من الواضح أن محاكمة الرواية التي تتخذ الواقع أو التاريخ، قريبه وبعيده، أساساً لبناء مادتها الحكائية، وفقاً لمنطق الصدق والكذب ليس من وظائف النقد الأدبي، ولا يمكن، كذلك، اعتماد الرواية كوثيقة أو مرجعية تاريخية، فقد (يهدف الروائي من استحضار التاريخ إلى إثارة الأسئلة حوله أكثر من تقديم أجوبة جاهزة عنه) كما يعبّر الدكتور صالح هويدي في كتابه (لعبة النص). من هنا تأخذ الوقائع التاريخية التي احتوتها رواية (يا مريم) بعداً تثويرياً للأسئلة، بعد أن قام الروائي بتذويبها في سياقٍ حكائي من نسج خياله، كما ينوّه لذلك في خاتمة الرواية.
(يا مريم) الصادرة عام 2012 عن منشورات الجمل، رواية ثرية بالتفاصيل، غنية المحتوى، متعددة الأصوات. يتقاسم السرد فيها ثلاثة ساردين، يتفاوت حضورهم على امتداد فصولها الخمسة، وصفحاتها التي قاربت 160 صفحة، وهم:
1. يوسف، الكهل، الذي تجاوز الثمانين، المسيحي، المتعقل والموضوعي والحساس، والذي تقض مضجعه الكلمة العابرة، ويوبخ نفسه لأنه لم يقم بتغيير مصباح محترق منذ الأمس في غرفة أخته (حنّه). أخته المتوفاة من ست سنوات. يوسف هو الشخصية المركزية للرواية، وحوله تدور أغلب أحداثها، ومنه تنبثق جميع الشخصيات الأخرى.
2. السارد العليم، الذي لم أجد مبرراً لإدخاله في بنية الرواية، إلا في الفصل الأخير، حيث يتكفل بسرد وقائع اقتحام كنيسة سيدة النجاة، بينما يمكن الاستعاضة عنه بصوت يوسف نفسه في الفصل الذي تكفل سرده قبل ذلك والمعنون (صور)، لانه اكتفى بحكاية الظواهر والوقائع التي يعرفها يوسف فقط ولم يذهب أبعد من ذلك، وأحسب أن استدعاءه في هذا

الفصل ما هو الا تمهيد لظهوره في الفصل الأخير، لا أكثر.
3. مها، الطالبة في كلية الطب، المسيحية المتزوجة بلؤي، والتي سكنت مع زوجها في الطابق الثاني من منزل يوسف، قريبها، بعد تهجيرها وعائلتها من سكنهم في منطقة الدورة ببغداد عندما سيطرت عليها الجماعات الارهابية. الفتاة التي أصبحت حساسة جداً ولم تعد كما كانت بعد فقد جنينها، فأخذت تضع سدادات الأذن، في هروب واضح من ضجيج العالم، وصارت تلوذ إلى صلواتها وتراتيلها الحزينة، أو إلى الفيسبوك وواقعه البديل، مختارة مجاميع تهتم بماضي العراق الذي يسمونه “زمان الخير” لكنه وصف لزمان نسبي يتفاوت من شخص إلى آخر بين الملكية أو حكم عبد الكريم قاسم أو ما قبل الحصار أو حتى قبل 2003، فلكل ماضيه وزمانه الجميل. إلا أنها تتساءل: كيف يمكن للعراق أن يكون سعيداً في تلك العهود رغم ما شهدته جميعها من جرائم مختلفة تفاوتت بين الذبح والتهجير والمقابر الجماعية وغيرها؟
وإضافة إلى الوصف، الذي أخذ مساحة كبيرة في الرواية، والحوار الذي كشف الكثير من مضمرات شخصياتها، والمنولوجات الداخلية وحديث الذات أو تأنيبها، نلحظ فيها أربعة مستويات أساسية للسرد، يمكن القبض عليها وهي تتبادل الأدوار لبناء الرواية، وتمثلت في:
1. الواقع المصاحب لزمن السرد، عام 2010، ويكاد ينحصر في اليوم الأخير من شهر تشرين الأول من ذلك العام، والذي شهد حادثة الكنيسة، والليلة السابقة عليه، والتي دار فيها نقاش ساخن بين يوسف ومها حول ما يدور في العراق، وأوضاع المسيحيين واستهدافهم من قبل الإرهابيين، ورؤية كل منهما تجاه ذلك، إذ كان يمثل النظرة المتفائلة بينما تجسد هي النظرة السلبية المتشائمة.
2. استعادة أحداث متفرقة من حياة الساردَين، يوسف ومها. يوسف، ربما، هارباً من الحاضر الذي يراه “مفخخاً ومليئاً بالانفجارات والقتل والبشاعة”. ومها لتبرر عزمها ورغبتها الملحّة لمغادرة “هذا الجحيم” ما إن تنهي دراستها في الجامعة.
3. السرد من خلال الصور، للتعريف بالعائلة وما جرى على بعضهم من أحداث، حيث تستعيد الرواية لقطات من تاريخ بعض شخوصها من خلال صور أخذت لهم في أوقات متفاوتة، معلقة على الحائط في غرفة الضيوف، يحيك السارد الرئيسي حول هذه الصور بعض الحكايات الجانبية، ومن ثم يستعرض ما حلّ بهم من شتات، فقد توزعتهم المنافي والغربات، مختارين أو مجبرين. وهذا المستوى رغم تمثيله لواقع عراقي معيش، إلا أنه أثقل الرواية نوعاً ما، وعطّل سير أحداثها.
4. السرد من خلال الأحلام والكوابيس التي يعيشها يوسف أو مها، وفيها تتجلى رغباتهما وهواجسهما ومخاوفهما حيال الواقع وأعبائه. وفي أحلامهما يريان ذلك الجنين الذي سقط من رحم أمه على إثر الرعب الذي اجتاحها عند انفجار سيارتين مفخختين قرب منزلها القديم في منطقة الدورة.
امتازت لغة الرواية بقربها الشديد من الفهم الشعبي، حتى أنها عمدت إلى توظيف المفردة الدارجة بكثرة، بينما جاء الحوار بالعراقية المحكيّة باللهجة الموصلية التي يستخدمها أبناء الطائفة المسيحية. لكنها على هذا جاءت لغة مختزلة شديدة الدلالة في الوصف وتصوير الأحداث، مع اعتنائها الكبير في استقصاء التفاصيل الدقيقة، وصدقها في مقاربة العواطف والأحزان الجيّاشة في أعماق شخصياتها.
يوم الأحد، الحادي والثلاثين من تشرين الأول عام 2010، صادف الذكرى السادسة لرحيل (حنّة) أخت يوسف، وقد كان من المقرر ان يعقد لروحها قداس في كنيسة سيدة النجاة، وهناك تواجد يوسف ومها، عندما حدث اقتحام المجموعة الارهابية للكنيسة وقتل عدد كبير من المتواجدين، كان يوسف واحداً منهم، بينما نجت مها بأعجوبة، قبل أن تدخل قوة من الجيش العراقي وتنهي أحداث هذه الواقعة المأساوية، وتستخرج ما تبقى من الرهائن على قيد الحياة.
ستكون مها بعد ذلك شاهداً على ما جرى، لترويه، بكل عفوية، وهي تمسح دموعها، أمام كاميرا إحدى الفضائيات، ورغم مرارة استعادة الاحداث، الا أنها كانت “تريد أن يعرف العالم كله حقيقة ما جرى”… وهذا، بالفعل، ما تريد رواية (يا مريم) الكشف عنه، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال إثارة الأسئلة حوله، كما أشرنا في استهلال هذا المقال.