د. فاروق أوهان : هو الذي جاء إلى عالم فوهان؛ رواية ملحمية من أدب التداعي، والتخاطر (الحلقة الأخيرة)

8farooq ohan 5
ناس من أوغندا يتمرغون في الجبص ومن فوقهم أسراب من الجوارح تزخهم بنفاياها، ولكن هطول الأمطار تنقي الأجسام، يقوم البعض من الجبص فيشار إليهم بأن عليهم المرور بفتحات لكي يصلوا لصانعي التوابيت الخرسانية، وينزل البعض في فتحات محاطة بالقير، ومدرجات قصديرية، عليهم أن يجلسوا في “قزان” قدر كبير للطبخ، يتحرّك مثل دولاب الهواء، فيصلون لفتحة تقلهم إلى فوهة مقفلة من جهاتها الثلاث، يركبون القدر، وينقلبون رأساً على عقب لكي تتعلق نهاية القدر بسلم له فتحة ثالثة فيها إطار قصديري، وفوقها أرض مرمرية صقيلة يقف عليها الحلاج حميد، وهو يندف قطنه، ويتطلع في بياض القطن مبهوراً، وفي غطاء التابوت الجبصي النادر الذي جلبته الجثث معها، ويقيس لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الموتى المموهة بأن هذا للتبليط، وليس لناؤوسهم. وتقوم الجرافات بحمل الأجساد وهي تتحرك كأنها دمى مبرمجة، وتركبها كأفاريز على حافات الجدران، وما أن تستقر هناك حتى تصبح شخوص محنطة، مستلقية على البطون، والبعض يجلس القرفصاء، لكن أعينها وأفواهها تتحرك.
بانتهاء الحلم المكرر نفض شاهين رماد سيجارته، ونهض بين قهقات الجنود معه في خيمته الربيئية المحصنة، هؤلاء الجنود الذين يعلّقون دائماً عليه بقولهم: قام، أو جاء الشاه، وهو تحوير لاسمه شاهين، أو يبادرونه بالتعليق قبل أن يبدأ بالكلام، الذي لن يقاطعه فيه أحدا لو تسنى له أن يبدأ، كأحد الرواة القدامى، فيقول الجنود: تكلم الخان.
فماذا كان يعني هذا اللغز بينهم، إن شاهين لم يكن يعير هذه التعليقات ولا النوايا التي هي من اهتمامه الكبير، لأن الأهم لديه، وما كان يشغله كثيراً غير هذه الأمور التي تبدو له قليلة الأهمية بل وتافهة، أما الآن فإنه لم ينتبه حتى لما دار حوله، لأن باله مع الهاجس الذي يسكنه، والداعي الذي يلاحقه رغم أنه هاجس يعيش بداخله، وبدا أن شاهين قد حسم أمره، وصمم عليه فقد بدأ مشواره الجديد من غير النظر إلى الوراء في مشروع اللاعودة، فقط يريد أن يتأكد من نينار أن ما يرواده ليس خيالاً، وأنها هي الأخرى واحدة من هؤلاء الذين يعيشون في العالم الثاني، لا صنيعة خياله، وأنها سوف تلتقيه هناك. وفي كل مرة تجيبه نينار بأنه لا يعيش أوهاماً، وإنما ما يدور حوله، ومعه ليس إلا أمور واقعية، سيتأكد من واقعيتها عندما يسبح في بركة ماء عذّيب، حينها ستفتح له البوابة الكبرى على مصراعيها لكي يدخل العالم الثاني عالم فوهان المثالي. ومع هذا يستمر شاهين في محاورة نفسه، حول كون هذه الأمور التي تشغله ليست تخيلات، وإنما حقائق ما ورائية تطارده، ولا بد من التوصل إلى مصدرها، ونوايا أصحابها، وإلا فهل هو يعيش حالة جنون قادمة غير معلنة، سوف تنقلب عليه كما نقلبت على نينار الوسيط التي يستخدمها لتمتطي صهوة ثروت، وتعتلي شاربيه العثمانيتين، نينار زميلة شاهين التي أحبها كعمره، حار الكل لغرابة مرضها، وتفاجأ لموتها كما حار أطباء ذلك الوقت من آفتها التي لم تمهلها طويلاً، لكن نينار نفسها، ورغم مرضها، فما أن تواصلت عبر شاهين وسيطها إلى العالم الثاني، ارتاحت هواجسها، وطابت نفسها حتى وقت رحيلها.
كل هذه الأمور تعتمل في مخيلة شاهين وهو الخارج من بين رتل المربوطين إلى القرارات التي لا يؤمنون بها، لكن لا أحد يجرؤ على البوح، وحتى بمجرّد التجاسر بالتفكير به، أما شاهين قد بدأ رحلته مع جزء من الحلم، وهو حديث شجرة الجوز التي يخرج ماء نبع عذّيب من تحتها، فهل هذا هو صوت حقيقي، أم هو صوت قادم من جوار الشجرة، أو ورائها، أم لعل شاهين في ذهابه إليها الآن، سوف يجعله يعرف ما يمكن أن ينير له أخيلته، أو يزيدها تعقيداً، خصوصاً أن الجزء الأخير من الحلم المتكرر لهذا اليوم قد حصلت عليه إضافات كثيرة غير معقولة استغرب لدقتها، فهل يعني ندف القطن، أن موعد الهجوم مع أول سقوط للثلج في الشتاء القادم. وفي لحظة ندم على تورطه، لأنه بدأ يحس بأنه قد يكون قد خطى خطوة نحو نهايته الحقيقية، أو كمن يستعد للسفر، وفي اللحظات الأخيرة قبل السفر تخالطه انفعالات في جُلها تلخص معاناة تخطي الحواجز، وركوب المخاطر، فالسفر قراره في اليد، لكن العودة غير محسوبة، وغير معروفة الأجل، ومع هذا فما فائدة عدم تورطه، وهو ينوء تحت ثقل الهواجس، وواعز الرغبة في اكمال ما هواه، وأراد التخصص فيه من جهة، ومن جهة ثانية فإنه سيكون مثار سخرية البعض القليل من الذين روى لهم جزءاً من هذه الأحداث في حلمه المتكرر، لقد سخروا مسبقاً منه، ومن حلمه، وفسروه على غير ما يبدو أنه يتخوف منه، معللين كثرة تكرار حلمه هذا هو من جرّاء الخوف والجبن اللذين يعاني منهما.
إن الوصف الدقيق لتفاصيل مهمة المعسكر، وفي خندق شاهين نفسه ، وحتى ما تحت ملابسه من علامات فارقة، لا يعرفها إلا هو نفسه، كلها دلائل بأن المتخاطرين معه، العارفين لبواطن أموره، وكما يبدو أنهم قد ركبوه هو الآخر، أي آخوه، وسيكون جنونه ثريب. كما يظن هو أنه فعل نفس الشيء مع ثروت، أو لربما أن ثروت هو الآخر ممن يهتمون به وبتوجهاته، وهذا نوع من أنواع إثبات القدرة فيما بينهما من أجل التنازع على مركز القوى، ومن يقود من، ومن ناحية أخرى فإن شاهين يحيل كل هذه المعلومات إلى قوى عسكرية عالية التحكم، وهي التي توشوشه سرّاً وعلناً، وبأصوات مسموعة في أحيان كثيرة، خصوصاً عندما يكون منفرداً لحاله في البرية بين الربيئة ومركز قيادة الفوج، هذه الأصوات الواردة عن قوى مخابراتية كبيرة المهارة، وربما يكون المقدم نفسه قائد لها، وشاهين الذي يتصور نفسه الموجه، يكون هم الذين يوجهونه، إنه هو المركوب لا الراكب لثروت في أحلامه، وبهذا يتبين لشاهين كم هو واهم، ومخدوع. لكن هيهات لشاهين أن يصدّق مزاعم نفسه هذه، فكل ما يتبادر له من أخيلة، أو حقائق ما ورائية، بدأ شاهين يؤمن بجدواها، وفعالياتها الأثيرة، هي بجلّها من صنعه، ومن تأثيره في نهاية المطاف، وها هو دخيله الذي اقترحه على نفسه، والفرد الثاني بداخله قد ولد وترعرع، بل وصار مشاكساً كما يفعل الصانع بأستاذه الذي تعلم الحرفة على يديه، ولكن كيف تكون تلك الأفكار، والحقائق من بنات أفكار شاهين لوحده، خصوصاً الوقوف عند حلم واحد يتكرر مقطع قاسي منه دائماً، بينما ما يريده شاهين في أبحاثه غير ذلك تماماً، إنه يرغب التنقل بالتدريج من معلومة إلى أخرى، ومن معرفة إلى ثانية، فثالثة، لكن هذا التوقف والدوران لا يجدي إلا إذا كان نوع من التحذير، وهو ما يخشاه شاهين، ويجعله يتوقف عنده، ويظن أنه عموماً ليس من عنديات نفسه، لتأخر المدركات فيه، بل لواقعيته المتأخرة عما توصل إليه من حقائق ما ورائية، أما كل معرفة بدخائله، وأسراره، وعلاماته الفارقة، ونواياه الصريحة مع نفسه لنفسه، وحقائق رغباته التي توصل إليها مع نفسه، فهي على أية حال كالرموز التي يراها الحالم، ويحار في تفسيرها، إن كان جاهلاً يؤمن بالغيبيات. لكنها كما عرف شاهين، ومارس بأنها لا تبتعد عن حقائق رآها الحالم وعرفها، لا تحيد عما توفر في خزين ذكرياته، بالمستوى الذي استوعبه هو وعلى قدر مستوى تعلمّه، لذلك يسخر شاهين كثيراً من مصداقية هذا الحلم المتكرر، بل ويشكك بكونه نوع من النكوص في قدراته التي طوّرها، فيغالبه الحزن، ويحاول كثيراً أن يحارب حضوره في الذاكرة.
فهيهات، فإذا ما دفع المتخاطر من الذاكرة انقلب إلى وقائع يراها أمامه، كما يرى المجانين في سرحانهم، أو النساك في عزلتهم، أو المحتضرين في لحظاتهم الأخيرة، أو المسنين في النزع الأخير أن عزرائيل يترائ لهم، وكثير من أحبابهم يدعونهم، والملائكة كل في طرف يحاولون سحبهم إلى جهتهم، وهؤلاء يحاورنهم بل يقومون بمحاورته بالرموز كالابتسامات، أو الإشارات باليد، أو بالعين، وهذه الحالة التي تصيب المحتضر، ليست أكثر من صراع بين انفصال النفس عن الجسد، فهذه تهرب منه إلى العدم، وهو يلاحقها رغم هواجسه وأمراضه، ولا يريد انفصالها عنه، وفي مرات أخرى يكون العكس، وبخاصة لو اعتل الجسد، ووهنت قواه، فإن الجسد يحاول الهروب من الروح التي تسكنه، ويذيقها الكثير من المرارة، وهو في حالة هروب منها، كأن تخور قواه، ويغيب في دوامات من الغيبوبة، في سديم الظلمات، وتظل هي تداري غيابه بأنفاسها لكي لا يجعلها تنجر وراءه حتى يتصالحان، ويمتزجان فيقوم الفرد مستصح معافي، وبالعكس فعندما تخور القوى ويفنى حاملهما فينتهي كلاهما إلى العدمية. لهذا يقاوم الحامل قدر الامكان لإيمانه وإدراكه حقيقة أن انفصال الثنائي هو حقيقة الموت والعدم، أجل فهذا ما حدث مرة لشاهين حين كان مع رهط المنتظرين، في هذه اللحظات الفاصلة بين الحياة، والموت، في هذه اللحظات سرت رعدة عنيفة في داخله لا لمرض عاناه، وإنما لهاجس غريب اجتاحه، فرأى الآخرين يدعونه للعبور إليهم، وهم من المتوفين مثل والده، وأمه، وأخته، وأعمامه، وأساتذته، ورأى أن روحه كانت توافقه على الهجرة، لكن نوازع جسده، وأعضاءه أبت، ولم ترغب في مغادرة الحياة، بل أصرّت على العيش والحياة مهما كان نوعها، وفي حقيقة الأمر فإن نوايا المسعور، أو المحتضر، أو الناسك ومعلوماته، ورغباته هي التي تبقى قلقة بين الشك واليقين، بين الحقيقة وخلافها، بين التحوّل من حالة إلى أخرى، غير أن ما يحيّر شاهين الآن أن دخيله الذي صنعه، قد بدأ يتصرّف حتى في نوع الكلام الذي يبادر به شاهين، فهو يقوم بتسمية الأشياء، بل وينادي بها كأن المنادي هو شاهين نفسه، وأكثر من ذلك فإنه ما أن ينتبه شاهين إلى شيء ما، ويركّز عليه، فإن دخيله يقوم بتوجيهه إليه، بل وإلى وصف الأشياء. فمثلاً ساعده دخيله على التعرف ما له علاقة بخيمة ثروت والاحساس بموجوداتها، حتى صورة الحنش الذي يعاشر ثروت نفسه، ساعده الدخيل في معرفة تفاصيلها، لهذا بدأ شاهين يوقن أن باستطاعته جذب ثروت من أشيائه الخاصة التي تحيط به، بينما يستطيع دخيله، إن أراد أن يجعل شاهين يرى على الفور ما يطلبه من أمور، وأحداث، وأفراد وكأنها مرسومة أمامه مثل الرسوم المتحرّكة تخترق العوائق، والحواجز الطبيعية، والأهوال، أو كالمناظر المصورة على شاشة التلفاز، أو أرقام الحاسب الآلي تتقلّب فيه المعلومات أمامه بكل تفاصيلها، وحذافيرها، فتزوغ عينا شاهين وهو ما يجعل الذين يستغربون من حالات سهومه الدائمية يشكون في كونه في حالاته الطبيعية، أو أنه شخص عادي، أو رجل سوي.
وكثيراً ما نصحوه بسرعة مراجعة طبيب الوحدة، لكي يجري فحصاً أولياً لحالته، بغية إيجاد حل من الحلول التي تساعد على الخروج من حالات السهوم التي ترافقه أثناء الأكل، أو أثناء المناوبة، لهذا حرص عريف الفصيل أن يدع معه أحد أصدقاءه المقربين منه، لمراقبته، وفي ظنهم أن شاهين تغشاه حالات من النوم الصاحي، أو مما يُدعى بالسرنمة، أي حالة هؤلاء الذين يسيرون في نومهم، أو قد تكون إحدى حالات الجنون التي سوف تخلّصه من كارثة الحرب التي يشارك فيها مجبراً، بل مرغماً بالقسر، وإلا فحكم بإعدام جسدي سيصدر في حقه، أو هروب دائم في المنفى داخل الوطن، أو خارجه، أو العيش منبوذا بين أهله، وحتى أحبابه، فلا يريد أن يكون مصيره مثل كثير ممن وشي بهم من أقرب المقربين إليهم، وهم: زوجاتهم أوبناتهم أو أزواج بناتهم، وحمد شاهين القدر بأنه غير متزوج حتى الآن، ووالديه متوفين، وفرح لأول مرّة لوفاتهما، أما أخواته، فقد اغتّم لحالهم كلهم، لأنهم الآخرين مبتلين، كما يبتلى المؤمنون.
وفكّر شاهين ماذا لو صار معي كما فعل الوالد الذي سلّم نفسه بعد أن قتل ابنه الهارب الذي كان مختفيًا لمدة عام لدى الأقارب من بيت إلى بيت، حتى وصل إلى بيت أبيه فلم يتوان الأب عن قتل فلذة كبده، ليس طمعاً بنوط الشجاعة ولكن لكي يصون سمعة العائلة من العار الذي سيبتليها طوال تاريخها، ناسياً أن هذه الحرب بذاتها هي حرب غير شريفة وكل تاريخها أسود، بل وإن الرافضين لها بذاتهم لهم الشرف أن يموتوا خونة لها ولصناعها، فما أكثر ما توهمت بعض النسوة بأنهن إن وشين بأزواجهن سوف ينلن الأوسمة، وهي في حقيقتها ليست أكثر من مال خسيس، بخس الثمن لأشرف علاقة سفحت هدراً بالإغراء، وغسل الأدمغة.
تأوه شاهين مما جعل أقرب أصدقائه يرثي لحاله، ليس بعطف وإنما باشمئزاز وحقد وتشفي، لأن شاهين لو استطاع أخيراً، أن يخدع الكل بجنونه لكي يتخلص من الحرب، والجندية، والمكلفية وأحوالها كافة، لورط نفسه في دوّامة يعرف حق المعرفة أن هذا الجنون فيما لو كان إدعاء، أو حقيقة فهو وبال لو خلصّه من العسكرية بهذه الحجة، فإن أوراقه كلها ستكون ممهورة بطوابع الجنون، فأية مؤسسة سوف لن تقبل دكتوراه فلسفة، حتى ولو كان ذلك إدعاءً. فشاهين الذي يحمل فوق منكبيه رأساً يملأها عقل استطاع صاحبها أن يطورها، مستخدماً أقصى حدود قدرته على تطويعها، في فرص توفرت له أكثر من رفاق جيل عمره، ومرحلته الدراسية، فلن يفيد بعد ذلك إلا مهنة أجداده، ألا وهي مهنة الصياغة التي تدرب عليها عند خاله سورين. وعنّت على بال شاهين أيام كان ينتقل إلى الدكان التي تقابل دارهم حيث يجلس خاله منتظراً مجيئه لكي يساعده هو في النفخ بمنفاخ الموقد الصغير. وقارن شاهين مهنة الخال على مهنة العم ندّاف  القطن والصوف، واختلاف الطباع، فمن يتعامل مع الفضة والذهب غير عن من يتعامل مع وتر، ومندفه، تهز عضلاته مع كل ضربة، بينما يتطاير مع الصوف، والقطن غبار تمتلئ رئتيه به أكثر من دخان الغليون،  تماماً كما تقارن أمه بين خاله، وعمه من باب المباهاة بين المنشأين والأصلين، بين المعدن الأصيل والمعادن الأخرى، لكي لا تطعن في نسب أولادها، ولكي لا تتنصل عن حبها لزوجها الذي لا تبدله حتى بالذهب الخاص، ولكن لكل مقام مقال، وهكذا فإن حب والدته لأخيها لا يعوضه حب، كما تحب بعض النساء الذهب. وندت عن شاهين ضحكة دعمت رأي المناقشين في أمر جنونه، وقرار الوشاية به، خصوصاً بعد أن توقف شاهين عن تفسير الأحلام، وقراءة الكف حتى للمقربين إليه، وذلك بعد أن جاءته الدعوة من دخلائه للرحيل إلى عالم فوهان المثالي، فإن صمته ورفضه دعاوي الجنود لفك طالعهم، هو ما أثار حفيظتهم، وسرت في الفوج الإشاعة كالهشيم لكي يتحاشوا شاهين، بل وينبذونه لأنه ليس بداعية صالح، وإنما هو مخاو للشياطين، بعد أن كان الولي لديهم، فقد أصبح شاهين لا يطاق، لكنه ولسبب ما ود لو تذهب عنه كل هذه التداعيات، وضحك بسره من جديد، واعترف أن هذه التداعيات لا توازي التداعيات التي تلازمه عندما يكون لوحده، تلك التداعيات لو سمعها، أو ربما شاهدها من بعيد غيره لأقر بجنونه، بل ولاتهمه بالزندقة، والهرطقة، والحكم عليه بالموت رجماً، لكن اعتياده هو عليها، واستئناسه لها يجعله كثير الاشتياق بشكل يجعله يستوحشها، لا لشيء إلا لأنها الحقائق الوحيدة التي يراها، ويلازمها، ويطبقها غير الأكاذيب التي ملأت آذانه منذ الصغر من أجهزة الراديو، والتلفاز بكل إدعاءاتها، وتخاريفها، وكل التخرصات حول انتصارات الأمة على الأعداء، وما هي إلا شمعات ضوؤها ذابل توقده السلطات، وأوهام تزرعها في أذهان شعوبها الأسيرة، لكي تطيل عمر أصحابها الملوك، والحكام، وتؤجل قرارت رحيلهم عن كراسيهم التي التصقوا بها، وصاروا يفكرون بتنفيذ توريثها للصعاليك أولادهم.

9
في طريقه إلى عين عذيّب، وكما رسمها له الدخيل الدليل خارج المسار العام، وفي سائر في حلم يقظة، يسير وقد تراءى له الناس من جديد، وهذه المرة يشبهون الهنود الحمر، وهم يتمرغون في الأوحال ومن فوقهم أسراب من الجوارح من نوع الصقر الأقرع، تهوي عليهم، وتنتزع أطفالهم، وتطير بهم، ولكن عواصف التورنادو تفرع الصقور، وتقي أجساد الهنود، فيقوم البعض من الأوحال فيشار إليهم بأن عليهم المرور بأنفاق لكي يصلوا لصانعي التوابيت، وينزل البعض في حفر محاطة بالقير، وسلالم صخرية، عليهم أن يجلسوا في قفص يتحرّك مثل دولاب الهواء، فيصلون إلى فتحة تقلهم إلى قفص مقفل من جهاته الثلاث، يركبون القفص، وينقلبون رأساً على عقب لكي تتعلق نهاية القفص بسلم له فتحة ثالثة فيها إطار فولاذي، وفوقه أرض صقيلة يقف عليها جيمس راعي البقر، وهو يجلد حصانه، ويطارد لثيران، وهو يتطلع مبهوراً في ترس هندي، وفي غطاء التابوت المنقوش برموز هندية نادرة جلبته معها الجثث، ويقيس الغطاء لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الموتى الدمى بأن هذا الغطاء هو ترس خاص للدفاع عن النفس، وليس لناؤوسه. وتقوم الجرافات بحمل الأجساد وهي تتحرك كأنها دمى مبرمجة، وتركبها كأفاريز على حافات الجدران، وما أن تستقر هناك تصبح تماثيل، مستلقية على البطون، والبعض يجلس القرفصاء، لكن أعينها وأفواهها تتحرك.
وبانتهاء التداعي قام شاهين ليركز في طريقه على الإشارات، وليتأكد من العلامات التي وصفها وسيطه غير الدخيل الذي اخترعه، خصوصاً تلك التي يعرفها داخل المعسكر، والمحيط القريب منه، أما الوصف الدقيق لطريق غير سالكة إلى ينبوع الماء الذي يدعونه بعذّيب، والشواهد الشاخصة أمامه كأنها علامات وإشارات ضوئية في مدينة مزدحمة، الشوارع فيها مرقمّة، وفروع الشوارع معلمّة بقطع “أرمات” مكتوبة كل باسم يختلف عن الآخر، تشير بأسهم تدل على النهاية المقصودة، ورغم أن شاهين يعرف طريق الينبوع، فهو المكان المتوسط ما بين المعسكر والمدينة القريبة، وهو أي الينبوع مصدر الماء الأقرب للمعسكر، لكن ذهاب شاهين إلى الينبوع في كل مرّة تكون من خلال الطريق السالكة. فكم فكّر شاهين في باله في كيفية مروره من هنا، فلربما يرصده أحد القناصة، ويقتله من الخلف، أو مواجهة، ولأول مرة في هذه الخلوة يتحاور شاهين مع وسيطه ببعض الوضوح والثقة المشوبة بالتوجس، بينما يقف الدخيل بينهما غير منحاز إلى أية من الجهتين، لأن ثلاثتهم يقفون على مصادر الأسئلة المنبعثة من كل منهم، وكذلك الأجوبة في كل مرّة، أسئلة تتبادر لذهن كل منهم، موجهة للآخر، لكن لا بد من الإجابة حتى تصبح حقيقة مؤكدة، ومميزة عن الأسئلة في المخيلة، ومحسوم أمرها كسؤال خارج الذات، يثبت واقعيته كسؤال يحتاج لجواب إثباتي هو الآخر، وهو في عين الوقت سيكون أحد الأسباب الموجبة للأجوبة المقبلة بين الأطراف الثلاثة الذين لا يبدو غير شاهين ظاهر بينهم الآن، فيقول الوسيط: ماذا تريد أن تعرف؟
فينبري شاهين بالقول: هل هناك خطر، أقصد هل من نقطة تفتيش، أو حراسة من خلفي فيها أحد الآن، إنني لا أستطيع الالتفات الآن وإلا كشفوني.
ويقول الوسيط بثقة: فيها جندي راصد، ولكن المراقب، محيّد لقد جعلناه مشغول في أحلامه عنك.
ويسأل شاهين: كيف؟
ثم يلتفت فجأة بنصف رأسه، وبحذر ليرى من زاوية عينه اليسري إلى المكان المقصود، فيتحقق مما قيل له، ويأتيه الصوت: وفي الجهة المقابلة هناك أحراج تصدك.
ثم يضيف: سأتركك الآن، وحتى فجر الغد لكي ترى، ثم تقرر لذاتك ما اتفقنا عليه.
إن كثير من التفاصيل التي ركز عليها الوسيط في طريقه ذهاباً، وإياباً عندما كانت الطريق إلى المعسكر ملّغمة من الاتجاه القادم إلى المعسكر قد فاتته، وهو الموصوف بدقة الملاحظة، كيف لا وهو الصائغ الماهر ابن أخت سورين، وهوسيب جده لأمه صاغة الذهب، والفضة، والألماس اللذين كانا يتعاملان بها مع اليزيدية، عندما يترك خاله سورين دكانه في عهدة شاهين نفسه، عارفاً بيد من قد أوكلها، غير خائف على رأس المال، “الصرماية” المودع فيها من ذهب ومشغولات. والحقيقة إن ذهاب الخال يكون غالباً في موسم حج اليزيدية وقد جاءهم المير بالطاؤوس المصاغ من الفضة لكي يتباركوا به، بل ليقضوا ليلة نذر بجانبه، يحتفلون بالعبادة رقصاً، ودبكاً، واحتفالاً تتسامح أغلب النفوس لكي يتحقق النذر المنشود، مثل طقوس الزفاف المقدس في عهود العراق القديم، إذ غالباً ما يلتقي العشيق بخليلته، والخطيب بخطيفته التي سيتزوجها هذه الليلة، ثم يلجئ لكبير العشيرة دخيلاً، ليتوسط الشيخ بينه وبين والد زوجته التي سيخطبها له، هكذا  تجري التقاليد بين الطرفين، لأن الرجل الشجاع لدى اليزيدية هو الذي يستطيع أن يغلب عدوه، وينهبه، فكيف ينهب الزوجة وهي أعّز مخلوق ستشاركه الحياة، أليس هي الأولى بالخطف، والأهم من أي عزيز يكتسب، وفي هذه الحالة نادراً ما تأتي نتيجة التوسط سلبية، إلا إذا كان هناك بديل آخر، حينذا تتعقد الأمور، أما وقد وافق الأب، فهنا يكون دور الوسيط في خلع هدية ثمينة على والد العروس، وهي مصوغة من صناعة أهم صاغة سينقارة، ألا وهو سورين هوسيب، ويكون الزوج غالباً هو الذي يدفع ثمن الخلعة، وبعدها يأتي دور الجهاز، وأولها الفضة، وبذلك يتعزز دور خال شاهين، وأمثاله من الصاغة، لكن غالباً ما يكون لكل قرية، أو عشيرة صائغها الذي يكون قد دخل معهم، ومنذ زمن في مشروع عرابة متبادلة، يصون بموجبها الطرفان بعضهما البعض، وتتشكّل بينهما محرمات مقدسة، من أرفع المستويات الاجتماعية رقياً في سلّم الحضارات، وهذا ما كان سورين يحرص عليه، فلكل واحدة من بناته عرابة يزيدية من زوجات زبائنه، وعملائه في القرى المحيطة بسينقارة حتى بلدة كرسيه.
وتنهال على هوسيب عقود شراء المصوغات، قلائد وأساور، وحجول، لكن بالدفع المؤجّل غالباً، ومن موسم حصاد إلى آخر، وكم تذّكر شاهين لحظات تأجج النيران في الموقد الطيني، وهو يعالجها بالمنفاخ اليدوي الصغير، قريب من بوتقة الصهر المملؤة بالمصوغات القديمة، خليط من بقايا المشغولات الفضية، وتراب الفضة، وقليل من البروم، والنشادر،،، إلخ.
جالت كل تلك الخواطر ببال شاهين وعجب كيف ابتعد هكذا دون تأثير من دخيله، وبعد أن رحل الوسيط بدأ ينتبه من جديد إلى الطريق، فبعد الانتهاء من منطقة المعسكر الرئيسية التي تنحدر إلى أسفل الوادي، يلتقي هذا الدرب بالطريق السالكة الحالية، وذلك كمفترق، وعلامته المؤشرة شجرة جوز عملاقة تمتد بموازاتها أشجار صفصاف، ترتوي من ساقية جانبية من نبع ماء ينبوع عذّيب التي تكون في أعلى المنحدر التالي، وتخيل متذكراً مصائد العصافير التي كان ينصبها هو ورفاقه الصغار من معجون لاصق يحضرونه لها لتلتصق أرجلها على أغصان الصفصاف، فيأتي هو وأصدقاءه لاصطياد العصافير بلا عناء، حية جاهزة للذبح والشوي. وتفرس شاهين في مفترق الطرق، فوجد أن الطريق المتفرعة والتي انتهى منها شاهين الآن تبدو كأنها غير مأهولة لكثرة الأعشاب والأشواك التي غطت خط السير الذي كانت قد علّمته خطوات الأقدام بإشاراتها، عند هذا المفترق صادف شاهين بعض المترجلين من إخوانه جنود المعسكر، منهم من يحمل صفائح الطعام الفارغة من نوع دهن الراعي، أو زبيدة، أو صفائح النفط الأبيض لينقلوا بها مختلف الحاجيات، ماء، أو إسمنت، أو لبن، أو دقيق، أو حصى، أو رمل لكي لا تنقطع عنها خطوط الامداد والتموين في خطوط المعسكر الرئيسية الأمامية من ربايا تابعة للفوج المنتشرة على القمم الإستراتيجية، وذلك أيضاً لبناء التحصينات الكونكريتية للربايا المعرّضة للقصف والتي لا تحتمي بسواتر طبيعية، أو لاستحداث غيرها ما دامت الحرب ستطول دون أمل في نهايتها.
وفكّر شاهين لأول مرّة بأن الكونكريت هذا لا يقاوم كما تقاوم صخور الجبال ورغم الجهد والتعب وعرق الجنود في رفع كل تلك الكتل إلى تلك المسافات الشاهقة لا تكتمل إلا إذا نقلت إليها كافة عناصرها من ماء ورمل وحصى تمزج كلها بالإسمنت لتكّون الخرسانة هذه، لكن تمركز كتلة صخرية كبيرة كحاجز تكون أمنع، خصوصاً إذا ما كانت على مدخل مغارة، أو كهف.
ويقتحمه الحلم المتكرر في كل مرّة تقوم، ولكن بشكل مختلف في التفاصيل، فيرى الناس من أنجولا يقوم بعضهم من الأسن فيشار إليهم بأن عليهم المرور بأغوار لكي يصلوا لصانعي التوابيت الجلاتنية، وينزل البعض في أغوار محاطة بمحاليل لزجة، وآبار زرقاء، عليهم أن يجلسوا في دلو يتحرّك مثل دولاب الهواء، فيصلون لفتحة تقلهم إلى بئر برتقالي يركبون الدلو، وينقلبون رأساً على عقب لكي تتعلق نهاية الدلو بسلم له فتحة ثالثة فيها إطار فولاذي بلون الزيتون، وفوقه أرض رصاصية صقيلة يقف عند محاور الفرن الدوّار صانع اللعب الجيلاتينية خضر، وهو يدير دولابه، ويتطلع بأسفل الدلو مبهوراً، في غطاء التابوت النادر الذي جلبته الجثث معها، ويقيس لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الموتى بأن هذا لصناعة الحلوى، وليس لناؤوسهم.
وقد استغرب شاهين أكثر عندما شاهد تفاصيل في أشكال هؤلاء،  وهيئاتهم، وطريقة حملهم للأثقال، ذكّرته بالوصف الذي ورد في حلمه، أو حلم يقظته، أو صوته الداخلي من دخيله فلقد اختلط عليه الأمر، وتاه في هذا الخضم، إنه الآن كمن يقوم بإعادة شريط سينمائي سبق أن تمّ تصويره، وقد حفظ في مكتبة أفلام قديمة، دور شاهين فيه مزدوج، فهو يبدو تارة كمشغل للفيلم، وأخرى يقوم بالدور الرئيس، يمثله خارج الفيلم، دور جيّد أمام جمهور غير منظور يمثله هو الآن أيضاً، توقع شاهين أن يرى الآتي من بقايا حلمه، واكتفى بذلك لكي يوقف التعّجب والاستغراب، لأنه اعتاد على ذلك، ولن يقاوم خلال رحلة التأكد والاستكشاف حتى ينبوع الماء وعودته منه، لأنه لن يفعل أكثر من إعادة حلم شاهده قبل زمن لا يتجاوز الساعة، فهل أكيد أن شاهين نفسه لا يتذكّر حلمه، لكنه متشوّق لرؤية ابن بلدته الذي أصبح ضابطاً احتياطياً في التوجيه المعنوي، صعب على شاهين أن يتعرّف عليه، لأن الأول قد عاش في العاصمة بينما عاش هو في البلدة الصغيرة، والمحافظة الشمالية، فهل هو نفسه الضابط الذي قدم هذه المرّة أيضاً، لقد عرف اسمه عندما ذكّرته أمه به أثناء الإجازة الدورية التي قضاها بين أهله.
ابتسم شاهين الآن فقط لدخيله مجدداً لكون صمته صار يتكرر لمرتين هذا اليوم، فما الأمر فهل هو راجع لعودة بدء أحداث حلمه الفيلمي المعاد، والمعاد لمرّات، ومرّات، هو حلم يقظة هام ومتكرر، ويشدد عليه بإلحاح الرؤية، كأن ما يحدث أمامه قد ساهم هو فيه، وهو أحد ضحاياه، رغم أنه يرى الحلم بزاوية مرتفعة، ومرة بزاوية منخفظة، ومرة مواربة، ومرة منحرفة هكذا، ورغم أن التفاصيل مختلفة في كل مرة، فمن فلسطين، إلى العراق، إلى أصقاع الدنيا غيرها، وبأزمان متفاوتة، فالضحايا هم مثل هؤلاء بعضهم موجود دائماً، وكأن الأمر يجري في قارات، وبلدان أخرى بشكل متواز، ومتشابه، فمرة في فيتنام وكمبوديا، ومرة في أوغندا، وأنجولا، والصومال، ومرة في شيلي بين أفريقيا، والأمريكيتين، وآسيا وأوروبا، لكن أقساها وأفضعها بشاعة في كل من أرمينيا، وأفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، ولكن أدهاها في أوروربا وأمريكا الشمالية وحتى أستراليا لأنه هذه الأماكن لا تترك القوى الشريرة لاغتيالاتها أي شاهد كما حصل مع الهنود الحمر، والأبأورجينال.
إن شاهين في هذه المرّة يرى الحلم كأنه تصوير لشبه الواقع، يراه كأنما هو فعل حقيقي، وها هو شاهين يمشي في طريقه كمراسل حربي يصور الجنود على قارعة الطريق، وهم في مهماتهم ونائب العريف يمسك بعنان فرس شهباء يركبها الملازم ابن بلدته، وعلى غير المعتاد فهو بملابس ميدان، لكنها ملابس بيضاء هذه المرّة كأنها ملابس الكهنة الكبوشيين، مما حير شاهين، وأجبره على الخروج عن الحلم الواقعي تحت تأثير قوة الملاحظة التي تزيح الحلم، فيتجرّد شاهين من حلمه مباشرة، وعند عودته للحظة يرى الملازم في قياقته العسكرية السابقة، لأن ما جذب شاهين هو تلك اللياقة البدنية التي تمتع بها الملازم بدا من خلالها الضابط من العارفين بفنون الفروسية، ميّزها شاهين من طريقة استلام الملازم لعنان الفرس، والقفزة الرشيقة على ظهرها، كأنما رضع هذه الرياضة منذ نعومة أظافره، يحمل هذه المرّة جهاز تسجيل صوتي على كتفه بدلاً عن السلاح، جهاز من أحدث الماكنات عالية الإتقان، يلتقط الأصوات بلاقطة مكّثفة توجه عن بعد أمتار لتأخذ ما تريد دون تشويش، حتى ولو كانت أصوات قنابل، ومدافع، أزيز طائرات.
وينزل ابن بلدته برشاقة عن ظهر الفرس لكي يمّر على رهط اصطف بين الأدغال جاهزين لبث التحيات لأهلهم، وذويهم، هؤلاء الجنود الذين فاتتهم الفرصة، أو ستفوتهم غالباً لأنهم في مهمات خارج المعسكر، أو الربايا، لكن هذه الأصوات ورغم كل وسائل السلطة لكي تخرجها بأساليب فنية معقولة، وطبيعية لا توحي من خلال الأصوات المبثوثة بأن صاحبها مؤمن بكل الواقع الذي يجري، والحياة التي يعيشها، ولا يستطيع المرسل لتحياته إعطاء أكثر مما لديه، ومع هذا فغالب الرسائل التي تذاع تفقد مفعولها لأنها تبث متأخرة لتسلسل إذاعتها، فغالباً ما تدفن جثة الجندي ويتقبل أهله العزاء قبل إذاعة الصوت، أو يكون صاحب الصوت بين أهله في إجازته، وتنشأ من هنا المفارقات، والسخرية المرّة بين الجنود بجملة “تحب تسلّم على أهلك” فما أصعب على الأم ذلك الأمل في الانتظار، وتأمل عودة ولدها عند سماعها لصوته، تبقى تعد الأيام، في حين يكون جثمانه قد وارى التراب عشية تعليب صوته، والأقسى والأمّر من ذلك أن والدة المتوفى لا تقبل أن تصدق، وفاة ابنها في الوقت الذي تسمع صوت ابنها على المذياع، رغم استلامها لجثته، وإقامة وتقبّل التعازي به.
وقد لا يستطيع أصحاب القتيل إخلاءه من ساحة المعركة، وهنا تكون المسألة معلقة في مصداقية تقبل أهل القتيل أن يكون ابنهم هو القتيل، أو أنه أسير، أو مفقود، أو هارب. فالمسألة من جانب آخر، أين هو مكان موت القتيل، فإن عدم موارات جثة القتيل التراب تبعث كثير من الشجون، والأحزان لدى الطرفين المتناحرين، فالخوف من الوباء، ومن تسرب الروائح، ومن تشويه مناقير العقبان لحالة، وإهاب القتيل، قد يكون أرحم من أن تتورم الجثة كأنبوب مطاطي لإطار السيارة حتى تنفجر وتتناثر الأشلاء فتهرع الديدان، والنمل والحشراء الأخرى لوليمة قد لا تعوض، أو فرصة ليست بنادرة.

10
ويستحث شاهين الحلم الهاجس من جديد، فيرى إلى بعض الفلسطينين يهيمون في الأوحال فُيشار إليهم بأن عليهم المرور بثغرات لكي يصلوا لصانعي التوابيت المخرمة، وينزل البعض في حفر محاطة بورق الموز من أغوار الأردن، يمرون في مدرجات معتمة، عليهم أن يجلسوا في صواني تتحرّك مثل دولاليب الهواء، فيصلوا إلى ثغرة تقلهم إلى مدرج أسود يركبون الصواني، وينقلبون رأساً على عقب لكي تتعلق نهاية الصواني بمدرج له ثغرة ثالثة فيها إطار فضي بلون الأبنوس، هو صينية فوقها رأس مطقوعة تشبه رأس يوحنا المعمذان الذي طلبته هيروديا ثمناً لعفة ابنتها، ويقف عند حافة الصينية إسرائيلي بيده مطرقة، كلما ذبح أحد الجثث وهي ميتة، يطرق صينية يوحنا معلناً الانتصار، والفوز، ولكن ما يجذبه هو قعر الصينية، وأرضيتها، فيقول مبهوراً، فقد اعتبرها  غطاء لتابوت العهد المزخرف النادر الذي جلبته الجثث معها، ويقيسهما ليقارن بينهما لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الموتى بأن هذا باب بيتهم المسلوب، وليس لناؤوس تابوت العهد المزعوم، بدلالة وجود مفتاح الباب معهم.
وحالما يتفيق شاهين من حلم يقظته، ينتصب أمامه من جديد جنون الحروب، والهول الذي تخلقه حولها في نفوس الأبرياء حتى ممن لم يقاتلوا، وهم أهالي الجنوج، وقود الحروب. فصار يفكّر بأنه لو أمكنه أن يوقف تصوره الفيلمي مؤقتاً فيوقف حلمه الواقعي، وتسأل مفكّراً ربما يكون مصير الرسائل التي يسجلها، أو الرسائل البريدية كلها الاهمال، وعدم الوصول إلى الجهة المعنية، وقد يُفبرك الكثير منها، وهو أسلم الأمور على القارئين، أو السامعين، تفادياً لشرور غير محسوبة، ولو تتم اللعبة بحبكة متقنة لن يستطيع أحد تشخيص اللعبة، والخسائر، والغياب الحقيقي من الغياب الفعلي.
وبما أن الكل ينتظر بفارع الصبر إذاعة رسالته، ومن الطرف الآخر فإن رسالة القريب تبقى كسّر مكتوم هي الأخرى، ويفكّر شاهين بالملازم هاروت، ورغم أنه أرمني مثله، لكنه لا يعرف لغته الأم، غير أن أكثر التصاقاً بأصوله من مجيديها، لأنه لا يؤمن بما يقوله الأميون من أبناء قوميته على أن من لا ينطق بلغة أهله هو ليس منها، فما ذنبه وأبيه كان ممن رباه رئيس عشيرة عربية أنقذه من حضن أمه التي ذبحها العثمتنيون في مجازر الأرمن أيام السبي سفربرللك، التي تعني أكثر معناها القاموسي، فهي السفر الأخير للمنفيين إما عن الدنيا، أو عن الوطن. كان شاهين الآن قد قرأ كل أفكار وحسرات هاروت، فذهب مدفوعاً بالهاجس ليصطف في رهط المنشدين على قيثارة الحزن الذاهبة إلى الأهل، فوقف بكل غموضه، وسريته ورغبة منه ليس بوضع ترددات صوته في تلك الآلة، كأنما ليؤرشف صوته فقط للمستقبل خوفاً من اليوم القادم له، عندما سيودع الجميع سرّاً في أحلامهم، فهو لا يحتاج لهذه الآلة لتصل رسائله إلى أهله، لأنه معتايش معهم باللحظة.
ها هو شاهين الآن على مقربة من هاروت، بوشوشات تجعله يتداعى إلى المجازر الأرمنية مبهوتاً، ينظر أحدهما في عين الآخر، وعندما جاءه الدور وقف كلاهما للحظة التقى بؤبؤ عين الأول بالثاني، وسرى إشعاع رهيب من عين شاهين إلى عين هاروت فانتفت حواسه كلها، وذهبت عنه كل تداعياته وهو يمارس وظيفته الروتيني، حتى وهو يراقب نائب العريف الفني الآلي على الجهاز، بينما يرّد لا إرادياً على تحيات المراتب فرداً فرداً بحيث تعبت يده من الارتفاع والانخفاض للتحية، أحس شاهين أن يد هاروت سوف تمتد لتحتضنه كمثيل له، وقد شدّه برغبة غريبة، وتوهم للحظة أن تكون رغبة مثلية شاذة غالباً ما تحصل في المعسكرات من طول المعاناة واشتداد الحرمان. وقام شاهين بإقرانها بحلمه المتكرر ليعاد هنا من وجهة نظر هاروت نفسه، وتتداعى إلى هاروت صيحات خالته وهي تخطف من حضن أمها القتيلة بسناكي عسكر المللي الهمجية، وهي طفلة في الرابعة من العمر، أخذتها عشيرة لتربيها حتى تبلغ ليتزوجها العم في العائلة الكبيرة.
وتجترح هاروت موجة من الذكريات، أقواها أنه شارك شاهين الآن في حلمه المتكرر، ففي كل مرّة تقوم الحشود باجتياح مخيلة شاهين، فيقوم البعض من الأرمن من بين الأوحال فيشار إليهم بأن عليهم المرور بأنفاق لكي يصلوا لصانعي التوابيت الفخارية، وينزل البعض في حفر محاطة بخشب مصاب بدودة الإرضة، وسلالم درجاتها آسنة، عليهم أن يجلسوا في قفص يتحرّك مثل دولاب الهواء، فيصلوا إلى فتحة تقلهم إلى سلم ملتهب يركبون القفص، وينقلبون رأساً على عقب لكي تتعلق نهاية القفص بسلم له فتحة ثالثة فيها إطار خشبي بلون شجرة التين، وفوقه أرض بها نتوءات مدببة صقيلة عليهم أن يسيروا حفاة فوقها، يقف عند محاور الفخار الدوّارة الخزاف يشار، وهو يدير دولابه، ويتطلع بسقف الغرفة مبهوراً، في غطاء التابوت الفخاري النادر الذي جلبته الجثث معها، ويقيس لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الموتى الدمى، بأن هذا غطاء تنور حرق الجثث، وليس لناؤوسه.
وحالما انتهى الضابط هاروت من تداعياته التي مارسها بعد وصول شاهين، انتبه إلى حيث يقول شاهين: أنا الجندي المكّلف رقم 9145891 شاهين هوسيب الصائغ، قال شاهين هذا بصوت جهير عال، متعمداً إخراج الملازم الاحتياط هاروت من تداعيه بعد أن استمتع كلاهما بالرواية في غفلة من تكرار عمل الرهط، وعمليات التسجيل الصوتي، ومع هذا فقد تعمّد شاهين أن لا يجعل الوقت بالنسبة للذين من حولهما يمّر بطيئاً، وكأنما هي لحظات بين تردد بأداء التحية وإكمالها بين المأمور، والآمر. وعندها انقلب لسان شاهين إلى لغته الأرمنية ليكمل رسالته إلى أهله وذويه أسوة ببقية الجنود من أقليات يبثون رسائلهم لأهلهم بلغة قومهم مثل الأكراد، والسريان، ربما لكي يتجاوزوا حواجز الخجل، أو لهواجس عدم افتضاح الأسرار العائلية، أو لنقل شفرة متفق عليها مع الأهل.
ولكن هيهات لأية شفرة أن تمّر دون مصفاة غيلان السلطة، حتى ولو لم يكن بالحقيقة شفرة. وقد لاحظ شاهين من تحت جفون عينه الثالثة، أن هاروت بدأ يتعرف عليه الآن، ليس فقط من حادث موقعة الربيئة فحسب، وإنما ليشبهه، أو يقرّب الشبه بينه، وبين جيرانهم بيت السنونو، هكذا كانوا يكنونهم، وهكذا تسمّرت عينا هاروت عليه، وابتسم كل منهما إلى الآخر بحذر، خوفاً من تجاوز المراتب، أو من تلعثم شاهين، وتوقف التسجيل، هكذا ظنّ هاروت لأنه لا يعلم أي جنون، وعلوم بداخل هذا القفص العظمي أمامه، وكم ودّ شاهين وهو يلقي رسالته، أن يرسل خواطره إلى هاروت، لكن يبدو أن هذا كان منشغل عنه حينها تماماً مثلما تحيّره انشغالات ثروت حمدي، وفكر شاهين بشكل حاسم أن ينهي اليوم الاتصال بثروت قبل أن يرحل دون نتيجة، وأن لا يبقي الأمر معلقاً حائراً من غير استنتاج، كيف لا وربما سيكون هو وسيطه، أو أمله في استمرار أبحاثه، بعد رحيله إلى العالم الثاني، فلربما هو القناة المناسبة ليسلط عليه الداء، وليرى ماذا سيكون من نتائج.
وحال انتهاء شاهين من تسجيل رسالته الصوتية حتى أمسك به نائب العريف الفني لينحيه على جانب وراء الملازم، وكانت يد الملازم قد لامسته قبلها عندما تقدم إلى دوره في التسجيل، لم يتذّكرها شاهين إلا الآن عندما أحّس بالفرق بين كلتا اليدين، فتذّكر روح الوفاق العميق الأثر، والآسر بينهما هو والملازم هاروت، ودرجات الاتقان العالي لدقات النبض المتشابهة، وقد عرف الآن لماذا أمر هاروت النائب عريف بجذبه هو، لا أن يقوم هاروت نفسه بجذب شاهين إلى الوراء، وذلك بغية تحاشي انتباه المراتب، مما يفسّر تجاوزاً بين الرتب، والعلاقات بين الضباط من جهة، والمراتب من جهة ثانية، وكم يود شاهين الآن في حالات كهذه أن يعانق المقابل له كأنما يعانق أباه، أو أخاه، ولو لم يعرف أحدهما الآخر. لكن شاهين أخذ ما أراده بأكثر مما أخذ هاروت، فقد استمتع شاهين باشراك هاروت في تذكر المجازر التي حدثت لأترابهما الأرمن، وتذّكر فطنته بسرعة الاستدراج، عندما ضغط لا إرادياً على إبهام هاروت برؤوس أصابع كفه عندما سحبه هاروت ليتقدم إلى الماكروفون، وتلك كانت البادرة الأولى، فقد رأى الآن كيف أن الأثر الذي تركه لا يمكن لحواس اعتيادية أن تنقله بكل صوره، ومعانيه التي لا يفسرها الكلام، ولا حتى النظر الطبيعي، فقد يكون النظر لتلقي الاستجابة، عندما يكون الجواب خبراً، فهاروت هنا قد قام بدور الوليد الرضيع الذي غذاه شاهين بنسغ المعلومات، فجّرت لدى هاروت لا من عند شاهين نفسه، وإنما من ذاكراته إلى مخيلة شاهين ذاتها، وإلا فما المتعة أن يعطي المتحكم مُتع لا يعتقد أن متلقيها على قدرها، وحجمها. أما المعلومات فإن العناء يستحق تلك النتائج، وهكذا ودّ شاهين للبرعم المتفجّر في هاروت، أن ينمو بطول مدة بقائه على الأقل لليلة واحدة يبثّ فيها الوساطة معه، لكن هاروت، وعلى عجالة اللقاء أفهمه أن مهمته آنية، وإن لديه الكثير من العمل في معسكرات القطاعات الأخرى، ليس على  محرك قلعة دزّه العسكري  وإنما أيضاً على قطّاع رانية، أوحلبجة، وهكذا.
لكن تلك اللحظات على قصرها سرّت شاهين وأفادته، فقد استطاع تمطيط الزمن، فأخذ وأعطى هاروت معلومات سوف تفيده مستقبلاً، هي رسائل إلى أهله، وذكريات لأصدقائه، ومعان ستظهر في أحلام هاروت مراراً، ليس ككوابيس، وإنما كحلول، وهي من جهة أخرى النبوآت التي يريد شاهين أن يطلقها على لسان هاروت بدعوة أهل الأرض للانتقال إلى العالم الذي تمناه له، ولكل الطيبين المغلوبين على أمرهم في هذه الأزمنة الرديئة من السنين العجاف.
عالم مثالي يُدعى إليه وهو الآن، رغم كل الثقة بنفسه خائف متردد، يتوسل التعلّق بهذا العالم الذي سيوعده قريباً، وقد تكون نهايته، ونهاية أبحاثه فيما لو كانت قد تسلطت عليه قوى شريرة، لذلك ورغم حرص شاهين الشديد بعدم البوح والإعلان، لكنه لا يقوى إلا على وضع ركائزه عليها، تعيده إلى ما هو عليه الآن من علة وقلق يجعلانه يرتجف من المغامرة بمرارة، لأنه قد خطى على درب اللاعودة.
ويفكر شاهين باليوم الذي تنطع لما هو أكبر من مقاسات جسده، وقدراته العقلية، وهكذا ودّع شاهين هاروت على عجل متأملاً بليلة سبيتها هاروت في خيمة أحد الضباط المجازين، القريبة من نادي المعسكر، أن يستفيد من التخاطر معه، بما قد يسمح به صفاء، وفراغ مخ هاروت المتعب، وليرى ماذا سيفعل، وما هو هذا الأمل، فليحاول للمرة الأخيرة أن يبث هاروت دعواته للتواصل بالرموز التخاطرية، وها هو هاروت يستجيب ليتذكر طفولته حين ولد شاهين، يوم كان بيتهما متقابلان، وكان عم هاروت يعاني من مرض السّل الرئوي، وهو في عقده الرابع، أخذته في أيامه الأخيرة من غيبوبة في طريقها إلى النهاية، وقد كانت هناك اعتقادات في بلدتهما سينقارة بأن المنازع لن يسلم الروح إلا بموعد ولادة أخرى من نساء البلدة، من الأقارب أو أصدقاء العم بطرس أو جيرانهم، وكان هاروت يومها يتوقع ولادة أم شاهين أخت الصائغ سورين الحامل في شهرها التاسع، كما سمع من أهله بمولودها البكر، وهكذا فعندما مرت جنازة العم بطرس من أمام دارهما، صرخت القابلة بهية بأن شاهين قد ولد نصف حي، وما كان من بهية القابلة إلا أن تسعفه بضربات على إليتيه، وقد رفعته عالياً من أقدامه، ابتسم هاروت، وهو يعود من تداعيه لشاهين، ومضى ليدخل خيمة الآمر الذي يستضيفه، ولما فرغ شاهين من هذا كله اتخذ طريقه مباشرة إلى ينبوع ماء عذّيب.

11
سار شاهين وهو يتبع تعليمات دخيله، فتبادر إلى ذهنه أن يستشف المكونات التي تقبع وراء تلك البوابة السحرية، وهل حقاً هناك عالم زاخر بالحضارة كما يصله من مرافقيه الذين لا يتركونه، وكأنهم في مناوبة مستمرة له، ومعه، وإليه، وهل هؤلاء هم بشر ماورائيون، أم ليسوا ببشر. فأجابه المرافق الدخيل: أجل إنه عالم متحضر أكثر مما تتصور، وإن هناك من البشر الماورائيون بيننا يتصرفون في ما بين الفراغات من أوقاتنا، لا تراهم، ليس لأنهم غير موجودين، وإنما لمحدودية قدرات استقبالاتكم المعرفية، ونوافذها المحددة، من حواس إضافية تفتقدونها.
وبدأ شاهين يفكر موقناً بالأفكار، وهو يسمع لدخيله الذي يضيف: فلربما يكون من أسباب تكاثر الماورائيين هنا، هو أننا الآن في محيط دائرة تواجدهم، ربما تكون بعض مئات من الكيلومترات المربعة بين قلعة دزة، ورانية، وسينقارة، ودياربكر، وفلسطين هذا المخمس المربع المساحة. ويضيف قائلاً: أما إذا نظرت إليهم من خلف زجاج الذوات، أو زوايا غير التي رسمتها قدرات أجسادكم فإنهم موجودون، ولكن محدودية قدرات الجسد، وتبعاً لمرونة الاستشفاف ما خلفكم التي تضعف كلما تباعدة المسافة، لا الزمن، فلو حصلتم على قدرة جسدية تكشفهم لكم، لرأيتم أنهم مثلهم مثلكم، غير أن أزمانهم لا تسير بنفس السرعة التي تسير بها أزمانكم، ولهم أفئدة غير ما لديكم، لا حاجة لهم لطعام مثلما تحضرونه، وتعتنون بطبخه، لأن لهم ما هو أهم، وهو غذاء الروح والعقل، هم بشر تطوروا بملايين السنين من التقدم، فاختصرت لديهم كل الأعضاء التي لا فائدة منها جيل بعد جيل، وتطورت غيرها، ومنها الجهاز الهظمي الذي أصبح أنبوب مستقيم، بمعدة صغيرة كالحويصلة، وكبر الكبد، وتضخم القلب، ولم يعد الجسد يفرز غير سوائل تخرج بقطرات مثل البول، أما الجهاز التنفسي فقد توزع على الأحشاء للاحتياط في حالات ضيق التنفس، وانعدام الأوكسجين، فتشكلت رئات، منها لتنقية ثاني أوكسيد الكاربون على غرار ما يحصل لدى النباتات في عملية النتح، ورئة لاستنشاق النتروجين، وأخرى لاستنشاق الهواء المذاب في الماء، تشكل في الأنف غليصمات مكروية دقيقة تنقي الأوكسجين من الماء.
ويضيف الدخيل بقوله: ونحن نتطور مثلهم، لهذا نقوم بالتجول في البحار بمركبات خاصة، ونخرج إلى نزهات في غابات أعماق المحيطات، لاكتشاف نباتات الأعماق التي نستخرج منها عصائر لأدوية، وأغذية، ومنشطات. أما المخ وتوابعه في الجهاز العصبي، فكل فص من الدماغ قد تشعب عمله وكبر، وصار للنخاع الشوكي أدوار أخرى استوجبتها الظروف المناخية، والتطورية في الجسم، فانتقل بعضها إلى الأحشاء وصار لكل منه مثيل احتياطي، وراحت ذوائب الأعصاب الدقيقة تتفرع لتكتسح كل ترسبات التي تحصل من جراء التقادم العمري، وبخاصة تلك الذوائب المتخصصة كرؤوس الأصابع، فأصبحت الأنامل كلوامس الاستشعار.
أما العيون، فقد صار لها خمس قزحيات قرنية، واحدة في الوسط، وأربع في الاتجاهات الأربعة، وللأذان أبواق استقبال تحت الجلد، وصارت حاسة اللمس ليست مختصة بالأنامل فحسب، وإنما استحدثت خاصية لمس مختلفة تقوم بها الأظافر لتنفذ أدوار لا تقوى عليها الأنامل البالغة الحساسية، وللأظافر إلى جانب ذلك خاصية تحديد الاتجاهات، فكلما طالت كانت أكثر فعالية، ولكن تقليمها ضروري فيما لو تجاوز طولها السنتيمتر الواحد.
أما الكليتان التي تمتلكونها أنتم، فبالإضافة للاحتياطي صار لكل منها أقمعة متخصصة بتذويب وتحليل الفضلات المستجدة من جوس العوالم الجديدة مثل البحار، وبعض الأجرام القريبة. وهكذا ترى يا شاهين أن عوالمنا ليست خيالية، بل واقعية جداً، ولكن بمقاسات حدود أجسادنا التي تطورت، ونحن ربما نكون أقل تطوراً من بشر يقيمون في عوالم أخرى من كواكب في مجرات أخرى، وسوف تعجب بأنه حتى الطفل لدينا يمكنه اكتشاف أسرار المعادن، والتميز بين الصالح منها، والبخس، وبين الثمين والخاسر. بعض حواسنا تساعدنا على اختراق الحواجز، وأخرى للتحلل إلى ذرات، والتواري، أو التشكل بهيئات بشرية جميلة، أو أشكال هندسية دقيقة أكثر من دقة شرائح الكومبيوتر لديكم، أو أضخم من شجرة السنديان، سأتركك ترتاح، ولكنني سأبث لك ما تريد من معلومات متى تحتاج التفكير بها، ومراجعتها.
وفكر شاهين في هذه القدرات التي ربما لا يمكن له أن يتأقلم عليها، ومعها، فكيف له أن يعيش هناك، ربما سيتم استخدامه في المخابر البايولوجية، للدلالة على مدى الفارق بين حضارتهم وحضارتنا، فهم كما عرفت لهم أعمالهم، وأدواتهم، ومعداتهم، فمثلما نستخدم الأجهزة المعاصرة فإنهم أيضاً يستخدمونها، ولكن بطرق وخواص غير التي نتداولها، وبذلك يكون حتى استخدامهم لنفس الجهاز، وبنفس الوقت غير مؤثر لأنه غير مكشوف لدينا، فمثلاً من يكون مسؤولاً عن استخدام الهاتف في المكتب والاتصالات العامة هناك، هل هناك مسؤول على نفس البدالة الرئيسية من جماعتهم، يوصلهم لمبتغياتهم، تماماً كما يحدث لنا، وحتى قوائم ورسوم مدفوعاتهم حتى يشمل الأمر الملفات، والأرشيف، وحتى إعدام المخلفات.
ويعود المتخاطر بمنطق آخر يحس شاهين أنه مرافق جديد في بداية خفارته معه، فينبري للحديث، وكأنما هو جواب على تساءل شاهين نفسه فيقول: أنتم عاجزون عن الخروج من نطاق أجسادكم، فكما استفدنا من قابلية النبات في التمثيل الغذائي، استفدنا من قابلية تكييف الجراثيم والحيوانات. جسدكم أسير لصدفة الهيكل العظمي، فمثلا تخلص الأخطبوط من عظمية هيكله العظمي، ونحن تخلصنا من تحدد وظائف الأجهزة، أما أنتم فحائرون بين إبدال الرأس من جسد إلى آخر، عاجزون عن الانطلاق خارجه، ونحن نتكلّم بأصوات مختلفة مع بعضنا بذبذبات قدرتها آلاف الغيغات لبعض الأشخاص، ونتلّون بعدة أشكال، ونتخذ هيئات مختلفة لكل عصر. نذهب إلى الأزمان، ونعود منها أمام وخلف، ونختص بكل صفات الأحياء، وحتى خواص المادة الحية والجوامد فإننا نتمثلها هي الأخرى. فقد استخلصنا الهورمونات من عصارات الغدد، فقلبنا الأجساد رأساً على عقب، ففعل الهرومونات أكبر من الأغذية، وعصاراتها ذات مفعول أكبر آلاف المرات من الأغذية الطازجة، فما بالكم بالأغذية المطبوخة.
أما الجانب النفسي، السايكولوجي فهو لدينا ذلك الصوت الداخلي في الأنا، هو صوتنا الراغب في تحقيق الذات خارج إطارات قيود الجسد والصّدفة، والحواس المعّقدة، والمقيّدة التي تأمره بعمل ما تريد، وتحّرك الأشياء بإرادتنا، لا شيء يحددنا لا صوت، لا جوع، لا ضيق نفس. فإذا أردت الغناء أصدرت أوامري لأية حنجرة إنسانية هنا، أو حنجرة بلبل، وإن أردت العزف أحرّك أية آلة موسيقية فتنشد لي لحناً يتوافق ومخيلتي الراغبة فيه. بإرادتي وعزمي تتحرك الأشياء عزفاً، أو دوراناً، وهكذا فإننا قمنا بتوظيف عناصر الطبيعة، وبخاصة الأحياء لترفيه بشر عالمنا.
ولما شطح تفكير شاهين إلى الجانب التعليمي، أجابه المتخاطر بالقول: إن التعلّم إيحاء نصدره لأنفسنا بالقراءة من الكتب أولاً، والحواسب الآلية ثانياً، ومن أفكار الآخرين ثالثاً، وبمحصلات استيعابهم العام لفكرة، أو كتاب، وهذا المصدر الأخير أهم مصدر نستقي منه، ففيه تبادل المعلومات، ومناقشتها لتطويرها تخاطرياً، فكتبنا جماعية صورية، ونقاشاتنا متواردة ببرمجة غير عادية، فقد تجاوزنا كل امكانات النيت، وصارت شاشات التخاطب ذات أحاسيس عالية تشابه حواسنا، ولكنها تبقى آلية لا روح فيها.
ويأتي أهم الأمور التي تفكر بها، وهي الجانب المادي والاقتصادي، إننا تبنينا مبدأ أن لكل فرد حسب جهده، لكل شخص حسب عمله، وألغينا موضوع فائض القيمة، لأن الإنسان لدينا هو أثمن رأسمال، فألغينا الضرائب لأننا نحن المطالبون بدفع الضرائب للأفراد لا هم، وبدلاً من تكبيل الإنسان لدينا بشروط مجحفة، وقيود مادية كالأغلال، حاولنا أن نوفر له الرفاهية، ولا نزال بكل ما لدينا من موارد، وقدرة، ووسائل نسعى لأن نلغي العبودية للمال، ورأسمال، وارتهان الإنسان لها، ولأصحابها، إن ما يهمنا هو قدرة هذا الإنسان على الإبداع في مهارات فكرية، ويدوية، فكلاهما ذو أهمية توزازي الأخرى، لأن التطور هو عملية جدلية بين الفكر واليد، فما تبتكره اليد يؤثر في الفكر، وبالعكس.
إن اللّذة هي معاناتنا الوحيدة، ليس في تذوقها، وإنما في كيفية اختيارنا لها، لكثرة المذاقات، وتنوع الطيبات، واختلاف الأطعام التي تفتقدونها، ولا تحسون بها من طرفكم، فلكم قابلية محدودة في حاسة الذوق، أم هنا فللتذّوق تخصصات متعددة، لن يستوعبها عقلك الآن إلا بالممارسة، وبتعمق التجربة في عالمك الجديد، أطايبنا غالبها غير ملموسة كتذّوق الأطعمة، والأشربة، هي أطايب ذهنية في كثيرها، وما يدخل فمنا ليس إلا منعشات للذاكرة الذوقية في الماضي بعالم الأرض، تساعد على استدراجنا لتحسس مناسب في المعرفة التذوقية الجديدة، تعطي كلها دفعات من الأحاسيس، وزخات من المتع المشحونة بالتوق للحياة، والعمل، والمحبة، والتواصل.
أههه تريد أن تعرف ما علاقتنا بالعالم الخارجي، والأجرام الأخرى، نعم نحن نتفاعل مع الأجرام السماوية، بأزمانها ومكوناتها وكنوزها، وهناك توابع نستخدمها مثل المذّنب هالي ،، هه هه هه إنه مركبة تأتي إلينا بالمواد الأولية، كتلة ثلجية هائلة، تتبخر بالكايزر، فنضغط غازها في جرابات الغلة المستقبلية، مياه عند مواسم الجفاف للشرب، والسقي، لا يعصى على طفل في الخامسة كيفية إسالتها من جديد.
ولك أن تعرف أن الحياة في عالمنا، عالم فوهان المثالي، هي أنها لا تتلبس الحياة بنفسها، إلا عند انسلاخنا خارج إرادتنا، وللمحافظة على أي نوع من الأجناس الأرضية التي كنا معها خارج هذا العالم، ومنها نوعنا الذي نعتز به، فإننا نجري تجارب لتطوير قدرات المادة العقلية فيه، فقد تجاوزنا كثير من وسائل صون النوع، فغلبنا تصيّر الكائنات، وجعلناها أمصالاً نحقنها في أوردة كائنات صغيرة نجمدها في هالي، بعد أن غاب كوكب الأجداد نيبيرو، وبانتظار عودته بعد مائة وسبع وثلاثين سنة من الآن، في عام 2013. أي عام 2150 حين يبدأ مدار فلك الدلو في مجرتنا، وسيستقر هو الآخر لنفس المدة، أما هالي فلن نعجز في انتظار دورته القادمة فلدينا القدرة على مدّ ذراع هلامية تصل إلى مكامن المخازن، ونأخذ ما نأمرها بجلبه في ثوان. لنا وسيلتنا في تسريع زمن قدوم هالي أيضاً وقت الحاجة الملّحة، وإمكانية إخراجه من مداره، وتحريكه في مدارات نريده أن يزودها بالمعلومات، ونعيده لمداره كما كان مع حساب زمن إخلائه المدار، وحساب مكان عودته المضبوطة بعد زمن الإخلاء، ورحلته في مهمة، ولكن لقدراتنا هي الأخرى حدودها، أي إلى الأماكن التي لا تصل إليها إشعاعات دماغنا، كالتأثير على نيبيرو بالعودة مثلاً، فنحن نقود القدرات الأقل منا، وتتحكم بنا من جانب آخر قدرات أقدر منا، نسعى لمقاومتها.
وبالطبع لا نرسل أية محفوظات دون رقابة فهرسية، بما تسمونه بالحاسوب لديكم، ولكننا قد وضعنا أيضاً برامج لصون المحفوظات، وتجديد فهرستها، وترقيمها للقابل من الأجيال، والعصور الجديدة، فهناك وسيلة الحفظ في ذاكرة أصغر الأحياء من ذوات الخلية الواحدة، قمنا بتطوير الأجهزة المتحكمة بقدراتها الذاكرية، وربط هذه الأحياء في منظومة محرّكة للحيوية، والدينامية بتفاعلات ارتقائية. انتقلنا في مرحلة لاحقة لأحياء معوية الجوف، واستفدنا من الفراغ المائي لها، فطوّرنا قابلياتها الوظيفية للحفظ، وكذا فعلنا مع الإسفنجيات التي ساعدتنا بقابليتها للامتصاص بتطوير أفعال التداخل في الخزن وتطويع وظيفتها الفسيولوجية لوظائف بايوتقنية عالية التقدم.
وقد ابتكرنا من طريقة انتقال دورة الحياة لبعض الديدان الطفيلية، وسيلة انتقال المحفوظات بدورة تصونها من أية عوارض فيروسات اللاتهام والتعجيز في الوظيفة، أو في الاضمحلال غير المتوقعة، ولقد استفدنا من الخزن في جذوع، وجذور الأشجار معلوماتنا الحيوية من خلال وسيط حي ضيئل الجسم، مجهري كالأميبا، تتشرنق متى أحست بالخطر، وتتخذ لون وشكل البيئة التي حفظت فيها، وهذه الشرنقات ليست كشرنقة الفراشات، ودودة القزّ متى ما اكتملت الحشرة ثقبتها وتطير، لقد أوقفت علومنا دورة هذا الكائن الحي عند حدود ما قبل الاكتمال، والبقاء في حالة التشرنق، أما الانتقال إلى دورة قادمة، فقد حورناه إلى تسرب هلامي لمحيط جديد يستخدم المادة الصلبة غير الحية، كما يتسرب الماء بين الرمال، والصخور وفي التربة، وعند ترشحه يتجّمع الماء زلالاً من جديد.
إن شرنقة واحدة من هذه الشرنقات، تحتوي على مليارات المحفوظات من الأمصال التي صغرنا إليها أجساد لعقول عبقرية، وأعضاء بشرية نادرة من الأرض للمستقبل، لا تنفتح إلا بالوقت المناسب لاستعمالها، أي للوقت الذي يأتي الدور عليه فتأخذ الشرنقة وقتها الكافي في شغل مكانتها اجتماعياً، ويكون دور التسليم في انتظارها، لأن الشغّالين الذين أوعزوا لدخولها إلى دور الشغل سوف يسلمون لهم الشغل، ويقوم هؤلاء بشرنقة الجيل الذي أيقظهم، وهكذا هناك أجيال أخرى تتوالد أنشطارياً تارة، أي اختزالياً، وتكرارياً تارة أخرى، ليس كبناء الخلية الحية، وتجددها، وإنما بعد أن قضينا على خواص مرض السرطان، استفدنا من مميزات تكاثره، وطورناها، فاتخذنا من الانقسام الذاتي المتضاعف من انقسام بمائة وستين مرة إلى خمسمائة مرة للمادة الحية، وبخاصة الخلايا المتخصصة والموهوبة منها، كما استخدمنا جهاز خاص صار بيولوجياً للذاكرة، فصارت للذاكرة خزانات حيوية تتكاثر تلقائياً، وتتوالد لتحافظ على المعلومات وتجددها، أو تطورها تلقائياً فتخرج منها نسخ راقية غير ما حفظماه، وعند مراجعتنا لها نُذهل من امكانات الخلق، والإبداع في المعلومات المخزنة بذاكرتنا الفردية، أو الجمعية.
ومن أنواع الحفظ الأخرى ما يختص بحفظ المعلومات، وأخرى لحفظ الوسائط المناسبة والوسائل بنوعيات، فوضعنا كل وحدة حجيرة تشبه ما يسمّى لديكم بالماسة. أما بالنسبة لفتحها فعلى الرغم من سهولته فهو صعب للغاية. إنها هو مثل ما يشبه “البقجة” وهي حاوية مثل البستان يستطيع الباحث الدخول فيه بسهولة، لكن هذا الدخول وبال على الذي لا يحسن التعامل معه، فهذا العالم من الآرشيف يساعد الباحث على الدخول في أدّق التفاصيل، لأنه يعيش ظروف وحال المادة المؤرشفة،
أما أفعال لصوص المحفوظات، فليس لأخذ المادة الجاهزة فحسب، وإنما السطو على تفكير الباحث، فبمجرد ولوج اللص إلى مرموزات الباحث، وحلها يكون قد سطى على كل شيء. في حين لو تسلح الباحث بوسائل دفاعية، وهجومية، ومعرفية بعالم اللصوص هذا، فلسوق يكون في مأمن من القرصنة، لهذا وضعنا أقفال مرموزة، لا يفكها إلا ثلاثة، كل منهم له جزء من المرموزة، من عبارة، أو رقم، أو لغز ما.
إن لكل هذا الذي تجمع من موروثات في عالمنا المثالي، قد جمعناه في محفوظات ولدينا أرشيف لكل ما لا يمكن للبشر تصوّر: أرشيف المملكة الحيوانية، الأجناس، الموسيقى العلمية الكلاسيكية، الموسيقى الشعبية العالمية، الحرف الشعبية، أرشيف لكل عباقرة العالم، ولكل لصوص العالم، ولقياصرة العالم السابقين والمعاصرين، إضافة لأرشيف المملكة الحيوانية، والمملكة النباتية، وأرشيف المادة والكون.
وأهم أرشيف لا يمكن لكم تصوّره هو أرشيف أحلام العالم، ولحسن الحظ أن هناك تشابه كبير بين رموز أحلام كل حالمي العالم، مما يسهل علينا تصنيفها، وحل رموزها. أما الحلم فهو رجوع آمل للماضي، والتحرّك مع الآخرين في زمانهم، ومكانهم، وعصرهم كأن المسافر إليهم قارئ معاصر لأفكارهم.
أما ما نفتقده فهو فنون الطبخ، والآزياء والماكياج. لكن لدينا وسائلنا في تغذية الجسد داخلياً، وخارجياً من خلال المرونة التي صارت طواعية بفعل الممارسة لأجيال، وقد اختصصنا بألعاب التسلية الذهنية بدلاً عن ألعاب التي تزاولونها بأقدامكم، وقد قادتنا هذه إلى تطوير كثير من النظريات الجمالية التي كانت تسود عالمنا.
تعال إلى عالمنا، وعش سعيداً في وطن أسعد، الإنسان فيه أثمن شيء، وما هي إلا خطوات قليلة معدودة، وتكون واحد منا، واحد من رعايا عالمنا، واحد من منظومة هذا العالم الراقي، عالم فوهان المثالي.
في هذه الأثناء كان شاهين قد وصل إلى حيث نبع ماء عذيّب، وقد شعر بتعرق، فأراد أن يغسل وجهه، فسلم على ثلة من الجنود كانوا يدخنون قرب النبع، وهو مغمومون، فسألهم شاهين عما يحزنهم، فأخبروه بأن أفعواناً كان قد التف على جسد الآمر ثروت، فعصره وسحق عظامه حتى الموت، وهم الآن نازلون إلى مقر اللواء لكي يجلبوا الأكفان، ولوازم الجنازة ليكفنوا الآمر، ويأخذوه إلى مقر الفرقة.
هذا الخبر كان أخر نبأ سمعه شاهين قبل أن يرحل، وهو مما زاده تعرقاً فقام ليغسل وجهه، وما أن وضع الماء على وجهه، ونظر إليه الجنود حتى تغيرت ألوانهم، فاصفرت وجوههم، وغلبهم الهلع، فما رأوه قد هالهم، لأنهم وجدوا ملامح شاهين قد تغيرت، فوجهه بلا تقاسيم، لا عيون ولا فم ولا أنف ولا أذان، لا شيء سوى قرص أبيض، فهربوا مولين الأدبار، في وثت انشغال شاهين بالتغسيل، لهذا لم ينتبه إليهم، كان منشغلاً في تأمله، واستخارته الأخيرة في العوم بعد يغتسل، وقام ليحسم الأمر، فغطس في الماء، وهو بكامل ملابسه، وفي عين الوقت حانت لفتة من أحد الجنود الهاربين، إلى حيث كان شاهين واقفاً على حافة بركة عين عذيّب،، فاستوقف رفاقه لخوفه  من أن الرجل زميلهم شاهين قد انتحر، وهو يرمي نفسه في البركة التي لا يجرؤ أحد على السباحة فيها، وعندما عادوا ليتفقدو الجندي المدعو شاهين، فلم يجدوا له أثر.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *