ينهي القاص والروائي والناقد والكاتب المسرحي الدكتور فاروق أوهان – وسأوضح سبب ذكر سلسلة الأوصاف السابقة قبل اسمه – قصّته “إيلونا إيسلن” بالصورة التالية :
(وما أن يأتي يوم الاثنين بعد أن قضيا يومين على بحيرة فلانسيا القريبة من بودا، وبعد القيلولة التي يقضيها جبرائيل بانتظار إيلونا يطرق الباب، ويعجب جبرائيل من سرعة عودة إيلونا، ومن طرقها إذ لا بد أن يكون هناك عائق يجعلها تخرج المفتاح لتفتح الباب، وهي على رؤوس أصابعها خشية أن توقظه، ولكن جبرائيل ما أن فتح الباب، حتى فوجئ بساعي البريد يناوله رسالة عرف من غلافها أنها من اليو إن [= الأمم المتحدة]. فما أن أصبح لوحده حتى فتحها، وطار من الفرح لأنهم وافقوا أخيراً على سحبه إلى دولة شمالية، شمالية، عليا، سوف تمنحه أخيراً جواز سفر يخلصه من كل المتاعب . فطوى الرسالة وصار يحسب الأيام التي ستغيب إيلونا عنه حتى يجتمع شملهما من جديد ، بعد أن يجري لها معاملة جمع الشمل، وعليه الآن قبل أن يفعل أي شيء أن يحرك إجراءات زفافهما الذي أجّله، بل جمدّه لكي يقدمه هدية هامة لإيلونته الوردية . فقام ، وخرج إلى المقهى ، لكي يلاقي المحامي مفيد ، كي يستعجل الاجراءت . على جليل أن يقوم بحجز قاعة للمناسبة طالباً كتمان السرّ على إيلونا حتى اليوم الموعود ).
فبقيت أتأمل الورقة لمدة فصيرة ، وقد ضج ذهني بقناعة ضاغطة ومتسيّدة مفادها أنه لا بدّ أن تكون هناك تكملة للقصّة ، تكملة من نوع ما ، وأن حوادثها لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحدّ . فأرسلتُ إلى المؤلف رسالة أطلب فيها منه أن يرسل لي نص القصّة كاملا ، معتقداً أن النصّ قد اقتُطع جزء منه بسبب الطباعة . فأجابني فاروق بأن النص الذي لديّ هو النص الكامل ، وأن القصة تنتهي وفق الكيفية السابقة . إقتنعتُ بجواب فاروق لأنه كاتب القصة وخالقها ، وهو الذي يحدّد الكيفية المناسبة التي يشكّل فيها جسد قصته ، والصورة التي ينهي بها مسارها ، والنقطة التي يوقف عندها عجلة الوقائع . لكن جوابه جعلني أحاصر ذاتي بتساؤلات أخرى مستفزة : ترى ما الذي جعلني أتوقع أن للقصة تكملة ؟ هل هذا نتاج دافع “الإغلاق – closure” وهو المبدأ الذي يسير عليه العقل البشري في إدراكه للأشياء والموجودات والسلوكيات خصوصا وأنني اشدت نهاية محددة في ذهني ؟ هل هو بسبب المسار المفتوح الذي صمّمه الكاتب لحكايته ؟ هل ذلك لأنني “أتوقّع” أن أية حكاية لا تُختم إلا بختام مصائر أبطالها ؟
وقد يكون لكل هذه العوامل مجتمعة دور في هذا الموقف ، لكن مما لاشك فيه أن العامل الأساس الذي يتاسس عليه فعل الدوافع الأخرى هو أنني قد التحمت تماما مع شخوص هذه القصّة ، تعاطفت معهم ، وقد أكون قد تماهيت معهم ، أو “أسقطت” عليهم مشاعر وعواطف مختزنة في لاشعوري خصوصا وأنني قد مررت بتجربة غربة مريرة دامت خمس سنوات تقريبا . وهذا يعيدني إلى ما اشرت إليه مرارا حول عدم دقّة أطروحة “الناقد الموضوعي” الحديدي ، التي تصاعدت مع ظهور المدّ البنيوي في النقد الأوروبي ، بهدف ترصين الروح العلمية للنقد بسبب سطوة العلم الساحقة ، فحاول النقاد البنيويون تقعيد النقد على اسس علمية رياضية ، وتجريده من تأثيرات العوامل الذاتية التي تعتمل عادة في نفس الناقد . لكنها محاولة لم تثمر ما كان مرجوا منها ، واضمحل تأثيرها مع نهاية الستينيات . وما يهمني قوله هنا سريعا هو أن تاثيرات العوامل الذاتية لم يفلت منها واحد من أكثر قادة البنيويين حماسة وهو رولاند بارت ، ولا واحد من عتاة قادة التفكيك وهو جاك دريدا . فالأول – على سبيل المثال لا الحصر – تتجلى الحاجة ، وحسب المفكر ليونارد جاكسون ، إلى الإستعانة بالتحليل النفسي لإدراك “المكافأة النفسية الذاتية” التي نالها في فراره من طوره البنيوي في كتابه “لذة النص” . أمّا الثاني – وكذلك بعض مفسّريه الغربيين – فلا يمكن تبرئته من تأثيرات وطأة جرح إثنيته اليهودية التي صبّت الملامح الرئيسية لمنهجه وطبيعة دوافعه التقويضية الماحقة .
المهم أنني لا أتردد في الإعلان بأن أي ناقد سيكون “ذاتياً” في تعامله مع النصوص التي يتناولها في البداية ، اختياراً ورؤية تحليل واستجابة نفسية نحو الشخصيات ، ثم يبدأ ببذل الجهود المستحيلة والمضنية ليصبح “موضوعيا” في تشكيل أحكامه النهائية . وقد انجرفت مع تيار قصة فاروق أوهان “إيلونا إيسلن” هذه بقوّة . سرت ، وبحماسة ، متابعا أدق تفاصيل انفعالات وسلوكيات شخصيتيه الرئيسيتين فيها : “ماريا إيلونا ” البودابستية ، وجبرائيل منصور العراقي المهاجر ، الذي وصل المجر بعد رحلة عذاب طويلة ، وكأنهما شخصيتان بحثتُ عنهما طويلا لأجدهما الآن . أو أنهما شخصيتان كمنتا عميقا في أبعد طيّات ذاكرتي اللاشعورية ، فجاءت أنامل فاروق البارعة لتوقظها وتفرك عنها صدأ النسيان أو الإنكار والمقاومة بالمعنى النفسي . هاتان الشخصيتان البسيطتان الفريدتان اللتان وضعهما القاص أمامنا ، وبصورة مباشرة ، على خشبة مسرح الوقائع – والقاص مسرحي مجرّب مقتدر – عبر الإستهلال المعبّر والمزحوم بالدلالات :
(تعرج ماريا إيلونا – MARIA ESZLEN ELONA في تيه بشوارع مدينة بودابست هرباً من كثرة ما سمعت من البيت القـائل :
إيلونا ربةّ البيت تصب الخل في الزيت (1) .
بيت الشعر الذي حرّفه، ويردده شريكها، ورفيق سريرها، جبرائيل منصور . فقد صار هذا البيت الشعري مثل كابوس تطرق مفرداته على جمجمة ماريا، وكأنها مطارق حداد مبتدئ لا تركز في موقع واحد على السندان، فتأتي الطرقات بأصوات خاوية، ولكنها مزمجرة كالرعد غير مصحوب بمطر) .
ومن جديد، أنا لست من أنصار أطروحة أن “العنوان ثريا النص” ، ولا أن الإستهلال مفتاح النص . فكلاهما يتحصّل على تأثيره الإضائي ودوره الدلالي من خلال موقعه ضمن إطار شبكة علاقلات “الصورة الكلّية –gestalt ” التي تتشكل بعد الإنتهاء من قراءة النصّ . لكن بإمكان الكاتب الحاذق أن يجمع أكبر قدر من “العلامات” الدلالية السلوكية والاجتماعية والجمالية في “حزمة” التعبيرات الإستهلالية . وهنا تتحدّد بعض ملامح القصة التي ، “سيكون” ، وأؤكد “سيكون” ، لها أبلغ الأثر في تشكيل استجابة القارىء . من هذه “العلامات” أن مكان الحوادث التمهيدي هو بودابست عاصمة المجر ، وأن الشخصية الرئيسية التي سمّى القاص قصّته باسمها “ماريا إيسلن إيلونا” مواطنة مجرية .. عرجاء تتمثل معضلتها الإبتدائية في التجوال الهروبي في شوارع المدينة من كثرة ما سمعت من تكرار للبيت القائل : ربابة ربّة البيت تصبّ الخلّ في الزيت
وهو واحد من بيتين قالهما بشار بن برد في خادمته حين طلبت منه ان يقول فيها شعرا ، والبيت الثاني هو :
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت ِ
ويبدو أن القاص يعيد أمامنا “مقلوب” درس حادثة بشّار . فجبرائيل يردد بصفاقة على مسامع ماريا هذا البيت ، معتقداً أنه يمتدحها ويفيها حقّها ، في حين أنها بخلاف خادمة بشار ، لا تفهم معناهما ولا الغاية منهما بسب حاجز اللغة أولا ، وجلافة جبرائيل في إلقائه اللحوح والأرعن ثانيا . كانت خادمة بشار تستبشر وتطير فرحا ببيتيه اللذين تعتقدهما نعمة من شاعر كبير يبارك عناءها اليومي – وأين هو من عناء ماريا ؟! – في حين أنهما وصف ساذج “موزون” مجرّد ذو مسحة ساخرة لحالها خدّرها بهما بشّار الملعون الذي كان يقول لناقديه الساخرين على هذين البيتين الساذجين ، وهو صاحب واحدة من أروع الصور الشعرية العربية التي قال فيها :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
: لو ذهبتم لربابة وسألتموها أي الأبيات لديها أجمل :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أم :
ربابة ربة ُ البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجاتٍ وديك حسن الصوت
فانها لن تقول إلا ربابة رب البيت !!
أمّا جبرائيل فهو يطلق البيتين – وقد يكون بلا قصدية واضحة – بما يشبه التوصيف المستفز الذي لا تدركه ماريا فيقرب من “الشتيمة” . ولأن حاجز اللغة بين الإثنين لا يمكن تجاوزه ، فقد تكفّلت اللغة اللاشفهية بإيصال الرسالة : نبرة الصوت الجهور وإيقاعه المغثي ، في التغطية على أي معنى إيجابي إن كان موجوداً . وبسبب هذا التكرار المستفز – وبخلاف رد فعل خادمة بشار المبهج – تهجّ ماريا من البيت كلّ يوم ، متحاملة على آلام آفة العرج ، لتهيم في شوارع المدينة ، وبرغم الإرهاق الذي يصيبها من جراء الساعات الثماني المضنية التي تقضيها يوميا كممرضة في مشفى المنطقة التي يستقر فيها بيتها ، الذي يتربع فيه جبرائيل منذ سنتين . كانت تحسد رفيقاتها في العمل اللائي يسارعن إلى بيوتهن بعد انتهاء عملهن فرحات بالتخلّص من قيود وضغوط العمل ، بل يهربن أحيانا قبل نصف ساعة لإراحة أنفسهن ، في الوقت الذي تتحمل فيه ماريا إنهاك ساعتين ونيّف مضافتين للخلاص من مطارق بيتي جبرائيل التي تهشم جمجمتها طيلة ايام الاسبوع ، عدا يومي العطلة الأسبوعية اللذين تستغلهما لرسم جبرائيل بشرط أن يكون صامتا طول الوقت .
وفي هذا الإستهلال أيضا ، سيثير الكاتب درجة من التعاطف الذي قد “ينطوي” على سخط داخلي ، مع ماريا ، من خلال وصف “العرجاء” أولا ، ومن خلال وضعها في موضع “الضحية” ثانيا في علاقتها مع شريكها ورفيق سريرها جبرائيل منصور ، الذي يمسخ الكاتب صورته منذ البداية كجلف خشن اللفظة والسلوك ، وشريك ضئيل الحساسية تجاه أبسط مشاعر شريكه ، وهو يكرّر هذا البيت عشرات المرّات بطريقة أحكم القاص وصف سماجتها وسخفها بأنها تشبه “مطارق حدّاد مبتدىء لا تركّز في موقع احد على السندان ، فتأتي الأصوات خاوية ، ولكنها مزمجرة كالرعد غير مصحوب بالمطر” . ولا تعكس الدقّة التشبيهية “الشعرية” مهارة القاص الفنّية واللغوية حسب بل تكشف ، وعلى مستوى نفسي عميق ، وجهي التحامل والتعاطف ، وقوّة شحنتيهما ، اللتين ينطوي عليهما لاشعور الكاتب ، وهذا أمر سنتبيّن ملامحه التفصيلية والمعقدة لاحقا .
ومن نقطتي التوصيف هاتين ، عرج وتضحوية ماريا ، وسماجة وخشونة بل سخف جبرائيل ، سينسج الكاتب خيوطا متكاثرة ومتشابكة لقماشتي شخصيتيه المركزيتين . فهو وفي أغلب المناسبات التي يتحدّث فيها عن ماريا ، يطرق على عيبها الخلقي : العرج حتى جعل صفة “العرجاء” لازمة لحضورها . وقد تكفل تكرار الطرق على هذه الصفة بتبليد استجابة المتلقي النفسية ، فصارت تمرّ سريعا من دون انفعالات مصاحبة إلا حين تكون مدخلا لاستعادة آلام هذ الإنسانة المحطمة أيضا كما سنرى .
وفي أغلب محطات هذه القصة ، وهي مكوّنة في حقيقتها من “محطات” أو “وقفات” مشهدية حاضرة أو مستعادة برع القاص في تاصيل الصلة بينها وكأنها سلسلة مشاهد تجري حاضرا أمام عينيك ، وقد تكون هذه واحدة من عطايا ثقافة فاروق السينمائية حيث يمكننا القول أن حداثة السرد قد توسّمت بالإنتقال من “العين الفوتوغرافية” الراصدة للكاتب ، إلى “العين السينمائية” المشهدية والدينامية العريضة . أقول : في أغلب محطات هذه القصّة ، يضعنا القاص أمام حالة مقارنة مباشرة ، والأهم غير مباشرة بين طرفي القصّة : ماريا وجبرائيل ، عارضا لا ملامح سلوكياتهم العملية المباشرة ، بل ، هذا هو الأهم ، دوافعهم ومكبوتاتهم اللاشعورية .
وفي هذه الوقفة ، وهي استعادية في حقيقتها ، والتي تبدأ من الإستهلال وتنتهي في الجملة التي تشير فيها ماريا إلى حبها لجبرائيل ثورها ، يركّز الكاتب على النشاط “الفمّي” إذا جاز التعبير . فجبرائيل مازال في مرحلة طفولية مبكرة من التوق العارم والمنغص لإشباع حاجاته الفموية ، وهو يبرك على الطاولة . ويكون المدخل دائما بيت الشعر الذي يطلقه جبرائيل ولا تفهمه ماريا :
(فتخرج تلك الكلمات من فمه مع ضجـيج اصطكـاك الملعقة بالأسنان , والحساء المشفوط بالشفاه , وسرعة الأنفاس المنطلقـة من أسفل معدته ببطن كالبطيخة , دلالة على شبع , لنعمة حديثـة قـد حـلّت على صاحبها , بعد جوع من قحط . وعندما ينتهي جبرائيل يبرك على الأرض مـن جـديد ليجتر الطعام , والكلام , وهو يقوم بتنظيف أسنانه بالخيط كما أوصوه, ولكن بطريقة مقززة تنفر حتى الجرذان منها) .
مقابل هذا الإندفاع الإشباعي “الحيواني” ، تقف ماريا متعففة زاهدة برغم الجوع الضاري :
(كل هذا العناء تتحمله إيلونا بمحبة ، ولا تتحمل تكرار جملة لا تفهمها , صارت كالطنين المزعج في ذاكرتها , حتى ولـو تحاملت على نفسها لتضيفها إلى مشكلة جهل ثورها للغة بلادها ، لذلك تتعمّد ماريا العرجاء الخروج من الدار فجراً قبل الفطور وهي تتضّور من الجوع .
وينمو الجوع في داخل إيلونا كدافع غريزي ، رغم أنها أعدت للثور فطوره ، وحرصت على عدم إيقاظه ، فشخيره أرحم من جملة : ماريا والزيت والخل ، فكل همها أن ترضي الذكر الذي أحبته دون لغة تتفاهم بها معه ) .
ولكن ليس بيت الشعر “المرعب” وتكراره المدوّي حسب ، هو ما يدفع ماريا إلى الهرب من البيت والتجوال الهائم . هناك “لعنة” أخرى جرّتها هي بنفسها على نفسها حين دلته على سوق “البولون” للبضائع المهرّبة . فصار لا همّ يركبه سوى أن يشتري أكداسا من البضائع يكوّمها في غرفة البيت الصغيرة التي توشك على الإختناق . وتبدأ لعنة ماريا المضافة حين يبدأ جبرائيل بشرح اصناف السلع وأنواعها وميزاتها واسعارها والغاية منها بطريقة مثيرة للتوتر والمقت ، تكون سببا مضافاً في هجاجها من بيتها إلى الشارع :
(جبرائيل : وهذا المصباح نحتاجه في سفراتنا إلى الريف، وفي
الليل نضع الفانوس في الخيمة لكي نسهر ثم ننام .
وهذه المكواة سفرية هي الأخرى لا تحتاج لأكثر من جمرة
نار لكي تكون فاعلة .
وهذه الحقيبة النسائية إنها رخيصة جداً، هي لك،، لا لا،
إنك لا تخرجين في سهرات .
وهذه عربة أطفال سوف نستخدمها عندما يلد طفلنا .
وهذا محقان لو استعصى على الطفل الخروج .
وهذه كاميرا سوف نصوره فيها .
وهذا .. وهذه .. وتلك .. و،و .. , .. وو ..
حتى تقع إيلونا في دوّامة من كثرة حركة رقبتها، وعينيها، وإلحاح جبرائيل في اجتذاب انتباهها، حتى لو اضطر للفت نظرها بتحريك رأسها بيده . لهذا كله قررت إيلونا منذ اليوم ألا تعود إلى البيت باكراً مهما كلفها الأمر، ولكنها لا تعرف أين تقضي وقتها بعد دوامها الطويل) .
وهكذا تجري عملية المقابلة السردية الظاهرة ، والحضارية والثقافية المستترة ، بين الطرفين بهدوء وخلف أستار لغوية وتصويرية ساخرة تصل حدّ الكوميديا السوداء .
لكن ما لا يقل أهمية عن هذه المقارنة ، بل قد يفوقها من الناحية الفكرية والنفسية هو ما صمّمه القاص من كشف مقتدر لعالم الإنسان المهاجر عموما ، والعراقي خصوصا . إنه يمسك بأدق خلجات روح هذا المهاجر جبرائيل الذي يمثل سلوكه – مع أخذ خصوصيته الشخصية بنظر الإعتبار – في المهجر المجري أنموذجا يمكن تعميمه على قطاع غير قليل من المهاجرين ، ويرسم بريشته الفنية والنفسية البارعة تلك التحوّلات التكيّفية السلبية الخانقة ، والإيجابية الضئيلة لكن البليغة حين توضع في مسارها التوافقي الصحيح وسط عملية مواجهة صاخبة وضاجة بعوامل التوتر وانقطاع الجذور ، وخصوصا عامل الإنخلاع من الرحم الأمومي ممثلا بالرحم البايولوجي الفعلي ، أو بتمظهراته ممثلة في الوطن والمجتمع والعائلة .
فقد وصل جبرائيل فردوس المجر أخيراً ، برغم أنه ينظر إليه كموطىء قدم انتقالي يقفز منه إلى ملاذ نهائي آمن في إحدى الدول الإسكندنافية مع إيلونته الرائعة التي صارت قطعة من فؤاده . وصل بعد رحلة عذاب طويلة ومعقّدة كانت “نواياه” المباشرة وسذاجته وطمعه أسبابا أساسية في خلق ربكة عظيمة فيها . من العراق حيث سلطة طغيانية تلاحق أنفاس الإنسان في كل مكان ، إلى تركيا مصحوبا بابنه المعاق .. ومنها إلى الجزائر بتوسّلات مشفوعة بحالة إبنه المثيرة للشفقة الذي رفضت كل دور المعاقين في العراق استقباله ، وهي مبالغة مباركة تتسق ومسار السرد العام في القصة، فأعاده إلى العراق حيث اطمأنت زوجته وأهلها فانفصلت عنه بدعوى جنونه العصابي . ومن الجزائر وبعد أن أوشك المتطرفون على قتله ، إلى المجر ، كمحطة وقتية ، ليستقر مع ماريا في بيتها .
ولعل أول ما يواجه المهاجر عموما من ضغوط مربكة هو فقدان “الغلاف اللغوي” وحتى “الصوتي” الحمايوي وتمزّقه . فنحن ومنذ ولادتنا نحاط بغلاف أو غشاء لغوي وصوتي ذي منبع أمومي ، لا يوفّر التواصل السليم والفهم الدقيق وإشباع الحاجات من “الآخر” وغيرها حسب ، بل – وهذا أمر خطير – تأصيل ملامح الهوية الشخصية . هذا الغشاء قوي وصلب برغم شفافيته . وهو يخفف إلى حدّ كبير قلق المهاجر من الإلتهام الميدوزي الذي يمثله الرحم المهجري الدخيل . إنه يساويك مع “الأبناء” الآخرين ، فتصبح مثلهم ولو “شكليا” ، فتهدهد مخاوفك من الإلتهام والنكوص . فمع تعلّم اللغة الجديدة في المهجر من جديد ينكص الفرد وكأنه عائد إلى المرحلة الطفلية الإعتمادية التي يفترض دوره الراشد في بلاده الاصلية أنه طلقها ، ونفض يديه من مخلفاتها النفسية . إنه أشبه بطفل يتم قيادته من يديه لطريتين ليتعلم المشي .
وفي الوقت الذي يكون طريفا تأكيد القاص المتكرّر على ولع جبرائيل الجارف بسماع الأغاني العراقية والعربية ، فإنه في الحقيقة يؤشر محاولات تطمينية باللغة الأم القديمة ، وعلاجية من خلال الموسيقى والغناء من ناحية (فيستخدم الجهاز كمسجل لإعادة تدوير الأغاني التي جلبها معه : أمل حياتي لأم كلثوم، لأن الأغنية تعيد الأمل مئات المرّات، بل بآلاف آلاف من المرّات) ، ولكن الحافز الأكثر دقة وضغطاً نفسي لاستعادة “الغلاف الصوتي” الحمايوي الذي يقيه المؤثرات الجديدة التي لم يستطع “تمثّلها” لتصبح جزءا من غشائه الصوتي الذي تسترخي داخله نفسه المكلومة . ولا تشفع للمؤثرات الصوتية الجديدة حداثتها وتطوّرها ورقيّها الذوقي :
(وبعد أن يكتفي جبرائيل من سماع الموسيقى الهادئة التي كانت إيلونا قد استمعت إليها قبل خروجها من المنزل، وقد غدت الموسيقى في المذياع الآن أكثر انتعاشاً بعد أن وضح نور الصباح، فبدلاً من الكورالات الملائكية، وموسيقى الفلوت، والأوركسترا الهادئة، تنطلق بعد الثامنة أصوات الفتيات الرقيقات على الأغاني الشعبية الهنغارية التي طور قسم كبير منها بارتوك بيلا – BARTOK BELLA في سمفونياته . لكن جبرائيل ولا شعورياً يعمد لوضع شريط لواحدة من الأغاني التي يفضلها من المقام المطوّر لناظم الغزالي، وقد شده الحنين إلى واقعه الذي افتقده كثيراً . وباستعجاله لوضع شريط ناظم الغزالي يكون المقطع في الأغنية قد وصل إلى كلمة “وقاروا” .. لأغنية عيرتني بالشيب، وهو وقار، ليتها عيرت بما هو عار . ، فيقوم ليعيدها مالاً من انتظار الإعادة، بينما يتباهى بسوالفه التي ابيضت قليلاً، ويتحسس آثار قبلات إيلونا الثلاثينية عليها) .
لقد تحدث بعض المختصين عن “غلاف صوتي” يحيط بالطفل منذ بداية حياته . ويتعرف الطفل منذ أسابيعه الأولى على صوت الأم الذي هو كالحليب يتغذّى عليه سمعه . وليس اعتباطاً أن تكتسب أغاني المهد تلك الأهمية الكبيرة في تراث كل الحضارات . كما أشار آخرون إلى خصوصية الموسيقى التي تعطي معناها الحقيقي من خلال اللاوعي ؛ إذ يمكن أن تتمتع بمناعة معينة – من خلال مبادىء الشكل الموسيقي السائد “لوحدة التنوّع” – لتجاوز حالات الكآبة المرتبطة بتجربة فقدان الأم ، على سبيل المثال ، أي أن عملية انفصال الطفل عن أمّه وفقدانها ، تضفي الموسيقى – من خلال تشتّت وتداخل أجزائها – إحساسا بالإرتباط والإلتحام بالأم مجدداً (راجع كتاب التحليل النفسي للمهجر والمنفى) .
وهناك ما هو “مسكوت عنه” إذا جاز التعبير في معضلة جبرائيل اللغوية ؛ مسكوت عنه يتركه القاص لانتباهة المتلقي العراقي خصوصا ، وتتعلق بـ “ازدواجية لغة” التفاهم لدى جبرائيل في موطنه الأصلي . فهناك كان يعاني من ازدواجية لغوية حيث يتفاهم مع أهله وأبناء طائفته بلغة ، ومع أبناء المجتمع الخارجي والطوائف الأخرى بلغة أخرى هي العربية . في الخارج “يتستر” على لغته الأم لا بفعل القسر ولكن بتأثير عرف التفاهم اللغوي ، ويتردّد إن هو أفصح عنها أن يكون إفصاحه غير ملائم للموقف المعيش . ولعل من أخطر النتائج النفسية التي تترتب على الحرمان من الكلام باللغة الأم ، والتحدث “المظهري” و”المفروض” بغيرها في البلاد الأصلية ، هو نمو مشاعر لاواعية بالإضطهاد . وإذا أخذنا بحسابنا التحليلي أن جبرائيل قد تلاعبت به مخالب العمل السياسي الحزبي التي لا تعرف الرحمة ، والذي يصرّ العراقي على ممارسته في الغربة كـ “حيوان سياسي” لا تستقيم حياته من دونها – والوصف مستعار من أرسطو – ، فسوف ندرك معنى أن يرتد جبرائيل إلى الحديث بلغته الكلدانية بفعل ضغط مشاعر المراقبة والإضطهاد والتآمر :
(وفي طريق عودتها من ساحة الأبطال تتذكر إيلونا آخر مرّة ركبت هي وجبرائيل، وأحد الطلاب الذي استعان بها بجيرائيل لكي يدله على كلية الدراسات الشرقية عندما كان مقرها في شارع إليزابيث – ERSZBETH على طريق ساحة الأبطال، وكان عليهم أن يستقلوا نفس المترو من ساحة الفيرشمارتي، فأخذ جبرائيل يتكلم فجأة بالكلدانية . ولعلمها بأن الصديق لا يفهم إلا اللغة العربية التي اعتادت على بعض مفرداتها، استغربت من حال جبرائيل الذي كان قد انبرى يتحدث، وكأنه يخاطب نفسه، ولكن بصفة المحدث لسامعه . وعندما نزلوا من المترو وانزووا في ركن جبرائيل المحبب في مقهى الفيرشمارتي . وجدوا سلطان، فحدثه جبرائيل ، وفهمت من ترجمة سلطان الآنية لها بما حصل لثورها في المترو إذ أنه أحس بأنه مراقب, من قبل أحد جلاوزة سفارة بلاده، وأن كلامه سوف يسمع, وينقل عنه مخابراتيا، بين أجهزة السلطة التي خربت علاقاته بزوجته, وأهلها فهربت منه إلى الوطن والدعايات عنه سواء من سـفارة السلطة, أو الجهة التي انتمى إليها هؤلاء يتهمونه بـالهروب, مع المعارضة, والمعارضة تتهمه بالتواطؤ مع السلطة في إرسال زوجته, وانهما هو وزوجته جاسوسين، وكل ما حصل معهما، وبينهما ليس إلا تمثيل، وسوف يعودان في وقت قريب متى ما حصل على اللجوء في دولة شمالية .. فتضحك إيلونا، ويضحك معها سلطان، والطالب الجديد من كل تصورات جبرائيل وأشاعوا جواً من المرح أزال خوف جبرائيل إلى حين) .
ولكن جانباً من معضلة ماريا مع جبرائيل هو أنه يرفض تعلّم لغة بلادها التي لا تجيد غيرها متمسكا بلغته الأم ، هذه اللغة التي لم يعد لها موضع أو دور في الحياة الجديدة . بل على العكس يكون دورها معوّقا لانسيابية نعاملاته ولنمو تكيّفه مع المجتمع الحاضر ، وبشكل أخص التفاهم المتبادل مع امرأته “ماريا” .
والمعضلة الأشد تعويقا وإرباكا ، والتي تترتب على هذا التمسّك “العصابي” الدفاعي باللغة الأم ، هو أن هذا الغشاء الذي كان حمايويا في ظلال الفردوس الأمومي المنعمة القديمة ، يتحول إلى شرنقة خانقة في الأرض الجديدة ، تتصلب يوما بعد آخر ، لتخنق أنفاس وجود الكائن المهاجر . وهذا التمسّك المعصوب هو دفاع مستميت لحماية الذات التي توشك على فقدان حدودها وتُلتهم . ولهذا يصبح كل ما يعبّر عن هذه الذات ، ويحمل شيئا من ملامحها القديمة ، “كنزا” وجوديا لا يمكن التفريط به . ويكون احتمال ضياعه ، لأي سبب ، مصدر رعب وانذعار شديدين ، حتى أن المهاجر قد يتلخص وجوده في “أوراقه” أو “حقيبته” أو “دفتر” ذكريات أو “ألبوم” صور جاء به معه .
وها هو جبرائيل يتمسك باوراقه الثبوتية بطريقة تشي بالفزع من الضياع . إسم المهاجر ، وحتى طريقة تهجئة حروفه وكتابتها تتحول إلى طقوس تكرر وتستعاد لتأكيدها والحفاظ عليها من الفقدان . قد يصبح المهاجر اسما فقط .. أو كلمة .. أو عنوان :
(إن جبرائيل لا يهمه أن يموت، ولكن ما يعانيه، أن يموت بلا اسم، ولا شاهد، فهؤلاء اللصوص [= لصوص عصابات شباب البانكس المنتشرة في أزقة العاصمة الخلفية] سوف يمزّقون كل أوراقه، ويرموها، وعندها سوف يوضع في ثلاجة المستشفى، ولا أحد يتعرف عليه، وبعدها ربما تقطع أوصاله، وتباع، أو يدفن في مقبرة المفقودين . لهذا كان يحار في فصل أوراقه الثبوتية عن بعضها، ويعتني بإخفائها بين طيات الثياب، أما اسمه ولقبه، وجنسيته فعليه في كل مرة أن يبتكر لنفسه مكانا يبرر الإسم فيه، فمرة في أيقونة يعلقها في رقبته، ومرة في حزام بنطلونه، ومرة أخرى في جواربه) .
ولا تسلم هذه المحاولات من مبضع الكاتب الساخر بقساوة سخرية لا تبدو متناشزة أو مفارقة و متطلفة أو مصطنعة . إنه الصعود بـ “الإفراط” الوصفي إلى مدياته القصوى التي تتحملها الذاكرة ، ويستجيب لها العقل بالبهجة الكسيرة . فعندما يلوب الإنسان تحت وطأة مطارق محنته ، وتنكص أفعاله وأفكاره ، يكون المخرج الطفلي للخلاص حلاً وإمكانا :
(ولكنه في كل مرة يكتشف أن هذه الأمكنة كلها سوف تنفصل عنه لو جرّده اللصوص منها، وعليه إذن ابتكار مكان داخل جسده، وجلده، وفكرّ في أن يضعها تحت السن الاصطناعي، ولكن وجود أي قطعة في الفم مهما صغر حجمها، يحيل حياته إلى جحيم، لأنها تبدو بكبر الجبال، علاوة على العذاب في نزعها كل مرة يشرب فيها الماء، أو يأكل لكي لا تبتل، لهذا غلفها بقطعة نايلون، مما زاد عذابه من جديد . وأهم ما توصل إليه في النهاية أن يعمد إلى زرع الاسم تحت الجلد، ولكنه تمنى أن يمررها في شريانه لكي تستقر في البطين الأيمن، ولا يدري لماذا الأيمن بالذات من قلبه، ومع هذا كان يتراجع في اللحظة الأخيرة، عندما يجابهه سؤال هام، وهو : كيف سيجد المحققون اسمه لو عمد إلى إخفائه تحت الجلد، أو في الدم .. ؟) .
ولذلك لم يبق أمام جبرائيل سوى حل واحد هو أن ينقش اسمه وجنسيته على جلده ، مهما تحمّل من ألم ، وتقزز من المنظر . ولهذا فكّر في الرسامين في ساحة فريشمارتي – VOROS MARTY TER ، ولكنه لم يستطع التواصل معهم لأنه متحجر في شرنقته اللغوية الحديدية ، لا يجيد غير لغته ، ويعجز عن استخدام اللغة المجرية ، ويخجل من استخدام أية لغة أخرى .
وهنا تأتي سمة من أهم سمات بناء هذه القصة ، وهو تسلسلها غير المتكلّف حيث يُحضر القاص إيلونا عند هذه النقطة ، لأنها رسامة كانت تمارس هوايتها في ساحة الرسّامين . سمة الإنتقالات السلسة هذه التي تجعل حلقات سلسلة الوقائع ترتبط وتنساب بهدوء وبلا ضجيج ، تحفز المتلقي كي يمضي مع السارد من دون توقفات اعتراضية ذهنية ، إو إحساس بانقطاعات سردية زمانية أو مكانية أو تصويرية ، ترتبط بسلوكيات الشخصيات وصراعاتها وتحوّلاتها . وهذه الإنسيابية المريحة هي التي تجعل القاص يقودنا بإرادته ووفق مخططه ، لا حسب احتدام الحوادث وتقافزات مصادفاتها . ولذلك لن يشعر القارىء بالفجوة الهائلة التي يقفزها القاص من الحاضر منساقا مع تحسبات ماريا في اللو والأو .. وتجاذباتها المحيّرة ، إلى الزمن الماضي البعيد نسبيا – قبل سنتين ، والمتمثل في لحظة تعرّفها إلى ثورها العتيد في مقهى الفيرشمارتي ، بعد أن يتناول القاص طبيعة هواية ماريا وطقوسها وأسس عملها وما يمثله الرسم في حياتها الجرداء المحاصرة برتابة إيقاعات العمل في المشفى وروائح اليود، والبنج، والميكروكروم، ومنظر الدماء :
(ورثت لحالها بتأمل، عندما علا استفسار مباغت في ذهنها، وهو : هل ستبقى إلى الخريف تتجول أيام الأسبوع ؟ ولامت نفسها من جديد فلربما يعتدل حال ثورها، أو أن ترحل معه، أو .. و .. أو .. وو .. أو .. أو .
وتاهت في الأو، واللو .. حتى تذكرت مع لو التمني أول مرّة انتبهت فيها إلى ثورها، وكانت وقتها قد خرجت يوم السبت على غير عادتها إلى مقهى الفيرشمارتي الذي لا يجلس فيه غير السياح الأجانب ، تاركة مكانها الذي حجزته بين الرسامين لتمارس هوايتها في يومي السبت والأحد، جالسة وراء حامل الرسم (…) هاهي إيلونا تنشغل من جديد في مراقبة غرباء المقهى لعلها تستلهم من سحناتهم ما يوحي لها بفكرة لوحة جديدة . بل إن ما جذبها هو سلوك ذلك الغريب الذي لا يوحي بأنه سائح عابر، وإنما بكونه زائر قد يطول وقت مكوثه وذلك ما استوضحته من علاقته بزملائه الذي يبدو أنهم يزورونه في هذا المكان بالذات، وكأنه قد اتخذ من المقهى، والمكان عنواناً دائماً ) .
لقد لفت الغريب جبرائيل نظر ماريا بقوّة بسبب وحدتها هي أصلا .. وضياعها كرقم وسط زحام الحياة الخانق وعجلتها الساحقة التي لا ترحم . فإذا كان جبرائيل غريبا كنتيجة منطقية لهجرته من بلاده إلى هذه البلاد : المجر ، فإن ماريا غريبة في بلادها نفسها . أحسّت بميل نحوه على أساس قاعدة قيس بن الملوّح “وكل غريب للغريب نسيب” الفجّة :
(ولا تدري إيلونا لم ارتاحت لسلوك الغريب مع زملائه عندما يلاقوه، فقد عكس وقتها قلقا ، وخجلا مما يدور حوله، وكأنه يخشى الوحدة، ولا يستطيع طلب أي شيء إلا بعدما يحضر أحدهم، حتى نظراته كانت كسيرة، فأحست إيلونا أنه منغلق على نفسه، وكأنه يعيش في دائرة ضيقة من الانتباه، وما أن يأتيه أحد من معارفه حتى تنشرح أساريره، ويتغير كل ما فيه، وكأنه إنسان آخر) .
لقد كان جبرائيل “مرآتها” – ليس على الطريقة “اللاكانية” طبعا – التي تشوّفت فيها ذاتها المبتئسة وحالها الكسيرة . وهذا الشعور “المرآتي” قد يوهم الفرد ، ويوقعه في حسابات مشاعر لا أساس لها في الخارج ، لكنها “مُسقطة” من الداخل . وفقط حين يصبح الفرد الذي استثار شفقتنا وتعاطفنا الساخن “صورة” فعلية ، لا مرآة ، تكون الصدمة المجهضة ، والتعاملات الواقعية المرّة كما رأينا وسنرى .
الآن ، وعند هذه النقطة من مسار الأحداث ، ولاحظ أن حديثنا يقرب من الحديث عن رواية وليس قصة قصيرة ، كلما توغلنا زمنيا مع النص ، ستظهر سمة قد يعتقد القارىء أنها تناقض سمة الإنسيابية السابقة التي تكلمنا عليها . فالقاص يقوم في بعض المواقف بتنبيه القارىء .. وإيقاظ شخوصه من “غفوة” ارتجاعاتهم الفنّية – flashbacks ، التي “سرحنا” معهم في أجوائها . لكنه إيقاظ “ناعم” إذا ساغ الوصف ، هادىء وغير محسوس ، لأنك تحس وكأن الشخصية المعنية مازالت في “المكان” الذي تداعت إليه ، وهو “المقهى” بالنسبة لماريا الآن ، في قفزة كبيرة أيضا من الماضي إلى الحاضر .
والكاتب يدرك حقيقة أن عليه أن يحسب زمن كل فعل من أفعال شخوصه بصورة محكمة ومبررة . وبتعبير فيزيائي ، عليه أن يُقسم الأفعال على الوحدات الزمنية المعطاة ، وأن لا يُتخم أي وحدة على حساب أخرى ، مثلما عليه أن لا يستغرق , و “يضيع” منزلقا على منسرح الزمان المغوي مع ارتجاعات أبطاله :
(وغابت إيلونا يومين ثم جاءت يوم الخميس ، فما أن رآها حتى ارتبك، وقام، ثم جلس، ثم التفت حوله، ولم تكن إيلونا متأكدة من ردود أفعاله، فذهبت إلى نفس مكانها، ولكن المكان كان مشغولاً، فقد جلست فيه نمساويتان جاءتا ربما للتسوق من بودابست الرخيصة قياساً إلى فيينا، أو لحضور حفل زفاف تقليدي لنمساوي يحلم بالإمبراطورية الغاربة .
وانقطعت سلسلة تداعيات إيلونا لأنها أحست بأن أحدهم لكزها لتقوم فتنزل في المحطة الأخيرة، وراعها منظر التلال الغربية لبودا، ومنظر الكنيسة المتهدمة على أحد التلال . ونهضت لتنزل كي تبدل العربة، وقد نسيت للحظة كيس الخضار) .
ومن دون هذا الحساب الدقيق الذي على الكاتب أن يلتزم به بإلحاح أشد كلما طال نصّه إلى أن نصل إلى القاعدة التي نرى فيها (أن القصة القصيرة فن ، والرواية “علم”.. ) . وقصة فاروق هذه قصيرة طويلة نسبيا (أكثر من عشرين صفحة من القطع الكبير) ، وكان من الممكن أن تختلط عليه حساباته الزمنية كلما تقدّم مع أحداث حكايته ، وتسارعت إيقاعاتها ، إلا أن بصيرته السردية لم تكن تغفو ، وكان “يحسب” كتلة الحوادث مرتبطة بزمنها في الوحدة السردية المعطاة . إننا نشعر كمتلقين بن أحداً “يلكزنا” بخفّة لنتنبّه قبل أن يعبر بنا قطار الحكاية المحطات المطلوبة . وإذ يعيدنا القاص إلى الزمن – زمن إيلونا الحاضر – فإنه يمنحنا فرصة لاسترداد الأنفاس في “الآن” لأن الحكاية ، أي حكاية هي بنت اللحظة الوجودية المعطاة حتى لو كانت تتحدث عن الماضي . ومن أوقات محاولتها التعرّف إلى جبرائيل الخجول الكسير المنعزل آنذاك كما كان يخيل إليها ، يعود بنا القاص إلى لحظة وصول ماريا إلى المحطة الأخيرة ، ونهوضها كي تنزل ، والإرباك الذي أصابها بسبب نسيان كيس الخضار ، مصعّدا الحالة اليومية المبتذلة (نسيان كيس خضار) إلى حالة شعرية تأمّلية ذات مغزى نفسي عميق (صرخت وكأنها فقدت رضيعها) :
(ونهضت لتنزل كي تبدل العربة، وقد نسيت للحظة كيس الخضار، وما أن وضعت رجلها السليمة على حافة الدرج حتى صرخت وكأنها فقدت رضيعها، واستدارت لتعود أدراجها، ولحسن حظها أنها كانت الراكبة الأخيرة في الحافلة، وإلا لحدث صخب واحتجاج من الركاب العجائز من انكفائها المفاجئ على الصف النازل . وخافت مرّة ثانية من أن يتحرك سائق الحافلة بها ليبعدها عن مكان تبديل العربة ) .
إن هذا الصعود المثري بما هو يومي مبتذل وعادي إلى مصاف اللحظات الوجودية المثقلة بالدلالات المتشعبة ، أسّسه “مارسيل بروست” في رائعته “البحث عن الزمن الضائع” بدءا من ذوبان الذكريات مع كعكة الماندولين المغموسة بشاي الجدّة الحنونة ، مرورا بتقاطعات الخيبة مع بلاطات الرصيف في ظل الشعور بالخواء ، وليس انتهاء بترجيعات أجراس الكنيسة في الروح المهمومة في يوم موحش ، والشجيرات الثلاث الوحيدات في التفافة عزلة العربة ، ورقبة “ألبرتين” مع طفح الغريزة المثلي .
إن واجب الفنان الخطير في حياتنا ، هو أن لا يسمح لمفرداتها مادة وسلوكا بأن تصدأ ويركبها تراب العادة كما قلت . قد يحصل هذا من خلال الغوص في معاني الموجودات والظواهر المهملة بفعل التكرار . خذ عرج ماريا الذي يعود فاروق للتأكيد عليه الآن أكثر من مرّة بصورة “باردة” و “محايدة” ، لكنها تثير الأسى في نفس المتلقي والمتلقية المتماهيان مع شخصيتها :
(وما أن وضعت رجلها السليمة على حافة الدرج حتى صرخت وكأنها فقدت رضيعها (..) وخافت مرّة ثانية من أن يتحرك سائق الحافلة بها ليبعدها عن مكان تبديل العربة، وعليها أن تقيس المسافة بعرجتها لتعود حاملة الكيس الذي صار أثقل من قبل، ربما لأنها استرخت أكثر من اللازم ) .
وقد يحصل من خلال الضرب الشعري الآسر – حتى لو كان مستخفاً هنا ليتسق مع مناخ الحكاية – على أوتار اللغة ، خصوصا في تشبيهات الأفعال والأفكار والأشخاص (بـ “كأن” .. و “مثل” .. وبـ “الصور المقارنة” .. وغيرها) ، بطريقة تجعل ما هو عابر وشديد البساطة مهمازا يثير فينا أعمق التداعيات الساخطة أو المتعاطفة ، أو أنه يخلق صلات بما نختزنه نحن أنفسنا . خذ هذه الأمثال للتدليل على جهد الكاتب الخلاق برغم أن القصة تحفل بالكثير منها وتغطي مساحة كبيرة من السرد فيها :
– (استغلت وقت أكلها ببطئ في استراق النظر إلى ذلك الغريب، وكأنها عين فاحصة لمخرج سينمائي سيكتشف بطل فلمه الجديد) .
– (ولكن المكان كان مشغولاً، فقد جلست فيه نمساويتان جاءتا ربما للتسوق من بودابست الرخيصة قياساً إلى فيينا، أو لحضور حفل زفاف تقليدي لنمساوي يحلم بالإمبراطورية الغاربة) .
– (وتسترخي إيلونا بين يديه، وكأنها سحابة مأزومة بالماء لا يعوزها سوى شرارة برق حتى ينزل مطرها) .
– (ينهض جبرائيل لكي يعدل وضعيتها، ويغطيها، ويقبلها في جبينها، ويتأمل سماحته، وبراءته، كأنها قديسة تتأمل شفيعها) .
– (لن تستمتع بالوقوف لأن بالها سوف ينشغل بين باب الحافلة، ووقت صعود السائق في قمرية قيادة الفيلاموش، وقد خرج من كابينة السواقين، رامياً عقب سيجارته الذي يتحيف حتى على آخر نفس فيها) .
– (وقد نسيت للحظة كيس الخضار، وما أن وضعت رجلها السليمة على حافة الدرج حتى صرخت وكأنها فقدت رضيعها) .
.. واستطيع التوقف بما لا يقل عن نصف صفحة مثلا على أي واحد من هذه المواقف ، ولكني سوف أكتفي بالموقف الأخير الذي يصف فيه فاروق ردة فعل ماريا المفزوعة تجاه نسيانها كيس خضارها :
حسين سرمك حسن : كيف تكتب قصة قصيرة ناجحة ؟ قصة “إيلونا إيسلن” لفاروق أوهان أنموذجاً (1)
تعليقات الفيسبوك