داود سلمان الشويلي : التشابيه ؛ صفحات مروية عن الايام الخوالي (2)

تنويه :

اليك يا من سألتني – اعزك الله – ما كنت ترغب بقراءته من صفحات عن الايام الخوال ، وما حدث فيها في مدينتي 0

     انا داود بن سلمان الشويلي ، وضعت اسمي على هذه الصفحات لا لشيء سوى لانني قمت بعملية تنظيم وتدوين احداث سجلتها ذاكرة المدينة 000 فكان القسم الاول الذي حاولت صبه في قالب ادبي فني ، وعند الانتهاء من تدوينه ، رأيت ان من يقرأ هذه الصفحات سيقف اكثر من سؤال في طريقه ، لما فيه من ثغرات وفجوات ، ليس في نوعية الكتابة ، او في فنيتها ، وانما في غياب بعض الاحداث ، فدفعني ذلك للبحث وطرح مئات الاسئلة وتقصي الحقيقة في عقر دارها ، فكان القسم الثاني وهو (التقولات ) التي جاءت بمثل الهوامش التي يدونها قاريء كتاب ما يعرف عن موضوعه اكثر مما يعرف مؤلفه ، لهذا انبهك – حفظك الله – وانبه من خلالك القاريء اللبيب الى ذلك 000 والسلام عليك ورحمة الله وبركاته 0

مرتب ومنظم الاحداث

(8)
:- جاء الخير 00
همس سليم أبن زاير كاظم البناء متهكما ً، بهاتين الكلمتين في اذن هادي ، الذي يجلس على يمينه في غرفة الجامع ، وهو يحاول اخماد جذوة أبتسامة تريد الافلات من بين شفتيه0
رد عليه هادي قائلاً : كما تقول 0
كان صوت منبه سيارة ( الفورد ) السوداء يتعالى في الشارع أمام باب المسجد صاخباً ، ينبيء عن وصول الحاج فريّح وجماعته ، فضاعت في اذن هادي كلمات زميله جمال الذي كان يجلس الى يساره 0
كان يرافق الحاج فريّح ، كعادته عند ما يضطر لاستخدام سيارته ، ثلاثة من الرجال احدهم جاسم الاعور ، الخادم المطيع ، كما يحلو لبعض شباب القرية ان يسميه ، اما الاثنان الاخران ، فقد كان الحاج يبدلهم مضطراً ، اذ إن الصدفة وحدهاهي التي تقف وراء الاختيار العشوائي لهم 00 ويعتمد ذلك على من يكون جالساً في مكتبه وقتذاك ، او من يصادفه من معارفه واصدقائه 000 ولم تكن حاجته لهم كحماية ، ، وانما ليساعدوه في دفع السيارة عند عطلها ، وما اكثر اعطال سيارة الحاج ، حتى اصبحت مثلاً يضرب به في ذلك 0
انتبه خبالو الى صف الجالسين امامه ، فها هو المله أبو ناجي يتصدر المجلس قريباً من المنبر الخشبي الاسود ، وقد ترك مكان الحاج شاغراً تحت لوحة مؤطرة لآية الكرسي معلقة على الجدار المقابل لباب الغرفة 000 فيما جلس الي جهة الجدار الايمن المحادد للشارع العام كل من ( شرجي قامة ) و     ( حميد الطويل ) 000 اما في الجانب المقابل لهما فقد جلس كل من جمال ، وهادي ، وسليم 0
سأل خبالو نفسه  تلك اللحظة  وهو يُنهـِض جسده من الأرض المحاذية لباب الغرفة : ايهما الاسرع في النهوض ، هو ام المله ؟ وعندما لم يجد الاجابة عن ذلك السؤال ، وجد ان الجميع قد نهضوا ، فيما الحاج فريّح يمد يده ليسلم على هادي ، اذ لحظتها رآى يده في يد هادي وهو يقول :
:- كيف حال الشيخ الوالد 000 منذ مدة وانا لم أره ؟
رد عليه هادي بهدوء وادب :-
:- الحمد لله 00 انه بصحة جيدة 0
تساء ل خبالو مع نفسه بعد ان اجتازه الحاج ولم يسلم عليه :هل نسيّ ان يسلم عليّ ام انه تركني متعمداً ؟  ولأنه لايريد ان يجيب على هذا السؤال بنفسه ، ثبت نظره على جاسم الاعور ، الذي كان يقف مباشرة خلف الحاج ، ومع نفسه قال : ياله من سمسير قذر 00 سبحان الله ، اعرج واعور 000 ولم يسلم عليّ 000 انها عقوبة كبيرة 000 اعوذ بالله من الشيطان الرجيم000
تناسى خبالو عدم تحية الحاج له ، وراح يسأل نفسه لماذا لم يسلم عليه هذا الاعورالسمسير القذر ، الذي عاقبه الله بالعرج والعور  ؟ ولكي لا يترك لخياله ان يصور له بعض الاشياء التي ستدفعه لضرب جاسم الاعور ، حاول الخروج من الغرفة 000 وفي لحظة تحركه عبر باب الغرفة ، سمع صوت الحاج يأتيه آمراً :
:- خبالو 00 اجلس 0
عندها ، عاد الى مكانه وجلس ساكناً ، هادئاً ، تعالت أصوات الجالسين مرحبين بالحاج الذي اخذ مكانه ، فيما وقف جاسم الاعور في زاوية الغرفة القريبة من الحاج 0
كان المله سريعاً في عمله ، اذ راح يدس الوسائد خلف ظهر الحاج والى جنبيه ، ولسانه يلهج بعبارات الترحيب 0
رد الحاج بكلمات غير مسموعة على عبارات الترحيب التي اطلقها المله ، وجاسم وحميد الطويل ، وشرجي قامه، وخبالو الذي تعالى صوته بعد ان سمع اصوات الاخرين 0
:- الله بالخير عمي الحاج 0
:- الله بالخير خبالو 00 ها ، صرت آدمي ! ؟
قهقه المله بصوت مسموع وهو يرنو ببصره الى حيث بجلس خبالو قرب الباب ، اذ انتشرت احذية الجالسين من حوله 0
صاح جاسم الاعور :
:- هذه بركاتك ياحاج 000 بركاتك التي اسبغتها على من يحبك 0
ردد الحاج بصوت خاشع :
:- استغفر الله 00 والحمد لله 0
اسرع خبالو ، ناهضاً من مكانه ، راكضاً الى حيث يد الحاج الممدودة في حضنه وأخذ يلثمها بشفتيه اليابستين من البرد 0
صرخ الحاج فريّح وهو يسحب يده كالملدوغ من تحت شفتي خبالو :
:- استغفر الله 00 استغفر الله 0
ثم ربت على ظهره متابعاً استغفاراته :
:- استغفر الله 00 استغفر الله :-
اسرع جاسم الاعور ، وسحب خبالو الراكع امام الحاج 000 وراح يدفع به بعيداً عنه ، و أوصله الى مكانه قرب الباب ، واجلسه 0
:- اجلس ياخبالو 0 صاح به جاسم الاعور 0
وقبل ان تهدأ انفاس خبالو ، بعد ان حل جسده قرب الاحذية ، كان صوت الحاج فريّح مازال يردد استغفاراته 0
عاد جاسم الاعور الى مكانه 000 عندها سأل الحاج فريّح المله قائلاً :
:- ها ملانا 00 هل اخبرت الشباب عن سبب اجتماعنا ؟
تحرك الجسد المترهل في مكانه 000 وسمع الحاضرون صوت ريقه وهو يبتلع ، قال :
:- الحمد لله والشكر له 00  ثم مد يده الى عمامته البيضاء وعدل من وضعها على رأسه ، وتابع قوله:
: – ان الله قد انعم علينا ، نحن أبناء قريتكم برجل عظيم ، خدم الدين والناس 000 رجل الاعمال الصالحة 000 وانت هذا الرجل يا حاج ، وكل شباب القريه وشيوخها ، رجالها ونسائها 000 يعرفونكم يا حاج 000 يعرفون افضالكم ويعرفون 0000
: –  لقد بدأ التملق 00 والكلام المدهون 000 قال هادي مع نفسه وهو يستمع لكلمة المله 00 فيما تململ جمال في مكانه ، وهو يخاطب نفسه وكأنه يحدث احداً : سبحانه الله ، هكذا تزّور الحقائق 00 سبحان الله 000 اما سليم فقد نظر الى زميليه نظرة حاول ان يوصل لهما ما حدّث به نفسه ، اذ قال من بين شفتين مضمومتين ولسان ثابت : ياله من رجل متملق 000 اتسمعون لما يقوله هذا المله الغبي ؟
كان صوت المله مازال عالياً ، فيما أصبح لون وجهه بلون الدم 000 وراحت بعض قطرات من العرق –  رغم برودة الجو – تتجمع على صفحة الخدين اللحيمين 0
:- وقد كانت ليديك الكريمتين ، ولعقلك الكبير دور في بناء هذه القرية 000 ولفظلك في بناءالمسجد مكانة كبيرة عند الله العلي القدير 000 وقد سارع شبابنا لحضور هذا الاجتماع عندما عرفوا انكم انتم صاحب الدعوة وعرف الشباب مرادكم من هذا الاجتماع 000 وهم يعرفون عظيم فظلكم وانتم تخدمون قضية امامنا الحسين 00 و 00
قاطعه الحاج فريّح بعد ان ارتاحت نفسه لمثل هذا المديح ، موجهاً سؤاله الى هادي :
:- ماهو رأي والدك في ذلك يا هادي ؟

(9)

كان فرح مهدي عظيماً بمقدم اخيه هادي وصديقيه سليم وجمال 00 رحب بهما كثيراً ، عانقهم اكثر من مرة ، قبلهم في وجوههم 000 ربت على اكتافهم000 سأل عن احوالهم وهم مازالوا واقفين 0
كان مضيف القصب الذي دخله الشباب الثلاثة في بيت الزاير عبد الجليل اخي الشيخ عبد الكريم والواقع في احدى  القرى البعيدة عن مدينة الناصرية ، قد فرشت ارضيته بالبواري الصفراء ، فيما مدت بحذاء ركنه الطولي المقابل للباب سجادة صوفية ملونة 0
جلس الاصدقاء الثلاثة عليها متكئين على وسائد وضعها لهم مهدي خلف ظهورهم 000 وعلى الجانبين 0
:- اهلاً ومرحباً بكم 0
كانت الجملة الوحيدة التي راح مهدي يرددها أكثر من مرة امامهم ، وهو باسم الوجه 0
:- اهلاً ومرحباً بكم ، شرفتموني 0
وكمن يريد ان يقطع سماع تلك الجملة ، سأل هادي أخيه مهدي قائلاً :
:- كيف حال العم ، يا مهدي ؟
اجابه مهدي وهو يوزع طاسة الماء الكبيرة ( الفافون ) بين أصدقائه الجالسين :
:- كلهم بخير ، أخبرني عن احوال الوالد ، والوالده ، والأخت 0
اجاب هادي وهو ينهض من مكانه ، وكأنه يريد مغادرة المجلس :
:- كلهم بخير ، ويسلمون عليك 0
وعندما انتهى الجميع من شرب الماء ، استأذن هادي من أصدقائه ، ثم خرج 0
:- اهلاً وسهلاً 00 كيف حال زاير كاظم ، يا سليم ؟
رد سليم :
:- بخير والحمد الله 00 وانت كيف تسير الامور معك ؟
اجاب مهدي ، بعد ان وضع طاسة الماء قرب ( الشربة ) وجلس قبالتهم :-
:- انا بخير ، وانت يا جمال كيف حالك ؟  وماهي اخبار  الجماعة ؟
صرخ سليم كا لملدوغ :
:- ما هذا الكلام الملغوز ؟
بأعتذار قال مهدي :
:- لا والله 00 لا لغز ولاهم  يحزنون 00 انت تعرف بأننا نعدك اكثر من أخ 00 ولكن يا حبيبي كلمة الجماعة قد تعودنا على نطقها 00
قطع جمال حديث صديقه مهدي ، محدثاً سليم بأ ستفزاز مقصود :
:- ولماذا لا تكون انت مع الجماعه يا سليم 00 ها ، لماذا ؟
:- دخلنا ( بالحداد خانه ) 0 رد سليم متأففاً 0
عندها قال مهدي مستفسراً :-
:- سليم ، أي ( حداد خانه ) تقصد ، كل ما هنالك ، ان الجماعة يتمنون ان تكون معهم 0
وكأنه يريد ان يبرر عملاً سيئاً قام به ، رد على صديقيه قائلاً :
:- الظروف 0
:- أي ظروف تقصد ؟ سأل جمال 0
:- ظروف العائلة ، رد عليه سليم ، فيما اصبح لون وجهه أكثر اصفراراً 0
قال مهدي بهدوء ، وكأنه يريد ان يقنع صديقه بخطأ موقفه :
:- ليست ظروفنا احسن من ظروفك 000 وانت اعلم بذلك 000 والبلد بحاجة الينا نحن الشباب 000 وانت تعرف كل شيء 0
:- انتم تعرفون موقفي 0 ردسليم بتخاذل 0
وفجأة قطع سليم حديثه كمن يريد التخلص من شيء بغيض عنه وصاح بفرح :
:- ها قد عاد هادي 0
التفت جمال ومهدي الى الباب الواطيء للمضيف الذي غطاه جسد هادي ، وشاب أخر 0
:- اقدم لكم ابن عمي كريم 0
نهض سليم وجمال من مكانيهما مرحبين 0
:- طالب في الاعدادية 00 في الصف الخامس العلمي 0  تابع هادي قوله وهو يقدمه الى اصدقائه  :
:- اهلاً وسهلاً 00 رد جمال وسليم ، ثم صافحاه 0
:- ذكي ، ومتفوق 0 قال مهدي فتابع هادي القول :-
:- وأن شاء الله هذه السنة الى كلية الطب 0
ردد الجميع :- أن شاء الله 0
قال هادي باسماً ، وهو يغمز سليم :
:- وأيضاً من الجماعة 0
نهض سليم ، فيما راحت نظرات الشباب الاربعة تحاصره من كل جانب 000 ثم راح يردد من نفسه المثل المشهور : ردتك عون طلعت فرعون000 عندها انطلق الجميع بضحكة عالية 0
:- اخوان 0
قال سليم بعد ان سكت الجميع :
:- ارجو ان تقدروا موقفي 000 لااستطيع ان انضم الى حزبكم 000 لي ظروفي الخاصة 0
وكمن يريد ان يغير الحديث ، قال كريم :
:- ها هادي ، بماذا جئت لنا ؟
: –   بكل خير 0
بتلهف سأله مهدي :
:- قل  بسرعة 0
بخجل  لاح على وجهه ، نهض سليم مستأذناً ، وهو يقول :
:- سأخرج لأ تمشى 0
:- لا ياسليم 000 اجلس 000 انت واحد منا ، رغم انك لست في التنظيم ، الا اننا نثق بك  0
جذبه مهدي من طرف دشداشته قائلاً :
:- اجلس 000 سوف نتحدث عن يوم ( المقتل ) وليس عن الحزب يا رجعي 0
عاد سليم الى مكانه ، وهو يبتسم خجلاً 000 فيما نهض هادي مستأذناً وهو يقول :
:- سيخبركم جمال عن كل شيء ، اما انا فسأذهب لا ستعجل عمتي في عمل الغداء 0
صاح كريم :
:- اجلب معك قوري الشاي والاستكانات 0
عندما أصبح هادي خارج المضيف ، كان صوت جمال الهاديء الخجول هو من بقي في جو المضيف :
:- لقد اتفقنا على ان نشترك في ( التشابيه ) 0
سأل كريم جمالاً :
:- وموقف الحزب من ذلك ؟
رد جمال :
:- لحد الآن لم يأت أي جواب 000 ولكن هناك موافقة مبدئية بذلك 0
:- وكيف تتفقون دون علم الحزب ؟ سأل مهدي 0
اجابه جمال :
:- ربما اجابة الحزب ستتأخر 00 وعندما تكون اجابتهم  بالموافقة عندها سنكون قد قطعنا شوطاً طويلاً في التدريب 0
:- اما لو كانت الاجابة بالنفي ؟ سأل سليم 0
فاجابه جمال :
:- عندها سننسحب 0
باندهاش صاح سليم :
:- وانا ؟ اتتركونني لوحدي مع هذا الحاج الملعون ، لان الحزب يأمركم بذلك ؟
رد عليه كريم آمراً :
:- ستنسحب معهم 000 الست صديقهم ؟
:- لكنني لست حزبياً 0 رد سليم 0
فقال مهدي :
:- لكنك وطنياً 000 انت احد شباب القرية المثقف ، والشعب يعتمد عليكم 0
عندها سكت سليم ، وهو يسمع صوت هادي الذي دخل عليهم حاملاً صينية الشاي وكأنه قد سمع كل مادارمن حديث،فخاطب اخيه :-
:- مهدي ، والوالد ؟
سأل مهدي :- ماذا به ؟
اجابه هادي :- لايقبل 0
بهدوء رد عليه :- مسأله بسيطة ، سأحدثه في الامر، ولكن ، هل وزعت الادوار ، اقصد ،هل عرف كل واحد منكم ماذا سيكون دوره 0
صاح سليم مهللاً :
: – انا سأقوم بدور الامام العباس 0
:- اما انا ، قال جمال ، فسأمثل دور الحسين 0
: – كان الدور لي – صاح هادي – الا ان والدي رفض ذلك 0
قال مهدي :
:- اختيار ذكي 00 كلمة حق يراد بها باطل 00 لقد عرف حاج فريّح كيف يجذبكم اليه 000 لكنني متأكد انكم ستظلون كما كنتم 000 أولئك الشباب الذي يعتمد عليه 0
سأل جمال :
:- ماذا تقصد بكلمة حق يراد بها باطل ؟
ابتسم مهدي وقال :
:- لقد ارضاكم بهذه الادوار 0
قال هادي :
:- لكنه لم يجد من يعتمد عليه 000 ولاتنسى ، ان دور الحسين الذي سمثله جمال سيكون مهماً بالنسبة لنا 000 اقصد بالنسبة للجماعة 0
صاح سليم :
:- وما دخل الجماعة بدور الحسين ؟
قال هادي :-
:- لاتخف ، ان دورك مهم جداً ويفيد الجماعة كذلك0
قال مهدي :-
:- هذا لايهم ،المهم أن يعرف الرفاق المسؤولين كيف يستغلون هذه المناسبة 0
صرخ سليم :- ماذا تقصد ؟
نظر الجميع اليه ، وانطلقوا بضحكة عالية 0

(10 )

كان الحزن بادياً على ثياب وملابس الاطفال والنساء والشباب ، اسودا ً كالحاً فقيراً ، فيماالرايات السود قد ملأت فضاء القرية معلنة استشهاد الامام الحسين ، ومكبرة تضحية اخيه العباس ، وتوشحت واجهات المحال بصور تمثل المأساة 000 فهناك صورة تمثل الامام العباس حاملاً راية وقربة ماء وهو يمتطي جواداً ، وصورة اخرى للشمر وهو يحز رأس الحسين 000 اما دار الشيخ عبد الكريم ، فقد انتشرت على احد جدرانه القصبية لافتة سوداء نقشت عليها عبارة ( يا حسين يا شهيد ) وراح علم اسود يرفرف على باب الدار معلناً حزن اهله 0 اما ابنة الدار ( هدية ) فقد ارتدت ثوباً اسود ، فيما ظل لون ثوب الام السواد 0
:- لقد تغيرت  كثيراً 0
قالت أم مهدي ذلك ، وهي تضع أستكان الشاي أمام زوجها الشيخ عبد الكريم ، بعد أن انتهى من تناول غذائه 0
سألها وهو يحرك الملعقة الصغيرة في الاستكان ، وكأنه يريد ان ينهي الحديث عن تلك المرأة :
:- متى عاد هادي ؟
اجابته :- قبل قليل 0
ثم وهي تستذكر ما تريد الحديث عنه ، سألته :
:- ها شيخنا ، ماذا تقول ؟
باندهاش سألها وكأنه لا يعرف مقصدها :-
:- عماذا اقول ؟
:- قبل قليل اخبرتك بانها قد تغيرت كثيراً 0
بتأفف رد عليها :
:- وضعوا ذيل الكلب في القصبة اربعين يوماً ، فوجدوه اعوجاً 00 ام مهدي 00 الاعوج اعوج 0
:- لا يا شيخ، بهدوئها المعهود راحت تحدثه ببراءة نساء القرية  : المرأة تابت 00 هكذا اراها 00 وانت رجل مؤمن وتخاف الله 00 لا تظلمها 00 انها مسكينه 0
نظر اليها بأ ستغراب 00 احس ان زوجته قد جرته جراً الى ان يدخل في حديث معها عن تلك ( العاهـ 000 )، لكنه صاح قائلاً :
:- استغفر الله 00 انا اظلم احداً يا ام مهدي ؟
اسرعت تجيبه :
:- لا اقصد ذلك 000 لكنني اقول انها تركت افعالها المشينة تلك 000 اصبحت امرأة
شريفة 000 لقد تابت ، والله يقبل التوبة النصوح 0
سألها ، بالرغم من ان الانزعاج قد اصبح بادياً على وجهه :-
:- من قال لك ذلك ؟
اجابته :
:- انا شاهدتها بهاتين العينين 00 قد اصبحت اكثر احتشاماً 00 والناس 00 الناس يا شيخ عبد الكريم ، اخذت السنتهم تتحدث عنها بأحترام 0
عندها قطع حديثها وهو يجلس امام المنضدة الصغيره – حاملة القرآن الكريم – وقال :
:- نسأل الله لناولها الستر 0
سكتت ام مهدي ، وكأنها عرفت ان الجملة التي نطق بها زوجها الشيخ ، هي نهاية الحديث 000 اذ رأته يفتح كتاب الله 000 ويبدأ يالتلاوة 0
كانت ام مهدي ، امرأة في الاربعين من عمرها 000 وقد لازمت جسدها الملابس السوداء منذ سنتين حزناً على مقتل حموها الشاب عبد الحليم 0
كان صوت الشيخ عبد الكريم مرتلا أيات من القرآن الكريم يتردد في ارجاء الصريفة طاغياً على كل صوت 000 حتى ان ابنتها هدية وهي تجلس امام ( تنكة ) الماء في ساحة البيت ، تغسل أواني الغداء وهي تنصت الى صوت والدها بهدوء تام 00
حملت ام مهدي أواني الشاي ، وبعد ان سلمتها لابنتها لتغسهما، عادت الى الصريفة0 00 فيما دخل ولدها هادي ، عندها سمعا صوت الشيخ يقول : صدق الله العظيم  0
سلم هادي على والده الشيخ ، ثم انحنى على يده وقبلها ، سأله الشيخ عبد الكريم :
:- ها 000 كيف كانت سفرتكم ؟
:- الحمد لله 000 جميلة وموفقة 0
:- وعمك ، كيف صحته ؟
:- الحمد لله ، على ما يرام ، وهو يسلم عليك0
:- ومهدي ؟
:- يتمنى ان يراكم جميعاً 0
:- اقصد كيف وجدته ؟ نفسيته ، حالته ، معنوياته ؟
:- عال العال 0
ولانه يريد ان يتحدث مع ولده بانفراد ، طلب من زوجته ان تعد لهم الشاي000 قال لها :
:- ام مهدي ، اعملي لنا شاياً جديداً 0
عندها نهض الجسد المغطى بالسواد  وخرج من الصريفة  دون ضجة ، وبعد ان تأكد الشيخ من خروج زوجته ، التفت الى أبنه هادي الذي اختار له مكاناً لجلوسه قبالة والده ، سأله :-
– اما زلت مصراً على الاشتراك في التشابيه ؟
وبخجل ، جاء صوت هادي هادئاً :-
– كنت ارغب في تمثيل دور الأمام الحسين 0
بانفعال ، صاح الشيخ مقاطعاً حديث ولده :- استغفر الله 000 استغفر الله 000 هل لعب برؤوسكم هذا الكافر وشيخه الزنديق ، ام انك قد جننت ؟ 00 ها 00 قل 00
كان لون وجه هادي قد تغير اكثر من مرة ، اصبح اصفر كلون ضوء الفانوس ، ثم جمد فزال عنه أي لون 000 وراحت كفاه يتعاركان فيما بينهما 000 وصوت الشيخ قد تعالى صارخاً غاضباً بابنه :-
:- اتضع نفسك بديلا عن الأمام 0! ؟ استغفر الله من كل ذنب عظيم ، وصل الكفر الى بيتي 0
لم ينبس هادي ببنت شفة 0000 لم يقل شيئاً ، بل تضاءل أمام والده الشيخ الذي لم يفهم القصد من وراء كل ما سيفعله هو والشباب 0
كان صوت الغضب داخل ( الصريفة ) قد تعالى في الوقت الذي سد بابها سواد ثوب أم مهدي ، فيما وقفت خلفها (هدية) وهي تمد برأسها الى مدخل الباب محاولة معرفة ما يجري0
ظل صوت الشيخ هادراً ، والجميع قد كبله هذا الغضب غير المعهود عند الشيخ :
:- استغفر الله 00 استغفر الله 00
حاولت أم مهدي ان تقول شيئاً ، الا ان الشرر الذي تطاير من عيني الاب الغاضب والذي أمتلأت به الصريفة قد اخرسها :
: لقد عرف هذا الكافر ان يجمع حوله كفرة أخرين 000 استغفر الله العلي العظيم 000 واعو ذ به من كل  شيطان رجيم 000 ستقوم القيامة حتماً 000 سبحانك اللهم ، اغفر لنا 000 قبل ساعات كانت أمك تقول0 00 ان 000 استغفر الله 000 تلك المرأة 000 لا حول ولا قوة الا بالله 000 تلك المرأة تغيرت 000 هل يعقل هذا ؟ّ!
ثم بصوت هاديء يتقطر حنانا ، تابع قوله :
– أبني 000 انا اقول عنك انك ولد عاقل ، ويعرف حدود الله 000 هل استطاع هذا الكافر ان يدخل الشيطان في بيتنا 000 لقد عرف ذلك الكافر ان ينال منا 000 اعوذ بالله من الشيطان الرجيم 0
بدأ صوت الغضب يهدأ قليلاً 000 فا نسحبت ( هدية ) الى عملها في شؤون الدار بعد ان فهمت سبب هذا الغضب من خلال ماتجمع من كلام والدها ، وما سمعته من نساء الجيران حول تمثيل ( التشابيه ) في عاشوراء 000 كان والدها محقاً ، الا ان هادي خير من يمثل دور الامام الحسين – هكذا حدثت نفسها وهي تغسل استكانات الشاي – انه شاب تقي ومن عائلة متدينة 000 ولكن 000 ( الملحة ) 000 استغفر الله العظيم ، كيف تمثل ( الملحة ) دور سيدتنا زينب000 استغفر الله 000 اللهم اعوذ بك من الشيطان الرجيم 0
عادت أمها الى حيث تقف وهي تغسل أواني الشاي وتضعها في صينية صغيره 0
:- هل انتهيت ؟ سألتها الأم 0
:- نعم وسأرسلها اليهما 0
:- اسرعي ، والدك بحاجة الى استكان شاي 0 ثم وكأنها تكلم نفسها :-
:- لا اعرف لماذا لا يقبل الشيخ بالتشابيه ؟ ! ثم وهي توجه كلامها الى ابنتها التي حملت صينية الشاي:
:- الذي يمثل دور الحسين ، يحصل على ثواب كبير 000 فلما ذا لا يوافق والدك بذلك ؟ ها ؟
لم تقل ( هدية) شيئاً ، وانما خرجت من ( صريفة ) المطبخ حاملة الصينية الى حيث والدها وأخيها 0

(11)

بدأت التدريبات في مسجد القرية ، وكان المصدر الذي اعتمده المله في رواية مقتل الامام الحسين ، هو ما كتبه ( ابو مخنف ) من قصة يوم الطف ، ومقتل الامام واهل بيته واصحابه ، صبيحة العاشر من محرم الحرام ، تلك الرواية التي اصبحت مشهورة بين المسلمين ، واخذ كل شخص الحوار الذي سينطق به ، والشعر الذي سيرتجزه ، اما الازياء، فقد تعهد الحاج بتوفيرها قيل يوم العاشر من محرم 0
كل شيء قد بدا جاهزا ً ، اذ ان اغلب المشاركين في ( التشابيه ) يحفظون الكثير مما جاء في رواية المقتل من خلال سماعهم للقصة مئات المرات من افواه قراء التعازي ، فضلا ً عن ان البعض قد سبق له ان شاهد اكثر من مرة (التشابيه ) 0
كان الشباب متحمساً في اداء الادوار ، الا انهم في تحمسهم يصدرون من اسباب شتى ، أي انهم ينقسمون في الغاية والهدف الى قسمين ، على الرغم مما يشدهم الى التدريبات من حب للامام الحسين واهل بيته وصحبه ، والمأساة التي المت بهم ، ومحاولتهم للتعبير عن هذا الحب ، ومن ثم كيفية اظهار     ( التشابيه ) وكأنها حوادث تجري حقيقة امام انظار الناس المتلهفين لرؤية امامهم وهو يقتل امام انظارهم ، مما يغسل فيهم شعوراً بالاثم امتد عبر اكثر من الف واربعمائة عاما مضت لعدم نصرة امامهم امام ظلم الظالمين ، لهذا دخل هادي وجمال في حوار طويل مع سليم حول الفائدة التي سيجنونها في التنظيم من هذه التشابيه ، اذ رد هادي على هذا السؤال بلهجة مفعمة بحكمة السياسي القدير ، عندما قال : اخي سليم ، الا ترى ان الظلم الذي كان في ذلك الوقت ما زال قائما ً ، والا ماذا تسمي ما يدور حولك من امور الدولة والسياسة 00 ها ؟
جفل سليم مما سمعه ، واحس ان هناك اكثر من آذان تتسمع لحوارهم في الزقاق الذي ولجوه سوية بعد اكثر من ساعة من التدريب ، قال متلعثما ً:
: هادي رحمة على والديك اقلب صفحة 0
سوية كانت ضحكة هادي وجمال تملأ الزقاق الذي راحت تفوح فيه روائح نتنة جلبتها الساقية التي امتدت في منتصفه تشقه الى نصفين وهي تعلن صورة من صور الظلم والقهر الذي يعيشه ابناء العراق الذين ينامون على محيطات من النفط كما اكد هادي ، اما جمال فقد تابع قول رفيقه قئلا ً :
– اليس هذا هو الظلم بعينه ؟
كان سليم يسير مع صحبه مطأطأ الراس كانه يبحث عن شيء اضاعه في وحل الشارع فيما بدأ الملة يرفع اذان المغرب 0
كان الآذان القشة التي وجد فيها سليم وسيلة لانقاذه من سماع ذلك الكلام الذي لا يود ان يسمعة فبادر الى طلب الاذن من صحبه للذهاب الى البيت كي يلحق الفطور ، قال :
: تفضلوا يا جماعة 000 الفطور جاهز وسيفرح الوالد كثيرا بوجودكم 0
نظر الشابين الى بعضهما ، وهم يعلمان ان الفطور كان حجة لسليم ليهرب من الحوار ، لهذا قالا سوية : شكرا 0
عندما تركهم سليم عاد القلق مرة اخرى الى نفوسهم التي لم تعد غضة كما كانت ، لقد احسا ان القلق والهم والتفكير الزائد ومن ثم انتظار الموافقة هو ما يجعلهم يعيشون في دوامة هذا القلق ، الا ان هادي وكأنه يريد ان يقنع نفسه اكد لصاحبه قائلا ً:
:اعرف انهم سيوافقون 0
كانت جماعة هادي تهدف من وراء اشتراكها في ( التشابيه ) الى غير الهدف الذي يشد الاخرين للمشاركة في العمل نفسه ، وفي الوقت نفسه ، كانوا قلقين من عدم موافقة حزبهم على المشاركة فيها  واستغلال مثل هذه المناسبة لقول ما يريدون قوله من افكار كانوا قد اعدوا العدة لأن يصرحوا بها في الوقت المناسب ليعرف الناس ما يدور حولهم من سياسة التخاذل والعمالة 0
اما الاخرين فقد كان الهدف الذي يدفع بهم للمشاركة في التشابيه ، هو التباهي امام الناس ، وعرض ما يمتلكونه من روح الشقاوة والبطش بالاخرين 0
اما الحاج فريح ، فقد كان ذكياً – هو والمله – في توزيع الادوار 000 فقد اوكل لجماعة هادي تمثيل الادوار الاساسية في التشابيه ، اما ادوار الشخصيات المعادية كعمر بن سعد والشمر بن ذي الجوشن  فقد كانت من نصيب جماعته ( شرجي قامه ) و ( حميد الطويل ) ، لا لانه كان يعرف انهم لا يليقون بمثل هذه الادوار حسب اعتقاد الناس فحسب بل لانه يريد ان يكسب الى صفه الشباب من جماعة هادي 0
كان  (شرجي قامه ) شاب طويل القامة ، بجسد رياضي ، وعضلات مفتولة نافرة ، قضى جل وقته في النادي البسيط والوحيد في مدينته التي ولد فيها ، وعاش حياة الفقر واليتم  في كنف زوجة اب غير رحومة معه ، اذ كان والده  ، احد رجال الشرطة الخيالة الذي لا يستقر له مكان ، وعندما شب ، بعد ست سنوات من الدراسة الابتدائية التي كان متميزا فيها توفي والده ، فأجبرته زوجة الاب على ترك الدراسة ، وبدلاً من العمل راح يتردد على النادي ، يحمل الاثقال ليبني له جسداً قوياً يفيده في شبابه ، كما قال له مدربه  وجاره ( ابو الحديد ) ، الا ان ثلاثة اشهر من التدريب العسكري ، عندما سيق للخدمة الالزامية قد جعلته ينفر من كل شيء ، فترك الجيش ووحدته العسكرية والبيت ومدينته الصغيرة ، وجاء الى الناصرية، وهو يشد ( قامة ) فضية اللون حول ساقه ، بشريطين جلديين ، وبين ليلة وضحاها ، وفي منطقة ( باب الشطرة ) ، اصبح شقاوة المنطقة غير المنازع ، فدخل في معارك لا سبب لها ، مع اصحاب المحال في المنطقة ، واكثرهم  من الناس البسطاء ، فكانوا يبتعدون عنه لدفع شرهً عن محالهم 000 وعندما سمع اخباره الحاج فريـّح ، ارسل جاسم الاعور بطلبه ،  واوصاه ان لا يأتي الا وشرجي قامة معه0
بعد ان انهى ( شرجي قامة ) شرب استكان الشاي في مكتب الحاج فريـّح ، خرج من المكتب وقد اصبح احد مساعدي الحاج المهمين ، وقد امتلأ جيبه بالاوراق المالية 0
لم يعرف شيئا عنه وعن اهله ، الا ان الفترة التي قضاها في مكتب الحاج وهو يشرب استكان الشاي ، قد جعلته من معية الحاج ، ومن اشد المدافعين عنه ، ومن انشط الناشرين لاخباره ، ومآثره واعماله الخيرية في المنطقة والمدينة على السواء 0
مرة ، كان ( شرجي قامة ) يسير في شارع ( عكد الهوه ) ، وقليلاً ما كان يصل الى هذا الشارع ، اذ كان ينهي ساعات يومه متسكعا في مقاهي ( باب الشطرة ) و (الصفاة ) ، ففوجيء بثلاثة من افراد الانضباط العسكري ، وجهاً لوجه ، لم يخف ، الا انه حاول ان يميل بجسده بعيدا عنهم ، ليجتازهم دون ان يحتك بهم ، عندها سمع احدهم يصيح به : قف 00
وقف دون تردد ، فيما تابع الذي صاح به قوله : مستمسكاتك 00
لم يفاجأ بما طولب به 000 وبفم ملأته ابتسامة عريضة تشي بالفوز ، اجاب : انا من جماعة الحاج فريـّح 000 اذ سبق ان راى احدهم في منطقة باب الشطرة 0
وبعد نقاش حاد بين رجال الانضباط العسكري ، انهى احدهم النقاش قائلا ً : اخوان ، انا اعرف الحاج فريـّح ، سوف نذهب معه الى مكتب الحاج لنعرف الحقيقة 0
اذعن ( شرجي قامة ) اليهم عندما مسكه اثنان من افراد الانضباط العسكري من كلتا يديه ، وما زالت الابتسامة تطفو على شفتيه 000 تحرك معهم الى حيث مكتب الحاج ، وهناك ، دفع الحاج لافراد المفرزة ثلاثة ارباع الدينار فطورا لهم ، وعادوا بدون ( شرجي قامة ) ، بل ان احدهم همس في اذنيه قائلاً : عندما تحتاج الينا ستجدنا في ( عكد الهوى ) 0
اما (حميد الطويل ) فكان طول قامته هو ما يميزه عن كل جماعة الحاج فريـّح ، وكان جسده نحيلا ً، شديد صفرة الوجه 000 الا انه كان ثرثارا ً، لا يهدأ له لسان ، ولا يوقفه شيئاً عندما يبدأ الحديث عن أي شيء يعن له ، وكثيراً ماحاول الحاج ان يثنيه عن عادته تلك 000 ومرة وصل غضب الحاج منه حداً جعله يرميه بنصف طابوقة ، الا ان سرعة حركته جعلت رأسه بعيداً من مرماها 0
كان ( حميد الطويل ) وهي الكنية التي اطلقها عليه الحاج فريـّح عندما جاء به ( جاسم الاعور ) لاول مرة من قريته قبل اكثر من سنة ، قال للحاج : انه شاب لطيف ، وقوي 000 وهو يتيم الام ، الا ان زوجة والده قد طردته من البيت ، لانه اصبح عالة عليها بعد ان هرب من الخدمة العسكرية ، ولأنه غير معروف في القرية ، فقد ضمه الحاج الى جماعته ، واسكنه مع ( شرجي قامة ) في احد بيوت القصب التي بناها الحاج في القرية لمعارفه 0
كان الثلاثة ، جاسم وشرجي وحميد ، هم شقاوة منطقة باب الشطرة ، ومن مساعدي الحاج ، والمدافعين الشرسين عنه ، ومن ناقلي اخباره الخيرية بين الناس 000 وعندما اتفق الحاج والملة على اقامة ( التشابيه ) كان اختيار الحاج لهم ليقوموا بادوار اعداء الامام الحسين 0

( 12 )

عندما احبت الجماهير العربية جمال عبد الناصر لمواقفه القومية المعروفة ، ووقوفه بوجه العدوان الثلاثي على مصر ، كان عبد ناصر قد سبق له ان خدم في الجيش العراقي ، قاتل الصهاينة عام 1948 ، وعندما عاد  بعد الحرب بجروح  كثيرة في بدنه ، دخل المستشفى لاكثر من اربعةاشهر ، بعدها احيل الى التقاعد ، فزوجه عمه ابنته ، وولدت له اربع بنات 000 ولم تفد معها كل فعل الكشافات وفتاحي الفال ، واعشاب امها ، ولا زيارة مراقد السادة واولياء الله الصالحين ، وكذلك اطباء المدينة في ان تلد ولدا ً يحمل اسم العائلة ، ويساعد الاب في امور الحياة عندما يكبر0
مرة قال له عمه : لماذا ياولدي لا تأخذ زوجتك الى مراقد الائمة ؟
لم يقل شيئا ً علىالرغم من ان ذلك كان امنيته وامنية زوجته ، كانت كثيراً ما كلمته في ذلك ، الا انه كان يعتذر منها لقلة ما في اليد ، فالارض التي كان يزرعها لا تأتي يالكثير 000 وراتب التقاعد لا يكفي الا لايام عدة ، والبنات بحاجة للملابس 000 ومتطلبات الحياة كثيرة ، اما ( الحلال ) فقد اخذ ثمنه مراجعات الاطباء ليداوون جروح حرب فلسطين ، ولم يبقى من ( الحلال ) الذي تركه والده بعد وفاته الا بقرة واحدة تؤمن لهم حليب الفطور ، ولبن        ( الغموس ) 0
الا ان عمه لم يسكت ، ذلك لان الحاح زوجته عليه بان يبيع احدى بقراته ليذهب بثمنها ابن اخيه وابنتهم لزيارة مراقد الائمة ، وكذلك ما كان يراه من هم مرتسم كالغيمة السوداء على وجه ابنته ، وابن اخيه ، كل ذلك قد دفعه الى ان يفعل ماطلبته زوجته ، فباع البقرة واعطى ثمنها الى ابن اخيه :
: لا تهتم يا ولدي ، الخير كثير ، وابوك الله يرحمه ، كان لي كالاب ، وكثيرا ما كان يمد يد المساعدة لي ، فمشاكل الدنيا كثيرة ، والتعاون الله يبارك به ، وان شاء الله زيارة واحدة للائمة ، سيكرمكم الله بالولد الصالح 0
ما قاله عمه لم يكن جديدا ً عليه ، بل كان ذلك من امانيه ، الا انه لم يخبر عمه ان هذه السفرة ستكلفه مالا ًكثيرا ً غير متوفر عنده 000 وهو يعرف ان (الحلال ) قد بيع كله ، والارض بارت ولا تأتي بالكثير 0
بعد لحظة صمت قصير ، سأل العم :
: ها 00 سكت ؟
كانت الحيرة والخجل هما ما تقاسم لون وجهه ، وفي الوقت نفسه ، قال مع نفسه – انه عمي ووالد زوجتي ، لا بأس ان يساعدني من اجل ان تستمر سلالةزاير ناصر  ، عندها قال :
: عم ، ان شاء الله 0
رد عليه الرجل العجوز من بين شفتين باسمتين :
: وهل تستطيع ان تفعل شيئا ً دون مشيئة الله سبحانه وتعالى 000 ها ؟
انتبه عبد ناصر الى ان عمه قد اساء فهمه ، رد عليه بصوت مخذول :
: اعوذ بالله ان اعني ذلك ، ولكن انت تعرف ان العين بصيرة واليد قصيرة 0
: ومن قال لك ذلك ، ان الخير في بيت عمك وفيرً 0
كان اكثر ما يغيضه هو كبرياؤه ، وكذلك فهو لا يريد ان يزيد الدين الذي في رقبته لعمه ، فقد عمل الكثير له 0
وكان الصمت هو الشيء الوحيد الذي ملأ المكان الذي كانا يجلسان فيه ، ولكي لا تفوته هذه الفرصة التي هيأها له عمه ، قال :
: الذي يراه الله فيه الخير 0
وذهب عبد وزوجته الى النجف الاشرف وكربلاء وبغداد ، وولد جمال عبد ناصر بعد عشرة اشهر من اغتسال زوجته من الحيض الذي جاءها بعد الزيارة بايام قليلة ، فضحى له عبد بخروف ، فيما نحر جده ثور كبير لوجه الله 0
كانت ام جمال هي التي بدأت الحديث وهي في فراش النفاس ، فيما والدها ووالدتها وام زوجها وزوجها وبناتها الاربع محتفين بها ، فرحين بالمولود الجديد 000 قالت :
: ماذا تسميه يا عبد ؟
كانت ترغب في سؤال والدها ، اذ انه خسر الكثير ، فقد ضحى ببقرتين في سبيل مجيء ابنها ، الا ان حبها لزوجها ، واحترامها للتقاليد المتبعة ، سالته شخصيا ً 0
كان الاسم مختبئاً في تلافيف ذهن عبد ناصر قبل ان يولد وقبل ان تلد زوجته ابنته الرابعة ، فقد كان الناس يلهجون  به ، وكأ نه تعويذة يرمونها بوجه الملك ورئيس وزرائه نوري السعيد ، وكثيرا ً ما سمع ابناء المدينة يرددون هذا الاسم في مجالسهم الخاصة او في التظاهرات والتجمعات التي يقيمونها للتنديد بقرارات الحكومة ، ولكن ، هل يوافق عمه ؟ ام انه يريد ان يسميه بأسم جده ، ناصر ، كما صرح له وامام الاهل اكثر من مرة ؟ وكما تعود ان ينادي على ابنته في فترة الحمل بهذا الاسم ؟ اما هي فقد كانت ترد عليه مبتسمة خجلة :
– ان شاء الله 0
تساءل مع نفسه : هل يوافقونه على هذا الاسم ؟
كان الكل يراقب عبد ناصر منتظرين ان يسمي ابنه 000 وعندما طال سكوته ، بادره عمه قائلا ً :
: ماذا تقول لو اسميناه 000 الا ان عبد ناصر لم يدع عمه يكمل حديثه ويسمي الوليد الاسم الذي يرغب 000 سارع بالنهوض وطلب من عمه ان يخرج معه لبعض الوقت ، قال :
: دقيقة انا وانت 0
خرجا سوية بعد ان ترك عبد ناصر عمه ووالد زوجته يخرج قبله من باب الصريفة ، وبعد دقائق دخل العم ومن خلفه عبد ناصر وهما باسمان ، الا ان زوجة العم قرأت من بين غضون وجه زوجهاالشيخ الكبير بسمة تكتم خلفها حسرة لا تدري ماهي وما اسبابها 0
قال الشيخ الكبير :
: مبروك بنتي ام جمال 000 ثم وجه كلامه للاخرين الجالسين في الصريفة : مبروك للجميع 000 لقد هدانا الله الى هذا اسم 000 جمال عبد ناصر 000 مبروك للجميع 000 وان شاء الله يكون من الرجال الصالحين ، ويشرف الرجل الذي حمل اسمه 000 ثم خرج الى الهواء الطلق من صريفة ابنته النفساء دون ان يقول شيئا ً او ان  تلوح على صفحة وجهه المتغضن اية ملامح للغضب الذي احس لحظة طلب منه ابن اخيه ان يدع تسمية الوليد له لانه قد اختار هو الاسم 000 اذ كان يرغب في ان يسميه على اسم اخيه المرحوم ناصر ، الا ان زوجته العجوز التي عركتها السنون مع زوجها الشيخ الكبير قد فهمت لماذا كانت ابتسامة زوجها تحمل في طياتها غضبا قد كظمه ، وهي تعرف كيف ان هذا الشيخ يكظم الغضب ، ويترك الحسرة تأكل قلبه دون ان يخبر احدا ً 0
كان عبد ناصر ، بعد ان بارت ارضه ، وباع كل ما كان قد ورثه عن ابيه من ( حلال ) ليصرفه على تربية بناته الاريع ، وابنه (المدلل) جمال ، ارتحل الى المدينة التي لم تستقبله في بيوتها المبنية بالطابوق  لقلة ما في اليد  000 فاشترى قطعة ارض من الحاج فريّح وابتنى عليها بيتا من القصب والبواري بسعر زهيد في الشارع العريض الذي يشق القرية الى نصفين ، الشارع الرئيسي للقرية والذي يقع المسجد عليه ، فيما احيط المسجد بمجموعة من المحال الصغيرة لبيع الخضار واللحوم والمواد الغذائية والمنزلية ، اما واجهات الدور فهي لاتختلف عن دور القرية ، سوى ان ابوبها قد انتصبت بين عمودين بنيا من الطابوق والطين 0
كان ذلك قبل اكثر من عام ، ولما كان قلمه ( باشطا ً ) فقد وضع له منضدة خشبية صغير ومجموعة من الورق واقلام ( القوبيا ) وجلس على كرسي من جريد النخل قبالة دائرة التجنيد وراح يكتب للاخرين ( العرائض ) 0
كان اول من تعرف عليه في القرية هو الشيخ عبد الكريم ، اذ وجد في هذا الرجل الورع ، ذو اللحية البيضاء ، والمسبحة السوداء ، خير صديق له ، لقد هداه قلبه الى صداقته عندما كان يراه صبيحة كل صباح يخرج من بطن الزقاق وعينيه مزروعتان في الارض ، وبعد محاولات للاقتراب منه والتعرف عليه ، الا انه لم يستطع تنفيذها ، لاسباب كثيرة ،  راح في احد الايام يتبعه ، سار خلفه متتبعا ً خطواته ، فرآه يعبر الجسر ، ويدخل السوق ، حتى اذا وصل الصفاة التاف من حولها وتوجه الى احد المحال التي في ظهرها ، كان المحل عبارة عن مكتبة كدست على رفوفها الخشبية مجموعة من الكتب الصفراء ، دواوين للشعراء ، كتب دينية ، مختارات من حكايات الف ليلة وليلة ، المياسة والمقداد ، وكتب اخرى واوراق واقلام 000 دخل مباشرة بعده ، سلم عليه وقال :
: هل تأذن لي يا شيخ بالجلوس ؟
ثمة كرسي من الجريد يحتل صدارة المحل ، اشار اليه عبد ناصر، ودون ان ينتظر الاذن جلس عليه ، اذ فكر مع نفسه ، ان الفرصة قد آتته الان فلا يضيعها من بين يديه كما ضيع غيرها من قبل 0
لم يندهش الشيخ لما فعله الرجل ، فقد فعل ذلك اكثر من واحد قبله ، ربما كان تعبا ً:
:- صبحك الله بالخير 0
قال الشيخ ذلك وتقدم الى باب المحل ومد رأسه الى الخارج وصاح :
:- ابو على 000 شايين من فضلك 0
رد عليه عبد ناصر قائلا ً : الله بالخير والعافية 0
سأل الشيخ ضيفه :
:- هل فطرت ؟
ابتسم عبد ناصر في الوجه ذو اللحية البيضاء ، ثم قال :
:- الحمد لله ، وشربت استكانين من الشاي في البيت 0
بعد ان جاء ابو علي بالشاي ، سال الشيخ الرجل الجالس امامه :
:- هل تأمر بشيء ؟
:- نعم شيخنا ، اريد صداقتك 0
لم يدهش الشيخ ، اذ انتظر ضيفه يقول كل شيء ، قال مع نفسه : سنرى ما يريده هذا الرجل 0
:- اهلا ً ومرحبا ً بك 0 قال الشيخ 0
:- انا من اهالي القرية ، اقصد من قرية الحاج فريّح ، ومنذ اسبوعين سكنت فيها ، ولا اعرف احدا ً من اهلها 0
مد له الشيخ يده قائلا ً : اهلا ً ومرحبا 000 تشرفنا 0
:- عبد ناصر ، كاتب عرائض 0
لم يقل له انه منذ ايام حاول الاقتراب منه والتعرف عليه ، الا ان الخجل قد حبسه عن ذلك 0
:- عرفت انك تبيع الورق والاقلام ، فقلت لماذا يا ابو جمال لا تشتري من هذا الشيخ الذي يخاف ربه ، وتكسب صديقا 0
ردالشيخ باسما ً :
: – المكتبة وما فيها تحت امرك يا ابو جمال 0
: الله يرزقك شيخنا 0
رد الشيخ :
:- ابو مهدي 0
:- عاشت الاسماء 0

(13)

: يا جمال يا عبد يا ناصر 000
جاءه صوت والده من صريفة الخطار مليئا ً بالغضب ، وهو يعبر عتبة الباب الخشبي لدارهم 0
كان الصوت حادا ً غاضباً ، ضج له جو البيت ، تساءل  كيف عرف والده بعودته ، هل كان ينتظره ؟
تدافع الدم في رأسه ، كانت المفاجأة قد شلته ، واحس بالاختناق ، كان اهم سؤال شغل فكره تلك اللحظة هو : لماذا عاد والده في هذه الساعة من الظهيرة والدوام لم ينته بعد ؟
كان جما ل قد وصل للتو ، بعد ان مر مع زميليه هادي وسليم على مكتبة والد هادي الشيخ عبد الكريم لشراء بعض القرطاسية ، وما زالت كتب الدراسة بين يديه ، ومبرهنة درس الهندسة ما زالت عالقة في ذهنه 000 و رغم كرهه لهذا الدرس ، الا انه قد خصص له ساعتين في اليوم لحفظ مادته استعداداً للا متحان الوزاري للحصول على معدل يؤهله لدخول كلية الهندسة 0
دخل الصريفة منشده البال ، وفي الوقت نفسه كان قد هجم على تفكيره سبب عودة والده المبكرة ، والصرخة الحادة التي شلته ، وبعد السلام ، طلب منه والده مباشرة وبصوت آمر حاد ان يجلس امامه 0
كانت أم جمال في صريفة المطبخ ، تعمل بنشاط لتعد الغداء لزوجها الذي عاد مبكراً 000 كانت هي الاخرى مشغولة البال 000 وقد سألت نفسها أكثر من مرة عن سبب عودة زوجها المبكرة 000 وأن مامنعها عن سؤاله ، هو انها رأت على صفحة وجهه علامات الغضب عند دخوله البيت 0
كانت صرخة زوجها ، قد أوقفتها عن العمل ، وأخرجتها من حالة الانشداه الى حالة اخرى لم تعرف معنى لها ، جعلتها تترك عملها  وتنتظر ما سيحدث بعد هذه الصرخة الغاضبة 000 سمعت زوجها يصرخ بأبنها :
– ها 00 كيف احوال الدراسة ؟
كان صوته قد تميز بالغضب 000 اما المسبحة السوداء ذات المئة خرزة وخرزة ، التي كانت بين اصابع يديه فقد شدت بقوة حتى يظن من رآها انها ستنقطع لا محالة 0
اجاب جمال ، رغم مافوجيء به من غضب :
– الحمد لله 0
صرخ الاب :
– الحمد لله 000 ها 000 والحاج فريح ؟
صعقه السؤال 000 اذ لاول مرة يسمع من والده مثل هذا السؤال 000 الا ان الاب لم يدع لابنه الفرصة للاجابة ، فتابع قوله ، والغضب ما زال مسيطرا ً عليه :
– اقصد التشابيه ؟!
اجاب الابن وقد تلبسته حالة من الخوف ، اذ اصبح كالطفل الذي ارتكب خطأ ً جسيما ً :
– ماذا عنها ؟
– رغم ان حدة الغضب قد خفت ، الا ان صوت الاب ما زال عاليا ً :
– اقصد دورك فيها ؟
اجاب الابن :
– سأقوم بتمثيل دور الامام الحسين 0
كان وقت الظهيرة  قد بدأ بازالة ما تبقى من برد حقيقي من ليلة البارحة ، فيما تكشفت بقع من السماء ، بعد ان تفرقت الغيوم ، فبدت اشعة الشمس تتسرب من خلل تلك البقع نازلة الى الارض لتوزع دفأها بحياء على الناس المقرورين ، واغلبهم بالكاد يكسو جسده ثوب واحد ، كالح اللون 0
الا ان صرخه الاب الثانية :- ماذا ؟ قد جمدت الدم في عروق الابن الراكع امام والده ، فأحس برجفة تلبست كل جسده 000 كان خيطاً بارداً صعد من الارض مع عموده الفقري وتوزع في نواحي جسده 0
جفلت ام جمال وهي في الصريفة الاخرى ، فأنهالت على اذ نيها عشرات الاسئلة التي راح الاب الغاضب يصرخ بها في صريفة الخطار 0
نزلت هذه الاسئلة كحمم بركانية ، سائلة ، لزجة ، مشتعلة ، احس جمال بجسده رغم برودته يحترق بها ، ولم تستطع ذاكرته ان تحتفظ بواحدة من تلك الاسئلة ، الا ان مافهمه هو ان والده  قد سأل عنه في المدرسة ، وان المدير قد اخبره ان ابنه جمال قد ترك المدرسة مع طلاب صفه بعد الدرس الثالث ، لعدم وجود مدرس 0
كانت اسئلة الاب الغاضب ، هي التي اصبحت بالنسبة للابن ،الجحيم الذي عاشه تلك اللحظة ، فامتدت مع برودة الجسد ، وحمم براكين غضب الاب الحيرة والقلق والخوف ، الا ان مااخرجه من كل ذلك ، هو :
– ماهي علاقتك بمهدي ؟
كان السؤال هذا ، هو القشة التي كسرت ظهر تلك الحيرة وذلك الخوف 000 لقد انتشله هذا السؤال من كل ذلك ، فاسرع بالاجابة دون تردد :
– زميلي في المدرسة وصديقي  في المنطقة 0
الا ان الكلمة التي نطق بها الاب بكل حدة ، قد صعقته مرة اخرى ، فجعلت تفكيره يتيه في دروب لايعرف لها نهايات :
– والحزب ؟
كانت لفظة الحزب حادة الحواف ، كقطعة زجاج مهشمة ، راحت تعمل في خلايا جسده بكل شراسة ، هذا هو بيت القصيدة ، قال جمال مع نفسه ولم يرد بشيء على تسائل والده ، فيما راح لون وجهه يتغير بسرعة ، انتبه لها الاب الغاضب 000 احمر ، اصفر ، باهت 000 مما دفع الاب الى ان يصرخ بقوة :
– ألم انصحك بالابتعاد عن أي حزب سياسي 000 ها ؟ لقمة الخبز نحصل عليها بالكاد ، وانت صاير سياسي 000 ماذا اقول للحكومة 000 ها 000 ماذا اقول لعبد ؟
كان اسم ( عبد ) هو الذي اخرج جما ل من تبدلات لون وجهه ، ومن الخوف والقلق اللذين تلبساه منذ ان سمع صراخ والده لاول مرة قبل لحظات 000 اجاب وهو يخفي عينيه بين الخيوط الملونة للسجادة المفروشة على ارضية الصريفة :
– وما شأن عبد ؟
صرخ الاب :
– يعني صاير سياسي ؟
– ابي 000 انا لم اقل ذلك 00 ولكن 0000
قاطعه الاب بحدة:
– لا لكن ولاهم يحزنون 000 انا اعرف كل شيء من زمان 000 قل لي هل صحيح قد انتميت لحزب سياسي ضد الدولة ام لا ؟
لم تكن الحيرة التي قد ترسبت في خلايا دماغه من ذلك السؤال سببها قول الحقيقة ، وانما كان السبب في ذلك ، هو ماذا سيكون رد فعل هذا الاب الغاضب على اية اجابة سيقولها0 00 الا انه قطع خيط تلك الحيرة ، واجا ب بصوت ثابت مكين بعد ان حاول ان يسترد بعض تفكيره ، ورباطة جأشه اللائي فقدهن منذ اكثر من نصف ساعة وهو يجلس امام والده كالمجرم الذي يجيب عن اسئلة محقق شديد المراس :
– نعم 0
مرت لحظات من السكون القاتل الذي خيم على فضاء الصريفة وخرج الى فضاء الدار وتمدد حتى وصل الى صريفة المطبخ ، الى الام التي اسرعت بالخروج والتوجه مباشرة الى حيث زوجها وابنها وهي تحمل صينية الغداء لتنهي حالة الغضب التي تلبست زوجها ،  فراح يكيلها لابنه الوحيد 000 وحالة الخوف التي عاشها ابنها الوحيد ،عندما دخلت عليهما ، كان الاب صامتاً وعينيه تحدقان في باب الصريفة 000 فيما وجه ابنها منكساً الى الارض0
وضعت الصينية بينهما 000 وبعينين حانيتين ، رمقت زوجها وكأنها تطلب منه ان يكون رحوماًُ مع ابنهما الوحيد 0

(14 )

كان مجلس العزاء الذي يقام قرب قيصرية القماشين ، هو موعد هادي ورفاقه مع مسؤولهم ، الرفيق صبحي0
اربعة شباب ، من طلاب ثانوية الناصرية ، يسكن اثنان منهما قرية الحاج فريح ، وهما هادي وجمال ، فيما يسكن زميليهما حمد ومحسن القسم الداخلي ، لانهما من مناطق بعيدة عن مدينة الناصرية 0
هكذا ضرب الاستاذ صبحي معلم التربية الرياضية في احدى مدارس المدينة والمسؤول الحزبي لهم موعده مع هادي ، الذي عليه ان يوصل هذا التبليغ الى رفاقه الطلاب ، اكد على هادي بعد ان انتظره في احد الازقة التي يمر عند عودته من المدرسة ، قال له :
– انتبهوا جيداً 000 موعدنا في مأتم العزاء الذي يقام في سوق الندافين 0
كان ذلك في اليوم السابع من ايام شهر محرم الحرام 000 وهو اليوم الذي تحل فيه ذكرى مقتل الامام العباس 000 والذي سيقوم في تمثيل دوره زميله سليم ، والذي رفض ان ينتمي الى صفوف الحزب ، رغم الحوارات التي اجراها معه هادي حول ذلك  0
اكد الاستاذ صبحي لهادي ، قبل ان يتركه ويمضي الى المكان الذي يختبيء فيه عن اعين رجال الحكومة :
– عليكم ان تجلسوا في منتصف المأتم ، وان تتركوا بينكم فسحة من المكان لأجلس فيها عند مجيئي بينكم دون ان ترقبني العيون 000 ثم اكد : سآتيكم بالزي العربي كي اضيع بين الناس في المأتم 0
كان الموعد بعد الساعة السادسة مساءً ، وهو موعد اقامة المأتم 000 وكان الهاجس الذي يجول في نفس هادي وجمال ، هو كيفية اقناع والديهما بتأخرهما الى وقت متأخر من الليل ، فقد حظر عليهما الذهاب  الى المآتم المقامة في المدينة في الليل ، فضلاً عن ان هناك اكثر من مأتم مقام في القرية ويمكن الجلوس فيها عدا مأتم الحاج فريح الذي يقام في منطقة باب الشطرة والذي منعا عن حضوره ، لانه لا ثواب فيه كما قال الشيخ لابناءه ولصديقه ابو جمال ، وتابع قوله :  فلوس حرام 0
الا ان هادي وجمال اتفقا على ان يخبرا والديهما بان مدرس الرياضيات سيلقي محاضرة اضافية على طلبة صفهم 000 فخرجا من بيتيهما  تلاحقهم وصايا الاهل بألا يتاخرا كثيرا 0
عندما جلس الرفاق الاربعة في المكان الذي حدده لهم مسؤولهم الاستاذ صبحي ، كانت السماء سوداء حالكة وهي تعد بمطر ثقيل ، فيما الهواء يجلد وجوه الجالسين بسياط ثلجية حادة الحواف  000 فيما كان الهاجس الذي اثقل على هادي وجعله مشدوه البال هو قلقه على مسؤوله ، وكيفية مجيئه والتكلم معهم وفي الوقت نفسه ، محاولة تصغير جسمه وهو يجلس القرفصاء جنبا بجنب مع زميله جمال خوفا من ان يراهما والديهما اللذان جلسا بالقرب من المنبر 000 اذ اية التفاتة صغيرة منهما ينكشف امرهما 0
كان المنبر المصنوع من الخشب الرخيص ، و المطلي باللون الاسود ، قد وضع في الجهة الغربية من المأتم الذي امتد على مساحة واسعة من شارع الندافين 0
***
كان الشيخ عبد الكريم وصاحبه عبد ناصر يحضران في كل ليلة الى هذا المأتم دون سواه 000 وعندما سألت ام مهدي زوجها الشيخ عن سبب ذهابه الى هذا المأتم البعيد رد عليها قائلا:
– ام مهدي الذهاب الى مثل تلك المآتم فيه فائدة كبيرة 000 فالقاريء عالم ديني متمكن فهو يفسر سور من القران وبعض احاديث الرسول ، وكذلك يعطي درس في الاخلاق والتربية 000 على خلاف قراء المآتم هنا في القرية 000 لا همّ لهم سوى قتل الائمة والنعي عليهم بصوت غنائي ممجوج 000 عشر دقائق وينتهي المجلس وابوك الله يرحمه 0
عدل الشيخ عبد الكريم من حزام ( الحياصة) على بطنه ، بعد ان ارتدى الصاية ، وتابع قوله :
– المآتم مدارس 000 مدارس في كل شيء 000 انهم يشرحون للحاضرين امور في الاخلاق والعلم والاقتصاد 00و00
ارتدى سترته ، و تابع قوله :
– المأتم عندهم اكثر من ساعة 0
بعد ان تهيأ للخروج ، اردف قائلا :
– ام مهدي ليس كل من هب ودب اصبح قارئاً 0
وقبل ان يخرج من باب الصريفة ، نبهها الى ان  تخبره بوقت عودة  ابنهما هادي ، ثم قال :
– الدنيا ليست آمان هذه الايام 000 والوالد صاير 000
اراد ان يقول انه ( صاير سياسي ) الا انه احجم عن ذلك وخرج ميمما صوب   دار صاحبه ابو جمال 0
***
عندما جلس الاستاذ صبحي في المكان المتروك له ، قال بصوت خفيض :
– السلام عليكم 00
رد الشباب الاربعة بصوت واحد ، بالكاد سمعه الاستاذ صبحي :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته0
كانت قلوب الشباب الاربعة قد تسارعت ضرباتها ، فيما تغير لون وجوههم 000 وبدأت اجسادهم ترتعش ليس من برودة الهواء المحيط بهم ، بل من هول المفاجأة 000 وكذلك من حالة القلق والخوف التي تعرشت في نفوسهم خوفاً على مسؤولهم 000 وعلى انفسهم 000 الا ان ما بدد تلك الحالة ، صوت مكبرات الصوت التي راحت تدوي في فضاء الشارع  حاملة صوت القاريء000 وكان الجميع ينظر الى شاب في الاربعين من عمره ، يعتمر عمامة بيضاء وهو يرتل آيات من القرآن الكريم بصوت رخيم ، منغم 000 وقد تاه في دنيا غبر دنيا الجالسين ، كأنه يعيش في ملكوت خاص به 0
كان القاريء حليق الوجه ، بعينين مكحلتين بالسواد ، ووجه لحيم يضرب الى الحمرة0
تهادى صوت الرفيق المسؤول الاستاذ صبحي هامساً في أذن هادي الذي كان يجلس على يمينه :
– أوقفوا كل النشاطات الحزبية 0
كان جمال الذي يجلس الى يسارمسؤوله ، قد  امال برأسه قريباً من اذن المسؤول ، فيما جلس حمد بالقرب من جمال ومحسن قريباً من هادي 0
سأل بصوت خفيض :
– لماذا رفيق ؟
قال الرفيق المسؤول وهو خافض الرأس :
– عندما ينتهي المأتم سنخرج متفرقين 000 وسنلتقي بعد نصف ساعة في المكان الذي كنا نلتقي فيه في كل مرة، قرب ( الروف )0
هذا كل ما قاله الرفيق المسؤول لرفاقه الاربعة المنتمين الى التنظيم الحزبي 00 فيما كان صوت القاريء يأتيهم وقوراً هادئاً وهو يفسر بعض آيات من القرآن الكريم التي تذكرها الزملاء الاربعة ، آية ،آية 000 اذ كانت تدرّس لهم في درس التربية الاسلامية فراحوا ينصتون اليه 0
اخذهم القاريء الى مأساة مقتل العباس 000 وعندما بدأ بقراءة الفاتحة انتبه الزملاء الى ان المكان الذي كان يجلس فيه الاستاذ صبحي خالياً 0
وعلى ( الروف ) التقى الزملاء الاربعة برفيقهم المسؤول الاستاذ صبحي تحت سماء سوداء لا قمر فيها ، وقد تكاثفت الغيوم ، وراحت سياط الريح الباردة تجلد الوجوه الشابة وتحيلها الى صفحة من الجلد اليابس 0
كان ( الروف ) هو المكان المناسب لهذا اللقاء الذي سيتقرر فيه نشاطات الشباب الاربعة ، وهم واقفين امام رفيقهم والقلق يخيم عليهم ، والعيون لا تهدأ حركتها في ليل ( الروف ) البهيم 0
قال الرفيق صبحي بصوت سمعه الشبان الاربعة هادئاً رزيناً :
– علينا الانتباه جيداً 000 عيون رجال الامن تبحث عن الرفاق0 00 اعتقلوا الاستاذ منذر صباح هذااليوم وبعض الرفاق في الشطرة ، وفي سوق الشيوخ ، وفي اماكن كثيرة من المصرفية ، وربما لن تروني بعد هذا اليوم ،00 عليكم ان تكونوا حذرين جداً ، تخلصوا من اية ورقة لها علاقة بنشاطكم الحزبي ، احرقوها ، مزقوها 000 خبؤها 000 المهم ان لا يبقى شيء يدل على انتماءكم 000 ولكن لا تنسوا ان المستقبل لنا وليست هذه الحالة جديدة على رفاقكم في الحزب 0
قاطعه حمد قائلاً :
–  لكن استاذ 000
الا ان الرفيق المسؤول ، تابع قوله :
– تأكدوا ان المستقبل لنا 000 سيقوم رفاقكم بثورة تنهي كل شيء 0
سأله محسن :-
– رفيق وهل سيلقون القبض علينا ؟
بالكاد توضحت امام العيون الشابة ابتسامة ارتسمت على شفاف الرفيق المسؤول ، وبصوت ابوي حنون سأل :
– محسن هل تخاف ؟
رد الشاب محسن :
– انا 000 كلا 000
– جيد 00 لكن لاتنسوا ان الكثير من رفاقكم القياديين الأن خلف القبضان 000 ولا اقول هذا لأخيفكم 000 بل لا زيد من حماسكم 000 لان السجن للرجال ، وانتم رجال 0
وقبل ان ينهي حديثه معهم ، وكمن يتذكر ، قال :
– ها 00 لا تنسوا ان رجال الامن في بغداد القوا القبض على رفاقكم في القيادة 00  فلم يبق من القياديين احد خارج السجن ، ولهذا تم ايقاف أي نشاط حزبي الى اشعار آخر 000 مفهوم رفاق 00
صاح الشباب الاربعة بصوت واحد :
– نعم رفيق 0

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *