورة جده الذي يقول ان عناصر كثيرة لميله الأدبي جاءت منه . وكان الغزل المحموم بين أبيه وأمه قبل زواجهما هو أساس الحب العارم  بين قلورنتينو أريثا وفيرمينا داثا في رواية ” الحب في زمن الكوليرا ” .واستلهم أحداث  رواية ” مائة عام من العزلة ” ( التي يقول انه أراد فيها أن يترك شهادة شعرية لأيام طفولته  ويوثق تاريخ أمريكا اللاتينية ) من الحادثة التي وقعت عام 1928 وتُعرف محليا ً بمذبحة الموز عندما أضرب العمال فجابهتهم الحكومة باطلاق النار عليهم ، وقد اختلفت الروايات عن عدد الضحايا فجعلهم هو آلافا ً . ضمت مجموعته القصصية ” مأتم الأم الكبيرة ” ثماني قصص كتبها جميعا ً في غام 1962  ومن بينها قصة ” واحد من هذه الأيام ” وقد استلهم منها فيما بعد رواية ” خريف البطريرك ” ساعده على بناء أحداثها توافق حضوره زمنيا ً  مع حضور عدد من الحكام  الديكتاتورين في أمريكا اللاتينية .
يرى ماركيز ان الجملة الأولى ، أي الاستهلال ، يمكن أن تكون مختبرا ً لوضع عناصر كثيرة للأسلوب  والبناء وحتى لطول الكتاب . ، ويرى ان القصة والرواية ليسا نوعين مختلفين من الأدب بل انهما نسقان لهما طبيعة مختلفة ومن الخطأ الخلط بينهما .
لقد قرأ جميع الكتب المؤلفة والمترجمة عن تعلم فن كتابة الرواية ، وكان أول اهتمام له بالأدب من خلال الشعر وكان مفتونا ً بالرومانسيين الأسبان ويظهر هذا الاهتمام في روايته ” خريف البطريرك ” التي كان يكتبها كما لو كان الأمر متعلقا ً بكتابة قصيدة نثرية كما يقول ، لكن اهتمامه بالرواية طغى على اهتمامه بالشعر فيما بعد . كان التنويع واضحا ً في قراءاته واهتماماته . فقد قرأ كتب المذكرات والسيرة والريبورتاجات ، واهتم بالموسيقى والغناء والرقص في وقت مبكر من حياته . فقد وجد نفسه في بيئة بيتية موسيقية إذ كان أبواه يمارسان العزف في البيت  حتى انه يقول : ” ورثنا جميعا ً ذاكرة خاصة للموسيقى من الأبوين وكانت لدينا حاسة سمعية جيدة لحفظ أية أغنية من المرة الثانية لسماعها ” وهو مولع بسماع الموسيقى الشعبية في الكاريبي يشكل خاص . كما اهتم بالرسم أيضا ً وكان اهتمامه بالسينما أكبر فقد كانت السينما مكسبا ً وتجديدا ً بالنسبة اليه ، علمته طريقة استلهام الصورة البصرية في الكتابة واكتشف ان في جميع كتبه السابقة على ” مائة عام من العزلة ” هناك اندفاع مفرط لتصوير الشخصيات والمشاهد  ، فتركت هذه التشكيلة من الفنون بصماتها على ما يكتب .

يعتقد ماركيز ان  الرواية والمقالات الصحفية ، وقد جمع بينهما في مسيرته الابداعية ، ابنان من أم واحدة . لقد مارس الصحافة ، صحفيا ً ومراسلا ً ومسؤولا ً للتحرير، لسنوات طويلة .  وكان لعمله هذا دور واضح في تجربته الابداعية فقد ظل اهتمامه بكتابة التقارير الصحفية يشكل مصدرا ً من مصادر بعض رواياته الى جانب اهتمامه بالسينما ، فهو يقول ان أحداث روايته ” أخبار موت معلن ” وقعت عام 1951ولم تكن تهمه آنذاك كمادة لرواية وانما كريبورتاج صحفي ، لأن الرواية كانت جنسا ً قليل الحضور في كولومبيا آنذاك وكان هو محررا ً في جريدة محلية لا تهتم بالرواية . لكنه عاد وكتب رواية ” خبر اختطاف ” التي صدرت في عام 1996 بعد مرور ما يقرب من نصف قرن  على ممارسته لكتابة الرواية وتطور الأساليب التقنية التي اعتمدها .  فاسلوبه في هذه الرواية يختلف عن الاسلوب الذي اشتهر به في أعماله الكبيرة  التي تندرج تحت مصطلح ” الواقعية السحرية ” .انه  هنا يعود الى اسلوب التقرير الصحفي  حيث تطغى السمة الصحفية عليها ويتمثل ذلك في عنوانها وفي اسلوبها ولغتها ومضمونها . وإذ يرى ان ” التقنية واللغة أداتان يحددهما موضوع الكتاب ” ، فانه يعترف بأن بعض أعماله مكتوبة بلغة ” مأخوذة من الصحافة “، ولعل ” خبر اختطاف ” خير مثال على ذلك .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

تعليق واحد

  1. تحية وتقدير لحضراتكم وللمبدع الرائع ناطق خلوصى على هذا المقال الفاتن ،،،سعدت جدا بتلك الإلماعات ، والكتابة بحب عن المدهش الساحر غابرييل غارسيا ماركيز ،،،ولى طلب خاص عند الاستاذ ناطق الذى يسعدنى التعرف اليه : هو موافاتى على البريد الاالكترونى المرفق عالية بترجمةكتاب ( سلطة غابرييل غارثيا ماركيز ) لجون لى اندرسون ،له ولكم منى خالص المحبة والاحترام ،،
    صابر رشدى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *