أحمد محمّد أمين : سنديانة *

الأستاذ أحمد محمد امين
الأستاذ أحمد محمد امين

يقولُ الشاعرُ الأمريكي ألن غنيسبرغ:
حين أموتُ لن أكترثَ بما يحدثُ لجسدي
ذروا رماده في الهواء
بعثروه على النهر الشرقي
وقال أيضاً:
رأيتُ أفضلَ العقول في جيلي وقد دمرّها الجنونُ.
من فحوى هذه الكلمات نستنبطُ دنسَ الدنس، ومرارةَ حكايات الحنظل. ففجرنا مخزنٌ للغياب والعقم والندم. وحنجرةُ العندليب يبابٌ ومحلٌ، أمّا عصرُنا فرخيصٌ مبتذلٌ. ذلك أنّ الوضعَ الخطأ النغلَ يعلو ويتجبّرُ. والمبدعَ الخلّاقَ يُقصى ويُقمعُ ويُذلُ. وذي هي عدالةُ العولمة تكشّرُ عن أنيابها تحتَ مسمّياتٍ ملتبسة تهرسنا  ثمّ تُشتتنا أو تُميتنا. وما فتئتْ طاحونةُ الأقوياء تطحنُ ، بلا هوادة، كلُّ مفكّر مبدع . وتئدُ كلّ رأيّ خلّاق في ظلّ سطوة الحراب والمدفع . وذي العروشُ تُقام وتُشيّدُ فوق رميم هياكلنا من مئات السنين. يُعزّزها ويُسندها اللصوصُ والقتلةَ والجهلةُ وأكّالوا المالَ الحرام. وظلّتِ الحالُ على حالها حاملة ً وكاتمة ً موتنا الفاجعَ. وكلما علا صوتُ الكلمة واستقام شأوُها عصفَ بها طوفانُ القمع مستتراً ومنظوراً  اليه . والعدالةُ منكفئة ٌ ومنطفئة ٌ وغائبة ٌ. بل ترتدي طيلسانَ الشراسة والغدر. وخللَ مسيرتنا الدموية المنسية ، حينَ تآلبَ علينا عالمُ الشرّ، انطلق صُراخُ الشعراء ترمي حناجرُهم بالرعود والنيران تُعرّي ما يدورُ خلفَ الكواليس، وطيّ صياصي الجبروت.بيدَ أنّ الطغاةَ تحصّنوا وراء أسوار عالية لا يطولها لظى الكلمات، وعلى الرغم من أنّ معادلة َ الزمن ما كانت أبداً متوازنة ً وعادلة ً ومتكافئة ً الا أنّ الشعرَ ظلّ شاهراً سيفه، يُقاوم ويُناضلُ ويتحدّى. يحفرُ بأظافره وأسنانه جدران قلاع القتلة حتى يفتحوا فيها ثغرات تتوغلُ عبرها الطلائعُ لتُحرّرَ مساقطَ رؤوسها، ومدائنها الجاثمةَ َ جوارَ الشطوط والنخل الباسقات.alnawwab 2كان مظفر النواب واحداً من اولاء الجنود لم يزلْ يحفرُ بأظافره وكلماته النارية وبصبره الطويل نفقاً إثرَ النفق ، وكوى يتسرّبُ منها الضوءُ والأملُ الى اُولئك المدفونين طيّ الظلمة والزوال. وحين التقيه الآنَ أرى وجهاً من النُحاس الحزين يُخالسنا النظر، يشربُ نخبنا ، نحنُ أحبتَه الاُلى كنا لحم قصيدته وغنائه ، حتى إسفار الصبح.فما أوهنَ قامته وهمته طولُ السفر ، من منفى الى منفى. حيناً يُضيّفه المطرُ والرعدُ والعاصفة ُ، وحيناً يغوصُ فينا، يتقرّى أحلامنا الشاحبة. من أجلنا نزفَ الدمع وغنّى حدّ البكاء. كانت قصيدتُه متخمة ً بالأمل والعناد تلامسُ حُمّى أوجاعنا. فيا أيّها الفارسُ الجميلُ ، صديقُ الفقير الذي لا ينام، يمدّ يداً فيلتقط جمراتٍ ليرجم بها وكر الشياطين ، واُخرى تقطفُ حبات الكرز ، يُحلي بها فمَ الجائع. فكان حاملَ عصا ترحاله، يجوبُ بقاع الأمل بين المدائن. تُصافحه الغربة ُ أنى ارتحل. ولا بدّ من أنْ يظلّ أميناً ، يُغنّي طويلاً، بلا توقف.وقد آنستْ قصائدَه كلُّ نفس وبيت وزقاق. وأرخت قوافله لنا الزمام. فما ضاع أبداً يقينُه .
له ، مكانٌ في الضمير، وظلّ ٌ من الوفاء الرصين. له صدى في خزين ذاكرة الزمان الحزين. وكلّ ما حولنا غيّر لونه عند كرّ الفصول، الثوابتُ والفلسفات تبدّلُ أثوابَها بين حينٍ وحينِ، سوى مظفر الواقفِ وسط المصاعب والمصائب والحقائب في المحطات. له جناحان من الريح تجوبان به الى كلّ مكان، وفي صدره برعمت جراحٌ، صدأتْ دماءٌ، وأجفانه تزخّ المطر.
بين هزيم الريح ونافذة مظفر أحلامٌ مرّة، وصبحٌ يصافحُ رؤياه. والممرّات من حوله معبّدة ٌ بأسى حجريّ. فكيف تتنفسُ عيناه لونَ غربته وغربتنا. رموا ملفاته الى البحر، تتلقفُ لحمَ أشواقه ذؤبانُ الماء. الا أنّه قّدّ من عناد ، لم تزلْ زنابقه تتألقُ كالنار في الهشيم. فيا أيّها المُدجّجُ بالحبّ تكتظُ بكَ حناجرُنا وخناجرنا وجوارحنا ، فتحتْ لهديلك أبوابَها مدائنُنا. وإذ ترحلُ بنا قاطراتُ العمرِصوبَ النهايات تُطلّ أيامُنا عبر النوافذ مثقلة ً بالجراح. فلمَ لا يتوقفُ هذا القطارُ اللعين في محطات المسرّات؟ ولأنّ الطريقَ طويلٌ ملول فإنّ المسافة كالشفرة بين المبتدأ والختام. فلماذا تمضي عجلة ُالعمر الى مدن المستحيل؟
وطني المُدثّرَ بغبار الحصار يُغنّيك من هنا طائرٌ يغذّ خطاه اليك ، وسوف يجيءُ لينثرَ أشواقة على شاطئيك. فكيف الوصولُ اليكَ وعلى كلّ فم رقيب؟ هنا شاعرٌ جاثمٌ بيننا يرتدي وجهُه وجهَنا المُبتلى بالحصار المقيت. وكلّ الذي عنده أغانٍ مُغمسة ُ في اللهيب. وعمرٌ قضاه لاهثاً بين المدائن والقصائد والسطور. فيا شرفتي المسوّرة َ بالسراب دعي هذا الفتى جاثياً لصقك، أيقظي قيثارة َ الشعر لديه.امنحيه ضغثاً من الأمن وانثري فوق خطاه نسمة ً مسكونة ً بالأمل.
_______________________________________
 *: القيتُ هذه الكلمة الترحيبية بمدينة لوند جنوب السويد ، في ندوة القى فيها مظفر النوّاب عدداً من قصائده ، قبل احتلال العراق.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *