مهدي شاكر العبيدي : كليات أم ثانويات ؟

mehdi 6في نهايات العقد التاسع من القرن الماضي ، شرعَتْ السلطات المسؤولة القائمة يومها ، بتوسيع التعليم الجامعي بدون سابق تمهيد لذلك وتجهز له وتحسب لما يسفر عنه نجاح خطواتها فيه من تزايد في أعداد المتخرِّجينَ فوق ما تشكو منه البلاد من عطالة سابقيهم وقصور إمكانياتها في احتوائهم واستيعابهم ، لأنَّ الغاية التي يضعها المتخرِّج وذووه هي التوظف في جهاز الدولة لا غير ، ناهيك بما يضمنه ذلك للفرد من التصدُّر وسط علية القوم ، ويضفيه عليه من وجاهية ومهابة واحترام بين غمار الناس وبسطائهم ممن عثر جدهم فلم يسامتوه ويبلغوا مبلغه ، وما عليك بالخطب الشاحذة للهمم والمستثيرة للعزمات والتي يلقيها عمداء الكليات في حفلات التخرج صاكين بها أسماعهم ، ومجمل ما فيها أنَّ البلاد تنتظرهم ليضعُوا ما تعلموه من دروس واكتسبوه من تجارب ومهارات في خدمتها أملا ً في مواصلة نهوضها وتقدمها ورقي حياة شعبها ، وتتردِّد فيها مرارا ً عبارات منطوية على تحذير وتخويف من الحياة العملية التي سوف يخوضونها مع إيهامهم أنـَّها محفوفة بألوان المصاعب والأخطار قصد معاودة التلفظ بتعبير الحياة العملية بتشهٍ وتلذدٍ وإفراط .

وكذا افتتحَتْ جامعات حينها في محافظات العراق ــ أو ألويته بحسب التسمية القديمة ــ جمعاء ، وبسرعة مدهشة توافرَتْ لها المنشآت والمباني ، وما يلزمها مِن قاعات للاحتفالات والندوات ، وأخرى للشؤون والأغراض المختبريَّة والمكتبيَّة ، والأبهى والأسمى من كلِّ ذلك هو الملاكات التدريسيَّة المتكاملة والتي قد يبين أنَّ العديد الأوفر منها قد استتم توا ً تحصيله وفرغ لساعته من استيفاء دربته وتأهيله ، على ما لمسته ولحظته في الحلة والديوانية أثناء زورة قصيرة لهما يومذاك ، حين كان الطريق سالكا ً ودون أنْ أراع كما اليوم ، بحادثة مفجعة وقعَتْ شمالي الحلة أو جنوبيها تسببت بفعل إرهابي نزق ومأفون بحسب ما تبثه الفضائيات من آن لآن .

وأجاز المشرع أو المخطط لتوسيع التعليم الجامعي للجمعيات والفئات المستنيرة وعموم الشرائح المثقفة تأسيس الكليات الأهلية شريطة أنْ تحذو حذو الجامعات الرسميَّة في التقيُّد وترسُّم مفردات المناهج المعمول بها والنافذة هناك ، وكذا انتظم في غير كليَّة منها : التراث والمأمون والمنصور والرافدين ، ألوف الطلبة من ذوي المعدلات الواطئة في امتحان ( البكلوريا ) للثانويات على مدى دورات متعاقبة ، انتووا أنْ لا يكون تحصيلهم على حساب تدنـِّي المستوى العلمي وهبوطه ، لا سيَّما أنـَّهم ألفوا بمواجهتهم أساتذة أكفاء وذوي مراس وجدارة ، فمن المحاضرين فيها بالنسبة للآداب العربية بمختلف أشكالها وأصنافها وبكلية المأمون مثلا ً ، الدكاترة الإجلاء : طارق العوسج ، وعلي عباس علوان ، ورزوق فرج رزوق ، ونعمة رحيم العزاوي ، وكفى ، فمن تحصيل الحاصل صار لزاما ً أنْ يستحث الدارسونَ هِمَمَهُم لمصاقبة هذه العينة من المربِّينَ ويشاكلوها قدر الإمكان في الأدب الجمِّ والثقافة الواسعة والعلم الغزير ، ويقفوها في درايتها وحرصها وإخلاصها .
واسترعى نظري اليوم ببغداد منذ استئناف عهدي بها بعد الغياب ، كثرة المدارس الأهلية للتعليم الابتدائي والتدريس الثانوي ! ، وهذه علامة صحَّة وبشارة خير تجانب الدارسينَ مستقبلا ً ، وتزهدهم في تلقي الدروس الخصوصية مداراة لتدني مستوياتهم ، إذ لا يخفى أنَّ لمحدودية عدد التلاميذ خاصة في المرحلة الابتدائية في صفٍ بعينه ، أثرا ً في سرعة وصول المعلومة إلى أفهامهم ، غير أنـَّه لوحظ مؤخرا ً تضاعف ( مُودَة ) الكليات الأهلية وتعدُّد مسمَّياتها ، وبشكل مبالغ فيه مع تفاقم أجورها ، ولو أنـَّها تستوفى على دفعات وأقساط ، ووجدنا أنفسنا إزاء هذا بناءً على تحوُّل القدرة الشرائيَّة لعموم الناس وإيفائها على حال غير الذي كانتْ عليه قبل عشرين عاما ً ، صحبها تبدل في قيمة الدينار العراقي على وجه منفر وسمج ، فشتان بين مقدار الأجور الدراسيَّة المحصورة في حدود الأربعين أو الخمسين دينارا ً أيَّام زمن اليسر والخفض والبحبوحة ، قبيل أنْ تنعكس على حياة المجتمع ككلِّ تأثيرات الحصار والحروب ، وبين مقدارها الرابي على الأربعة أو الخمسة ملايين اليوم كما يقال ! .

وهذه الوضعيَّة مهما تكن عليه من حملها لذوي الراغبينَ في مواصلة الدراسة على شعورهم بعجزهم عن امتلاك مثل هذا المبلغ الطائل ، وساعة وقوع نفس الإنسان فريسة للقلق المضني والتفكير في المستقبل الآتي وما يستتبعه من الحيرة والخوف ، قد لا تكون مقرفة تستدعي استهجانها ، إنـَّما الأشنع والأفظع والأحرى بالمقت والرفض هو تزايد عدد هذه الكليات الأهلية ، والتي غدَتْ مشابهة للمدارس الثانوية المنتشرة في أطراف بغداد ، ولا يحوجها غير أنْ تحدِّد أوقات المحاضرات وتصير معادلة لنظيرتها في المدرسة الثانوية مع الاستعانة بجرس يقرع لخروج الطلبة من الصف كما فيها ، وإلا ما الذي يعمله المتخرجونَ فيها بعد مفارقتهم لها هي التي يتعذر إحصاؤها وتعيين أمكنتها ويشق على أيِّ متدربٍ في علم الإحصاء والحساب والتخطيط ، لتكون النتيجة أو الـ يكون بحسب تعبير مارون عبود في تشنيعه على استجماع القصيدة العربية الواحدة لجملة مقاصد وأغراض ليس بينها صلة ، هي أنْ ينقذف إلى الشوارع أرتال المتبطلينَ المخيَّبينَ في اغتنام فرصتهم الضائعة لدى دوائر الحكومة بعد أنْ ظفروا منها ( بالشلب ! ) على ما أفصح عنه الراحل الدكتور داود سلوم أثناء تعييره بعض معاهدنا بتوانيها في رفد أجيالنا الطالعة بالمعرفة العلمية والأدبية الصحيحة وصقل أذواقهم الفنية ، هذا بخصوص أحوال دارسي علوم العربية ، وأرى من الخير لهم أنْ يلتمسوا ضالتهم ، وكي لا تروح تكلفات تحصيلهم ضياعا ً  في الانخراط تحت ألوية الأحزاب والتيارات والواجهات والدكاكين ، وينهمكوا في حلِّ معضلات العملية السياسية ، شريطة أنْ يعثروا بمن يزكيهم ويقبلهم من بين منتسبيها ومتزعميها الأوائل ، فمردوداتها بالتالي طائلة ، وعوائدها جمَّة ، وحرام أنْ يعافوها ويصدفوا عنها ويفرِّطوا فيها .

مهدي شاكر العبيدي
بغداد

………………

MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com
MahdiShakerAlobadi@Hotmail.Com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *