نصير عوّاد : “أيام الموت” كتاب عن الفنان موفق أحمد

الفنان موفق أحمد
الفنان موفق أحمد

بمدينة دنهاخ الهولندية(1) وفي صالة صغيرة مليئة بالألفة والشموع، وحضور جيد اكثره من النساء، جرى التوقيع على كتاب “أيام الموت” للفنان العراقي موفق أحمد الصادر عن دار (دي بوك فبريك) بحجم متوسط وغلاف أنيق بلون القهوة، وتوزيع مريح للنصوص واللوحات. هذه المرة اختلف الاحتفاء بالفن قليلا ولم يحضر النقاد والمعنيين بالفن التشكيلي، ولم تدُر حوارات مطوّلة عن أسلوب وتجربة وأدوات الفنان بل لم تحضر اللوحات ذاتها التي من أجلها طُبع الكتاب، وحضر في الصالة بدلا عن ذلك عدد من المسؤولين ومندوبين عن مؤسسات إنسانية وحقوقية تعنى بأحوال اللاجئين القادمين إلى أوربا من شتى أنحاء العالم، جلسوا قبالة شاشة مربعة الشكل تعرض، مع موسيقى بعيدة، اللوحات التي تضمنها الكتاب. الكتاب خال من علامات الترقيم، تَضمّن نبذة قصيرة عن حياة الفنان موفق أحمد مع مقدمة للفنان الهولندي ديديرك خروتينس Diederik Grootjans  الذي رأى ( إن هذه الشهادات مهمة جدا من الناحية الفنية والتوثيقية والإنسانية. إنها شهادات مؤثرة لرجل كان على موعد مع الموت). ثم تلا ذلك نص نثري للفنان موفق أحمد باللغة العربية، تُرجم إلى اللغة الهولندية، تتوسط اللغتين (38) رسمة نُفذت بقلم الحبر الجاف على الورق. الرسمات هي فقط المُرقّمة في الكتاب.
الكتاب “أيام الموت” فصل من سيرة ذاتية تروي بشكل بصري حكاية متكاملة عن رحلة بدائية مقطوعة عن العالم ووسائله، مليئة بالأمل وخالية من الصبر والفرح، أبطالها من النساء والأطفال والشيوخ الذين امتصت الغابة الباردة حرارة اجسامهم. الفنان وثق بواقعية مهلكة وبلون واحد.. ودرجاته،

الأستاذ نصير عواد
الأستاذ نصير عواد

mowaffaq 4تاريخ من الهروب والتهديد الذي طال شرائح كثيرة من المجتمع العراقي، من بينها المثقفين والاكاديميين الذين لا يجيدون لغة المهربين وقطاع الطرق. فكرة الهروب من الوطن ليست جديدة على الدول التي تكون مرتعا للحروب والقتل والتهديد وهناك الكثير من المثقفين والسياسيين توقفوا عندها طويلا نثرا وشعرا وفوتغراف، إلا أن الفنان موفق أحمد تناولها بشكل جديد ومختلف، إذ حاول تجسيد اليوميات بخطوط ورسمات مبهرة، تعمّق احزاننا وتحذرنا من استمرار المأساة. صحيح أن الفنان موفق أحمد قدم لرسوماته بنص نثري يتحدث فيه عن رحلته المؤلمة عبر مناطق خطرة مكتظة بالموت وحراس mowaffaq 3mowaffaq 2الحدود، وأن هناك وشائج كثيرة بين النص وبين الرسمات، إلا أن الخطوط روت لنا حكايات وتفاصيل أكثر من الحروف والكلمات.
من النظرة الأولى للكتاب يتضح ارتكازه على موضوع واحد، مأساوي وذي أبعاد وجودية، يحفر في فكرة الهروب بعيدا عن الوطن. أستخدم فيها الفنان المتوفر من الامكانات، ورق وقلم فقط، للتعبير عنه بصدق مؤلم. فليس من السهل، كما يقول الفنان، تحويل المأساة إلى فكر جمالي يحتكم الآخرون إليه ويُركنون إلى معانيه. بمعنى أن موضوع الكتاب يحمل في طيته تجربة حقيقية ومريرة عاشها الفنان موفق أحمد أثناء اجتيازه الحدود التركية اليونانية، وثّق فيها بواقعية الكثير من المشاهد والمعاناة الإنسانية، نلمس فيها الخيط الذي ينتظم الرسمات ونلمح فيها الأشخاص يسيرون متناغمين، بلا وجوه أو ملامح، ويتحركون في فضاءات مخيفة متشابهة، ومصائر مأساوية مشتركة ومفتوحة على المجهول. اختزن فيها اللون الوحيد، الأسود، طاقة حسية وتعبيرية مؤثرة أضاءت لنا الأمل الذي يبحث عنه (150) متسلل، فُقد بعضهم في الأنهر السريعة الجريان، كما يروي الفنان.
الموضوع واحد والرسمات كثيرة. ورغم تشابه مناخ الرسمات وأداة التنفيذ إلا أن الموضوع لا تسعه لوحة واحدة وأن بعض الأفكار لها خصوصيتها وحضورها الغائر في عمق الذات الإنسانية المُطارَدة، ناهيك عن أن الظرف الصعب الذي نُفذت فيه الرسمات لم يسمح بتنفيذ لوحة كبيرة وكثيرة التفاصيل. الرسمات الثمانية والثلاثين جاءت صغيرة الحجم (13 – 18 سنتيمتر) ومتوالية تجسد وحدة الموضوع وتبحث عن جماليات لا تهوي في الرتابة والتكرار، كان فيه توزيع الشخوص والمواقف مُعبر وواقعي يدركه جيدا من عاش تجربة مشابهة. الأشهر الأربعة التي قضاها الفنان في السجون اليونانية وسّعت من مخيلته وزودته بالوقت لكي يعيد رواية ما وقع على الحدود بين تركيا واليونان، وتعميق مناطق الضوء والظل في الغابة الموحشة بخطوط قوية وتفاصيل دقيقة، وباذخة في بعض الأحيان على الرغم من قلة حاجات العابرين، يعزوها الفنان إلى قلة الورق وكثرة التفاصيل.
أن الظروف التي احاطت برسم اللوحات من رعب وموت وغياب ابسط مستلزمات الحياة أدت إلى غياب اللعب بالألوان على سطح الرسمة، حل محله لعب بالضوء والظل، كان لتدرجات اللون الوحيد، الأسود، خاصية الهروب وقسوة الطبيعة وحركة الشخوص التي يتغير حضورها عبر تحركها على سطح الورقة الصغيرة، تارة نراه في مشهد رجل مبلل ينتظر دوره لعبور النهر وتارة أخرى لرجل يحمل حقيبته على ظهره ويصرخ على رفاقه أن ينتظروه وثالثة لشاب يعبر سياج بأسلاك شائكة ورابعة لذئاب تنتظر من تخور قواه ويسقط في الطريق. الهروب الجماعي الذي ترويه لنا الرسمات لا يقلل من أهمية التفاصيل الصغيرة للشخوص، المتمثلة في حركتهم وأغراضهم القليلة التي يحملونها معهم، تمتزج هذه التفاصيل بطبيعة خريفية مدهشة وحاضرة بعنف وقسوة، غلب عليها الاسلوب الواقعي _ التعبيري الذي عُرف به الفنان موفق أحمد.
_____________________________________________________________
جرى حفل التوقيع في مبنى هيومنتي هاوس، يوم الجمعة 22 أذار 2013

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *