د. فاروق أوهان : المفقود غائب في ثقب الذاكرة؛ تقييم لرواية فوهة في الفضاء لمحمود سعيد

farook ohan 7استهلال
هل هناك أقسى، وأمرّ من حالة الضياع التي يعانيها أهل مفقود، غاب في ليلة، ولا أخبار عنه، فكيف حالهم، والمفقود لم يعد من جبهة الحرب، فلا هم يُقرون بموته، ولا هم متأملون في عودته، حالة مؤسية من الضياع، والتماهي في كوابيس يغوص الأهل في دهاليسها لمرات، ومرات من غير أمل. هواجس في الأحلام، وتفتيش في الواقع. وأمل موهوم معقود على عودة غير مرتقبة. لهذه المعاناة وودت منذ البداية تسمية الرواية ثقب في السماء،، أو ثقب في الفضاء؛ ثقب في الذاكرة، لأن حالة ضياع الأهل بين الأمل، واليأس تظل مثل ثقب في قربة، أو نزف وريد يشخب بلا انقطاع، لا ينهيه سوى عودة الغالي الغائب، أو فناء المنتظر، وموته.
في رواية فوهة في الفضاء للمبدع محمود سعيد، ورغم هواجس الانتظار المرير، فإن قسوتها تجعل القارئ يستمتع المرارة إلى حد التماهي في بعض أحداثها mahmood saeed 5التي تتعلق بالتيه الذي يعتري من له مفقود يبحث عنه، ويتعلق بقشة يعرف مسبقاً أنها هي الأخرى إحدى أوهامه.
في تقيمي للرواية خصصت جزء للمقدمة وآخر في سياق التقييم نفسه، ولم أفوّت الفرصة في تسجيل اندهاشاتي الفنية من خلال المطالعة الأولى مصحوبة بشواهد من متن الرواية ذاتها، وتبقى الخاتمة استثنائية لتأثير الرواية فيّ كقارئ، وليس كناقد؛ أهنئ المؤلف على عمله البديع؛؛ وأتمنى أن تكون ملاحظاتي في مكانها.

     المقدمة
فكيف عالج المؤلف مقاربته بين باحثين اثنين كل عن مفقود عزيز له، منذر لابنه، وزهرة لزوجها، حب من طرفين: أب، وزوجة، أراد المؤلف أن يجمع قلبين موجعين بآلام البحث من خلال توحد المشاعر، وتناسق الهواجس، وتعاطف إنساني لا قيود اجتماعية تحدده.
تبدو الرواية واحد في اثنين؛؛ أنهما روايتان متداخلتان يجمعهما رابط ضعيف جداً، ونقصد علاقة منذر بزهرة من جهة، وقصة المفقودين في الحرب؛؛؛ عالجها المؤلف بمهارته الفنية، وخبرته في التأليف الروائي. ولكننا كنا نتمنى عليه: أن يفرد محوراً استباقياً عن إعجاب خفي من طرف منذر لزهرة، قبل أن يراها في بغداد لدى الصليب الأحمر، كان سيبدو إعجاباً متبادلاً؛؛ له تأريخه؛؛ ربما سبق لهما أن التقيا، ولنفترض أنه حدث أثناء المحاكمة، فقد تكون زهرة قد رافقت محاميها إلى مكتب منذر لتقديم هدية كما أشارت الرواية في الاسترجاعات؛؛
ومع هذا بدت تلك العلاقة، والأحداث المختصة بزهرة ومنذر، وكأنها في عالم منفصل عن الراوية ذاتها، لا تمت للرواية الأصلية حتى من حيث الأجواء والمناخات، والتعابير، فقد كان بالإمكان جمع المعجبين في أية ظروف مماثلة، أو مصادفة. وتمرير كيفية نشوء نوازع زهرة الجنسية، ودوافعها، ربما كانت الروية بحاجة لمحوراً يبين علاقاتها وهي شابة، حتى في مشهد خطبتها من زوجها من غير سرد، واسترجاع، ما دامت الرواية واقعية؛؛؛ أكثر عنها أي لون آخر؛؛؛ ولربما كنا سنرى إلى مستوى تعلق أولادها بها، كما كانت علاقة منذر بأنور، ونور؛؛
إلى هنا وبعيداً عن سرد المعطيات الأخرى، علينا أن نسترجع انطباعاتنا الأولية للقراءة الأولى، لنعبر عن فعل الاندهاش خطوة فخطة، ومن ثم سنجمعها في محصلة تقييمية عامة.

مراجعة في سياق الرواية العام (*):

kh mahmood saeed 4يبدأ المؤلف رواية فوهة في الفضاء باستخدام مفردات الحرب التي اعتادها الناس، والتي شملت حياتها اليومية، وتدخلت في ثناياها وكأنها كابوس جاء ليطعي على كل شيء، ويغلفه بقسوته، ومرة بعد أخرى يبتكر الإنسان الواقع تحت ضغط الحالة التي لم تخترها، وليس بإرادته التخلص منها، كل ما يفعله، أن يتفاعل مع مجرياتها بردود أفعال تبدأ فردية، ومن ثم تصبح جماعية، وكأنها تنتشر مثل الإشاعة، لأنها تعبر عن حال الجميع، يبتكر المؤلف لتلك الوضعية مصطلحاتها التهكمية المريرة كقول أم أنور التي تعقص حاجيبيها لتهتف مكلّمة نفسها: بدأ الغيث، يا فتاح، يا رزاق (** \1). ومع هذا فليس بالقول وردود الأفعال من قوة لكي تزيح الكابوس، بل إنها مصيبة شملت الوطن، تبقى تسير مع يوميات الناس الحياتية، وتتقاطع معها كلما أعلنت غيضها بفعالية يسمع صداها الجيران، وتقع مصيبة القصف على أهالي الحي، والبيوت التي نالتها نيران الصواريخ، أما بين القصفين فإن الحياة تسير بشكلها الاعتيادي: استمرّت أمّهما تعدّ الفطور، توزّع الصّحون على المائدة. بعد نحو خمس عشرة دقيقةً جاء صوت القنبلة الثّانية أقوى من الأولى. وصار الناس يمخمنون بالهاجس مواقع سقوط الصواريخ من خلال قرب، وبعد الصوت، ويتراهن البعض في تخمين موقع الصاروخ، أو القنبلة: قرب ثانويّة الموانئ. هذه المرّة العشرون يُقصف محيط الثّانويّة، لكنّ لم تقع أيّ قنبلة على المدرسة.

إن لأجواء التعلق بأمل عودة الغائب مناخاتها التي تفرض نفسها حتى على سياق الحياة اليومية، ومنها يوميات الرواية نفسها، وأبطالها الذين يعانون في البيت، وأينما تواجدوا، وحيثما تلاقوا مع جيران، والأهل،، وفي هذه الأجواء المريرة التي يعريها المؤلف، يتعلق بأية نأمة، وإشارة لكي يعكس تصابر الشعب على محنته، وتفاءله في انفراج الأمر بين لحظة، وأخرى، لهذا فإن المؤلف يحاول أن يضفي على المحنة جوانب تتعلق بمصابرت الطبيعة هي الأخرى، وتشامخها، فنراه يصفها بإضفاء روحيته التي تتفاعل مع الطبيعة في جمال الكائنات، وسحر الموجودات، وكأنه يتحاور بذلك مع الكون، ويحاكي ذاته في ماهيات الخلود، وجماليات الألوان، والتشكيل الكوني الفريد،  وما تعكسه الحياة التي تأقلم عليها، فتتانسق وروحية الكائن الحي، حتى في أجواء الظلم، والمعاناة: ينتقل الزّيطة فوق ثيّل الحديقة بقفزات. جمال ساحر، تناسق الأبيض والأسود خلّاب. حركات رشيقة. ذيل طويل رائع يتحرك إلى الأعلى والأسفل ليخلق توازناً يمكنّه من الحركة.

ولا يترك المؤلف سانحة إلا ويجسد من خلالها حال من يقع تحت طائلة واقع لا يستطيع أن يزيحه بنفسه، حاله حال طائر جميل، ضعيف عليه أن يتأقلم مع الواقع الذي سحب إليه عنوة، فها هو المؤلف يعقد مقارنة على بين طائر الزيطة، وحال العراقيين من خلال حوارية بين نور وأخيها أنور فتقول نور: أتعلمون أن الزّيطة مظلوم مثلنا نحن العراقيّين جميعاً، لا يحظى بأيّ اهتمام! تساءل أنور: كيف؟. فترد نور: أظنه أجمل طائر في العالم، طائر العراق الوطني بلا منازع! لكنّ لا أحد يعترف به، ولا يذكره أيّ مؤلف في أيّ كتاب مدرسيّ، ولا يوجد عنه أيّ بحث. (**\3)

وللابتعاد عن أجواء البحث عن المفقود، وقسوة مؤثرات الحرب، يعمد المؤلف إلى تخفيف التوتر من خلال وصفه للأماكن، فيجعل القارئ يجوس بأقدامه خطوة فخطوة، وكأنما القارئ مرافق للأبطال في الحدث، بل هم إحدى هواجسه التي ستكشف له عبر السطور ما يمكن للمكان أن يكشفه لهم، وله في عين الوقت، بل يتنفس، يشم، يسمع، يئن، يدوخ، ينزعج من الهواء الملوث، ويحاول أن يعود نفسها على دوي أصوات الانفجارات، ويقنع نفس بالارتياح لها، ويرى المؤلف ببصيرة الأشخاص ما يرنو إليه، وما يسدر له من توقعات، فيصورها في تعابير، وكأنما يراها القارئ في حلم مصور لفيلم متتابع اللقطات، وبمونتاج حريف ماهر: اقتربا من حيّ الموانيء. سمعا من بعيد أصوات سيّارات الإسعاف تنطلق نحو الجنوب وبوضوح. اقتربت السّيّارة من بيت سعدي. الزّقاق مليئ بالنّاس، نساءَ، رجالاً، أطفالاً، لكنّ لم يكن هناك سيّارة إسعاف. قدّر عادل أنه لا يستطيع أن يدخل بالسّيّارة في العطفة المزدحمة تركاها في بداية الشّارع مع الزّقاق الفرعي، بعيداً عن التكدّس الملموم في وسطه. حين ترجّلا منها ملأت خياشيمهما راحة البارود المخرّشة. شاهدا خيط دخان ينبعث من وراء البيت يكشف أن هناك حريقاً مازال يلتهب. بينما كانت واجهة الدّار الصّفراء، والباب السّاج الخشب سالمتين لم يصبهما ضرر. (**\6).
ولربما وجد المؤلف من الضروري تليين القسوة، والمصائب من خلال استمرار الحياة وتداعيات حب الجمال، والتغزل بالمفاتن، فالروح الإنسانية تسعى للجمال حتى في أصعب أوضاعها، وأحلك أيامها، فيقوم بطرقه الخاصة في طرح التغّزل بمفاتن النساء، ولا يستثني أية أنثى: بيضاء، أم سمراء، المهم أنها أنثى تستفز مشاعره، فيشغف بالمفاتن، ويروح ينسج عبارات نادرة، نافذة، ومستفزة للرغبات حتى بالنسبة للقارئ، هذا الشعور قد ينتاب القارئ ليتساءل عن مشاعر المؤلف المتوقدة وهو يكتب تلك العبارات ليصور لنا عوالم لا تخلو من الواقعية رغم كل شفافيتها، وفتازياتها صور يستحضرها من مخيلة مستثارة أمامه، ليقدمها لنا وهو يستمني بالعبارات من سطر إلى آخر، فيقلب المفاتن في جزيئات جسد الأنثى التي يتخيلها، ونراها شاخصة أمامنا بروح، ودم، ولحم. بل باكتناز في مكان، وتورد في مكان، وبروز، في مكان آخر. يًشبهُها بما يطيب للسان أن يتذوقه طعماً، ونكهة، وبمختلف النوازع؛ وأنواع الهواجس المنفلتة للحظات من معاقل التحفّظ؛ إلى رحاب الهروب وراء الرغبات حتى تتم تفريع الشحنات المتوفزة للانبثاق: اشبعوا نظركم، بعد ثلاثة أيام يبدأ التّدريب، ثم الجبهة، ثم الموت. تابع أنور الفتاة بنظراته، سهمت عيناه برهة، لم يتنبّه إليهم إلا بعد أن لكزه أحدهم بمرفقه: هل وقعت بغرامها؟ انتفض، هتف كمن يتذكّر: أعرف هذه الفتاة. إنّها عبير. أمّها صديقة أمّي، سأتزوّجها.ضحكوا، سخر منعم: هذه ليست لك، إنها ملكة جمال! (**\13-14).
وفي تفاصيل يوميات الحرب الشعواء، يمرر محمود سعيد أجواء الحروب التي يعيشها الفرد العراقي، في المدينة، أو الجبهة، حالات متعددة، ومتنوعة من العذابات التي ترافق الإنسان في يومه، ضجيج الطائرات، أصوات القنابل، مواقع الانفجارات، غاز ودخان، نيران ودمار في البيان، وانهيارات في النفوس، وكوابيس في الأحلام، وانكسارات في الحزن والألم، الجوع والعطش، البكاء والعويل. النحيب والبؤس الدفين، حالات لا يمكن حتى للذي يعيشها أن يعكسها بغير أن يكون راصداً مبدعاً، وفناناً ذو حساسية مفرطة، وإنسانية عالية، تتداعى لديه في جمل أديبة، مشحونة بالعواطف والأحاسيس.

ويبقى لمحمود ميزة التفريق بين موقف وآخر، وموقع وموقعة، لكل منها حالتها وصفاً، وتحرياً لما يعتريه كمؤلف  من تأثر وهو ينقلها إلى القارئ بشكل يستثيره، ويستفز مشاعره، الغاية لدى محمود هي تقريب الحالة للقارئ ممن مارس، أو من هو بعيد. هدفه أن يضع الكل في محّك افتراضي عليه أن يشعر به فيما لو وقع تحت نفس الظروف: ظلّ يفكّر في الأمر. لكنّ بعد هذه المعركة علموا لماذا وُجدت؟ أصبحت مدرج مروحيات، كانت طائرات الهليكوبتر تئزّ، توقظ النّائمين في عزّ اللّيل تنقل الجرحى بنشاط منقطع النّظير وباستمرار لا ينقطع. (ثّم) في البدء جاء براد واحد ضخم بطول أربعين قدماً وحده، أول برّاد بمثل ذلك الحجم يقف هناك، ترى ماذا فيه؟ تعكس أشعة الشّمس على صفائح الألمنيوم التي تغلفه وميضاً حاداً يحرق المقل، ثم تكاثر عدد البرّادات، كما تنقسم الأميبيا، نافت على الخمسين، ثم سرت شائعة أنها تحمل جثث الشّباب القتلى، كانت البرّادات تنتظر دورها لتنزل الجثث، لم تستطع أمّ أنور إحصاءها، كانت تراقبها وتبكي فقط. (**\18)

ومن الصعوبة بمكان وصف وضع ضياع أهل مفقود في الحرب، بين الأمل واليأس، بين الحسرة،  واللوعة، فإن الموت رغم هول الفاجعة أهون بكثير على الأهل من البحث عن ابنهم لأن الموت يهبط كبيراً، وينتهي ثقله بمرور الأيام، عندما يبدأ الثكيل بالإيمان بالأمر الواقع، فيصبح الميت لديه كيان خالد في المطلق. أما أهل الغائب المفقود، فتتصارع في دواخلهم هواجس عديدة، وحسرات عنيفة، صور عنيفة للمعاناة التي يتصوروها عن ابنهم المفقود، تتداخل في أحلامهم، تنعكس على تصرفهم، وبالتالي تغور في أعماق أنفسهم بنوازع تتداخل فيها الآمال باليأس، كل هذا يعكسه محمود من خلال الغور في أعماق النفس الإنسانية، بل ويسدر سابراً في ثنايا هواجس الأهل من موقف إلى آخر، ومن خلال تطور الأحداث من جهة، وما يستجد من أنباء قد تكون أوهاماً عن المفقود: نظر في عيني العسكري، فكّرر هذا: الوحدة رقم 2520. كان بين الصّحو والمنام. جسد مفكّك، دماغ يتلاشى في الفضاء، هتف السّائق منبّهاً: هذه وحدة ابنك؟ (ثم) وفزّ، ووعى إلى الوجود، بدأ النّزول، لماذا لا يستطيع تثبيت قدميه بسهولة؟ استغرق نزوله بعض الوقت، وإذ وقف على الأرض زاغت نظراته، لم يصفُ رأسه إلا بعد أن أجهد دماغه. آنئذ لحظ بضعة جنود شباب ينظرون إليه. (**\26-27)

ولتأكيد ما يعتري الفرد من هواجس، وما تتعامل في داخله من هموم تشغله عن الدنيا، لأن ما بداخله هو نوع من المجادلات الحوارية بين الأنا، والآخر، تدور على محور واحد يشغل المكلوم، وتجعله ينغلق على ذاته، ألا وهو فقدان عزيز، من غير أي دليل عليه، يشهد على وفاته، أو حياته، هذا المجهول المرعب يحيل الشخص إلى منازعات تتراكم حولها آلاف من علامات الاستفهام، لهذا لا يعير انتباهاً لما حوله، حتى لما تتعرض إليه الحواس من مستحثات في الشّم، والسمع، وحتى اللمس: شاهد زوجته تفتح حقّيبتها، أخرجت محرمة ورقيّة، أخذت تمسح دموعها السّخيّة وهي تسير وتحرص على ألّا يراها أحد. مرّا ببضعة مطاعم في العطفة إلى اليمين والشّمال. لكنّها لم تكد تراها، فضّل أن يتركها تسير. تنفّسُ عن حزنها بالمشي والبكاء. لا يتدخل في حالها، لا يناقشها في أيّ موضوع حتى تعود إلى طبيعتها. انعطفا إلى اليمين، حيث شارع السّعدون العريض. تلقّفهما نسيم بارد منعش، كان الشّارع نظيفاً ألقاً هادئاً واسعاً أليفاً. يتحرك النّاس فيه باعتياديّة ودون خوف، قال: انظري إلى النّاس. يسيرون على طولهم مطمئنين (**\34). (ثم) قالت بحدّة: أنت تستفزّني. أنت تعلم، منذ اختفائه لم أرّ أيّ شيء في التّلفزيون، وتريدني أن أرى السّينما؟ انفجرتْ تبكي. جلب بكاؤها نظر بعض القريبين منهما، قال: كفى رجاءً. تركتْه، ذهبت إلى ساحل دجلة، ثم اعترتها نوبة نحيب طويل، اقترب منها، كان وجهه إلى شارع النّهر، قال بصوت هامس: حسناً، لا تنسي. لكنّ اضغطي على نفسك كي لا تبكي أكثر.- جفت دموعي. لم أعد أحسّ بها. – ستموتين. – هل أنا خير منه. – لكنّ من يقول أنه ميّت؟ لعله أسير! (**\38)
وتنبثق من عتمة اليأس وبؤس الضياع، وانحطاط  الآمال شرارة مضيئة لفرح مؤقت، أو نزوة عابرة تتبسم لمنذر حين يلقي سيدة تبحث عن زوجها، كما يفعل عن ابنه، ويريان في توحد الهدف، عنصر مشترك يشدهما في الوقوف أمام بوابات الانتظار، والتسكع على أرصفة المنظمات الإنسانية، يحدو كل منهما أمل مختلف، ولكن المصير الواحد، يوحد خطواتهما، لتنشأ بينهما علاقة تبدأ بالود، وتمر بمراحل من الوجل، والخجل، ومن ثم المطارحة، فالمصافحة، فالعناق، ولا يترك محمود فرصة ذهبية يحبك فيها خيوط حكايته، لكي يستثمرها في تلغيم الأجواء بما لا يباح، وبالنزوات العابرة بين اثنين جمعهما حرمان من نوع ما: فكّر في التغيير الذي حدث له! كيف استطاع هذا اللّقاء الفجائي من إزاحة همّ كبير رازحٍ فوق قلبه، وعندما تداعت أمامه أسئلة تستفسر عن مستقبل هذه العلاقة، شطب عليها  جملة وتفصيلاً. يحسّ الآن بسعادة قضت على حرارة صيف بغداد اللّاهبة، على حزن أشهر طويلة، كانت أجفانه تغمض على الحزن وتفتح على الحزن.  (ثم) سدّ جفنيه لحظةً. تنفسّ بارتياح كبير. حَسَد نفسه لأن الصّدف ساعدته، نصبتْ أمامه امرأة جميلة لم يكن يحلُم قطّ في مرافقتها دقيقة واحدة وهو في هذا السّنّ، فكيف بها تخرجه من كآبته، حزنه، تثير فيه الانبساط، الرّغبة، الضّحك. تعيده ربع قرن إلى الشّباب. تمنى لو تدوم هذه اللّحظات العمر كلّه. (**\45) (ثم) سارت السّيّارة، وسار معها هوسه في الاتجاه نفسه، لأول مرّة بعد اختفاء ابنه يشعر أنه يحيا، لأول مرّة بعد مدّة طويلة يشعر أنه يعيش لحظات حياة لا يسمّمها الرّوتين، ولأول مرّة بعد زواجه يحسد نفسه على حظّه. هبط عليه ملاك سماويّ أعاده إلى الحياة بعد أن مات قلبه، آماله، حياته. ملاك زرقه بعنفوان متأجّج لم يعشه إلا في شبابه. ما السّبب؟ كيف تغيّر خلال هذا الوقت القصير؟ (**\56).
وكرجل في بالعقد الخامس، وبعقلية العراقي المحافظة، يبخس منذر على نفسه نوازعه ورغباته، تحت ضغط الالتزامات الإخلاقية، ومن دون التفريط بها، بينما عليه أن يكبت كغيره تلك النوازع الإنسانية الحية في داخله، خاصة وأن عقد المقاربة بين العواطف والرغبات من جهة، والموقع الاجتماعي والوظيفي من جهة ثانية، هما المقياس هنا، وليس النزعة الإنسانية، وكأن هذه المواقع تشترط العفة. مقاييس وضعناها نحن الشرقيون في ميزان يوازي السرقة، والقتل ناسين قدسية الجسد. بينما انتهى الغرب منها على طريقته، وحلل للزوجين التصرف إلى حد القبح، بمعنى أن ما سمحت به المجتمعات الغربية أخلاقياً من أبواب حقوق الفرد، صار الفرد يتعاطاها بمبالغات: كأن تسمح الزوجة لزوجها المنحرف أن يجلب خليله إلى بيته.

هذه المفارقة، وربما المقاربة، لم يؤيدها المؤلف، بل إنه يبرزها في وضع منذر ليس كنوع من التابوهات، أو المحرمات، بل هي تقديس للعلاقة الزوجية رغم إنسانية الرغبة، وسموها في حالات خاصة، بصرف النظر عما لو كان العاشق متزوجاً، أو لا، المهم أن يكون صريحاً مع نفسه، وغير مؤذي للعلاقة الزوجية، بل إن ضمير منذر الحي، الذي حاسبه هنا، هو الضمير الجمعي المشرقي، من غير قيود تجريمية؛ أو عقاب أوديبي، لكنه لن ينجو من التطهير الكثارسيسي، فهو محاط بالضمير الجمعي، وتربى عليه من مثل، وما نشأ حوله من محرمات، كلها عصي تقف في تعيق عجلة استمرار عواطفه، ونوازعه الإنسانية، هذه المحاورات التي تتناوب منذر بنيه، وبين الآخر في داخله، هي جدلية محمود سعيد الأخلاقية التي يقارب فيها المعايير الأخلاقية بالنوازع الإنسانية، فيضع القارئ في موقف يجعله هو الآخر يتماهى فيها، ويعود من جديد ليسأل نفسه كقارئ: ماذا يحصل لي لو كنت في نفس الموقف الذي يواجهه منذر: ماذا فعلت بنفسك؟ أنت في الثّامنة والأربعين، قاضٍ محترم، ابنك مفقود، إبنتك ستنهي الجامعة في السّنة القادمة، تنساق لعاطفتك كمراهق؟ تستسلم لرغبات جسدك كأيّ سوقة؟ أفقدت عقلك؟ في يوم واحد أصبحت أسير جسد امرأة لا تعرفها! حبّ؟ ثم ماذا؟ أنت من القلائل الذّين يعرفون مصائب الحبّ! كم قضية حبّ عرضت لك وأدّت إلى جريمة؟ ضياع؟ (ثم) توقّفْ؟ ماذا لو كان في الأمر خدعة؟ امرأة ذكيّة كهذه تعرف كيف تخطّط، ماذا لو أرادت ابتزازَك؟ بأي بساطة تعلّقتَ بها؟ ألأنها أرضت امتدحتك فأرضت غرورك؟ ثم ماذا؟ توقّفْ، أنت أسوأ لاعب قمار في التّاريخ، لو كانت خسارتك نقوداً لهان الأمر، لكنّك تخسر سمعتك! ماضيك، كرامتك. توقّفْ. (**\56-57). (ثم) غير أن على منذر مهما يكن أن يجاري نوازعه ولو لفترة، وليس بيده أن يسير الأمور في كل مرة بعقلانية الرجل الحكيم، والكهل المتزن، فهو غير قادر على مقاومة الثورة المستعرة في أحشائه التي تجعله مثل مراهق يمر بتجربة جب أولى: كان في أقصى حدود المتعة. كلماتها تأتي من داخل السّمّاعة وشفتاها تقبلان أذنه. رقبته. وجهه. فيشعر مرّة أخرى بالتلاشي فيها. يحسّ بها في جسده كله. جسده مستقر بجسدها. روحُه ذائبة في روحها. أيمكن لمخلوق أن يُلهب إنساناً آخر ويجعله يضطرم فوق النّار كما فعلتْ؟ كان شبه ميّت حينما ظهرت في حياته. بلمسة سحر أحيته. لكن الحياة التي حول منذر تمنع عنه حتى متعة التخيل، وأحلام اليقظة، ربما نحى المؤلف لتشبيه منذر بإبي فراس الحمداني وهو في سجنه ليرى إلى الحمامة في قصيدته الشهيرة، فجاءت لدى محمود بتصوير إنساني مختلف حتى في مقارب حالة منذر، وكل العراقيين السجناء في وطنه، وكافة الأحياء، وقد أحاطت الحرب حولهم أسيجة من نيران لم ينجو منها حتى الحمام الوادع: حدّق من خلال الشبّاك. رأى حمامة فوق بناية عالية. ثم حدث انفجار بعيد. طارت الحمامة. مرت قريبة جداً من زجاج الشبّاك. رأى قزحيّة عينها اليمنى البرتقاليّة شديدة الصّفاء. منقارها الورديّ بوضوح. يا لجماله وهي تطير! ابتسم. اهربي موقّتاً. ستصيبك القنابل أينما توجّهت. أنتِ مثلنا محكوم عليك بالإعدام. لعنة أصابت هذه المدينة. كيف لا يتركها أهلها؟ لماذا يعيشون جميعاً لموت آتٍ لا ريب فيه؟ لساعة؟ إن هي إلا لحظة. وهج اصطدام. شعاع فضيّ. صوت يزلزل الوجود، ثم ينتنهي الجسد في انفجار تتطاير فيه خلايا المخ مع ذكرياتها ووجودها إلى العدم (**\72).
هناك تفاصيل يومية لا يستغني عنها المؤلف، لكي يضفي الصفة الحياتية للأسرة والمجتمع، ومنها كيفية التفاعل آنياً، ومستقبلياً، حتى من خلال المعاناة بعدم معرفة مصير الابن والأخ المفقود، ولكنه تعامل منكسر بحدة، ومتأثر بشدة، يتراوح تأثيره بين فرد إلى آخر في الأسرة، فالأم غير عن الأخت، والأبن غير عن الابن كل له معاييره، وقياسات تحمله للمعاناة، ومع هذا لابد عليهم كلهم من غير استثناء متابعة  حياتهم بتنحية كل الآلام: فوجئ حين فتح الباب بزوجته تخبره أن رئيس المحاكم يريد أن يراه. كانت نور في غرفتها. صعد حالاً ليراها. حرص منذ الكارثة أن يعوّضها حنان أمها. اعتاد أن يطيل الحديث معها. يناقش ما يطرأ من أمور سياسيّة. أو علميّة. يبقى معها أطول مدة يسمح له وقته بالرّغم من إحساسه أنها تغلّبت بإرادتها على مرارة الوحدة. لا بل تجاوزتها تماماً. عانقته بباب الغرفة. قال لها: سأشتري لك تلفزيوناً صغيراً تضعينه في غرفتك. هذه الغرفة زنزانة صغيرة قاتلة. ضحكتْ. عانقته مرّة أخرى: لا داعي لذلك. شجّعتني الدّكتورة حنان. بدأتُ أترجم من الإنكليزيّة. التّرجمة تأخذ وقتاً كبيراً. سيضيّع التّلفزيون وقتي.- العزلة تسيء إلى أعصابك. (**\66).

وعن المكونات المحيطة بالفرد المهموم، والذي يفتقد لروح الحياة، لا يمكن لها أن تعني الكثير غير الذكريات، وهي التي تشد الإنسان إليها، ضحكة، ورائحة وتداعيات يتركها الغائب عن الدار، وهذا ما حدث لمنذر بعد أن تزوجت نور ورحلت: حدّق بالبيت. ما نوع بيت يخلو من ضحكة نور. من عبث أنور. من حديثهما. من روحهما ترفرف في البيت. من سعة اطّلاع نور؟ من ثقافتها؟ من حدة ذكاء أنور. شفافيته؟ أيّ بيت هذا؟ بيت أم قبر! ظلام في ظلام. موت في الحياة. كيف اعتادت زوجته الوحدة؟ (**\76).
إن المآسي التي تشمل المحيط كله، فإن الشعب يتقاسم المحن بالتساوي، وبعدالة لا توصف قسوتها عليهم، فمن معاق، إلى معاقب، إلى غائب، إلى أسير، ومقتول، ومنبوذ، وخائن، فعميل، ورهين، وجاسوس، ومرتهن للسلطة، كل هؤلاء تقاسمتهم محن الوطن، وتوزعت عليهم شرور الحرب الطويل، ولم يعد هناك فرد أفضل من الآخر، بل إن أقل ما يصيب إنسان العراق، هو الغرق في الهموم، والهزال، وانهيارات العصبية حتى يقضي هماً على حاله، ومن جراء الحزن الذي يلف العراق بغيومه السوداء التي تخيم عليه، ولا أمل في انقشاعها ما لم تأت بمصائب أكبر: أسرعتْ صاعدة إلى غرفتها. سمع باب الغرفة في الأعلى ينسدّ بقوّة. تناول الصّينية وهو يتساءل في داخله أسمعوها أم لم يسمعوا؟ رأى وهو يخرج كرة الشّمس العملاقة تنشر أشعتها الحمراء البرتقاليّة الصّفراء في اقصى الغرب حيث تنسرح البرّية خالية من البنايات إلى ما لا نهاية مع غابات النخيل، تذكّر كم كان أنور يحبّ أن يراقبها إلى أن تغور في أقصى الغرب مع أضوائها الجميلة. وضع صينية الشّاي على منضدة صغيرة أمامهم. سألته أم عليّ: أين أم أنور؟ تدخّلت شقيقة عليّ: نعم. وجهها أصفر. نزل وزنها إلى النّصف. كم أنا قلقة عليها! قال أبو أنور: حتى أنا. (**\78).

التقييم

من النادر أن يتنوع كاتب روائي بهذا التألق في رواياته العديدة، والأكثر ندرة أن يضمّنها هواجس الأوطان التي تدور باقية في محاورها. وتنبثق بين ثنايا رواية وأخرى لتجد لها مواقعها الهامة، والمميزة على صفحات عديدة، تجيء من خلال احتدام أمور الأبطال ومعاناتهم فتبرز كسمة مميزة، لا كحدث طارئ، بل تتجسد بكل مؤثراتها، وتتفاعل بمختلف الاتجاهات، لعله هاجس حمله المؤلف محمود سعيد، وهو يطوف بين السجون، والمنافي على مدى ما ينوف الستة عقود، لهذا لا تنحصر الأمور لديه في زاوية واحدة حتى ولو كانت إنسانية بكل أبعادها، إنما تتوزع من خلال همومه الوطنية لتلقي بظلالها على الأبطال والأحداث، وحتى البيئة والأحياء الأخرى، لعل ما ميّز رواية فوهة في الفضاء: التفرد في معالجة موضوعة أليمة وهي حسرة أهل الغائب، وحيرتهم بين الأمل، واليأس.
من هنا انبثقت لدى محمود هذه الثيمة ليصبها في قالبها المناسب، وأهم ما يعنينا، أن الرواية تدور حول الغائب الذي غيبه المؤلف في ثنايا السطور، وما ورائها، لم يتعرف عليه القارئ إلا من خلال الأب والأم، والأخ، والصديق، وعلى الرغم من صعوبة معالجة أمر كهذا في تقنيات الرواية، ولكن المؤلف جعل القارئ يتقبل الأمر، ربما لكي يسبر أغوار قرائه بالمعاناة التي يقاسي منها أهالي المفقودين.
ولهذا نرى أن غياب أنور لم يكن مؤثراُ فقط في أبطال الرواية إلى حد المرض، ولربما الجنون فهو مؤثر بشكل كبير على القارئ، وأنا أولهم، لأنني عند متابعتي لمحور منذر وأولاده، وامرأته، وحتى انكسار علي النفسي، أشهق من الأعماق ببكاء حزين، وتسيل دموعي من غير إرادتي.
وبالمقابل كان من المكن أن يعطف القارئ على زهرة هي الأخرى، لو أنه قرأ أبعاد محنتها، ودوافع تهافتها على منذر لا لمجرد نزاوت جنسية، وتسلط ماشوستي، بل كإحدى إنهيارات من يقع تحت سطوة المعاناة في البحث عن مفقود له، إضافة للعوامل المحيطة بها، والتي أفرزتها قيم الحرب الجديدة، التي قلبت كيان المجتمع العراقي بكل قساوتها، وتحطيمها للمعنويات، وإذلالها لأعتى، وأصلب الرجال، ومنهم منذر، وأصبر النساء كزهرة التي لو لا توحدها في المعاناة مع منذر لما رأينا تشبثها بكهل يغطي على هموها، ويطمئن رغباتها الطاغية، في كثير من الغموض تارة، والانزياح في التوهم لمرة أخرى؛؛
إن وصف العلاقة بين منذر وزهرة شديد التأثير على القارئ، بخاصة العلاقة الجنسية، وبالذات وصف الحواجز حتى ولو كانت وراء قماش، ووصف المؤلف لكثير من المعطيات المحيطة حتى أثناء الحادث. في عين الوقت لاحظنا قصور واضح في وصف حالة المعاناة، والفصام في شخصية منذر التي كادت أن تنسلخ عن واقعها، ومبادئها، وهذه هي الأخرى كانت بحاجة لمعالجة تحليلية لنفسية منذر الكهل نفسه، وهو يتهاوى في أفعال مراهقة من جهة، وجلده لذاته حين يستيقظ وعي الأنا العليا لديه من جهة ثانية، هذه المفارقة بين الأنا السفلى “الإيغو” والأنا العليا جاءت مبتسرة في مونولوغات منذر التي ناجى فيها ذاته بذاته، حوارية بين الأنا، والهو، في مجادلة غير متعادلة الكفة، وغير منتهية إلى قرار، وربما استقرار.
كل هذا جاء بمعزل عن تسليط الضوء على مسببات الألم الجماعي للفرد العراقي، ولم تبرز تدقيقات المؤلف المتأنية، والمفصّلة في متابعة أمور الحرب على عدة أصعدة، فقد وجدناها في نتائجها، لا في أسبابها، بينما كان من المستحسن أن يوظف المؤلف شخصية تحلل حيثيات الحرب، ومن يقف وراءها، فقد كان من الضروري، بل ومن اللازب تعرية الجانب المظلم في الحرب على الجهتين، أي تعرية النظامين معاً، هذا القصور جعلنا كقراء نشمّ رائحة حب للسلطة، وتعاطف غير مقصود لدى المؤلف، وبخاصة عند وصف ممارسات الحرس القومي وقت الطلب من الناس أن يخرجوا من البصرة؛؛؛
كما قد يتبادر لذهن القارئ أن هناك حاجة لمزيد من توضيح لمستوى الوساطات التي تجري على صعيد عناصر الجيش بشكل عملي، ومنها عمليات الابتزاز، والتعامل بالمال من قبل كبار الضباط؛؛؛ رغم أن الوصف في مشهد السائق ومنذر ويشير من بعيد لجهله، وضعه المؤلف في إطار جميل؛؛ لكنه جاء مبتسراً، وليس كما عرفناه لدى المؤلف في بحثه التفصيلي بدقائق الأمور وذلك عند إمساكه بتلابيب موضوعة يفصّل بها، فيشبعها توضيحاً من جوانب متعددة، ربما ملكه هاجس عدم التطويل، والتشعب الذي وجدناه في روايات أخرى.
فعلى الرغم من أن أم أنور تشير في كل مرة إلى حقدها على من أشعل نيران الحرب، ولكن من غير توضيح للدوافع والحوافز، والارتهان للأجنبي وتنفيذ مخططاته، أسوة بتوصيفات نور للطيور، وأنور في وصفه لغروب الشمس، على سبيل المثال لا الحصر. فعلى الرغم من أن إيران كشعب وجار أبدي، تربطه بالشعب العراقي علاقات تاريخية، وأواصر جغرافية، وهواجس مشتركة، ولن يقتلع لا هذا الجار من ارضه، ولا الآخر؛؛ فإن الحرب لم تكن غير حرب نظامين بحوافز أجنبية، عربية كانت أم أجنبية، امتثلت سلطات العراق للأجنبي وارتهنت لمخططاته؛؛ لكي تدافع عن غيرها ليس بالمال، وتحطيم البلاد فحسب، وإنما أيضاً بفقدان خيرة الشباب المتعلم، وتدمير قيم المجتمع الراقية المتوارثة عبر أجيال، والتي لم تحدث بيوم وليلة، ولن تعود إلا بعد عقود فيما لو زال الاحتلال والسلطات العميلة؟؟؟ خصوصاً بعد تفسخ قيم المجتمع، وانحطاط مُثُله، ليس فقط كما جاء في الرواية، وإنما بعوامل أخرى سلخت كل عائلة عن جذورها، وهجرتها لأقرب الدول العربية التي استلمت العوائل المسكينة، وتاجرت بها في أسواق النخاسة، وغيرها الكثير؛؛؛
من هنا لا بد للقارئ أن يعرف؛ من خلال حيثيات الرواية، ماهية تلك النيران الجهنمية، بخاصة عن طريق من هربوا من الأسر: كالمعاملة الإيرانية للأسرى، كما حدثنا علي عن الوقيعة أثناء القصف، وكأنها مؤامرة.
وإذن فرواية فوهة الفضاء هي عالم مفتوح على الألم، والشجن، ومرثية لكل المكلومين، وفاقدي الأمل ممن تنالهم الحروب بمصائبها، وليس لهم يد فيها، ولا هم من أختاروها، ذنبهم أنهم أبناء شعب عليه أن يتقبل سياط الحكام، وقنابلهم من غير أن يعترض، ويكون له صوت يعبر فيه عن احتجاجه.

خاتمة فنتازية

فقد كنت وأنا أقرأ الرواية حتى الثانية صباحاً، فغالبني النوم قبل اكمالها أي في آخر ثلاثة محاور،،، فوجدتني أُهاتف منذر، ولما دعاني لمكتبه أقفلت الهاتف، وحال وصولي إلى العنوان، وعندما سألت عند بوابة المحكمة، أو شيء شبيه بمبنى الإذاعة في بغداد التي كنت أدخلها بأكثر من صفة (فنان، موظف) فقال لي الحارس: هيههه أجل إن غرفته في الفناء الخلفي. وهذا الفناء يشبه موقع المبنى الذي كانت تبث منه برامج استوديو 7؛؛؛ وعندما هممت بالدخول على منذر، وجدته مشغول بملفات، وحوله عدة موظفين، أحدهم علا التراب شاربيه، وحواجبه، أما منذر فيشبه زوج أختى أصلع يغطي الصلعة بشعر من الجانبين، ووجهه أحمر، وردي، ولكنه ودود، وفاجأني بمناداتي باسمي قائلاً: أنت فلان لماذا اقفلت السماعة فجأة، أتعلم إنك بعملك هذا أقفلت كل الهواتف التي كانت منصتة لمحاورتنا!!!.
لقد أحببت منذر من كل قلبي، هو بالطبع المؤلف ببعض ميزاته؛؛؛ رغم أن المؤلف توزع بين عدة شخصيات ليبث معلوماته، مع نور، وأنور، وعلي.
وأخيراً: فإن قراءتي لرواية بنات يعقوب، ورغم أنها عمل كبير، وممتع للغاية؛؛ لم أكن متأثراً فيها كقارئ بقدر ما استفزتني رواية فوهة في الفضاء؛؛؛ ربما يعود السبب إلى أن ما نقرأه عن تاريخنا القريب، ويصف لنا أهوال أهالينا يستفزنا، ويثير شجوننا، فنبكي؛؛؛ أما عن التاريخ القديم، فلا يعدو أكثر عن مجرد روايات. فلو كنا معبأين مسبقاً بتحييز ما؛؛ لأذرفنا كثيراً من الدموع؛؛ نظراً لما يخلقه التحييز من مواقف متطرفة؛؛؛ ولو نظرنا إلى التاريخ بعين إنسانية لاختلف الأمر، أما التعبئة السياسية فأمر يتعلق بالتمييز، والتحيز.

هوامش:
(*) تسلسل الصفحات من المخطوط، قبل الطبع.
(**) رواية فوهة في الفضاء، لمحمود سعيد، صدرت عن دار شرق غرب للنشر.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *