يبدو أننا جميعاً مازلنا أسرى لما نفكّر، لما نؤمن به، ولما هو مستقر في ذواتنا . ويبدو أننا جميعاً نتحايل كي يرفض كل واحد فينا ما هو مخالف لهذه الذات التي كونت رؤيتها .
ويبدو أيضاً أن كل جديد لا بد له من زمن طويل، كي يحفر مساره ويوضح معالمه، ويكشف وجهه علانية، وفي هذا الزمن الطويل يتعرض لآلاف الانتقادات وآلاف الأقاويل والتشكيك .
ويبدو أيضاً أن الخلاف جزء أساسي من بنية الحياة، وبخاصة الحياة التي تشمل الإبداع والمبدعين، فهناك من يقول : إن النص يحب أن يحمل أجوبة التساؤل التي تعيش في وعينا، وآخرون يقولون : إن على النص أن يوّلد فينا التساؤل، ويفجّر أشكالاً جديدة، ورؤى جديدة للواقع . وأن للنص أكثر من قراءة، وأنه يجب أن يكون تأويلياً في بنيته .
ويبدو أيضاً أننا في هذا الزمن بحاجة إلى العودة إلى الأصول التي أرى الآن أن بعضها قد تجاوزنا في النقد، نحن الذين نحاول أن نستكشف مسارات النص، ونحاول أن نغوص عميقاً في بنية وتشكيله، ومن يقرأ عبد القاهر الجرجاني سيحس بأن هذا العالم اللغوي قد سبق زعيم اللسانيات المعاصر العالم السويسري “فريديناند دي سوسير” بعشرة قرون على الأقل، وذلك حين بين قدرته على التفكيك والتحليل والإحساس بالجزئيات وتركبيها ضمن كلية موحدة في النص الأدبي، بل والقدرة المتمكنة على الربط بين أبعاد العملية الأدبية في بنيتها الإيقاعية والمستويات الدلالية، والعلاقة بين الرؤية التي يجسدها النص الأدبي وبين المكونات التي شكلّته.
ويبدو عند ذلك أننا قصرّنا كثيراً في الاحتفاء بهذه الكنوز العظيمة من تراثنا اللغوي، والذي علينا جميعاً أن نعيد القراءة ضمن رؤيتنا المعاصرة كي ننطلق لنكون متوازنين وقادرين على التطور .
ويبدو أيضاً أن كل إبداع عبّر التاريخ سيظل بعيداً عن التأطير والمدرسية .
ويبدو أننا بحاجة لرؤية أكثر وعياً ونحن نعيد صياغة النص الأدبي وأن نرى أن قيمة هذا النص ليس في مضمونه فقط، وإنما في كيفية التعبير عن هذا المضمون الذي يجب أن نحترمه بالدرجة الأولى، وبذلك نعبر عن احترمنا لذواتنا أيضاً والتي يجب أن تؤمن بأنها لن تكبر إلا من خلال الأخر الذي يشكل لوناً إضافياً جميلاً ومن ثم يتكون قوس قزح في ألوانه السبعة الأخاذة .
أقول هذا الكلام وأنا أقرأ بعض القصص القصيرة جداً، وأقف عند كلمة القصيرة جداً مفكراً في القصة القصيرة التي كانت كما قال عنها الأستاذ “يوسف الشاروني” في كتابه “القصة القصيرة نظرياً وتطبيقياً”، بأنها فن الفرد المأزوم، ولذلك كانت أقرب الأشكال الأدبية بعد الشعر إلى المراهقة قراءة أو كتابة . وتكون أقرب إلى أدب الاعتراف” .
فهل يعني ذلك أن القصة القصيرة جداً ازداد فيها تأزم الفرد واعترافه، وتضخمت انفعالاته باتجاه الحزن . وأن هذا الاجتزاء قد شكل نقاطاً مضيئة تتجاور لتشكل حالة واحدة ؟
وعدت بذاكرتي إلى صديق تعايشت معه، وكان يكتب القصص القصيرة جداً، كان ذلك الشاب إبراهيم أحمد الذي كان يدهشنا وهو يلتقط العادي واليومي ليحوله إلى حالة مستجدة تماماً في بنية قص تحيط بالسامع أو القارئ .
القصص القصيرة جداً التي أقرأها لكاتب اسمه فاروق أوهان، الذي كما أسمع أنه رجل مسرح، والقصص منشورة في مجلة الرياضة والشباب في العدد / 350/ وقد أرسل هذه القصص أحد الأصدقاء الذين يعرفون اهتمامي بكل جديد (*).
قرأت القصة مراراً وقد قالت لي : إن هذا الواقع التبسيطي بمفهومه الاستنساخي لم يعد يثير هؤلاء القصاصين وإنما أصبح الواقع المحسوس يعني أيضاً المحسوس، والمتخيّل . كما يعني المألوف والمتطّرف، وأن هذا التنوع في الأشكال إنما مرده إلى ذوات جديدة تطمح إلى رؤى أخرى وكشف جديد، وإنها تسعى لاختراق الأزمنة التي تحيك شباكها حولهم .
القصة هي : شجرة جوز وبحر وأشياء أخرى .
أيام لن تعود (**)
على شجرة جوز،
سنجابان يتضوّعان مسك الغزل.
وفي أسفل شابان يمّصان رحيق الحب من فوّهات دنان العسل.
وعلى السياج،
عجوزان يتوكأ أحدهما على الآخر.
يصف أحدهما للآخر ما يشاهدانه.
فيمصان معاً أصابع الندم،
على الأعوام التي فاتت ولن تعود.
هناك فجيعة في الكتابة تمتد من اللفظة البسيطة إلى القص التخيلي، عالم يضّج بالحركة كما يضّج بالسكون، السنجابان اللذان يتضوعان مسك الغَزل ويشاركهما في ذلك الشابان في أسفل الشجرة، يقابلهما العجوزان اللذان يتوكأ أحدهما على الآخر كي يمّص كل منهما الأصابع ندماً على الأعوام التي فاتت ولن تعود .
لا تأمن البحر
البحر يمد لسانه للصياد، وفي الأعماق سمكة فضولية تود معرفة سرّ العلاقة بين الماء، والشِباك، وبين ذلك الكائن النافث لدخان سجائره حنقاً، منذ ساعات الفجر الأولى،ومن فوق لا يبالي القمر بهذا الثلاثي ..
بحر جبّار، وصياد بائس، وسمكة نزقة فلكل منهم همه، ونجواه .. لكن البحر يتغلّب على جزره عندما يغمزه القمر.
فتدخل السمكة من غفلتها في الشِباك وتلهو داخلها طويلاً، لأن الصياد من ملله،
غفا فغطاه الماء.
وفي كلا الحالتين، حالة مص رحيق الحب، ومص الأصابع عودة لعوالم الطفولة التي يريد الكاتب أن يعود إليها، ولكن هيهات فقد فات الزمن، وبذلك ينكسر فضاؤه باتجاه البحر الذي يأخذه إليه ليكون عارياً أمام الطبيعة لا يخفي من ذواته شيئاً، يريد التوحد مع هذا الانفتاح علّه يخلق له تواصلاً مع عوالمه الأولى بامتداداته أو لنقل بانزياحاته، فتسقط الشبكة على السمكة، “المقطع الثاني” .
ثم تجيء القصة الثالثة . ليظل بعيداً يراقب، لا يستطيع الدخول إلى المراسم التي احتفل بها أهل العرس جميعهم، فكأنه يراهم أبطال على شاشة التلفزيون، يريد العبور إليهم، لكنها الحواجز التي تكبر، لتظّل النوافذ الوسيلة التي يخلقها التواصل، حاملة الابتسامة والشوق .
وفي المقطع الخامس من النص يتحدث الكاتب عن فتاة ما، عن علاقة ما، لكن العلاقة التي يزخرف ألوانها الثقافية تكون عاجزة عن الفهم ليبين الكاتب من جديد كيف، ولماذا ظلّ بعيداً، إن حبه الذي كبر، وأصبح جميلاً كالحلم كان يمشي على عجلات وليس على قدمين كحالة إنسانية صحيحة .
عرس في الوطن
كالحالم يدعى الجد لعرس الحفيد.
لكنه يظل على البوابة، لا يستطيع الولـوج.
فيشاهد المراسيم, كأنه يراها مصوّرة على فيلم .. “ومن الداخل ينادينه العريس, وأهله “.
يمدون إليه أيدي النجاة، كأنها مرساة بألف رأس تخرج من شاشة تلفزيون.
ومن بعيد، يرى أم العريس تكنس مدخل فندق العرس، فيسرع لتقبيل وجهها واحتضانها.
فيفاجأ بلقائها البارد، فيتوجس من الحُرّاس حولهما.
وعندما يتفَرّس في وجهها، يصاب بالخيبة لأنه قبّل أبنته التي تُشبهها.
فيتحَسّر على الفراق الطويل .. الذي يجعل الغائب لا يميز بين الأقارب، فكيف الأحباب،
والأغراب.
ومن النوافذ يبتسم الأهل من جديد، يدعونه إلى الداخل.
لكنه لا يستطيع العبور إليهم، فثمة حواجز كثيرة قد نشأت ما بينهم، تكبر يوماً بعد يوم.
ترى أهو الواقع الذي أوصله إلى هذه النتائج، أم أنها الغربة التي قصمت الظهر ليكون عاجزاً عن الفعل، عن الحركة، عن العبور ؟
ثم تجيء القصة السادسة، أو المقطع السادس “ضلع آدم” ليعمّق هذا العجز، ينام آدم وحواء على سرير مزدوج، يتسامران، وترقص على ظهرها كفراشة منزوعة الجناح، وحين يدعوها للحب ترفض ذلك .
ضلع آدم
في غرفة الخليلة،
سرير مزدوج،
كعرش آدم وحواء.
وأنا معها كأخوين.
نتسامر في باحة المجلس.
فتنام على ظهرها كفراشة منزوعة الجناحين.
تدور على عقبيها برقصة منفلتة الاتزان.
فأظنها تروادني.
فأراودها بالحوار،
والمناجاة.
وعندما أدعوها للعرش.
ترتجف وترفض،
لأن الذهاب إليه يتعلق بالشغل الرسمي،
وليس للحب.
هنا يكتمل المشهد في بنيته التي تأخذ حالات متفردة، وهي تنسج من خلالها بنية مشهدية متكاملة في النمو والرصد ومن ثم العوالم التي يمكن لها أن تشكّل ذلك التصور. إنه سيظل عاجزاً عن الاستمرارية، عاجزاً عن الخلق، طالما أن الحياة قد سحقته في كل ميادينها، ليكون عاجزاً عن العبور والخلق والتصور .
من يقرأ ما كتبه “فاروق أوهان” مجزأ، كل قسم لوحده، سيرى بأن كل نص والذي لا يتجاوز ستين كلمة يشكّل في ذاته بنياناً قصصياً لوحده، ولكنه في الوقت نفسه يشكّل بنياناً قصصياً مفتوحاً لقص آخر، يمتد منه، ليكوّن هذا الامتداد في تصوراته حالة قصصية كاملة، أو لنقل إنها شبه كاملة .
ومن هنا فإن القصة القصيرة جداً، هي حالة علينا أن نرى بؤرة تدفقها، وأن على النقد أن يبحث لها عن قوانين ونظم وأشكال يحكم بها علينا، لا أن يحكم عليها بقوانين القصة القصيرة، أو الرواية، كما هي الحال عند ناقد الشعر الحديث الذي عليه ألا يستعمل الأدوات نفسها التي ينقد بها الشعر الكلاسيكي لأن في كل واحد منهما حالة مختلفة تفرضها اللغة ونظامها، وليكون هذا النقد خارجاً من القوالب الجاهزة التي تكررت وكانت ثوباً نلبسه لكل فن، لطالما أن اللغة كانت، وما زالت كائناً حياً متجدداً تجدد الناس الذين يعيشون في كل لحظة حالة جديدة .
وأخيراً يمكن القول : إن القصة القصيرة قد فرضت ذاتها عندما ظهر فيها نماذج ناضجة، استطاع كتّاب كبار أمثال : يوسف إدريس، غائب طعمة فرمان، وإدوارد خرّاط من أن يفرضوا شرطها، ومن ثم جاء زكريا تامر ومحمد كامل الخطيب، وعبد الحميد أحمد، والطاهر وطار .. .. إلخ ليكملوا هذا الشرط، ولتصبح فناً له عوالمه، وله نقّاده .
فهل يكوّن إبراهيم أحمد، و”فاروق أوهان” مقدمة لقص جديد اسمه القصة القصيرة جداً؟
وأخيراً نتساءل ؟ هل هناك فن نسميه القصة القصيرة ؟ أم هناك فن نسميه القص كما تقول الناقدة يمنى العيد، والذي قد يطول شرحه اللغوي، أو قد يقصر، أو قد يجتزئ الحدث متتراجع مساحته إلى حدود زمن لحظوي، وقد لا يجتزئ القص الحدث فيرى إليه عند ذاك في حدود بعيدة تكبر مساحة عالم هذا القص، ويتسع بالتالي فضاء زمنه ؟
علينا أن نتساءل والجواب سيكون للزمن .
دمشق 1998
الملحق الثقافي لصحيفة تشرين
(*) وقد نشرت الأقاصيص الست فيما بعد ضمن مجموعة رسائل حب من نيرغال الذي تضمن 72 أقصوصة، إصدر عن دار الانتشار العربي ببيروت عام 1999.
(**) أضيفت الأقاصيص الأربع للمقالة الأصلية للضرورة، ليتعرف القارئ على ما يقصده الناقد محمد الفهد.