السرد الروائي ..الشكل التعبيري الامثل بين الذاتية الفردية والموضوعية الاجتماعية..على حد تعبير جورج لوكاتش..كونه انعكاس لعالم موضوعي نابع من الانا متجاوزة الاخر..
ورواية(ذاكرة ارانجا) الصادرة عن دار فضاءات/2013 والتي نسجتها انامل مبدعها القاص محمد علوان جبر وهي تسبح في عوالم اسطورية وتاريخية متجاوزة..انحصرت في فضاءات غلاف ارتسمت على صفحته الاولى لوحة ضمن معمار النص وهي تنتظم معطيات بصرية ولسانية.. تخللت ثناياها الالوان الدلالية المعبرة عن حالة تمزق واغتراب ذاتي..علاها الجنس المنتج وعتبة العنوان البنية الشعرية التي تمثل اقصى درجات الاقتصاد اللغوي ..فضلا عن امتلاكها قصدية ذات شعرية تأويلية..ايحائية .. فـ (ارانجا) هو الاسم التاريخي لمدينة كركوك مع بداية الحضارة في العراق..والتي شكلت بؤرة السرد المتكونة بنيتها المورفولوجية من ثمانية فصول تحمل عنواناتها الرقمية الدالة.. والتي فيها يحاول الكاتب ان ينقل(واقع المجتمع المليء بالصور القاتمة بقدر ما هو مثقل بالتذمر الخلاق..)على حد تعبير غائب طعمة فرمان..اذ فيها تتداخل الاساليب السردية بعفوية وانسيابية وتدفق فتنتقل من المونولوج الداخلي الى تيار الوعي..
(عازف الناي يصرخ في وجهي وانا لا يسعني الا ان افتح فمي على سعته..وكم كنت اتمنى ان يصمت او يقلل من نبرة صوته التي كانت تتصاعد وتستفز الصمت في آخر الليل الذي امسك المدينة مهيمنا عليها بقوة حينما يصمت عازف الناي لبرهة منشغلا باعداد كأس جديدة له..يتصاعد الليل في صمت الغرفة وسكونها ولا يقطع هذا السكون الا سعال ابي الذي كان يتصاعد كلما تقدم الليل..ولا اجد بدا من التواصل مع عازف الناي..وقد استلقى على فراشه قبل ان تبدأ رحلتي العميقة في النوم..)ص29..
فالسارد يجعل الطابع السردي بعيدا عن الاحداث في حد ذاتها.. ويجعل منه مركزا للبوح والحكم القيمي على الافعال الانسانية التي تستبطن قيما ورؤى عبر بناء سردي نصي محكم بلغة راصدة وكاشفة للهم الانساني..فكانت(ذاكرة ارانجا) شاهدا للعصر على زمن الرعب..فضلا عن تعاملها مع تقنيات السرد الفنية على مستوى الشكل..كما انها تؤكد على الوصف الخارجي للشخصية باعتبارها انعكاسا لما يعتمل في باطنها..فتكشف عن الوجود الانساني الذي يتشكل بفعل تاثير المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية..وعلى وعيه باعتباره جوهر الوجود..فيرسم الكاتب لوحة مشبعة بالالم الداخلي في الذات الانسانية مع محاولة البحث عن ماهية الوجود من خلال التعمق في اشكاليته.. فيصور التغريب والارهاق النفسي الذي تفرضه تجاذبات السياسة والاقتصاد..فكانت اكتشاف في الواقع والذات..لذا فالزمكانية تشكل مكونها الاساس بنائيا..
..(ذاكرة ارانجا)..هي ذاكرة وطن عبر المكان المتمثل في العمارة نقطة الانطلاق الاولى فالبصرة وكركوك(ارانجا) فبغداد وانتهاء ببيروت حيث اختراق آفاق جغرافية المكان..لذا فالطابع السردي الغالب على الرواية هو السرد الموضوعي مع اعتماد تقانات فنية (مونولوج/تداخل الازمان/احلام يقظة..)ابتداءا من المدخل السردي الذي فيه(ابراهيم) الراوي العليم يستخدم شقيقه(سلام)كاداة لترجيع افكاره ..كونه يعي ذاته معرفيا..
(صدقني ياسلام احس بالوحدة الكاملة وانا ادخل اليها عبرك..تريد ان احدثك عنها وانا امتنع باصرار عجيب يثير استغرابي..سلام كم انا وحيد خارج وداخل القصص والحكايات التي تخصها..)ص62..
فالرواية تعتمد على انماط التعبير الفني التي تؤسس للشكل والدلالة.. اذ الدمج ما بين الشعري والسردي..من خلال الطاقة التعبيرية..الايحائية والبنية الزمكانية المتشظية..فضلا عن الاجواء الغرائبية التي وسمت السرد بسمتها وتعدد الامكنة وتنوعها عبر ممارسة لعبة الكشف عن اسرارها واللغة والحيوات الغائرة فيها..والتي تشكل محمولات البنية السردية التي يعتمد الكاتب الى توظيفها متمثلة في وعي ابطاله لازماتهم ازاء الوجود..
ـ هل تظن انه عاد الى الحلة..
فأجابني بنبرة ملؤها الشجن(ربما ..ولكن في هذه الايام العصيبة لا اظن انه سينجو خاصة وكما اعرف انه اعتقل اكثر من مرة..حينما تركته كان قد انهى دراسته في الكلية وعمل مراسلا لصحف كثيرة..وبات يمضي اياما في بغداد واياما اخر في الحلة..
ـ كان يحلم ان يعين معلما..وان يستاجر غرفة مستقلة..) ص107
فالسرد يؤكد على انشطار الذات بتعدد اسمائها وهذا يحمل دلالات سايكولوجية مع ارتباط بالفعل الذهني للشخصية التي تعيش واقعا اغترابيا..فضلا عن تحقيقها الفعل الفنتازي الذي هو خرق وتجاوز..كونه(ظاهرة ادبية تثير الشك في ذهنية المتلقي حول انتماء الحكاية لهذا العالم المعيش او عالم مغاير تماما)على حد تعبير ت.ي.ابتر.. بوصفها رؤية فنية مركبة تتعالق مع المؤلف والنص في سياق التعبير..لذا فالروائي يستثمر معطياتها لتمرير اكثر من قضية بنائية وفنية تأتي في مقدمتها الهروب من الواقع والتعبير عنه وفق تصورات غير مألوفة..وهو يقدم عالما متعدد الرؤى مزدحم العقد والمشاهد والاحداث بلغة سردية سابحة ما بين الحكائية والشاعرية..كونها اساس الجمال في العمل الابداعي..
(حدثني ابوك ياسلام بحرارة عن ذلك اللقاء الحميمي الذي جمعه بالشيخ راضي وركز كثيرا على سعدية..تحدث عنها بحرارة غريبة..نبراته الحادة وعيناه الساهمتان اعادتا لي ذكريات قديمة كنت قد عشتها في طفولتي..وتحديدا في تلك الليالي التي كنت اراقب بها الساحة من ثقب صغير في السدادة الكرتونية للكوة..مراقبا الفوانيس التي ترسم خطوطا صفراء في فضاء الساحة.. ذاكرة لم تفارق رؤيتي وانا اتذكر الشبح الذي يلتصق بالجدار مقتربا ببطء من باب غرفه سعدية ..واليوم اتساءل عمن يكون هذا الشبح ..هل هو شبح الشيخ راضي..يتسلل ليلا الى غرفة سعدية مستغلا نوم زوجته الاخرى..ليمضي الليل في غرفة سعدية ام كان للشبح علاقة بهوبي الذي يكلمني عن اشياء دقيقة في لقائه مع الشيخ راضي..ولم اجد علاقة بين الذاكرة المتدفقة المليئة بالصور الغريبة وبين حديث ابينا عن سعدية في ذلك اللقاء..)ص158 ـ ص159..
فالراوي يسرد في زمن الوقائع وهو يلتقط جزئيات من الواقع الموضوعي الممزوج بالتخييلي عبر زاوية الرؤية المتغلغلة في عمق الشخصيات المؤثثة لفضاء السرد المنتمي الى (صدى السيرة الذاتية)..اذ الراوي يعبر عن نفسه عبر ضمير المتكلم مع اعتماد تقنية الاسترجاع والتذكر وتشظي الاحداث بين الازمنة..فضلا عن رصد سيرة المكان والشخصية على خلفية تاريخية اخذت ابعادها الموضوعية والذاتية كاشفة لتفاصيل الوجود والطبيعة الانسانية من خلال تجسيد حركتها واحداثها والكشف عن اليومي في فضاء زمكاني..
(بعد انتظارات طويلة تم تخصيص راتب تقاعدي واستلمت المتراكم..المبلغ كان جيدا شجعني كثيرا للمجيء الى بغداد وشراء دار في مدينة الثورة بمساعدة اولاد عمي..وتاجير هذه المقهى التي تحولت الى مصدر رزق لي..وقد رزقت بولد سمته امه سعد ولم اتدخل كما في المرات السابقة في التسمية..سعد كان صدى لسعادة عشتها بعد خيبة الاعتقال الاول..نجمة حبيبتي التي تبسمت بابتسامة افتقدتها كثيرا منذ اللحظة التي سمعنا فيها اصوات الطلقات من رشاشات البورسعيد..وصولا الى ايام رائحة الزنازين والعتمة المغلفة بالم ممض لم اعشه من قبل..نجمة التي لم اودعها وانا امضي قدما باصرار داخل شرنقة وحدتي القاتلة حينما غادروني الى البصرة..نجمة التي كانت تنظر لي بنظرات ذات مغزى وانا احدثها عن علافتي باستاذ حسين..وتدخلها القاطع والبات في علاقتي بهم..والتي انتفضت صباح ذلك اليوم البارد ونحن نتكوم في غرفة طينية..
ـ ماذا يريدون منا.. ألم يكفهم ما قدمناه..ها نحن عالة على اخوتي..انا وانت والاولاد….
يومها لم اجرح فقط..بل كدت اموت..اذ خرجت من فوري وهمت في العشار..)ص162..
فالسارد العليم يمسك بتلابيب السرد فيروي الاحداث ويصف الشخوص فيبحث عن عمق المكنون الانساني الذي يعبر عن وجهة نظره تجاه نفسه وواقعه..وعمق الحياة عن طريق التأمل في الاغتراب الذاتي الذي هو (اول المغامرات السيميولوجية ..) على حد تعبير رولان بارت.. فالشخصيات في (ارانجا)اغلبها يعاني من الوحدة السوسيولوجية مع وحدة سايكولوجية..لذا فالاحداث الساخنة كانت حاضرة في السرد وهذا يعني ان السرد يصور العلاقة بين الوجود والوعي من جهة واستخلاص الدلالة السوسيولوجية من داخله وتفاعلاتها من جهة اخرى..من خلال ابطاله الذين يحملون الوعي الماساوي بواقعهم..وهذا يعني ان السارد يرصد كونين مهيمنين :اولهما (الانا) بكل تمفصلاتها الدلالية وايحاءاتها..وكون الآخر الجمعي بكل دلالاته المتفاوتة,,
ويذا كانت (مذكرات ارانجا) نصا روائيا تميز برمزية اسمائه وواقعية احداثه ومشاهده المتكأة على بعد تاريخي من زاوية انسانية..من خلال غوصه في مكون الحياة الانسانية بسبر اعماق الافعال..فكان مزيجا متفاعلا من سيرة المكان والشخوص مع بناء حواري بنوعيه الذاتي(المونولوجي)والموضوعي للكشف عن جانب من الشخصية او لتعميق موقف او الكشف عن حدث..كونه يمتلك رؤية العصر الرافضة لصور الجمود عبر الشكل الذي يكشف عن حرية داخل فضاء النص لعلمه بالمراحل التي يكتب عنها لانه(كلما كانت معرفة الكاتب بفترة ما اعمق واكثر تاريخية على نحو اصيل كان اكثر حرية في التحرك داخل موضوعيه) على حد تعبير جورج لوكاتش..
علوان السلمان : ذاكرة ارانجا..ذاكرة وطن
تعليقات الفيسبوك