أجساد بملابس موحدة تنام في الوحل، تمرّ عليها إسطوانات حجرية، تتساوى مع الأرض لكنها تعود لوضعها السابق، وتتحرك العيون بدورات كاملة حول محورها، تشبه عيون الأسماك، أو السلاحف في استدارتها وحركة الأجفان، لكنها تبدو كعدسات التصوير. لم تؤثر فيها العربات الحجرية، ولا عربات الدفع فهي مثل الصلصال تعيد تشكيل نفسها كل مرة، أو كعجينة قمح، أو مطاط، غير أنها بأنفاس دافئة، ومشاعر ذات أشجان، وأفئدة اعتادت الضرب، واللطم، والسحق، حتى صار كل شيء معتاد عليها، فالأفواه تتحرك، ولكن لا يسمع لنطقها حوار. تقوم الجرافات بحمل الأجساد وهي تتحرك كأنها دمى مبرمجة، وتركبها كأفاريز على حافات الجدران، وما أن تستقر هناك حتى تصبح تماثيل، بوضع الوقوف، لكن عيونها وأفواهها تتحرك. يقوم البعض من مكانه فيُشار إليه بأن عليه المرور بأنفاق لكي يصلوا لصانعي التوابيت الخزفية، وينزل البعض في حفر محاطة بخشب، وسلالم زرقاء، عليهم أن يجلسوا في قفص يتحرك لولبياً مثل دولاب الهواء، فيصلون لفتحة تقلهم إلى سلم برتقالي يركبون من ثم في قفص، وينقلبون رأساً على عقب لكي تتعلق نهاية القفص بسلّم له فتحة ثالثة فيها إطار خشبي بلون الزيتون، وفوقه أرض إسمنتية صقيلة، ويقف عند محاور الفخار الدوّارة الخزاف يحيى، وهو يدير دولابه، ويتطلع إلى سقف الغرفة مبهوراً، بغطاء التابوت الخزفي النادر الذي جلبته الجثث معها، فيقيسه لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الدمى الميتة بأن هذا لبستوقة المخلل، وليس لناؤوسه.
إن للأجساد وجوه لا سمات لها في واقع الحال، لأنها سمات بشرية عامة من مختلف الأعراق، والأمم والأجناس، وكأن هناك اختلاط جيني متأصل فيها منذ آلاف السنين، ولأجيال متعددة، لهذا فإنها تنساب من خلال أحلام المترائين بأشباه الناس الذين ذهبوا ضحايا، ومن خلال ما يتراءى للحالم، واستعداده لتقبل ملامح الوجوه المغدورة، لا زمان متقدام لها، ولا مكان تركن إليه، ففي الأحلام تختلط الأزمان، وتتمازج الجغرافيات، وهكذا تظهر ملامح وجوه الأجساد بين عربية، وآسيوية، وأفريقية، وحتى أوروبية، وأمريكية، من هنود حمر، إلى فيتناميين، فأوغنديين، وصوماليين، ثم عراقيين، وفلسطينيين.
أما الأوغاد من الهمج، والمجرمين الغاصبين فهم ثلل قادة، ورموز حرب، وجواسيس، وفرق إعدام، وعساكر غير نظاميين، ومرتزقة من الرومان، والفرس، والمغول، والترك العثمانيون، والفاشيون، واالصهاينة، والأمريكان، والإنجليز وكل ظالم محتل، وغاز.
في العالم الثاني هناك أرواح لمغدورين، ونفوس لمنقذين كانوا يعيشون على الأرض منذ ملايين السنين قبل حروب الأرباب في العراق القديم، وتوارثوا، فبقوا في هذا العالم المثالي الذي لا يميز بين إنسان وآخر من أمثال إنليل، وإنكي، وإنانا، ونينورتا، وغيرهم رشحوا مندوبتهم نينار لكي تكون رسولة محبة بين الواقع والأحلام التي يعيشها المأزومون.
1
فجأة يصرخ شاهين في فراشه وقد أقيظ زميله محيسن، ويقوم محيسن لتهدئته: سلامتك ما الذي حصل؟
شاهين: يبدو أنه نفس كابوس
محيسن: اشرب من هذا الماء الصافي من نبع عذّيب الذي جلبته هذه الليلة وأنا عائد من أسفل جبل كورك.
يسقي محيسن، شاهين الماء، ويغطيه ويذهب لفراشه، سرعان ما يعلو شخير شاهين. فيسحب محيسن غطاءه فوق رأسه، ويحاول أن يستقر في وضع مناسب لاستكمال النوم، أما شاهين فإن جرعة ماء عين عذيّب قد أسكنت هواجسه للحظة الفزع الذي انتابه من ذلك الكابوس المريع، كابوس كان يحاول جره في كل مرة إليه وهو يتنامى، ويتبدل في كل مرة، لكن شمس صديقة طفولة شاهين التي توفيت في سن مراهقتها، هي التي تلطف الجو، وتمنع كثير من الصور المرعبة للكابوس عن حلم شاهين، لسبب لا يعرفه هو، ولم يدر حتى الآن ما الهدف من تكراره، وتوارده بمآسي لأمم مقهورة، أما نينار التي تزور أحلام شاهين، وأحلام يقظته فإنها تأخذه إلى أجواء مريحة، فتمينيه بآمال عظيمة، وتطمئنه على أحوالها، وسعادتها، واستقرار روحها، ومع هذا فهي تحن إلى أيام طفولتها قبل مرضها. شمس هذه لها قصة حزينة في ذاكرة شاهين، فهي صديقة الطفولة ذكية، جميلة، ودودة، وحديث كافة زملائها وزميلاتها في مدرسة راهبات سينقارة المختلطة، ولما انتقلت إلى المتوسطة افترقت عن زملائها الذين ذهبوا للدراسة في المدرسة الرسمية للبنين، ومنهم شاهين نفسه، وسمع الكل أن شمس هذه قد مرضت بمرض غريب، أصابها الدوار في البداية، ثم نحل جسمها فلم تقو على مواصلة الدراسة، وصارت كالطفلة تحملها خالاتها، أو عماتها حتى توفيت في غضون ستة أشهر، وخرجت البلدة كلها لتشيعها في زفة إلى قبرها كالعروس وهي ابنه السادسة عشرة، ولكنها لم تغب عن خاطر الكثيرين، ومنهم شاهين الأقرب عمراً، وعلما، وصداقة.
ولكثرة اهتمام شاهين بشمس، نينار نفسها، أصبحت لا تغيب عن أحلامه، أو أحلاًم يقظته، كان وقت مرضها قد حاول استحضار روحها، فمارساً معاً أفعال تبادل الأفكار والتخاطر بشكله التلقائي الفطري، لم يكن شاهين ليدر كيف، ولماذا حصل هذا لهما، أما بالنسبة لنينار، وهو اسمها الذي تداولته مع شاهين فقط بعد مرحلة من تخاطرهما، لأن اسمها الحقيقي بين الأهل، والمعارفهم كلهم هو شمس، أما اسم نينار فهو الاسم الذي منحته لها الأرواح التي زارتها، وذلك لأن مرحلة المرض الذي وصلته نينار هي التي جعلتها تتجلى إلى هذه المرتبة من الذكاء، ولربما هي التي أوصلت شاهين إلى حالة التسامي التداعي، والتماهي في التخاطر عن بعد، وقد صار هو وسيطها بين الأهل والأصدقاء عندما كانت تعجز عن التعبير عن أفكارها بالكلام، وعن مطالبها بعبارات مفهومة من عواطف ومستلزمات، مما جعل أهل نينار\ شمس يتوسلون بأهل شاهين أن يدعوه يزورهم، ويبقى إلى جانب نينار التي كانت آلامها تستقر وتهدأ روحها بمجرد وجود شاهين إلى جانبها.
وبعد أن نزلت في لحدها نينار، سرت حالة من الهستيريا لشاهين، أرقدته ثلاثة أسابيع في الفراش، كان يهلوس، ويذكر أمور حيرت أهله، قصص وخيالات لم يستوعبها أقرب المقربين له، عبارات من علوم عديدة: الرياضيات والفيزياء، الجغرافيا، التأريخ، الفلك، الأحياء، وعلوم كثيرة أخرى تميز شاهين في معرفة أصولها، ظهرت فجأة لديه كموهبة، وقام بتطويرها وهو متابع لدراسته المدرسية، فغذى ما لديه بقرءات خارجية، صار هو المواظب شبه الرسمي مع موظفي المكتبة العامة، ولما أنهى الجامعة، كان من المتفوقين في علم الفلسفة، فجأته بعثة دراسية ختم دراسته الأكاديمية، بدرجة الدكتوراه حتى عاد فانخرط في الخدمة العسكرية التي لم يفارقها حتى الآن.
وهكذا اعتاد شاهين على زيارات نينار لأحلامه، ومنها تنقله معها لزيارة أحلام زملائه في المعسكر، وعندما تغيب نينار عنه، يقوم هو بالاستعانة بها لحل أزمات يعانيها زملاؤه في أحلامهم حتى تلك التي تصبح كوابيس مستعصية، يمارس هو ونينار فكها، وإعانة الحالم على تجاوزها، حتى وصلا يوماً لدخول أحلام آمر المعسكر ثروت. هذا الرجل الذي ضاعت عليه ابتسامته منذ تقمص شخصية مخالفة لمواهبه، وصارت الأمور أكثر تعقيداً منذ أن أجبره والده أن ينتمي إلى سلك الجيش فتغيرت طباعه بمجرد لبسه ملابس الكاكي، لأن ثروت كان يود أن يكون شاعراً، وفجأة وجد نفسه يتعامل مع السلاح والفتك بالناس، مهنة تصورها السلطات على أنها الدفاع عن الأوطان أوقات المصائب والغزو، ولكن ثروت وجد نفسه هنا هو الذي يغزو، وينحر ويذبح بقلب بارد.
ولقربه من مكان تواجد نينار، ومعرفتها المسبقة به وبأهله عندما كانت صغيرة، كان هو شاب يزور أهله وقد ارتدى بزة طلاب الكلية العسكرية، فعطفت عليه لما فوجئت بأزمات في أحلامه، واخذت تكرر زياراتها لأحلامه، لتساعده على تفكيك عقدها، والوصول معاً إلى رموزها، هي وشاهين وسيطها فيما بعد، ولكن الأمور الرسمية، والتعقيدات التي تلازم ثروت من ممارسته اليومية للقيادة العسكرية هي التي تعقد أمور، ويستعصي عليه التعاون لتجاوزها.
أما قصة شاهين مع نينار، فإنها في مرضها كانت قد استقبلت زوار من أرواح هؤلاء المعذبين ذوي الأجساد الموحلة، تتوسلها أن تنتقل إليهم لترتاح، وأن تقوم قبلها بتوصيل رسائلهم إلى هذا العالم من خلال وسيطها شاهين، أن كفى تقتيل بالبشر، وقتها لم يكن شاهين على دراية كافية ليفهم معزى الرسائل، وأهمية توصيلها، لمن، ومن من، وكيف، ومن أجل ماذا، في ذلك الحين اضطرت إحدى ربات العراق القديم تقمص شخصية شمس، وصار اسمها نينار الاسم الثالث لعشتار إنانا، فتمكنت من تدريب شاهين وصارت هي نينار بالنسبة له منذ ذلك الوقت، ومنذئذ اهتم شاهين بدارسة التاريخ القديم وزار المتحف العراقي، وتعرف على علماء الآثار العراقيون، والأجانب، فتعلم الكثير من العلوم اليومية، ومنها تحليل الأساطير، وتفسير الأحلام على غرار ما كان يتم في سالف الأزمان.
وتطير نينار الآن من حلم شاهين فيعتدل في فراشه وقد استرخت أعضاؤه بينما هبت نسائم عليلة من النافذة، فيتأوه أحد الجنود في عمق الربيئة، وهو شامل. فيسحب هذا التأوه شاهين، ليرقد في فراشه ويركب فرسه الطائرة إلى حلم شامل المأزوم قبل أن تفلت منه الفرصة، هاهو شامل حسن يدور حول شاطيء النهر بحصانه بنشوة، وتشوق للقاء محبوبته زهرة، فيرى في عمق النهر أنها حورية تسبح، فينزل من فوق حصانه، ويقترب حينما تبدأ الحورية في الظهور، والاقتراب منه.
هذه الحورية التي تراءت لشامل على أنها نرجس حبيبته التي يفتقدها، ويتشوق لرؤيتها، والزواج منها حالما تنتهي الحرب الطويلة، فهي في الحقيقة ليست سوى روح نينار التي تقمصها شاهين ليريح هواجس معتملة بنفس شامل، وما أن تدنو الحورية من شامل حتى تباركه بقبلة، وتمنحه زهرة من النباتات الطافية فوق سطح الماء، وتهمس في أذنه كلام يريحه، فيخطفها شامل بسرعة ليركبها خلفه على الحصان، ويفران نحو الأفق البعيد.
ورغم أن روح نينار قد حوطت خصر شامل على الحصان، إلا أن شاهين بقي منتظراً على ساحل النهر ليلم بقايا الزهور المتناثرة من باقة الزهور المائية، يتحسر على الندى الذي صار بركة من ماء ورد عطر، مسكوب على الطين، ويرى في بؤرة كل قطرة وجه من وجوه الجثث الموحلة تناديه، وتؤشر له بأن يخترق البلورة، ويدخل إليهم، وما دام شاهين في حلم شامل، فإن شامل نفسه يرى كما يراهم شاهين، وينسى أمر حبيبته نرجس في صورة نينار، وبالعكس، رغم أن هواجسه لا تمت بصلة لأي من نينار أو شاهين، وها هي الجثث تتصور لشامل ولكن ببعض التغير في التفاصيل، هاهي أجساد أهله في قريتهم الجنوبية، بملابس الفلاحين تنام في الوحل، تمرّ عليها إسطوانات حجرية، تتساوى مع الأرض لكنها تعود إلى وضعها السابق، وتتحرك العيون بدورات كاملة حول محورها، كعيون السلاحف في استدارتها، وحركة الأجفان، لا تؤثر فيها عربات الدفع فالأفواه تتحرك، ولكن لا يسمع لنطقها حوار. وتختلط الصور لتعود من جديد فيرى شامل الأجساد ينزل بعضها في حفر محاطة بخشب، وسلالم زرقاء، عليهم أن يجلسوا في قفص يتحرك مثل دولاب الهواء، فيلجون فتحة تقلهم إلى سلم برتقالي يركبون القفص، فتضيق عليهم، ولا يستطيع شامل التنفس فيفيق مرعوباً.
وينهض شاهين على صراخ شامل ليشرب الماء، وينظر إلى ما حوله، وما أن يعود حتى يسمع شخير واثق، وتأوهاته، وهو يحكك بطنه بانفعال، ويرفع يديه إلى فوق وكأنه يرفع ثقلاً، أو يحمل أغراض تثقل كاهله، ويسرع شاهين إلى الفراش فيغطي رأسه باللحاف ليغط مباشرة في حلمه، ويسبح في تهويمات توصله إلى حيث حلم واثق الذي يحمل جرة زيت وهو يرتقي مرتفع شاهق، وقد ارتخى حزامه، وفتحت خيوط بسطاله، وصار البسطال نفسه عائق جديد في حركته، فيسأل شاهين واثق: ماذا تحمل، وإلى أين تصعد؟
فيجيبه واثق متقطع الأنفاس لكن بعينين شبقتين: أحمل الزيت إلى حيث محبوبتي في بيتها فوق التل.
ويوحي شاهين لنينار بأن تطير لغرفة الغرام فتستقبل واثق، وما أن تأخذ منه الزيت حتى يندلق بعضه على ثيابه، وبطنه، حتى تهرع نينار لأقفال الباب لكي تمسح ما علق من زيت عن بطن واثق، وتخلع عنه القميص وقد امتزج عرق واثق بالزيت، تشمه بعنفوان مراهقة، فتثور رغبات واثق، وما أن تبدا بمسح الزيت بأناملها، حتى يقترب واثق بأنفه منها، فيناغيها باسم محبوبته شوق، فيبرق المفتاح الذهبي في عنقه، فتدعوه نينار التي تقمصت شخصية شوق إلى السرير، وقد انشغلا عن الدنيا كلها، وكأنهما عريسان في أول ليلة لهما، وفي طريقهما يعثران بوعاء الزيت فيدلقانه على الأرض الموحلة، فلا يعيرانه أهمية، ويقوم شاهين ليلمه من خلفهما، فيبصر في فقاعات الزيت وجوه المنادين له بأن عليه أن يعبر إليهم، وأن يجيئ دون تأخر، وكما حصل مع شاهين، ونبراس تراءت لواثق أجساد بملابس مدنية تغطيها الأوحال، لا دماء، لكنها جامدة مستلقية على قارعة الطريق مثل أجساد المضربين عن الدوام، يعطلون السير، والسائرون يمرون فوقهم، وتدهسهم أقدام ناس لا يحسون بوجود الأجساد، ولا ينتبهون لتعثرهم بها، بطون الأجساد تنتفخ الواحدة تلو الأخرى، فيرتعب واثق، ويفيق من جديد.
ويركن شاهين في فراشه بلا حراك، وهو يرى إلى سرير واثق كيف هدأت نفسه، وارتخت حركته في نومه على السرير، وقد استلقى على ظهره تشع ابتسامة متوردة على وجهه، وشفاهه تتحرك كأنه يتكلم، أو يقبّل أحد ما، لكن شاهين يلتفت إلى الجهة الثانية حالما تعلو تأوهات غازي في منامه، وقد صار يصّر على أسنانه فتصدر صريراً مميزاً. ويفكّر شاهين بأن هذه فرصة ثالثة قد تكون أهم من غيرها لأن غازي هو رئيس عرفاء، وقد تجاوز الأربعين من عمره لعله ذو خبرة أكبر، وأكثر طواعية في تقبل الاختراق، والتماشي حتى نهاية الحلم من غير مقاطعة من دخلاء، ويغمض شاهين عينيه وقد رّكز على مكان غازي، ووضعيته، ها هو غازي يحمل سلاحه على منكبيه، وهو يهرول في حقل أخضر لكنه مملؤ بالعربات المجنزرة من غير ضجيج، يحاول العبور على سكك العربات التي تلف دواليبها بكل مهارة وحذر، فهو مدعو لوليمة يكثر فيها الشراب والأكل، فينسى أنه يحمل سلاحاً، وإنما يصبح ما يحمله حقيبة تحوي على شتى أنواع الحاجيات، جلبها في إجازته لأولاده، ولكنه يريد قضاء وقت جميل في الوليمة مع محضيته كوثر التي شوت له السمك المسكوف، ودعت صاحباتها للاحتفاء بعودته، ها هي رائحة المسكوف تغمر غازي حتى قدميه، فصار يفكّر بوصول أسرع، وأقدامه لا تساعداه، فيرفعه شاهين ليطير به فوق العربات، وتكون نينار قد سبقتهما إلى المكان ورتبت المجلس، فوقفت الكاوليات يتمايلن بشعورهن في استقبال العريس القادم من إجازته، وقد تمايلت أجسادهن، وأنزلن الأحزمة حتى الأرداف. نينار\ كوثر تجلس في صدر المجلس وبيدها عود تدندن عليه أغنية يفضلها غازي على غيرها، ويحط شاهين بغازي على الأرض مقابل خيمة كوثر\ نينار فتهرع الجميلات ليحوطنه من كل جنب، فيفتحن حقيبة غازي ليتوزعن الهدايا، وتبقى عين غازي تدور لتبحث عن كوثره حتى يراها مستلقية على ظهرها، والعود بين أحضانها وهي تنشد له: دزني واعرف مرامي، صادوني صيد الحمام.
ويرد عليها غازي بصوت سكران عذب: يا ولد يابو السيجارة دخيلك سويله جارة.
ويهرع غازي لتناول حبات الرمان على صدر محبوبته، وينحدر في وتضاريس جسدها، فيشم العطور ممتزجة بكل أنواعها، ويمص رحيق زهور لا تضاهى، وفي هذه الأثناء يبصر، فإذا بشاهين وقد أمسك العود ليدند قرب السرير، فيطرب للحن، ويتذّكر أنه قد رأى هذا الوجه، فيعرف من الخاطر بأنه هو شاهين بنفسه الذي يحلم طوال الوقت، أحلام يقظة يسمعها القاصي والداني أصوات تأوهات ويتناول غازي معضد العود بيده ليوقف اللحن، ويدعو شاهين لمشاطرته المحبوبة كوثر من جهة نينار، ولما يسأله شاهين كيف عرف هذا، يجيبه غازي بأنه هو شاهين نفسه الذي ساعده في لقاء كوثر التي استعصت عليه في ليالي الجبل، والحرب، وها هو يكافئ شاهين في حلمه، ويقوم غازي ليترك شاهين مع المحضية كوثر\ نينار لكي يملأ معدته بالعرق والتشريب. وقد التهى بمناغاة الوصيفات اللاتي تمايلن بشعورهن على أكتافه، كل منهن تناوله لقمة، وبعضهن يملأن له الكأس تلو الأخرى حتى يغفو بفمه الملآن على المائدة، فتقهقه الوصيفات بأصوات عصافير الجنة، ويصحو غازي ليرى شاهين متدثر بغطاء سميك في لهيب الصيف، وقد عرق جبينه من الوجد، والفرح.
وينتبه شاهين للمجند المسرحي فجر، تتراى له مسرحية الإبرة منسوبة لبريخت في الحلم فيراه يتقلب كأنه في حالة مخاض لولادة عمل إبداعي لديه، ها هو فجر مع ممثليه يحركون إبرة عظيمة في صالة القاعة الوسطية، وكأنهم يرفعون شراعاً، أو يخيطونه بشكل يشبه دودة القزّ عندما تلتهم ورق التوت على عجالة، يجري هذا وشاهين يرى الحدث من بعيد كأنه يراها من نافذة، أو من خارج الصالة، وعندما يتشجع للدخول، فإذا بأحد أفراد الجمهور ينهض ليمنعه، وكأن ذاته تناقض ذاته الثانية، وأصالة ذاته الجمعية ليقول: لا نريد سين من فئة ما، ويجيب شاهين للتو بعفوية، لا للتفرقة، فإن التنوع بالاختلاف، والتقدم بالتنوع، انظروا لماضي العراق العتيد كيف ازدهرت فنونه، وعلومه، وأدابه بالتنوع من خلال تعاون كافة مقومات المجتمع في البحوث، والتنظير، والتراجم، فيقترب منه الحريصون عليه، ويسحبونه إلى زاوية قائلين بأن الغوغاء تنضم نفسها لعمل شيء يؤذيه، ولا يعرفون ما هو، لكن فجر يقلب الفكرة للدفاع عن مسرحيته، بناء على سماعه رأي شاهين فوق منصة النقاش، وكأنه يرى في فجر صنوه الذي ينبري لحمايته، كما فعل إنكيدو، وكما بشر المعمذان، ويلح الكل بأن تعتلي ذات شاهين منصة التحاور، لكي تعبر الأفكار بسهولة للجمهور، ويقوم بقناعاته بإخراس الغوغاء، ويفرح الناقد المسرحي العتيد ظافر للفكرة، لأنها فرصة ليقف أمام مغترب ملوع، وذي باع طويل في المعاناة، وتبدأ المحاورة بهدوء: ثنائيات الذوات المعلنة فوق المنصة، والذوات المختبئة تحت الطاولة: وينبري فجر للعتاب كالعادة، ولكن الأجساد الموحلة تحاصره لتدخل حلمه هو الآخر، فيرى أجساد قرويات فيتناميات عارية تغطيها جلود الماعز، يتمرّغن في الوحول، والجنود يغرسون سناكي بنادقهم فيها، الأجساد كالمطاط لا تؤثر السناكي فيها، يرتفع في وسط الأجساد طفل حديث الولادة يصرخ صرخة الحياة، وتقوم الجرافات بحمل الأجساد وهي تتحرك كأنها دمى مبرمجة، وتركبها كأفاريز على حافات الجدران، وما أن تستقر هناك تصبح تماثيل مستلقية على الظهر، وعيونها وأفواهها تتحرك. فجأة يقف النجار يحيى، وهو ينشر غطاء صندوق، أو باب، ويتطلع في الأفق مبهوراً، في غطاء التابوت الأبنوسي النادر الذي جلبته الجثث معها، ويقيس لمرّات، ومرّات، لكنه لا يصدق قول الموتى الدمى بأن هذا لباب معبد، وليس لناؤوسه.
وينتبه شاهين لطريقة نوم إبريز، فيجوس في حلمه ليرى إلى إبريز النحات يلتقي صديقه لُجين في إحدى بنايات المعهد العالي لفنون التمثيل، ولكن بطريقة تقليد حركات التماثيل، فيطلي الممثل جسمه بالجبص، ويتحرك حركات بطيئة حتى يجمد الجبص، ويقوم زملاؤه برسمه، وتصوير الحركات، لكي يقلدونها فيما بعد، أما إبريز، ولُجين فيتحاوران بسرعة رهيبة، ويهرب كل منهما في اتجاه كالغرباء، ويلتصق الجبص في ورك لُجين، فيحاول نزعه، وهو يركض لالتقاط تاكسي يقله للبيت، ولكن اثنان من راكضي الرياضة يتصديان له بعباءة، ليرتهناه، ولا يدري لماذا، فيقوم لُجين بنزع الجبص عن رليفات بناية أثرية علا الصدأ بروزاتها الفضية، فيبدي هذا إعجابه بالعمل من خلال تعابير مستشاريه، لكن زوجة لُجين تنتقد من صنع المبرزات أنفسها، وتبين أخطاء جسيمة في المواد، والفن، فيمتقع لُجين، ويغتاظ لكن حلمه يتم اقتحامه بنفس المناظر التي زارت زملائه في أحلامهم وها هي الجرافات تكنس أجساد موحلة، وقد تقطعت ملابسها، عيون الأجساد تتحرك والأفواه مفتوح على أصوات قهقهات، وضحك هستيري جماعي. وتقوم الجرافات بحمل الأجساد وهي تتحرك كأنها دمى مبرمجة، وتركبها كأفاريز على حافات الجدران، وما أن تستقر هناك لتصبح تماثيل، بعضها بوضع الوقوف، والبعض الآخر مستلقي، والبعض الثالث يجلس القرفصاء، لكن عيونها وأفواهها تتحرك، ويبهت فيفيق ليرى شاهين ينظر في عينه، فيفزع منه، وينهض ليخرج من الخيمة.
وينظر شاهين إلى حيث سديم فيراه مقرفص رجليه إلى بطنه تحت بطانية الجيش، ويسرع ليغطي نفسه لكي يدخل عالم سديم الساحر فيرى أن سديم محاصر في دوّامة اسمنتية دوّارة كملاعب الألوميباد، وفيها مياه جارية ولسان حاله يقول: أعوم، أو أمشي في الدوامة، ويبدو لي الآن الأمر لا يعدو عن مزحة تتحول إلى واقع في وجود غزو مقصود، ولكـن المكان هذه المرة يبدو كقلعة دائرية، أو ما يشبه المسارح الدوّارة على نظام الصالات متعددة الأغراض، وأنا مازلت بين الممرات، لكنه كما يبدو المسؤول العارف لكل المداخل في المكان، وفي الهرج العائم، لهروب ناس، ومنهم أهل سديم وأقرابه ربما أتذكر ارجوان أختي بينهم، فأحاول أن أقفل إحدى بوابات ممر خلفي خفي، ولكنه قريب وهناك أطفالها يريدون المرور، أوالاختباء فلا أقوى على ممانعتهم، فيدخلون، ويختفون، وفجأة ينقلب نصف السقف الدائري على نفسه وينطبق، وأمر أنا من بين كل هذا بسلام رغم أنني أخوض في المياه المنطلقة من ممرات اسمنتية لولبية، بمياه نقية، فأجد أحد المداخل السرية، فأفتحها، أدع الفزعين يمرون منها، ولكن إلى أين لا أدري، وأتذّكر مزاريب تحت أرضية تخيلتها رخوة، وفجأة ينقلب كل شيء فأرى الناس من جميع الجنسيات في الأوحال يشربون من نبع ماء صاف، والجنود يبولون في النبع، يقوم البعض من الأوحال فيشار إليهم بأن عليهم المرور بأنفاق لكي يصلوا لصانعي التوابيت الخردلية، وينزل البعض في حفر محاطة بزهور اللوز، وسلالم من أغصان الجوز عليهم أن يجلسوا في قفص يتحرّك مثل دولاب الهواء، فيصلون لفتحة تقلهم إلى سلم من أشجار الزند يركبون القفص، وينقلبون رأساً على عقب، يا ربي هذا كابوس، علي أن أشرب الماء، ويفيق سديم ليرى أن البقية قد خروجوا إلا شاهين فهو يغط في نومه. وبخروج سديم يقوم شاهين ليخرج هو الآخر.
2
في ظهيرة اليوم التالي لمنتصف شهر تموز، حيث يغلي الماء في الكوز في والمدن الكبيرة، بينما يختلف الحال في المناطق الجبلية، جبال تكسوها الأحراج، وأشجار الزيتون، الكرم، التين، الرمان، الليمون، البرتقال، واليوسفي، أنواع عديدة، وينابيع المياه تتفجر تحت الأراضي فتنبثق مثل نوافير هنا وهناك.
وعندما يجلس نبراس يوسف عيسى الفلاح تعباً من جمع حبات الزيتون الخضراء في ظل شجرته المعمرة، على سفح جبل قرب بلدة بيت لحم، وفي الجهة المقابلة بني معسكر لقوات سلطة الاحتلال التي تحكم أهلها، وتحتلهم، فإن نسمة عليلة تهب متخللة مسامات نسيج ملابسه التقليدية، فتلغي النسمات تعب الفلاح آنياً، حين ذلك يعمد نبراس لتسلية عمره الطويل بلف سيجارة من تبغ زرعه في الموسم الماضي، فيقوم بعدها ليأكل قطعة جبنة ملفوفة بخبز صاج، ثم يتفكه بما يتيسر له من الموجود على أغصان شجرة يوسفي قريبة اعتز كثيراً بمداراتها، أو شجرة تين اعتنى بتطعيمها من أصناف التين المحسنة، غير ناسي حبيبته البندقية ورفيقة دربه التي تلازمه أبداً، يعلقها على كتفه لتقيه عاديات الزمن ووحوش الطبيعة، وكواسر البشر، فيقوم ليحملها وقد قلب رأس فوهتها أسفل فصار أخمصها إلى أعلى. يلازم بندقيته طالما يريد أن يبقى حيّاً، فيقوم ليحمل ما ورثه عن أبيه يوسف، عن جده عيسى، فيقبل فيها عيون الأب، والجد عندما يقبل فوهتها، وأخمصها في كل مرّة يحملها غير عابئ بأصوات الانفجارات، وأزيز الطائرات من حوله، فالطبيعة التي وٌجد فيها تحميه، كما حمت أجداده منذ قرون، وقرون، ولسوف يورثها إلى أحفاده سواء من صلبه، أو أولاد أخوته، وأخواته. ورغم قناعة هذا الفلاح العجوز بهذه العيشة وهذا المصير، فإنه لا يفكّر بطمع ما، وجشع خاص للاستفادة من ثروات الطبيعة، وإنما يأس لحال هذه الأرض التي تهمل لفترة وأخرى دون مدارات، أو عناية أصحابها وأربابها وهم ابناؤها، كيف يستطيع هو الفلاح الذي اعتاد ألآ يترك الأرض تأكلها الأعشاب البرية المتطفلة من غير قلع، والتربة بلا تنفيس، لكي تعطي ثماراً جيدة وإنتاجاً غزيراً. كيف يقوم بهذا العمل، وجرافات المحتل تحوم حول المناطق لتقتلع الأشجار، وتبني مكانها مساكن للمرتزقة المهاجرين من كل العالم.
فكر نبراس بحاله، وحال نظائره من الفلاحين المضطرين لترك الأرض تعاني أمام أعينهم، وهم لا يستطيعون البروز إليها لتخليصها من آفاتها، بسبب سياسة الاستيطان التي لا تنفكّ عنها وعنه، هذه الحروب التي تريده أن يترك أرضه، وحبيباته الأشجار اللواتي رباهن بأيديه وعرقه، فصرن مثل بناته ونسائه وخليلاته، فقد تجذر هو والأرض والأشجار ببعضهم البعض، وصاروا كتلة من معدن واحد رغم اختلاف التكوين، كأنما أنصهروا في خليط متجانس واحد، ويتذّكر نبراس عيسى الأيام الخوالي مع أهله الذين جاءوا به معهم ليلموا حبات الزيتون الخضراء، ليتعلم مهنة الأجداد في جمع المحاصيل المختلفة في النوع، والجمع، والحفظ، لكنه كان كصبي يود أن يلهو، فينفلت بغتة من التزامات الواجب لكي يركض وراء نحلة تارة، وفراشة تارة أخرى، حتى يصل لمرابض الأيل البرية، ومنها يرى الحقول مزهوة بورود الدحنون البرية، وأزاهير أخرى كالخزام التي نامت فوقها أسراب النحل، فيركض خلف مجموعة تقوده لشانة نحل من العسل، لا يتوانى بجهل وجسارة الصغار أن يدخل يده فيها دون خوف أو وجل من قرصات النحل المتوقعة.
ها هو نبراس ينظر لتلك الكتل المعدنية التي تبرز من بعيد في معسكر الاحتلال، وقد صوبت فوهاتها إلى بلدته، والجبال المحيطة بها، بانتظار الأوامر لكي تقذف بحممها على الأرض والمزورعات والأشجار، التي لا ذنب لها سوى أنها نبتت في هذا المكان، وينتبه نبراس إلى نداء لأصوات ملائكية تمر مع نسمات الهواء في أفياء شجرته المعمرة، تخيل أنها لوجوه شباب وشابات بلدة كفر قاسم الذين مضى علي قتلهم ستة عقود ونيف، ويأتيه صوت في حلم يقظة لنوع من الاستغاثة المتأخرة، لكنه يبعد الغم عن هواجسه في رغبة للنسيان أو التناسي، كم كانت لهؤلاء الشباب من أمنيات، وآمال يحلمون بتنفيذها، فمنها الدراسة الجامعية، ومن ثم العمل على بناء هذا الوطن ومباركة تربته، ومن ثم الزواج من الحبيبة، وتكوين أسرة سعيدة في وطن أسعد، تميزت من بينهم حنين، التي تزوره في أحلامه لمرات، بشخصية بهية كآلهات الجمال الكنعانية، لتجعله ينفس عن رغباته كأنها تعرف من هو، ولمن ينتمي، وكانها أيضاً كانت إحدى الفتيات اللواتي غازلنهن أيام شبابه.
وتأخذ نبراس إغفاءة خاطفة كان قبلها قد عبأ رأسه بدخان غليون تبغ لذيذ، يرى نبراس الشجرة العتيقة العريقة المؤلفة لعديد من السنين. وفيها من تحت قد حملت شانات من خلايا النحل، وهي مدلاة، وقد دخل الحالم بنصف الشجرة الني تبدو كأن ممراً قد صار تحتها. ويأتي رجل مخيف لكنه مسن كالتاريخ ليحدث نبراس وكأنهما يعرفان بعضهما منذ الأزل، فيتفائل نبراس بأن المستقبل للأرض، والشعب الذي يعرفها، وتعرفه.
بعدها راح نبراس سريعاً في انزلاقين مريحين، وباتجاهين متشابيهين: أولهما في حلمه حيث يرى فيه نفسه وهو شاب يشارك في رقصة الدحّة وإلى جانبه محبوبته حنين التي لا يريد لكتفيهما أن يفترقا عن بعضهما من هزهزات الدبكة، ورجرجات النهود أما ناظري الشبان، ويشم كل منهم عطر جسد معشوقته، وكأنه إنزيم يسري في حلقة الدبكة من زوج متحاب إلى آخر بدأ للتو بالانبثاق، ليغشي الواحد تلو الآخر في نشوة حب، هيام، وهم يتلذون بمراقصة من يحبونها، وهي إلى جانبهم كتفاً إلى كتف، وبما تتركه الأجساد المهتزة من نشوة تعتري الجانبين معاً، ومن حولهما اهتزاز الأرض، وتحت أقدامهم تتماوج تحتها حشائش منتشية بهذه الأعراس الفرحة بلا منتهى، يتشكل من انسجام الراقصين المشاركين في الدبكة كلها، وما تخلفه من دوّامات فرح وسعادة ونشوة عارمة، تحرك كلها خلايا ثنايا الأجساد، وكأن المشاركة في هذه الدبكة هو نوع من احتفال بعرس أبدي للجنسين، بما يفرز من أنواع التفاهم غير اللفظي، ويزكي التقرب بين المحبين، وتضيف العطور من أروماتها الممتزجة بروائح الأجساد نوعاً فريداً من العبق الذي لا يتكرر، خصوصاً وإن كل شاب يتصور أن هذا العبق صادر عن محبوبته دون غيرها من الفتيات.
أما نبراس فإن كافة الفتيات كن متيمن بفروسيته وسمرته، فنصف وجهه عينان عسليتان، وزنود قوية. ها هو نبراس ينطلق برقصة انفرادية في وسط الدبكة، على غناء العتابة،والمويلة، فيسحب خلفه زهرة فتاته المترددة، وقد اعتمر غترته الفلسطينية الخاصة بالمناسبات السعيدة، أما وسطه فمحاط بحزام من قماش مسرّم علقت فيه أحراز ودعاوى الحسناوات اللواتي زرن حضنه. يقف فوق الحزام خنجره الفضي وقد اعتلى السرّة بشكل يبرز من جهة فحولته، ومن جهة ثانية ليحافظ على مكان الكنز الذكري الذي هو كل ما يمتلكه الفارس لفتاته.
أما الانزلاق الثاني لدى نبراس فجزء من حلم يسحبه إليه شاب لم يصرّح باسمه، يتكرر في أحلامه، ويقوده إليه مهما حاول نبراس التغاضي عنه، أو الانشغال في أحلامه الجميلة مع فتاته حنين، هذا الحلم بدأ يتكرر لديه منذ وجد معسكر الجنود هنا في، وهو نزوله في قرص عسل لم ير مثل حجمه في الطبيعة، رغم تمرسه الكبير، ومزاولاته العميقة بكافة أنواع، وأصناف خلايا النحل.
فقد وجد نبراس نفسه في غرفة سداسية الأضلاع وكأنها خلايا الشانة، فحسب أنه قد فارق الحياة لتوه وهو هنا، وما تزال نكهة التبغ على لسانه ورائحة الجبن الزاكية تزكم أنفه. وللتأكد تحسس أضلاعه والحصاة التي يسند رأسه عليها، تحت شجرة الزيتون الخضراء، فأيقن بأنه في بدايات حلم طويل طالما تكرر، ولا يريد هذه المرّة أن يفقد خيوطه، لأنه يريد التعرّف على البطل الذي يسحبه إلى هذا الحلم، نبراس لا يريد لشريط حلمه أن ينقطع هكذا فجأة، فقد أسعدته خفايا الحلم لأنها أعادته إلى أيام شبابه وهو الآن في خريفها.
هكذا استمر نبراس بانزلاقه في الشانة السداسية من فوق إلى أسفل دون أن يلتقي بالشاب قائد الحلم، لكنه أحسّ بأنه موجود هنا معه في الشانة، أو في الغرفة السداسية الأضلاع، وهكذا ابتعد نبراس فجأة عن كلما يربطه بالواقع المرّ، عندما بدأ يتذّوق طعم الحلاوة الأغرب عن كل أنواع العسل الذي ذاقه في عمره، وحتى كل أنواع غذاء الملكات، فقد أحس بأن جسده هو الذي يتذوق هذه المرّة، وليس لسانه وفمه، فهو محاط من كل الجهات بالعسل المتخمر ذو سكرية قوية المذاق، تزيل ما علق من أملاح عرق نزح من جسده، وهو يتشمس في ظل شجرة الزيتون الخضراء الوارفة، بعد تعب وانهاك من ضرب المعول لتنفيس التربة.
وصار الدبق لصيق خلايا جسده يغطيه من الأسفل فصاعداً إلى الأعلى، وكأنه دهن ثقيل الوزن كأحد أشكال دهون السيارات، يموع وجسده في مصهر واحد ليتحللان معاً إلى جزيئات أولية، لم يحس نبراس بتأثير ذلك لأنه بدا منفعلاً بانشغاله بذلك العالم الذي دخله لتوه.
ومن خلال ضباب الدبق يرى نبراس الدنيا عسلية الاصفرار، وجوه لصبايا فاتنات، وصبيان طوال القامة يعثقون أشجار الزيتون الخضراء، لكن ما بال هذه الحبة وقد تلونت هي الأخرى بلون الكهرمان، صفراء كالذهب الخالص. ويتناول نبراس برؤوس أنامله حبات منها، ليتذوقها فتذوب كالعسل بين شفاهه، قبل أن تنكسر تحت أسنانه، وهي بهشاشة التوت، ويعجب من مذاقها، وتغيرها من حبة خضراء إلى شفاه فتاة أحلامه حنين التي لم ينل من حبها شيئاً، فقد غادرته مكرهة لأن أهلها زوجوها عنوة لغريب تركت معه القرية وهاجرت إلى غير عودة.
وتتقدم من نبراس صبية قد ضفرت شعرها بحبات صفراء من ثمرة الزيتون الخضراء، حبات كبيرة كالكهرمان فيشم من أنفاسها أزكى ألوان روائح الشهد، ورائحة جسد معشوقته الغائبة حنين، وقبل أن يستمتع بما ناله لثوانٍ لم يفكر بحسابها، تسحب يد شاب رشيقة، الصبية لتسرقها بسرعة من نبراس هنا أيضاً، يخطفها الشاب البطل، ويهرب كما يحدث في أحلامه المتكررة، يسحب كلاهما يد حنين، لكن الشاب يخطفها من بين يديه، وأمام ناظريه المبهوتة.
ويعجب نبراس من سرعة تماهي الشاب في الحلم، وتحسّره لفقدانه الفتاة، وتمنى لو يكيد للشاب، وبخطف البصر تحقق كيد نبراس لأول مرة في حياته، بتحول الشاب بقوة سحرية، وبلمحة إلى تمثال من الشمع اندفع لحافة جدار غرفة خلية العسل التي احتلها نبراس، وصار الشاب إحدى الركائز التي يستند عليها سقف الغرفة وما تزال عيناه ترمشان، وشفاهه تقول شيئاً محبباً للفتاة التي تتوسل بالمارة أن ينقذوا بطلها من وضعه، ويلاحظ نبراس للمرّة الأولى أن هناك سقف للغرفة، فكيف، ومن أين انزلق هو فيها، ويعود نبراس ليرى من جديد أن تمثال الشاب ليس هو الوحيد الذي تستند سقفية الغرفة إليه، وإنما هناك صفوف من تماثيل لشبان بجمال يوسف الصديق، والخضر بوضعيات وأشكال مختلفة، قرينة بالشاب في الشكل الخارجي يهتفون بنداء يعرفه كلهم، أوهم في أنشودة موحدة بينهم لا يميز نبراس فيها غير همهمات لنغمات لم يعتدها، لكنه يسمع نداء الشاب له، أنه من شباب كفر قاسم الذين ذبحو في مجزرة دموية لأكثر من أربعين شاب، وشابة. وفجأة يرى نبراس مشهد الحلم الذي يسحب الكل إليه، جنود، وضباط، وناس عاديون ممن يسكنون المنطقة، وهنا يظهر شاهين لأول مرة في حلم نبراس، وهو وسيط نينار، وقد جاء لكي يزيل الهم عن نبراس، وينهي حالة فزع لديه من هواجس مريرة في الحزن على من ذُبح هكذا بغير ذنب، وهؤلاء الذين يذبحون كل يوم في أمكان أخرى قريبة، أو بعيدة مكاناً وزماناً في كافة أصقاع الأرض، ويرى نبراس أن الزائر يشير إلى أن اسمه شاهين، وهو نزيل معسكر للجيش بعيد عن فلسطين شرقاً بغير إرادته، مجبر على التجنيد، والمساهمة في الحرب، ولا يستطيع رؤية مجازر جماعية لأي نوع من البشر، فإن ينسى، لا ينسى ما حصل لشبان، وشابات بلدة كفر قاسم ضحايا المجزرة الصهيونية الشنيعة.
وينخرط شاهين في المجموعة لتشكل حلقة متراصة من الأجساد الصقيلة، تتمايل بين خلايا الشانات كصفوف الراقصين في دبكة كهرمانية لأبناء الجبال، كاملة الاتساق عالية الإتقان والاتقاد، تنازع بتراصها أقوى العتاد للأعداء الألداء من جهة، رقيقة عذبة رهيفة التعامل رائعة الوجدان مع البراعم بكافة ألوانها وأصنافها من جهة ثانية.
ولم يطق نبراس العجوز الحلم الذي سُحب إليه، ربما لخوف زرعته سنين الرعب من الانفجارات وعدم الاستقرار في حروب مستمرة بين الاحتلال، وبين أهل الدار أنفسهم من ناحية، وجيرانهم من الغرب ومن أقطاب العالم الفاسد كافة من ناحية ثانية. وبسرعة البرق تحترق البراعم، في كابوس اعتاده نبراس فتصبح شجرة الزيتون صنم حديدي محترق، يكوي كل من يقترب منه ومن جوفها خرجت حبات الزيتون المحترق، وقد صارت كعصافير لدغتها العقارب الصفراء.
إن نبراس يحس بوجود العقارب الصفراء وآثارها، رغم أنه لا يراها فقام ليجمع حبات الزيتون المحروق، ليضعها بسلال من خوص العشب البري، وقد فاجأته رائحة الزعتر البري في ضواحي قريته، فسال لعابه رغم الفزع الذي اعتراه.
ولكن حبات الزيتون انقلبت إلى رؤوس مقطوعة لبشر خالهم جنود الاحتلال، ولكنه عندما تفرس فيهم عرف منهم الكثير من الشبان الذي كانوا يرقصون الدبكة في زواج ابنة مختار بلدة كفر قاسم، فهاله ما شاهد، وانكفأ على نفسه يلومها على شيء لم يدرك معناه، ولا كيف لام نفسه عليه، وعندما نهض ليركض بعيداً أعاقته أكوام من أوراق الكروم المتراكمة بعد حصاد كبير في موسم جمع الكروم وأعنابها، وعجب نبراس لاختلاط الفصول والأزمان في حلمه.
ووصل نبراس إلى منتصف كابوسه دون مشيئته، حال ذلك دون وصول الأمور في منامه إلى نهايات معقولة، فالسواد يجلل كل ما في منظار المنام، وما حوله. ولهذا وصلت أموره إلى الشعور بعطش شديد مفاجئ.
وأحس بأنه محاصر من كل الجهات بقفص عظمي يشبه هيكله المسجون فيه، ولكنه أكبر حجماً وهو بداخله، ها هو يرى من خلال أضلاع القفص الصدري، مباهج الدنيا بالخارج، ويرى عن بعد ربيع مزهر على الأشجار، أما هو ففي داخل القفص لا يشم غير رائحة الفعونة والجوع. وينظر نبراس إلى أعلى فيرى من خلال ثقب فكي القفص العظمي المهترئين، جمجمة تكبس على رأسه وقد ملأتها الديدان بأحجام طويلة، اشمئزت نفسه من نفسه، وفاجأته نوبة من الرغبة بالقيئ، ولكنها استعصت عليه فبقيت معلقة لا تقبل الخروج أو الرجوع، فأحس بالاختناق مما جعله هذا الأمر مضطراً للصحو، وما إن فتح نبراس عينيه ورأى ما حوله، ردت له روحه وتنفس نفساً عميقاً، لكي يبعد ما تخيله من عفونة، ورطوبة، وأسن، وقام ليشرب بكفيه جرعة ماء رست كالبلسم في أحشائه. وفكّر نبراس بحصار الحلم، فقارنه بحصار أهله الحقيقي في غزة، وكيف يتحسرون على لقمة نظيفة، لهذا ربط نبراس كابوسه بواقع الحياة المّر.
وما أن غفى نبراس من جديد حتى رأى شاهين يسحبه إلى دوّامة كبيرة غير متلاشية، يصار مصيره إلى مجلس قضائي بشكل محكمة، يقف فيها نبراس بتهمة نزوله إلى أسفل قرص العسل، حيث مملكة المحصنين التي لا يجرؤ أحد أن يصل إليها، وشاهين يدافع عنه كمحامي، ويقوم بإعطاء كافة المبررات لبراءته، هكذا يستوحي نبراس من الحلم، تصوراً لا بمجمل الكلمات.
ها هو نبراس قد دخل شكلاً آخراً من أقفاص الاتهام، أو مجلس كونفرنس، أو كونسلتنت لمجموعة أطباء يقف فيه نبراس، لكن القرار يأتي كحكم صادر من محكمة تدين المريض بفقدانه لملوحة جسمه التي تسببت بهلوساته هذه، ولا بد له من الموت ويكون القرار بإنهاء حياته قسراً، أي بالإعدام، رغم ممانعة شاهين بكل قواه، حتى يأمر القاضي باقصاء شاهين عن مكانه، وإخراجه خارج الجلسة.
في هذه الأثناء يتذّكر نبراس المحكوم عليه بأنه يرى نفسه ومنذ نزوله قرص العسل عارياً، أما وقد صدر الحكم عليه الآن لم يبق له غير جسده وعليه ساعته المعلقة بعنقه، ولا يعرف كيف حصل ذلك.
ساعته الثمينة التي ورثها عن جده، ساعة سركيسوف الفضية التي حال لونها إلى الذهبي بفعل التقادم، مثل كل شيء فيه، ومنها خاتم إصبعه الفيروزي وحلقة زفافه الفضية، يحاول المحيطين به في المجلس دفعه وترغيبه بالموت، وهو يقف الآن أمام كرسي الشهود بدلاً من قفص الاتهام، وقد بدأوا بتشليحه من حاجياته المتبقية من عالمه الخارجي، وهناك في نهاية قاعة المحكمة، يرى نبراس مجموعة من الجلادين الإسرائيليين، وقد تسلحوا كل بأدوات مهنته، لكي ينتزعوا ما هو مفيد من أعضائه، وما يصلح منها لأجيال المصابين بعاهات من حوادث العصر.
ويصّر نبراس المحكوم عليه بعدم رغبته بالموت، ولا مودته للذهاب إلى ما بعد الحياة والفناء، أو أي شيء آخر مرغماً، فإن لديه مشاغل كثيرة أولاً، وأن القرار بموته قد جاء سريعاً في الوقت الذي تشغله مهمات كثيرة، وكبيرة في عين الوقت، وليس لنبراس الوقت الكافي للتغير فيها، وها هو الموت قاب قوسين، أو أكثر منه .. أفهكذا بهذه السرعة ؟؟؟
فنبراس لم يكن وقتها قد أسس عائلة، لانشغاله بالحرب للدفاع عن أرضه، وأرض أجداده، ولهذا أجل مشروعه مع حبيبته زهرة ريثما تأتي اللحظة المناسبة لكي يبني بيتاً على سفح هذه التلة، بين أشجار الزيتون، والكرم، وزهور الدحنون، ويستقدم عروسه لتعيش معه أياماً من الفرح، والبحبوحة، ويلدان أطفال، ويتابعان نموهم، ودراستهم، وتنمية قدراتهم لكي يعيشوا حياة أفضل مما هما عليها الآن، لكن الأمر المحتوم كما يبدو سيلغي كل شيء.
كلا، كلا لا يقبل نبراس ذلك أبداً، ولا يريد الموت، فيقوم شاهين الذي يقتحم جلسة المحكمة من جديد، ليقترح بسرعة أموراً هي نوع من الحلول تجيء لا إرادية خاطفة، وهي أن يقوم نبراس بتقليل ملوحة جسده مثلاً، أو ليموت متى شاء جسده، فلماذا هذا القرار المجحف بحق مصيره، حيث يُبت بإرادة خارجة عن معطيات جسده، وبهذه السرعة المخيفة بإنهاء حياته هكذا، أليس من حق جسده عليه أن يقرر متى، أو كيف يختار خاتمته هو.
ويتراءى لنبراس منظر المقبرة واللحد الذي سيضمه، ويكون مقراً له والسرير الأخير لنومته الطويلة التي سيرقدها، والمحطة النهائية التي سيسكنها، فيرى القبور مفتوحة مثل البيوت العشوائية، ومساكن المخيمات المجللة بالجينكو المهترئ، تكشف عن ساكنيها، مالكين، أو مؤجرين ويستغرب نبراس عيسى كيف يكون القبر نفسه مؤجراً، والمؤجر جثة ترقد فيه، ولا يمكنها أن ترحل حتى تتحلل عناصرها، ربما المقصود بالإيجار إذن هو المدة المناسبة بين رقدة الميت في القبر، وتحلله نهائياً.
ويرى نبراس كما رأى شاهين أجساد أهله تغطيها الأوحال مستلقية على قارعة الطريق تدهسها أقدام ناس لا يحسون بوجودها، تقوم الجرافات بحملها وتركبيها على حافات الجدران، وتمرر الجثث في أنفاق لكي تصل إلى صانعي التوابيت، فينزل بعضها في حفر، وسلالم، تصل إلى فتحة فوقها أرض إسمنتية صقيلة وكور نار يغرق المكان بلهيبه المستعر.
إن الجثث التي رآها نبراس تشير إلى كثير من الناس الذين تشبه وجوههم أناس يعرفهم نبراس، ولكنه يشتبه فيهم فقد تحلقوا بمجموعات من جرحى الحرب، مشوهين، تشويهات في الوجوه والبطون والأرجل والعيون. عيونهم مفتوحة لكنهم كالنيام. أو أنهم صاحون وقد تمددوا في محفل جنائزي، خصوصاً، وإن اللون الأحمر قد غلب على كل ألوانهم، والألوان المحيطة بهم، من بلدات وطنه المحتل وقراه وحاراته.
وبين اليقظة والنوم، تزخ مزنة مطر قوية تخرج نبراس من كابوس، فيتشاهد، ويقوم ليشرب ماء من ساقية الماء الباردة، ويتطلع إلى المعسكر الذي بني في الجهة المقابلة، ويلعن الشاب الذي يتطفل على حلمه، لكنه يعطف على العذاب الذي يعانيه عندما أصبح تمثالاً من شمع العسل مع مجموعة الراقصين في شانة العسل.