حسين سرمك حيسن: كيف تكتب قصة قصيرة ناجحة ؟ قصة “إيلونا إيسلن” لفاروق أوهان (2/ الأخيرة)

hussein sarmak farooq aohan 4.. واستطيع التوقف بما لا يقل عن نصف صفحة مثلا على أي واحد من هذه المواقف ، ولكني سوف أكتفي بالموقف الأخير الذي يصف فيه فاروق ردة فعل ماريا المفزوعة تجاه نسيانها كيس خضارها :
(وقد نسيت للحظة كيس الخضار، وما أن وضعت رجلها السليمة على حافة الدرج حتى صرخت وكأنها فقدت رضيعها) .
فنسيان كيس خضار بالنسبة لأي واحد منا كمتلقين هو أمر شائع الحدوث ، ويقع في خانة الحوادث العادية ، لكنه حُمّل الآن بدلالات عميقة لأنه ارتبط بـ “شخصية” سردية هي محط انشغالنا ، ويمثل الكيس بالنسبة لها شيئا اكبر مما يعنيه لنا حين نربطه بظروفها ، وتيهها اليومي ، وعلاقتها بثورها جبرائيل . فقد أثقلت كيس خضارها المشمع بالخضار واللحوم لإطعام ثورها الذي لا تريد العودة إليه بصورة مبكرة لتسمع السيناريو المقزز نفسه . وصرخة ماريا الرهيبة “كمن فقدت رضيعها” تثير بصورة مباشرة طبيعة تلك العلاقة المتضادة – ambivalence التي تربطها بجبرائيل ؛ هي علاقة مركبة من أقبال وإدبار ، وإقدام وإحجام ، وتمتزج فيها المشاعر السلبية والإيجابية المتصارعة بنفس الدرجة من القوة تقريبا . وقد يندهش القارىء حين نقول إن بطانة المقت والتقزز من “موضوع الحب” ، هو من المصادر الرئيسية لإشعال لهيب التولّه والتعلّق . وما صرخة ماريا المفجوعة هذه إلا تعبير عن هذا التصارع المؤرق ، لا عن الحاجة المادية لكيس خضار حسب .
ولكن هناك ما لا يقل اهمية في استجابة القارىء لهذه الصورة ولهذا الوصف ، وليس على طريقة “ستانلي فيش” المفرطة كلّية في نظرية :إستجابة القارىء – reader response ” . فمع أي موقف تصويري يتكفل به الفن ، تُستثار مشاعر وانفعالات وأفكار في نفس القارىء منها ما يرتبط بـ “شكل” الحدث الراهن ، ومنها – وهذا هو الأهم – ما يرتبط بتداعيات “مضمونية” منتسجة بما هو غير معلن في الحدث القائم :
(وقد نسيت للحظة كيس الخضار، وما أن وضعت رجلها السليمة على حافة الدرج حتى صرخت وكأنها فقدت رضيعها) .
ففعل النسيان قد يوقط – مرتبطا بوضع الرجل السليمة على حافة الدرج – مرارة عاهة العرج ، التي تعني ، من بين ما تعنيه ، رِجلا أخرى “منسية” ، فيخزنا الألم بصورة أعمق . وتتراكم حالات النسيانات الموغلة في الأذى حين تلوب في أعماقنا أحاسيس مرتبطة بالوضع الكلي لماريا كإنسانة مستوحدة و “منسية” في هذه الدنيا الظالمة . وليس مستبعداّ أن تمتزج هذه الإنفعالات برثاء مستفز بتعبير الرضيع المفقود كمؤشر لأمومة ماريا الضائعة أو المؤجلة أو “المنسية” . كما أنها قد تتشابك ، ولو من بعيد ، بحالة الرضيع الطفيلي المدلل “الناسي” لاشتراطات وجودها ، والجاثم على صدر وجودها : جبرائيل . مثلما قد تثير ، ولو جزئيا ، الدور الأمومي المتعب الذي تتصدى له – ونسبة كبيرة منه قد يكون “منسياً” ولا واعيا – في علاقتها مع جبرائيل .
ولكن هناك خيوط أكثر دقة ورهافة تنتسج من الموقف المركزي هذا ، وهي من المراوغة الخلاقة بحيث أن الكاتب نفسه قد لا يكون واعيا بها ، حيث تتعزز لديّ قناعة ، مع تزايد الكم الهائل للنصوص التي حللتها ، بأن لاشعور الكاتب يلعب الدور الأكبر في بناء نصوصه وصياغتها وانتقاء موضوعاتها وإخراجها لغويا ، والأهم في انتقالاتها من زمن إلى آخر ومن معضلة إلى أخرى . أما الشعور فهو وكالة حسّية فقيرة كما وصفه “معلم فيينا” . فها هي ماريا ، وبعد ن استعادت كيسها/ رضيعها الضائع ، انتقلت إلى الحافلة العائدة إلى بيتها .. و.. :
(.. سحبت نصف زجاج النافذة القريبة من المقعد لتفتحها، فهب عليها النسيم العليل ليجعل إيلونا تشعر بالإرتياح، والنشوة، ومن ثم الخدر فالذهاب بعيداً، ولكن إلى طفولتها هذه المرّة . فقد استذكرت إيلونا ماريا اليوم الذي فازت فيه بأحسن لوحة رسمتها بين زملائها، وشدها ما لاقته من عدم انتباه صفها، بل أعلن زملاؤها تبرمهم، وجفاءهم لها، وللمدرّسة على هذا الفوز، والإطراء، لاعتقادهم بأن الفوز للحسناوات، وليس للعرجاء إيلونا، ولم يقابلوها حتى ولو بابتسامة ما، غير أن ما تلقته من مدرّستها أكد بروزها ونجاحها، مما زاد من شماتة زميلاتها لها، فهربت إيلونا مسرعة إلى البيت. ولم تكن أمها قد رجعت من المعمل، على غير عادتها .. فوجدت زوج أمها الذي لا يفارق البيت، وقد انتفخ كرشه من قناني البيرة الرديئة، والبالينكه – PALINKA الرخيصة التي يعبها بالتناوب منذ الصباح الباكر، ولا يتمزمز إلا بشرائح شحم الخنزير الرخيصة الثمن . وكم كرهت إيلونا رائحة البيرة، والعرق المسكرتين اللتين تصدران عن زوج أمها، وكذلك هندامه، ولحيته التي تثير اشمئزاز إيلونا المسكينة) .
ودائما يتكفّل الموت بتمظهراته المختلفة : الألم والفقدان والعوق والخراب والعدوان بإضاءة وجه الحياة الذي أعتمه الهروب الدائم من مواجهته . فحيثما يحط شبح الموت يضيء وجه الحياة الكامد ويلتهب . فنشوة ماريا بالنسيم العليل أجهضتها العودة إلى خسارات الطفولة ، وفوزها بأحسن لوحة سمّمها تذمر رفاقها ونقمتهم ، وتعنصرهم تجاه عاهتها المستديمة والمخزية . إن ماريا “منسية” كوجود من قبل الآخرين الذين يحيطون يها . ولواذاً من التحامل والخزي والنسيان ، تلجأ إلى البيت الأمومي الحامي ، لتجد خنزيرا في صورة زوج أمّ ، يتمزمز بشرائح شحم الخنزير . خنزير يقوم بالتبصص عليها من ثقب الباب ، وهي تخلع ملابسها ثم يحاول اغتصابها ، فينقذها جيرانها الذين تنبهوا على صرخاتها المستغيثة .
الآن .. نصل إلى المحطة الثالثة في تعاطي القاص مع شخصيتيه المركزيتين . فقد صمّم فاروق مراحل هذا التعاطي وفق ثلاثة منطلقات : التركيز الفردي على كل شخصية على حدة من ناحية ، ثم التركيز على التبادل العلائقي المشترك بين الشخصيتين من ناحية ثانية ، وتناولهما – وهذا هو الأكثر شيوعا في النص – بصورة متناوبة من ناحية ثالثة . فقد استهل فاروق قصته بالحديث عن ماريا بصورة رئيسية مزاوجا سلوكها اليومي بلمحات عن سلوك جبرائيل ودور بيت الشعر المنرفز “إيلونا ربّة البيت ..إلخ” ، لينعطف نحو جبرائيل وتاريخ ومسار ودوافع هجرته ، وعمليات “جهاد” التي سمّاها باسم ابنه المعاق ، ومحنته في الحفاظ على اسمه وأوراقه الثبوتية من الضياع بصورة رئيسية ، ليعود إلى ماريا في محطات واحدة من رحلات تيهها اليومية ، ومعضلة كيس خضارها ، وحرمانات طفولتها ، وتداعيات طريقة تعرّفها إلى جبرائيل الحزين ، والدور النفسي والإجتماعي والخلاقي العميق الذي تمثله هواية الرسم بالنسبة لها ، والذكرى السوداء لمحاولة اغتصابها من قبل زوج الأم الآثم . والآن يعود إلى محطة العلاقات المشتركة بملاحقة دخول ماريا إلى البيت حيث يكشف لنا طبيعة العلاقة “المتضادة” – كما وصفناها – بينها وجبرائيل، والتي تشعل الصبر الأمومي الذي يطبع علاقتها بثورها ، والمحتوى التصافقي لهذه العلاقة ، وطبيعة التنازلات الصامتة التي يقدمها كل منهما . وكالعادة ، يستهل الكاتب تصويره البسيط الثر بوصف “العرجاء” :
(وتدخل إيلونا العرجاء المطبخ مباشرة بعد أن تحيي ثورها هاتفة بكلمة مساء الخير يا عزيزي بالمجرية : يواشتيت كيفانوك – JOESTET KIVANOK، لأنها تعرف أنه سوف يجيبها بالجملة التي عانت كثيراً في تعليمه إياها، فيغمغم باختصار : يو اشتت . وسرعان ما يعود لشريط الأغاني الذي استهلك وغيره، منذ أن حملهم في مشوار غربته الطويل، فيعلو صوت فريد الأطرش بكلمات أغنية : سافر مع السلامة، وترجع لي بالسلامة . بينما تدندن إيلونا باللحن الذي اعتادته في المطبخ، وقد فرغت من وضع الخضراوات في مغطس غسيل الخضراوات، وقامت لتثرم البصل، وتعد الحساء، والسلطة قبل كل شيء، فقد سبق لها أن وضعت لحم البقر “المارها – MARHA ” على النار . وتعمل إيلونا الآن كأنها عشر نساء . خشية أن يأتي ثورها ليطلب منها المساعدة فيفسد عليها العمل بتفحص كل مادة، والسؤال عن أسعارها بالكيلو، والحبة، والوحدة، والدرزينة، والسلة . وهي متمالكة لقواها، ومتصالبة على أن لا تخدش مشاعره أبداً مهما أحست حتى بتثاقل الناس من لجاجته، وعدم استكانته، واعتبار الآخرين ليس أكثر من وسائل خاصة لأجوبته، أو تلاميذ يدرسهم مادة الشعر . لهذا تحاول أن تطيل وقت مكوثها في المطبخ لأكبر وقت، ولا تنزعج من كثرة تقليب الطبخة حتى تنضج، وإلا فما أن تدخل الصالة لترتاح، أو لتأخذ شيء منه، حتى يثب الثور عليها لكي يعرض لها سيرته اليومية، وأهمها البضائع التي اشتراها من سوق البولون، الذي غدا عالمه، ولا يعرف غيره في عالم بودابشت الرحب . كان ثورها يدخل عليها المطبخ الضيق في بعض المرات، ولما لم يجد انتباهاً خاصاً بما عرضه على “إيلونا زيتونة” كما يحلو له أن يسميها أحيانا، فقد أبطل عادة مقاطعتها عن عملها في المطبخ حفاظاً على الود والمحبة العميقين بينهما) .
ومع بيت الشعر المزعج ، يعيد القاص التركيز على ولع جبرائيل بشراء السلع العتيقة من “سوق البولون” ، واقتنائها بصورة تقرب من النزوع “التسلطي القسري” . فهذا النزوع – وهذا ما قد لا تدركه ماريا ولا المواطنين الأصليين ، فيندهشوا منه – يوفّر للمهاجر “دوراً” يلعبه في هذا العالم الغريب عليه ، مهما كان هذا الدور بسيطاً في أعيننا . ويتناسب تسلط هذا الإنهواس طردياً مع “الدور” الذي كان يمتلكه الفرد المهاجر في موطنه الأصلي . وجبرائيل كان مدرّسا أي صاحب “دور” مميز في بلاده . وتجريد المهاجر من أي دور في المجتمع الجديد ، خصوصا في المراحل الأولى ، يعني “إنخصاءه” من الناحية النفسية ، وإشهار عجزه من الناحية الوجودية . ولكي يستعيد  كفايته في مجتمع “يتحكم” به ، يعمد إلى “التحكّم” بعالمه الصغير ، وخصوصا في المكوّنات المادية فيه . ولهذا يلح جبرائيل على “قيادة” أصحابه إلى سوق “البولون” ، وعلى عرض ما يقتنيه من سلع ، وعلى إهدائها لهم قسرياً ! :
(وعندما يزور جبرائيل أحد الأصدقاء يصر على إهداء ما لا لزوم للزائر بهذا الغرض, ومن الإحراج يضطر الزائر قبول بضاعته صاغراً، فيحار هذا هل هي هدية ؟ أم أن فاتورة الشراء سوف تقدم له لاحقاً ؟ لكن جبرائيل لا يبدي أياً من هذه التصرفات, وإنما يبدو أن تصرفه في وهب الهدية لزائره ربما للدلالة على كرمه, أو ربما للتفاخر بالعّز الذي يعيشه, وهو ما زال قائماً على قديمه غير محتاج لمعونـة أحد, ويتفاخر ثور إيلونا كثيراً بأنه قد اشترى بضائعه تلك بأسعار رخيصة, بل وقد قام أكثر من مّرة بالدعاية لهذا السوق, وصحب معه غيره من المغتربين الفقراء لهذا السوق, لكن تجربة هؤلاء وغيرهم باءت بالفشل لأنهم تعرضوا للابتزاز, لحصولهم على بضائع مقلدة, وأخرى مسروقة .. وفي كثير من المرات يعمد جبرائيل إلى أخذ أياً من تعرف عليهم من أصدقاء، أصدقائه “حميد، وجليل، وعامر، وسلطان” إلى بيته ليتعرف معه على الحاجيات التي اشتراها، وفي كل مرّة يقدم جبرائيل للصديق ما لا يعجبه رغم احتجاج هذا الصديق وتمنعه . لكن إلحاح جبرائيل هو الذي يخصم المعادلة ) .
ولكن لهذا الإنهمام الإستحواذي وجها آخر يتعلق بظاهرة “التكرارية” التي تطبع أفعال جبرائيل الإرادية . فعالم الإنسان المهاجر يضيق ويضيق ليتحدّد في دائرة أماكن مكررة وضيقة كسوق معين أو مقهى معين أو في ممارسة نشاط واحد لا يتغير . وتطبع ظاهرة “التكرار” كل تفصيلات الحياة اليومية للمهاجر ، فتراه يعيد نفس الحكايات والنكات والتنظيف والتلميع .. إلخ. قد يعود ذلك إلى محدودية قدراته التكيّفية وأدواته التوافقية مع المجتمع الجديد ، وفي مقدمّتها اللغة كما اسلفنا . ولكن ما لا يقل فعلا وتاثيرا ، هو عامل الإطمئنان الذي يوفره ضيق مساحة النشاطات ، والقلق الذي يشتعل كلما حاول اقتناص زمام مبادرة الخروج إلى دوائر فعل ومجالات أنشطة أرحب وأغنى بالعلاقات الإنسانية . لقد هجر جبرائيل مخزونه التوافقي مع هجرانه بلاده . وظل كامنا هناك في البعيد .. في وطنه الأم حيث يتوفر الشرط الأهم في أي نشاط وعلاقة ، وهو “الآخر المعروف والمعرّف” من خلال اللغة . اللغة التي يكشف لنا القاص في هذا الموقف معضلة أخرى ترتبط بتعلّمها ، وتساهم في مضاعفة تحديد أنشطة جبرائيل ، وتتمثل في المحددات الإجتماعية المناسباتية لكل مفردة . وهذا يحصل في أكثر اللغات ، ولكن الصعوبة بالنسبة لجبرائيل هو أنه “لا” يريد تعلّم هذه المحددات كجزء من موقفه العام من تعلّم لغة البلاد الجديدة . وقد يكون السبب المستتر هو سمة “العناد” و”التصلّب” التي حكمت شخصيته منذ أن كان في بلاده :
(وما أن يجهز الطعام حتى يكون ثور إيلونا قد جهز المائدة بالطريقة التي تريدها إيلونته الزيتونية . وهو بانتظار العشاء، والغذاء، ومشتاق إلى الحساء، والخواصر . وتتناوب على مائدة العشاء عبارات، وكلمات مجرية مبتسرة، فبعد أن تصب إيلونا لثورها الحساء حتى تقدم له الكاسة، تقول له شهية طيبة “يو إت فاجوت – YOETVAGYOT بفاء ثلاثية النقاط” . وما أن يحتسي الرشفة الأولى حتى يقول لها شهي، طيب بالمجرية فينوم، فتضحك ماريا وقد تذكرت مهمتها الشاقة عندما علمته التميز بين طيب، وحسن بالمجرية إذ أنه كان يقول كلمة حسن “سيب – SZEP ” لاستحسان الأكل التي تقال لكل شيء باستثناء الأكل، بينما تكون الكلمة المناسبة هي فينوم – FINOM . وكم أجهدت نفسها في تعليمه الفرق بين كلمة عفوا “شانيوش – SAJNOS “، وكلمة معذرة “بوجانوت – BUCSANOT بجيم ثلاثية النقاط” فلكل منها استعماله ومناسبته . ويعلو صوت ثور ماريا فجأة ليقول لها كلمة ماذا هناك، أو شكو ماكو “هوج فوج – HOGY VOGY ” فلا ترد عليه لأن سؤاله هذا ليس له معنى، وإنما هو فقط نوع من التمرن على الجملة التي تعلّمها أخيراً لا غير) .
وبعد تناول العشاء ، يعود القاص إلى المحطة المشتركة حيث ممارسة الجنس – ولا أعلم ما معنى مصطلح “ممارسة الحب” المتداول في الغرب ، إلا إذا أصبح الحب مساوياً للجنس في ظل الحضارة الغربية – بين الشريكين “اللدودين” ، والتي يعرض مقدّماتها القاص بصورة تعكس “مكر” جبرائيل ، والاستجابة المتراخية والمتواطئة لماريا تحت خيمة الشعر التي تذوب في ظلالها أقسى المتناقضات :
(وتسترخي إيلونا بين يديه، وكأنها سحابة مأزومة بالماء لا يعوزها سوى شرارة برق حتى ينزل مطرها) .
وحين تحدّثت عن تناوب المحطات السردية الفردية والثنائية التي يعالج فيها القاص طبيعة العلاقة بين الشخصيتين المركزيتين ، فلأنني أرى أن القاص قد سار على تقنية “الجرعات” السردية إذا جاز الوصف ، حيث يقدّم في كل موقف لمحات جديدة مهمة عن طبائع وسلوكيات وصراعات الشخصيتين ، بصورة تجعلنا نتطلّع إلى المزيد ولا تزرع في نفوسنا الملل من التكرار ، وهذا ما سيقع فيه فاروق بعد قليل ، وهو يعود إلى محطات ماريا أو جبرائيل السردية ليوسّع باستطالات ثقيلة ولا تغني كثيرا ما سبق ان صوّره ببراعة أمامنا سابقا . فعودة القاص الآن إلى محطة ماريا في نشاطها اليومي وهي تدخل دائرة البريد – ولو أنه مفرط في بعض نواحيه – تكشف لنا ملامح أخرى من شخصية ماريا وعزلتها وفقر مهاراتها الإجتماعية وقلقها من الآخرين . وتحت غطاء حالة “السهوم” التي تمر بها وهي تقف في طابور البريد وتحملق في وجوه الآخرين والأخريات وتحاورهم بصورة صامتة ، مرّر القاص حالة عودة أخرى إلى طفولتها من خلال استعادة حالات تصابي العجوز “إيغور” الذي يحاول التحرّش بها ويتعمد (مماطلتها في البحث عن القطة التي لم تدخل أصلا إلى شقته، ويشير إلى أنها في المطبخ، أو تحت السرير، كل ذلك لكي يلتصق بإيلونا، ويشم رائحتها الغامرة بتفتح زهرة يانعة . من غير أن يقوم بأي لمس عامد، لكن إيلونا تكون وقتها قد انتبهت لجو غريب لا تستطيع المواصلة معه، خصوصاً، وإنها خبرت بعض هذه الأجواء مما حصل لها مع زوج أمها . فتعتذر بسرعة، ويظل هو يناديها، ويعتذر، ويرجوها البقاء مدة أطول، فالقطة ما تزال مختبئة في مكان ما في شقّته . وتعجّب لهذا النوع من الناس، وخاصة أن العجوز إيغور لم يكن ليدنو منها أكثر من اللزوم، لكن ما كان يرهقها، هو الحالة التي يصير إليها من توتر، وسهوم، وحركات لا إرادية يغطّي عليها بافتعال حجة لجلب شيء ما للقطة، فيتوارى وراء باب، أو ستار، ويخرج من المكان مأزوماً ، أو مرتاحاً ، فإيلونا لم تكن وقتها لتقدّر ماذا يفعله الكبار بينهم، وبين أنفسهم) .
لقد أُتخم تعاطفنا مع براءتها وحسن نواياها المورّطة . والأهم هو ، كما قلت ، مهارة إحكام “وصلات” الإنتقال بين زمنين ، وبين حادثتين حيث يوفق القاص في أغلب تلك الإنتقالات ، وليس كلها ، حيث يعيدنا إلى ذكريات ماريا الحاضرة – وهي في حقيقتها ماضية كجزء من سطوة الموت على السرد والحياة كلها – في وقفتها المربكة والمرتبكة في طابور البريد ، فيقول :
(وتجفل إيلونا لأن أحدهم في الدور قد صار خلفها، وموظفة شباك البريد تستعجلها، فترتبك، وتخرج من الدور مباشرة إلى الخارج، ولا تعود إلى هذا البريد ثانية، إلا لو اضطرّت . ومن حسن حظها، أن يكون الوقت مقارباً للسابعة والنصف، فتأخذ طريقها إلى البيت لكي تقوم بواجباتها، ابتداء من دخول المطبخ، وحتى الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى العمل) .
إننا نقف الآن أمام حركتي انتقال غير محسوستين لكن مؤثرتين وتؤمّنان التحوّل بين زمنين : الماضي والحاضر . الأولى في استهلال الموقف : (وتجفل إيلونا لأن أحدهم في الدور قد صار خلفها ..) ، فهي تشترك في المعنى الإشاري العميق مع سلوك العجوز إيغور التحرّشي الذي كان يلتصق بها من “خلفها” ، ويتشمم عطرها .. وقد تكون جذور جفلتها القلقة هذه في البريد ، من أن يقف أحد ما خلفها في الكبر ، تمتد إلى تربة تلك التجربة الصادمة في الصغر.. ومع تجربة التحرّش الأبوي قد تكون تلك التجارب والحرمانات عاملا في اختيار مهنة التمريض الحمايوية والتحسّبية والمهدهدة لمخاوف الإنجراح من جهة ، وفي إنضاج التعلق بهواية “رسم” الآخرين و”التحكم” بحركاتهم الإرادية من جهة أخرى . وهنا يظهر وجه صارخ من وجوه الإختلاف بين القصة والرواية ، فلو وسّع فاروق نصّه هذا إلى رواية ، لكان متاحا لنا – بل كان هو نفسه مُطالباً – أن يستبر أبعاد تلك العلاقة الشائكة .
أما حركة الإنتقال الثانية فتتمثل في التحديد الزمني لنهاية “تيه” ماريا في دائرة البريد ، وهوالسابعة والنصف مساءً ، الذي يختم جولتها الهروبية ، ويؤذن بعودتها المستسلمة إلى ثورها في البيت ، لتقابله وتتحمل سماجته بأقل الخسائر . هذا التحديد يتيح للقاص الإنتقال إلى موقف جبرائيل السردي بالقول :
(أما يوم جبرائيل ثور إيلونا ، فيبدأ عندما يسمع خطواتها في الابتعاد عن باب الدار ، فلا يقوى على النوم بعدها ، وهو قد فهم مع الأيام سبب إصرار إيلونا على افتعال خفة الحركة، وتحاشيها إصدار أية أصوات ، لأن استيقاظه سوف يؤخرها بلا طائل) .
ثم يسوح معنا القاص في ممارسات جبرائيل اليومية المحدودة داخل وخارج بيت ماريا ، والتي تجعله ضحية من ضحايا حالة يمكن تصنيفها تحت إطار “الحرمان الحسّي – sensory deprivation ” ، وهي حالة تتضاءل فيها المؤثرات الحسّية والتعاملات الإنسانية الضرورية لإغناء حركة العقل ومداركه وإحساساته بما يبقي جذوته الذكائية متقدة وقادرة على إثراء حياة الفرد باستيعاباتها المتلونة وقدراتها التحليلية المتنوعة في جانب ما يصطلح عليه بالذكاء السائل – fluid intelligence ، لصالح الذكاء المتبلور – crystallized intelligence . فالحركة المحدودة المتكررة والخانقة في العوالم الضيقة الرتيبة تحدد فرص الإنتعاش الذهني ومراكمة الخبرات الجديدة . وهذا حال الحياة اليومية الرتيبة والثقيلة لجبرائيل الذي كان يناطح المتغيرات بلغته القديمة وسلوكياته المتصلبة . ولعل في هذا الجانب يتجلى المعنى النفسي الدقيق لصفة “الثور” التي أطلقتها عليه ماريا ، وليس ملاحظاتها عن انفعالات شريكها الهائجة تجاه أصدقائه الذين لم يعد بإمكانهم مواصلة الإستماع لحكاياته المجترة والمطوّرة بلا قصد ، وتجاه إحباطاته مع الـ un  ووكالات اللجوء حسب :
(وسامعوه يخجلون من تذكيره بأنهم قد سمعوا الحكاية أكثر من مرة، ومع هذا فإن اعتذارهم لا يعفيهم من التعرض لجر أردان ستراتهم, أو لكمات من يديه, وهو يمثل انفعالاته في معارضة خصومه، عندما يعتريه الحماس، والانفعال .. فتتعجب إيلونا من اختلاف وضع ثورها بين واقعه اليومي الأليف، وبين وضعه لو استفز، وبخاصة لو استرجع واحدة من قضايا جهاده، ولم تستغرب حدسها حينما أطلقت عليه كنية الثور ) .
وكنية الثور تكتسب أهميّتها النفسية في ذهن ماريا حين تقارن وضعه المنفعل الهائج الآن ، بوضع المسكنة والإنكسار والضياع والخجل الذي كان عليه حين شاهدته أول مرة في مقهى فيرشمارتي :
(ولا تدري إيلونا لماذا ارتاحت لسلوك الغريب مع زملائه عندما يلاقوه، فقد عكس وقتها قلقا، وخجلا مما يدور حوله، وكأنه يخشى الوحدة، ولا يستطيع طلب أي شيء إلا بعدما يحضر أحدهم، حتى نظراته كانت كسيرة، فأحست إيلونا أنه منغلق على نفسه، وكأنه يعيش في دائرة ضيقة من الانتباه، وما أن يأتيه أحد من معارفه حتى تنشرح أساريره، ويتغير كل ما فيه، وكأنه إنسان آخر) .
لم تكن تُدرك أن جبرائيل كان آنذاك ناكصا إلى مرحلة الرضيع المفقود أو الطفل التائه ، الذي يبحث عن من يرعاه ويوفّر له الحضن الأمومي الذي يحنو عليه بلا حساب . هؤلاء الرجال هم من نمط “الرضّع الدائميين” الذين تحدّث عنهم معلّم فيينا وهو يشير إلى النرجسية الطفيلية التي ينطوي عليها ” صاحب الجلالة الطفــل  – The baby his majestry – ” والتي كانت تلوب في أعماق جبرائيل منتظرة توفّر شروط التفتّح العصي ، فجاءت تلك الشروط مع مجىء ماريا المنقذة . وجبرائيل كان يحقق مركزيّته النرجسية بالتعلق بجلد المضيف لا بالسطوة المتجبّرة والتعسّفية عليه . كتب الجنرال “ديغول” مسرحية إبان شبابه فازت بالجائزة الأولى في مسابقة الكلية العسكرية آنذاك ، وكانت تتحدث عن تاجر يقع بين يدي قاطع طريق مسلّح و”مهذّب” في غابة . وفي كل مرّة يطلب اللص شيئا من ممتلكات التاجر بكل بتهذيب وبوعد أن يكون هذا آخر شيء . وهكذا .. إلى أن يجرده بهدوء و”محبة” وأدب من كل شيء !! ولكن ما يختلف في حالة ماريا هو أن الأمر يتم بموافقتها المعلنة أو – وهذا هو الأهم – الغير معلنة التي تقرّرها مصالح لاشعورها . فهي أيضا بحاجة إلى من تحنو عليه و”تنقذه” ، ليحنو عليها و”ينقذها” في لعبة متبادلة شديدة المداورة والمراوغة . ففي أول لقاء لها به تقرّبت منه مشفوعة بهواية “الرسم” التي تظهر هنا أولى مفاتيحها النفسية ، حيث “أحسّت” بأنها مشدودة إلى ملامح هذا الرجل وانفعالاته التي “تحتاج إلى الرسم” ! (خصوصاً وأنه يمرّ في حالات متعددة، تنعكس على تعابير وجهه .. سهوم .. ثم خجل .. ثم استحياء .. ثم تورّد خدود .. ثم حديث عادي، أو ودي .. فغضب .. فهياج . ثم يكون بشوشا رائقا وسمحا . كل هذا يمر ربما خلال ربع، أو نصف ساعة ) .
ولكن العقل البشري الذي هو تبريري بطبيعته – rationalized ، وليس منطقياّ – rational ، كما يتنفج شعورنا ويتعالى على حقائقه السلوكية تاريخيا وواقعيا ، يستطيع الإيغال في الذرائع التي لا تخدش الإعتبار الذاتي . فقررت ماريا أن يكون جبرائيل موديلها الدائمي ، (فتحقّق لها ما كانت تصبو إليه ، وتحقق له ما يحتاجه) في صفقة “معرفية” أوصلتهما إلى الفراش الدافيء . وقد ابتدأت إيلونا بدراسة وجهه، ثم ملابسه، ثم بعد أن مارسا الحب ، بدأت ترسم تضاريس جسده، ودرست عضلاته بتشريحها الكامل، حتى قررا أن ينتقلا نهائياً إلى بيتها. (وقد تعوّد جبرائيل على التحرر من الملابس في البيت، خصوصاً أثناء جلوسه كموديل، مما يتيح الفرصة لإيلونا أن تتفرس في ثنايا جسده اللدن كقماش ناصع ، لم تؤثر فيه حتى السمنة ؛ ناعم الملس، متين البنيان . وغالباً ما تحب إيلونا أن ترسم الخطوط العامة للجسد، ومن بعدها تعمد لملء التفاصيل . وتبدأ بالرأس فيسحرها الشعر الكستنائي فتقوم في كل مرّة لتعبث في تصفيفه. وعندما تملت العينين لمع بريقهما بعمق رهيب، فعذبها ما تخفيه هاتان العينان من ألق، وقلق، وتأزم ، وتمنت أن تغور في أعماق تلك النفس التي لم تدخلها من خلال الكلام الجميل . أما الأكف فهي ناعمة، ملساء، والصدر رائع الشعر مثل حقل ربيعي. ثم البطن، ثم قطعة حمراء وضعتها أسفل البطن تحاشياً من الوقوع في الهوى، وهي تمارس هوايتها، ولكنها لا تخفي فضولها في كل مرة لاختلاس نظرة للقطعة الحمراء وللحركة المنتظمة تحتها، كأنها نبضات قلب متسارعة ) .
وحين “تنعم” الحياة على ماريا التي وصلت ثلاثينياتها ولم ترتو من نبع الجنس المحيي بعد ، تلاحقها ذكريات عزلتها بسبب عرجها ، وتعيير رفاقها المستمر لها ، وتفضيلهم الأخريات عليها ، برجل تعيد “تشكيل” كيانه ، و”رسم” و “تخليق” جسده بيديها تعويضا عن العاهة المزمنة والعجز الذي انتظرت منافذ هوايتها طويلا لتشبع أحلامها في “التخليق” النموذجي ، فإن من المتوقع أن تنسحر بأنموذجها الذي جادت به الحياة الجائرة ، و”تؤمثل – overidentified” خصائصه ليصبح “منتظراً” مهما كانت طبيعة السمات “العصابية” التي تسم شخصيته :
(ولا تدري إيلونا لماذا لم تواصل الرحيل، والتيه مع المترو حتى نهاية الخط، والاستغراق كلية، فقد خرجت، وجلست تتأمل أبطال الأمة الهنغارية، في تماثيلهم الشامخة هناك، على خيولهم القوية . فتتخيل جبرائيل مثل أتيلا الجبار فارسها، الذي طالما كانت ترغبه بأن يكون مثل أتيلا – ATILA ، وهي طفلة تعاني من العرج، والصبيان يعيّرونها بعلّتها، ويتحاشاها الشبان، فيميلون إلى أبشع واحدة في الصف بينما يتركونها ، لا لشيء ، إلا لأنها تعرج قليلاً) .
# وقفة : المكان وعاء الزمان ؛ المكان رداء الشخصيات :
ومن المفروغ منه القول إن “المكان” لا يمكن أن يكون مكوّنا مركزيّاُ ، و “شخصية” محورية ، ولاعبا رئيسيا في القصة القصيرة ، بسبب قصرها وحاجتها للتكثيف والتركيز على الحدث المركز الوجيز ، والنهاية التنويرية في الكثير من الحالات . الرواية هي التي تتيح للمكان فعله وشرطه الأساسي وعاء للزمان من جانب ، وإطاراً يحفظ تماسك الشخصيات الوجودي من جانب آخر . بخلافه “تتميّع” حدود الشخصية وتشحب خصائصها لتصبح خصائص اي شخصية في أي زمان . الكان هو وعاء الزمان ، ورداء الشخصيات الوجودي . وقد رسم القاص – مستثمراً طول قصته – ملامح واضحة ودقيقة ورائعة للمكان في العاصمة المجرية “بودابست” ، حتى ليمكنك الإعتماد على “الخارطة” التي رسمها لك هذا الدليل العارف بتفاصيل المكان التي يبدو أنها في الغالب تُذكر مرتبطة بخصائصها المحلية ولازماتها اللغوية ومعالم شهرتها :
– (أما إيلونا العرجاء فإنها ما أن تخرج من المستشفى حتى تفتح كيس التسوّق الشمعي، وتتجه إلى سوق لهال “LEHEL BAZAR” للخضار في منطقة لاهالتيير بدلاً من منطقة الدياكتيير DEAKTER  القريبة من بيتها في شارع كاترينا قرب محطة مترو ASZTORIA أستوريا، وهي تفكرّ في المواد الغذائية, وتحمل له المسواق اليومي لتغذيه كثور – BIKA استرالي للتهجين تعرف كيف تقويه, وتنتقـي له المطيبات, ففي كل يوم تذهب إلى السوق تفكـر بـالمواد الغذائيـة   الغنية بالبروتينات, والفيتامينات, لتعد مثلا حساء السـمك . أو سـلطة الفواكه, أو أكلة الككلاج KOLAGH التي يعرفها العـالم كلـه عـن “المجـر”) .
– (وفي الخامسة عندما حيّت زميلاتها بكلمة : فيزونلاتاشرا – VISZONT  LATASRA وقادتها أقدامها لكي تتسوق، لم تدرِ في طريق عودتها إيلونا، وهي قريبة من البيت، كيف ركبت عربة حافلة الفيلاموش – VILLAMOS الأصفر رقم 14 الذي تنتهي محطته، وتبتدء عند محطة ساحة الدياكتير القريبة من بيتها، ورغم أنها كانت منهكة وهي تصعد سلالم المترو الذي أقلها من لهلال تيير، حتى دياكتيير عائدة إلى البيت، لكنها ما أن وضعت عجيزتها على الكرسي الخشبي في الفيلاموش (..) سرعان ما سرحت في خيالاتها، حتى انتبهت أن كل الركاب قد نزلوا في محطة الموسكوفاتيير –  MOSZKVA TERالوسطية في جانب بودا) .
– (هاهي قدما إيلونا تقودانها إلى حافلة فيلاموش رقم 56 الأصفر المتجهة إلى ضواحي بودا – BUDA البعيدة. وفكرت ، وهي ترتقي درج الحافلة ، لو أنها تصعد منحدر قلعة بودابست – PEST الشهيرة، لكن ماذا تفعل في القلعة هذا الوقت، وهي تحمل كيسها الثقيل. إن الفار – VAR “الفاء بثلاث نقاط”، وليس كما يلفظها ثورها بالفاء . لا يمكن المجيء إليها إلا أيام عطل الأسبوع للتفرج على السياح . وزيارات كاثدرائية القديس ماثيو، لحضور عرس نمساوي، أو كونسرت، أو كورال، ومراقبة الدانوب – DUNA الذي يشطر بودا عن بشت . بجسوره المتعددة ) .
إن هذا التأكيد الخلاق على ربط الحركة بحيثياتها المكانية وملامح الناس وأفعالهم (كطباع أهالي بودا الجبلية مثلا) ، هو الذي يجعل النص “حيويّاً” نابضا بالروح الإنسانية المباركة ، ويدفعك إلى المزيد من التفاعل معها ، ومع حركة الشخوص الهادفة والمزحومة بشبكة العلاقات البشرية الدافئة ، مهما كانت صراعاتها وتحاملاتها .
ومن بين عذابات جبرائيل التي قد لا يقر القارىء ، المستقر وغير المهاجر بها ، لبعده عن أتونها الحارق ، هي تلك المعاناة التي تتطلب صبرا خرافيا ، والتي تترتب على الإنتظار المتطاول لموافقة الأمم المتحدة على طلب اللجوء . لم يقتنع مكتب حقوق الإنسان في الجزائر باضطراب حاله وحاجته لحل سريع منقذ ، وهو مهدّد طائفيا ، إلا بعد أن أوشك على الموت قتلاً على أيدي المتطرفين . قد يكون القاص قد ضخّم استجابات جبرائيل العصبية المفرطة لكن إجراءات المكاتب تلك ، الروتينية ، ضيّعت العديد من البشر الذين حاصرتهم الحياة من كل جانب . هذه واحدة من الجهات التي جعلت حياة المهاجر العراقي قصصاً وحكايات يسردها جبرائيل على اصدقائه كل لحظة بلا كلل :
(يتأمل وجه إيلونته الزيتونية ويكتب . ولكن الكلمات تعييه لكثرة ما كتب من رسائل استرحام التي ما أن ينتهي من واحدة، ويرسلها، حتى يجهز الأخرى لكي يجيب على الخطاب لو أجابوه . فقضية الجهاد مع اليو إن تتخذ من وقته في كتابة الرسائل الكثير، حتى صارت سردياته الكثيرة، تتفاعل ضمن أحاديثه مع أصدقائه، خصوصاً، وإنه يستهلها بإطلاع الصديق على مسودة الرسالة التي يكتبها الآن، ومنها يتداعى إلى قضية الجهاد مع يو إن التي تبدأ من حكايته عند ركوب قطار طوروس، مروراً بعلاقته بالمدرّس الذي أسكنه في منزله الذي أجره في الجزائر . هذه القصة التي تطورت يوما بعد يوما في مهجره، لأنه كلما حكاها للغرباء, والمغتربين مثله, نمت فيها أجزاء فيها لم يتوقع الذي سمعها في اليوم السابق أنها تتبع للأحداث الأولى، لذلك ينكفئ السامع على نفسه وهو يسمع جبرائيل يجرجر أطراف القصة للمرة الألف) .
لقد عشتُ حياة الغربة تفصيليا ، ولم يكن لدى طالبي الهجرة  العراقيين من حديث في البيت والمقهى وسرير النوم سوى الأمم المتحدة . تصوّر الآلاف المؤلفة تلهج باسم هذه الغولة متمسّحين بها ومستخذين لتجد لهم وطنا .. أمّاً .
وكملاحظة غريبة ، وجدت أن السؤال الثاني بعد إسمك الذي توجهه إليك موظفة الأمم المتحدة في دمشق هو : هل أنت سنّي أو شيعي ؟ . هذه المنظمة جعلتها الولايات المتحدة حذاءً قانونيا تلبسه متى تشاء ، وتخلعه متى تشاء ، وتفصّله على مقاس أقدامها ذات المخالب التي تطول يوماً بعد آخر . وقد سمعت الكثير عن حوادث قتل لاجئين مهدّدين في بلادهم ، حوصروا من كل جانب ، ونفدت مدخراتهم في الغربة ، واقتربوا من الإستجداء المهين المرفوض . والأمم المتحدة تدقق .. وتدقق وتدقق .. فعادوا ليقتلوا “بكرامة” في وطنهم . ولكي تحكم الأمم المتحدة الحصار على هؤلاء الأشخاص المستهدفين فإنها تشطب اسم اي واحد مهم تجد في جوازه أنه زار وطنه خلال مدة وجوده في بلد الغربة . فأين يولّي وجهه ؟
ويهمني هنا القول إن الرواية تحتمل حكايات ثانوية في أحشائها كرواية ورحم أمّ ، والدرس البليغ في ذلك هو سيّدة الحكايات “ألف ليلة وليلة” . إنها تتحمل حتى عرض الكيفية التي تُكتب بها حسب قواعد الماوراء السردي –  metafiction التي ذبحنا بها النقاد العرب هذه الأيام . لكن القصة القصيرة حتى لو طالت ، فإن من الصعب على رحمها الصغير أن يضم أجنة حكايات اخرى كما حصل مع قصة فاروق أوهان هذه حيث زرع القاص في تربة رحمها نوى حكايات أخرى مثل حكاية جبرائيل مع زميله الطفيلي عبد التواب الذي بدأ باحتلال البيت المستأجر ، وحكاية جليل زير النساء وخلافه المبدئي مع رفيقه الشيوعي حميد ، وحكاية حميد نفسه … إلخ .
إن ملامح واشتراطات هذا النص ، كما قلتُ ، هي ملامح واشتراطات رواية أو قصة أطول من هذه على طريقة الـ “novel” .
وتبقى ناحية فنّية تتعلق بنهاية القصّة التي أشرت في مفتتح دراستي هذه إلى أنني فوجئتُ بطبيعتها ، فقد كانت على طريقة نهايات الأفلام المصرية التي يجب أن يعود فيها البطل إلى البطلة ، ليكون الختام قبلة طويلة حارقة . فقد ختم القاص حكايته بأن سمع جبرائيل المحبط بقوة ، واليائس ، طرقات على الباب ظنّها لماريا التي عادت من عملها قبل أوانها ، فظهر أنها لساعي البريد الذي سلّمه رسالة تتضمن موافقة الـ UN على توطينه في دولة  شمالية، شمالية، عليا، سوف تمنحه أخيراً جواز سفر يخلصه من كل المتاعب . فطار من الفرح ، وقرّر أن يعمل مفاجأة لماريا بأن يجري لها معاملة جمع الشمل ، ويحدّد يوم الزفاف .. ويحجز قاعة المناسبات لليوم الموعود .. إلخ ، في نهاية باهتة أصابت بصقيعها كل الإحتدام السردي والدرامي والنفسي التصاعدي الذي عشنا معه في الصفحات السابقة . أحيانا يملّ الكاتب نفسه من حكايته ومن حياة شخوصه ، فيعاجل بتوجيه ضربة النهاية المميتة ، خصوصا وأنه لاحق تنامي تعاطف ماريا وحبها لجبرائيل وتعلقها به لتستقر مشاعرها التي كانت متذبذبة في السابق على ولاء ثابت :
(ويوماً بعد يوم تتعلّق إيلونا العرجاء بمحبوبها، وتزول عنها علامات التعّجب عندمـا تـراه منهمكا وراء موجـات الأثـير ليتابع أخبار الوطن في إذاعاته المتعـددة, فهنـا أغنيـة سـمعتها عـلى لسانه, وفي شريط تسجيل, تكرر مثل جملة “الزيت, والخل” حفظت منها “أنا وأنت”, و”يم العباية”, أو “أنساك دكلام”, أو “يامسـافر”, أو “زورونـي كل سنة مّرة” .. ) .
كما أن القاص أجهض النهاية أيضا ، بالإخبار الإستباقي عن موافقة الهجرة الذي أعلم القاريء به قبل الختام بثلاث صفحات حين قال :
(وفي يوم الجمعة قبل سماع خبر هجرتهما إلى السويد ، تأملت إيلونا في طريق عودتها من تيهها البودابشتي ما كان لها في أول لقاء مع جبرائيل ، عندما ذهبت إلى المقهى ..).
وصحيح أن هذه الخاتمة نجحت في تخفيف حدة سخطنا على عصابية وعناد وطفيلية جبرائيل في علاقته بماريا وبأصدقائه ، وتسخيره الآخرين كدمى لرغباته وتصرفاته من دون أدنى اعتبار لمشاعرهم ومشاغلهم ، وكشفت الجانب الإنساني الطيب والمسالم من شخصيته ، كشفاً توّج تحولات التعاطف التي بدأت قاطعة مع ماريا منذ استهلال القصة ، ممزوجة بحنق مكتوم ثم معلن على جبرائيل ، ليتحوّل – برغم التصوير الساخر المتشفي – إلى تعاطف مع آلام إنسان مقهور حوصر من كل جانب برغم مساهمته الواضحة في حصار ذاته . لكن في موازنة الأهداف والمكونات البنائية والمقاصد الوجودية وفلسفة السرد هناك ما هو أعظم . كان الروائي الراحل الدكتور “عبد السلام العجيلي” يقول : “إن الأمم السعيدة لا روايات لها” . وهو بذلك يمسك بجوهر دور فن السرد المغيّب في الحياة الإنسانية  كدفاع ضد الفناء . وعليه فإن القصص العظيمة لا نهايات سعيدة لها .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *