أحمد محمد أمين : لغة ُ الطرْق والصقل عن منحوتات الفنان فيروز حيدري

الأستاذ أحمد محمد امين
الأستاذ أحمد محمد امين

في الطرف الأيمن من صالة المطالعة في مكتبة / järfälla / فسحة ٌخُصّصت لبعض منحوتات الفنان ” فيروز حيدري ” الإيراني المُقيم في السويد : بضعُ بجعات زوجية أو منفردة ، مُنحنية أو واقفة . وستة أحصنة توائم  لها محورٌ يُمكّنها أن تُطوى مثلَ كتاب كما لو كانت حصاناً واحداً أو تُفتح وتكون ستة ًتقف على قوائمها الخلفية مثل حصن السيرك . وكلّها من الخشب / كما قال ، حتى لوحته النحتيّة المتميزة حجماً وابداعاً عن سواها  / يسترعي انتباه قرّاء الصحف الداخلين أو الخارجين منها .
ليست لهذه الأعمال اسماءً وعناوين ، فمن منا لا يعرف اسماء الطيور المحيطة بنا ، ولا سيّما البجعة . لكنّ / فيروز/ انْسنَها وأغواها وأزاح عنها نزعة التوحش والتوجّس والخشية . وها هي أمامنا مثل بهلوانات السيرك واقفة ومنحنية تعرض بذخ جمالها واناقتها وصفائها ومرونة حركاتها الطوعية وكأنّك تراها حيّة نابضة وليست من خشب صًلد . وقد يتساءلُ رائيها : أيّ ازميل منحتْ هذه الكائنات حركة ً أشبه برقصة الباليه ؟ البجعة ُمنحنية الى الأمام ليُلامس منقارها موطيء قدميها . تشكيلٌ في منتهى الترف والبذخ مابين الرجلين والعنق . وما بينهما بوّابة ٌ عشوائية ، فتحة ٌمن الفوضي الخلّابة . … والمهارة ُ / مهارة الدقة المتناهية / تكمن في انسيابيتها الملساء خارجة عن متن النتوء والبروز . بدءاً تصورتُها منحوتات زجاج . لكنّه / التقيته مصادفة / اكّد أنّها من الخشب وأجرى عليها لمسات من خبرته فطوّع الخشب كما لو كان زجاجاً صقيلاً . تركتُ البجعتين : البيضاء والبنية على وضعهما خلل الإنحناءة السرمدية التي تُبهرُالنظر ما دامتا قائمتين في سديم منظورهما، لأنتقل الى اُخريين واقفتين . كلتاهما في وقفة قدسية لا هي رقص ولا هي صلاة ، بل استغراقٌ في لحظة جمالية خاطفة . لكنّ / فيروز/ صنع من اللحظة المتماهية خلوداً ، كينونة تُعمِّر الى ما لا نهاية . ما ابدعَه ؛؛ fairooz-haidari 1أزميلُه التقاطُ زمن أشبه برمشة عين . البجع الأربعُ / بيضاوان وبنيّان / ستظلّ محصورة طيّ وضع هندسي صارم . تصوّروا أنّ / فيروز / أخضع كينونة البجع نبضاً وسخونة وعَرضاً راقصاً لمعادلة هندسية صارمة لها جدلية الإبهار المتناهي والمتماهي ببعديها المنظور واللامنظور .لكنّ هذه الحياة التي ترفُّ بين رموشنا وحدقات عيوننا هي محضُ خشب ميّت منحه أزميلُ صانعه مدىً رؤيويّاً ليعيش بيننا ومعنا كما لو فرداً من أفراد العائلة .
أمّا المنحوتة / اللوحة / فهي انجازٌ حلميٌّ خلّد لحظة  التكوين ، بقعة ٌبيضوية زهرية قُدّتْ من الوان متداخلة فوق مُسطّح ٍ داكن ، يتوسطهما إثنان / رجل وامرأة / يتعانقان في تداخل متعوي أسيان ، وربّما كانا وسط حلم عابر أمسك به / فيروز/ ليُؤطره في لحظة خلود . ومّمسك الحلم كالقابض بكفيه على الهواء .، وهو شيءٌ من المستحيل ترويضُه ، لكنّه روّض لحظة حلمه ، قبض عليها ، استقدمها شكلاً وحضوراً. .. اذاً / امرأة ٌورجل / يتشابكان : الأفخذة متداخلة ، والجسدان متلاصقان ، والأيدي تحتضنُ وتضغط على العنقين والظهرين خشية الفلتان . تاللحظة ُخلودٌ يتطهّرُ ويتمظهرُ ويعلو ولا يُعلى عليه . وميزة الفن / عبر هذا اللقاء الجسدي / أنّه قابلٌ للتأويل . تأويلٍ يتماهى ويتشظى ويتوارى خلف أيّ مصطلح أودال . وهو ، أيضاً ، تراكمُ طبقات fairoz 2لا يستقبلُ تفسيراً واحداً ، فمَنْ بوسعه أن يوقف الزمن / غير فيروز / ويمنح ذي اللحظة عنوانَ ماهيتها . يضعها أمام كلّ عين . وهي المستورة والمُغيّبة والسرّية والسحرية والفاحشة إنْ بان وتمظهر للعيان . لكنّ ازميله بجاذبيته وسحريّته ومهارته وقدرة ابداعه أوصلنا الى دخيلة المعاشرة الجسدية ضمن حقها المشروع ، ثمّ اعلنها للملأ بهذه القدسية .لقد اراد أن يقولَ لنا : إنّ الجنس في لغة الفن مشروع ٌخلويّ بمنأى عن التداول العياني . مقدّسٌ بكلّ تراكماته الجسدية والروحية واللغوية والفكرية والعشائرية والحياتية . فهو المُخبّأ والمُغيّبُ والمفضوحُ اذا انفلت عن غيهب مستوره . ويختلف ايقاعُ ازميل / فيروز / في هذه المنحوتة / اللوحة / التي هي في نظري حياة ٌ ساخنة ، هنا اللونُ والحركة التي لا تكلّ ، والتمازجُ والتداخل والتماوجُ والخصوصية والحذرُ ماتنشغلُ بها اللحظة ُالمُخلّدة فوق هذا المستطيل العاتم . / جسدان / ابيض ورصاصي يلتقيان في لحظة حبّ .  وليس الحبّ أعمى كما يُقال ، انه اصرارٌ صادمٌ عارمٌ مُقتحمٌ جبّارٌ صانعُ حياة ، مُخلّد النوع ، معجزة ٌ تولدُ معجزة . يتمخّضُ عن كيان آخر . وعبر الحبّ يجري تدفقُ الكيانات مع جريان الزمن . اللوحة ُ المنحوتة ُ تتفتّق ديمومة ًفوق بساط مورّد .
جسدان بسيطان في الظاهر، خرجا من ازميلٍ بلا ضجّة ولا تقعّر ولا فذلكة ، لكنّ مَنْ يفهم لغة الفن ويتعاطاه يعرفُ كم بذل صانعه من وقت وجهد ، وكم ، وكم ضربة ً نالت هذه المنحوتة ، وكم ساعة جهد اريقتْ في انجازها . هي ، بكلّ جماليتها وعنفوان بنائها بسيطة ، لكنّ المعنى كبير ، شاسع ، مفتوحٌ للتأويل بقدر فضاء العقل وشساعته . قوة ُ المنحوتة في ايقاعها المتنوّع النائي عن التعقيد . هي ، برغم كيانها المشخّص ، اشارة ٌ وايماء وزمنٌ ينفتحُ ويمتدّ من مبتدأ الخليقة حتى ساعة انطفاء الحياة .
فيروز / مع قلةِ معروضه وبساطةِ عَرضْه / كان اصيلاً ومُتمكناً ، فأرانا بدأبه وصبره مكمنَ ابداعه . حسبُه أنّ لديه حشداً من هذه المُجسّمات الفنية التي أدهشتنا وجرت بنا في أفضيتها منتقلة ً بنا من محطة الى محطة من دون شعور بالملل والسآمة …..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *