مهدي شاكر العبيدي : قراءة في فكر السياسي والأديب التونسي محمد مزالي

mehdi 6لم أوفق في ملاحقة حديث الأديب والسياسي والفيلسوف محمد مزالي في سرده لبعض ذكرياته عن احترافه العمل السياسي واشتغاله بالأدب والفكر والكتابة في بلاده تونس الخضراء ، وذلك أثناء ظهوره  عبر قناتين فضائيتين معروفتين بعد رحيله وانبتات آصرته بالدنيا وأهليها في اليوم الثالث والعشرين من حزيران عام 2010م ، ولأمر ما أرجأتا عرض ما سجلتا له من كلمات تنضح بالشكاة المرة مما يتفنن في نسجه بعض بني البشر من مكايد وأحابيل مبتغين الوقيعة والغدر بكل مَن يلفونه مسالماً في طبعه ، مستقيماً في فطرته ، وعفاً عن الإساءة للغير من دون موجب ، فكانت مناسبة مغادرته الحياة مُلزمةً لهما ببث ذلك الحديث المسجل واطلاع جمهور الناس على أشتاتٍ من الوقائع التي عرضت له ، والظروف التي مرَّ بها والمصاعب التي اعتاقت طريقه وكيفية تعامله معها لتجاوزها وتخطيها ، فقد كانت مكالمته لمحاوِرَيه ، في تينك القناتين ، باللهجة العامية التونسية التي عجزتُ عن سوغ مفرداتها وألفاظها سوى أن تمكنت من التعرف على تولده بمدينة المنستير عام 1925م ، وتلقيه دروسه بمعاهدها ثم مواصلته لها واستكمالها بباريس زمن رزوح الوطن التونسي تحت نير الاحتلال الفرنسي سنواتٍ طوالاً ، وأنه عمل فترةً في التدريس الثانوي قبل ظفرها بالاستقلال ، حيث تقحم المراتب والمهمات المسنودة لشخصه بوصفه مؤهلاً لترقيها والقيام بشؤونها لاسيما أنه غدا في طورٍ من حياته موضع ثقة رصفائه من أعضاء الحزب الاشتراكي الدستوري ، وعلى رأسهم المجاهد

محمد مزالي
محمد مزالي

في سبيل السيادة الوطنية زمناً الحبيب بورقيبة قبل أن يشتجر بينهما الخلاف والنفور بفعل ما يصطنعه من أسماهم بالمنافقين والببغاوات واللاهثين وراء المناصب من دسيسة ومكرٍ ينجم عنهما بطبيعة الحال من ألوان الضغائن والحقود ما لا عهد لمن مثله في الزكانة والترصن وتجنيب نفسه مآتي ذلك وعائداته من الغم والتلاحي ووجع الدماغ ، ففراره وقطعه المسافات ماشياً إلى بلاد الجزائر ليلتحق منها بأوروبا ، حيث عكف في باريس عل تدوين سيرته وحكا عما واجهه في محيطه من عوامل مثبطة وصارفة له عن المضي في العمل لأجل الخير والمصلحة العامة ، فكان كتابه الموسوم “نصيبي من الحقيقة” والمطبوع في باريس والقاهرة حافلاً بما تختزن ذاكرته به من طريقة تعامله مع صنوف الناس ممن جعلوا ديدنهم كراهة المتميزين فيما يقدمونه لبني جلدتهم من صنائع وأعمال ويؤرقهم أن ينجحوا في ذلك دون أن تطولهم غميزةٌ أو انتقاد ، وهنا يطيب لنا  تعداد المراتب التي تبوأها في مختلف مراحل حياته وأطوارها ، فنلفيها متمثلةً في المديرية العامة للشباب والرياضة ورئاسة مؤسسة الإذاعة والتلفزة ثم رئاسة اتحاد

الحبيب بورقيبة
الحبيب بورقيبة

الكتاب التونسيين وهي أسناها وأنبلها وأعودها بالفخار والمجد ، قبل أن يعتلي مناصب وزارات الدفاع الوطني ، والشباب والرياضة ، والتربية القومية ، والصحة العمومية إلى أن أصبح الوزير الأول في الحكم بحسب مسماه المعتاد ونعني به رئاسة الوزراء المصطلح عليها في سائر بلدان الشرق على حين يؤثر بعضهم عنوان رئاسة مجلس الوزراء ، فثمة فرق بينهما لا يخفى على ذوي الألباب والعقول.
ولمست من حديثه المسترسل في شؤون بلاده حديثة العهد بممارسة بنيها حريتهم في العهد الاستقلالي مع نزوع السياسيين وقادة الرأي فيها إلى إبقاء صلاتهم وعلائقهم بفرنسا قائمةً على الصداقة الحقة والوئام بين ندين مبرأين من الختل وأية نية مدخولةٍ لأي منهما في اقتسار الآخر ، وتوهم قلة درايته بشؤون السياسة وألاعيبها ، فيمعن القوي الجلد عند ذاك في استلاب وانتهاب ما لدى صنوه المتدني عنه في الإمكان والقدرة ، من مستلزمات الحياة ومقومات الوجود بالتحيل والخديعة والمكر ، بعدما كان حتى الأمس القريب يحسبه تبيعاً له ، وتجيز له هذه التبعية أن يسترقه ويرتهن مصيره بما يشاؤه ويرتئيه من فنون التصرف والتحكم ، قلت لمست في حديثه ذاك المُضمن بكتابه “في دروب الفكر” الصادر عن الدار العربية بليبيا وتونس عام 1979م ، نفساً تتأبى ما يزري بالمرء ويشين قدره من ألوان الدنيات والخسائس ، فكيف بالحال إذا كانت التهمة المسنودة إليه هذه المرة هي الخيانة العظمى لوطنه وقومه ، ثم أن الخيانة المزعومة والمفتراة تعني في ما تعني تواطؤ من دُمِغَ بها مع دولةٍ أجنبية للإضرار بمصالح تونس أو سماحه لها بتدنيس تربتها وانتهاك حرمتها ،  ويقيني أن الاقدام على صنيعٍ مثل هذا لا يقبله ويتورط فيه غيرُ من هانت عليهم أنفسهم ورخصت ضمائرهم وبلغوا درجة من الجحود والعقوق هي أبعد من أخلاق الإنسان السوي ، فكيف بسجايا الأديب المفكر وسلائقه من النأي kh mazaliوالبعاد عما يصم ويختزي منه سائر الأفراد ممن متوا له بصلة وارتبطوا به بسبب؟ بلى قد يكون محمد مزالي قد اجترح أثناء اضطلاعه بالحكم فنوناً من التصرف المنافي للعدل والاستقامة وارتكس في أخطاء دفع التونسيون ديتها من عيشهم وهناءتهم ، أما أن تصل من الغلو والفداحة بحيث يقع تحت طائلة التنكر لقيمه و النكول عن مبادئه وترمي به في طريق الخيانة ، فتلك محض مختلقات وادعاءات مفبركة استتبعتها عداوةٌ نجمت عن ظنٍ كاذبٍ ووهمٍ ساور ولي الأمر أو الرئيس الأعلى فصدقه تماماً كما نألفه في حياتنا الاعتيادية من ظهور التنافر والجفوة بين صديقين يبدوان لأول وهلةٍ فاترين لا يوحيان بقطيعةٍ أو ينمان عن تدابرٍ ، إنما هما مجرد انكماش وتجافٍ بسيط لا غير ، لولا أن يعمل الساعون بالشر ودعاة الفتنة فيؤججوا الكراهية والبغض في قلبيهما لينتفي ما كان بينهما من آصرةٍ وتواصل ، ويستحيل ما تلتئم عليه مشاعرهما من انسجامٍ و تدانٍ إلى ما يبغونه من التنائي و التباعد والحقد اللئيم.
ففي تضاعيف غير مقالةٍ يحتويها كتابه “في دروب الفكر” نجتلي ثناءً عاطراً واشادة مفرطة بمواقف بورقيبة من القضايا والأزمات المستحكمة بدنيا العرب والمستعصي عليهم حلها وتجاوزها والخلاص منها بأيسر الضرر ، بل يجوزونها إلى محاولة افتعال تسويغ ما وتصور ضرورات مقتضية وأنها في صالح العرب لو سلموا بها ، ومثيلتها دعوة بورقيبة رؤساء الدول العربية للأخذ والنزول على الشرعية الدولية وقبول قرارات عام 1947م القاضية بتقسيم فلسطين بين قاطنيها العرب واليهود المهاجرين إليها من ديارات العالم ، مما أثار استهجان الجمهور العربي في كل مكان وشجبه بعض الساسة كذباً أو صدقاً ، بينما تكشف آخرون عن تمادٍ وتناهٍ في رفضهم واستنكارهم سعياً وراء ما توهموه من شعبيةٍ يُجمِّلون بها صورتهم في نظر الملأ ، كي يتناسوا ما ندَّ عنهم من شطط الأحكام فيما سلف ، متذرعاً هذه المرة – أي محمد مزالي – “أن ذلك ضمن خطةٍ كفاحية مضبوطة تعتمد عل بلوغ النتائج الايجابية ولا تقيم وزناً للهذر السياسي العقيم” ، كما أن الرئيس نفسه يخال مبادرته هذه “حركة إيجابية وقوة منطلقة وزحف نحو الهدف ، وجدلية صارمة في مبادئها ، ولكنها حيةٌ مرنةٌ تعمد إلى تذليل الصعاب بنسف معاقل القوة المعادية ، معقلاً بعد معقل لفتح الطريق نحو الهدف النهائي” .
ومع ما تتسم به مبررات المبادرة من سذاجةٍ وضعف وفشلها في أن تقنع أحداً ليقبل بها ، فقد مهدت في المقبل من الأيام لظهور مبادرات غيرها من لدن الصائلين بالحكم زوراً هنا وهناك تعدوها في استرخاص النفوس وتنازلها للخصوم عن حقوق هي غير مرتهنة بمشيئتها أصلاً ، وهذه الباقة الجميلة من المقالات التي اشتمل عليها كتابه هي في عمومها مختارات مما يكتبه شهرياً من مقالات يخص بها مجلته (الفكر) التي يشرف عليها على الرغم من مسؤولياته الجسام في الحياة العامة ، وأرتأى أن ينتظمها كتاب لأنها تستوي في معالجتها لقضايا ومشكلات بعينها تمس الواقع العربي وصلاته بالعالم الوسيع من حولنا وتصور مدى تأثر جمهورنا بالتطور الكاسح الملموس في مختلف الميادين والذي ازدهرت بموجبه الحضارة العالمية وشملت متنوع الصعد والمجالات وترتب عليها من التغير السريع البين في طرز الحياة وانماط المعيشة مما يهيب بقاطني هذه الأنحاء من المسكونة ويستحثهم على أخذ نصيبهم من مآتي الحضارة تلك ، وتطويع نفوسهم لتقبل مجتلباتها من الآلام والأوصاب ويتكيفوا معها على أي حال ، فلا غرو إذا عقد فصلاً ضافياً مداره حوار الحضارات بأمل أن يتخفف أعلام الرأي وأعيان الثقافة في الشرق والغرب من روح التعصب والاستعلاء ، وينظر الأناس المتحلون بالتجمل وسعة الأفق من كلا الطرفين حيال بعضهم البعض بشيء من المرونة والمحبة والتسامح.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *