مهدي شاكر العبيدي : كلمات الجواهري تهز البلاد.. قصائد تروض الحكام

mehdi 6

الجواهري بريشة الفنان مبارك الفكيكي
الجواهري بريشة الفنان مبارك الفكيكي

لا يختلف اثنان حول تناهي أسلوب الجَواهِري النثري في الفصاحة والبلاغة مع كونه يُخيَّلُ أنـَّه مطبوع وصادر عن تلقائية وعفوية مع اكتنازه بالمعاني القوية الدَّالة على امتلاء نفسه بالمشاعر الفيَّاضة والعواطف الزَّاخرة والأحاسيس المائرة والمتأتية من شدَّة التحامه وتأثره بواقع محيطه ومجتمعه وسائر ما يمدُّه ويرفده به ويحمله على تصويره من عقد مستعصية وترسبات ثقيلة وأوزار متراكمة أضفتْ عليه شيئا ً غير قليل من طلاوة البيان والرُّوح الشَّاعرية بحيث جعلتك تحار أين تجد تساميه في الصِّدق والإخلاص ، وتمكنه من الإبداع والفن أفي شعره أم في نثره ؟ من هنا صعب على أيِّ كان مهما سمقتْ مواهبه وقابلياته على إمكان محاكاته ومجاراته في شواهده وقوالبه النثرية لأنْ لا أحدَ يقدر على احتذائه والسَّير على منواله في ديباجته شعرا ً ، من هنا ليس لنا اعتراض أو تعقيب على رأي الأستاذ عبد الرَّزاق عبد الواحد بصدد نثر الجواهري .

الجواهري بريشة الفنان خالد جلال
الجواهري بريشة الفنان خالد جلال

سجَّل الأستاذ عبد الرَّزاق عبد الواحد في سياق مقالته المنشورة في جريدة الزمان ليوم 19 / 8 / 2008م ، ما يفيد أنــَّنا ” قد احتفلنا بتأسيس اتحاد الأدباء قبل أيَّام وحضر حفل التأسيس عبد الكريم قاسم ليلتها أعلن في كلمة الافتتاح أنـَّه سيأخذ الجواهري مِنـَّا ليكونَ راعيا ً للثقافة والأدب ؛ وفهمنا أنَّ الجَواهِري سيصبح وزيرا ً فطرنا به فرحا ً ! ” .

والحق أنَّ الغرض الذي تداعى له الأدباء في أوائل صيف عام 1960م ، هو لعقد مؤتمرهم الأوَّل وليس الاحتفال بتأسيسه ، في ظروف تعج بأحوال منذرة بالتردِّي والسُّوء ، حيث الناس لا حدَّ لما تمتلىء نفوسهم به من الإحباط والانكسار والمرارة والشُّعور بالخذلان والهوان حسبما عبَّر عنه الأستاذ عبد الرَّزاق عبد الواحد نفسه في قصيدته التي ألقاها وقتها وكان لها وقع حسن في نفس قائد الثورة ، وأمل المتسرعونَ في أحكامهم المرتجلة منها أنْ سيجري تعديلا ً في خطـَّة حكمه لأنَّ الشَّاعر أفلح في تنبيهه ولفتِ نظره إلى العناصر الملتفة حوله والمؤيدة لثورته وإلى الزُّمر والفئات التي تكيد له وتنوي به شرا ً ، بقدر ما أدخلتْ ـ أي القصيدة ـ الغيظ والموجدة والحسد في بعض النفوس ممَّن لا يروق لأصحابها أنَّ يتألـَّق غيرهم في بنائه الفني وإيفائه على غاية الجودة في نسيجه الشِّعري فضلا ً عن توفقه في     إلقائه ، وغدا هذا المدخل للتعبير عن المقاصد والأغراض شبه ( مودة ) حاول آخرون مجاراته في صياغة معناها ومرماها من توجيه العتب والملامة على ثورة تموز أنْ تعقَّ أبناءها وتجحد تضحياتهم في سبيلها ، من قبيل ذلك ما جرَّبه الشَّاعر راضي مهدي السَّعيد في خواتيم قصيدةٍ أنشدها في حفلة اتحاد الأدباء ابتهاجا ً بالذكرى الأولى لثورة تموز ، حضرها ألأستاذ الرَّاحل مصطفى علي وزير العدل والأديب المطبوع المشغوف بشعر الرُّصافي ومدوِّن سيرة حياته ، وكذلك الكاتب اللبناني المرحوم رئيف خوري ، وكذا أوغل ناس في تفاؤلهم أنْ سينبري قائد الثورة لتقويم الانحراف والقضاء على المفسدينَ ، أمَّا الجَواهِري الذي ألقى خطبته بعد انتهاء عبد الكريم قاسم من افتتاحه المؤتمر المذكور ومناشدته الأدباء أنْ يكتبوا عن الثورة ويشيدوا بمكاسبها في نتاجاتهم ومقالاتهم وهو عارفٌ جيدا ً بما بدأتْ أجهزته القمعية تنزله بعامة الناس والأدباء منهم من تدابير وإجراءات قاسية في كلِّ مكان بحيث تضايقهم في عيشهم وتسلبهم حريتهم ، فكيف يمجِّدون الثورة وينتجون أدبا ً مصوِّرا ً لعوائدها ومكاسبها وقد ترامَتْ في مهاوي الانحراف واجترحَتْ هذا الكم الهائل من الأخطاء ؟ ، قلتُ إنَّ الجَواهِري استرسل في خطبته في توجيه نصحه وإرشاده حيال الأدباء الطالعينَ والمتمرسينَ المستوفينَ أداتهم معا ً ، وكأنـَّه منبت الصِّلة بطبيعة الأحوال الجارية والأوضاع المتقلبة يوم ذاك فقال :- ” إنَّ أديبا ً لمْ يحفظ البحتري وأبا نؤاس وابن الرُّومي والمعري وأبا تمام والمتنبي ، أو لمْ يدرس الجاحظ والأخطل وابن قتيبة وابن الأثير ودعبلا ً والقرآن الكريم ونهج البلاغة       لا يمكن أنْ يكون كاتبا ً وشاعرا ً أبدا ً ، ولو قرأ مليون رواية وكتاب أجنبي ، وإنْ درس خمسين عاما ً أساليب الشعر والأدب الغربي ، وإنْ استوعب النظريات وكلّ المبادئ والعقائد ، وإنْ ألمَّ بثقافات العالم ، إنَّ الكلمة الصَّالحة الباقية هي تجربة قاسية ومراس متمكن ومعاناة شاقة وإدراك عميق وحس مرهف ، وهي إلى ذلك كلُّ قدرة على التحويل والتطوير ، وعلى المزاج ومماشاة المزاج ، بحيث يبدو صرفا ً   خالصا ً ، إنـَّها قدرة على الخلق والإبداع ، هذا هو سرُّ الكلمة في أنْ يكون الفرد منـَّا أديبا ً أو لا يكون ” .

ولمْ يحصلْ أنْ أعلنَ عبد الكريم قاسم قرب أخذه للجَواهِري ليكون راعيا ً للثقافة والأدب في هذا الاجتماع ، إنـَّما غادره منتشيا ً جمَّ الارتياح من حفاوة الأدباء به وعقدهم الرَّجاء على حزمه وتدبيره أنْ سينعش حياتهم ويبهج نفوسهم ! .

وفي يوم 19 / تموز / 1960م ، جرى احتفال ثان ٍ بمناسبة انتهاء مديرية الآثار العامة وفراغها من ترميم المدرسة المستنصرية وتجديدها بعد أنْ أتـُخِذ منها مخزنا ً للتبوغ أو ملاذا ً يأوي إليه كلُّ مَنْ تقطـَّعتْ به السُّبل ونبَتْ به الدار ، فابتدر المرحوم العلامة طه باقر مدير الآثار العام حينها لمناشدة قائد الثورة أنْ يحيي هذا المَعْلم والأثر الخالد المطل على دجلة ويغدو جاهزا ً لاستقبال السُّياح والمعنيينَ بدراسة تاريخ بغداد والإطلاع على معالمها وصروحها العلمية ، وهنا قدَّم عبد الكريم قاسم للحضور الجَواهِري على أنـَّه طليعة الشِّعر ، ومثـَّل بذلك مثل دور عريف حفل بامتياز وإجادة ، فأنشد رائعته مترسِّما ً – في بعض وصلاتها – مضامين قصيدة عبد الرَّزاق عبد الواحد ومستوحيا ً مقاصده وأغراضه في أنْ يميِّزَ ـ قائد الثورة – بين العدو والصديق ، ومربيا ً عليه بطبيعة الحال – وهذا ما قد يقرُّني عليه عبد الرَّزاق عبد الواحد نفسه وليس فيه ما يخدش ويطول شاعريته – في معانيها العجيبة وأدائها المدهش ، يقول :-

أعـدْ مـجـدَ بغدادٍ ومَجْدُكَ أغـــــلبُ       وجَــدِدْ لها عَــهْدا ًوعَــهْــدُكَ أطــيَبُ
وأطلعْ على المستنصريةِ كـَـــوْكبا ً       وأطلـعـته حَـــقا ً. فإنـَّـك كـَــــــوْكبُ

********

حـنانـيكَ إنَّ الـدَّهر يـَطفو ويـَرْسُبُ         وإلمامة ُالـدُّنيا تـَجيء وتـَـــــذهَــــبُ
وإنَّ نـُثاراتِ الحــضاراتِ مَــــنـْبَعٌ         يفيضُ وفي الأرض ِالسَّبيخةِ يَنضَبُ

********

وجريا ً على منوال ( المودة ) التي ألمعنا إليها وغدَتْ حديث المجالس مما بدؤه عبد الرَّزاق عبد الواحد في أنـَّنا يمكن لنا أنْ نتوسَّلَ بالشِّعر ليطامِنَ الحكام من نزواتهم ويتخلوا عن تعسُّفهم وعنتهم ويتعاطفوا مع الشَّعب مُجَدَّدَا ً ، يقول :-

أبا كـــلِّ حَـــرِّ لِـــي إلــــيْكَ شَــفاعَة ٌ       فهَــــلْ أنا ذيَّـاكَ الشَّــفيع المُـقرَّبُ
أجَـــــلْ إنَّ شـهـما ًللـقــلوبِ مُــحَـبَبا ً       يناغـيهِ شِعْـــرٌ للقلوبِ مُــحَـــــبَبُ
حنانيكَ هبْ غطىً على الحقِّ غيْهَبُ        فهلْ فلقُ الإصباح يُمْحَى ويُشطبُ
أيلغـَى فـَـــريقٌ فِــــي المُـــبَاراة أوَّلٌ        ويَحوي فريْقا ً سَيءَ الحَّـظ مَلعَبُ

********

كما أقامتْ نقابة الصحفيين في حدائق مقرِّها القديم في شارع النضال حفلة ساهرة دعي لها عبد الكريم قاسم وذلك في يوم 31 / تموز / 1960م ، استهلـَّها بكلمته الواعدة بإزماعه أنْ يبوِّئ الجَواهِري برتبةٍ ما ويكون إلى جانبهِ دون أنْ ينصَّ على ماهية المنصب الذي ينيطه به ويعهده إليه ، وليس أثناء انعقاد مؤتمر الأدباء الأوَّل قبل قرابة شهرين ، أمَّا الاجتماع الذي عقدته نقابة الصحفيين بحضور بعض الصحفيين العرب فقد كانَ لغرض إجراء انتخابات مجلسها مجددا ً في استهلالة عام 1961م ، وفي يوم باردٍ وليس بعد يومين من انعقاد مؤتمر الأدباء في بداية صيف عام 1960م ، وفيه جرى ما جرى من مواجهة واعتراض من قبل شاعر البلد على سياسة عبد الكريم قاسم وما استتبعهما من ملاحاةٍ وتقاطع بين الاثنين حيث تظاهر عبد الكريم قاسم باشمئزازه ونفرته مما تنشره الصُّحف من ذم وتشهير وتطاول على الحرمات والكرامات ، وما أدري أكان عبد الرَّزاق عبد الواحد أوانَ ذاك معاونا ً في معهد الفنون الجميلة أم مداوما ً في ثانوية الحلة مستجيبا ً في ذلك لتوجيه وزارة المعارف خلافا ً لعبد الوهاب البياتي الذي لمْ يشأ أنْ يداوم في الثانوية التي نـُسِّب إليها من الملحقية الثقافية في إحدى الدُّول الاشتراكية القائمة حينها فنفى نفسه باختياره وبترَ صلته بالحكومة وبقي في الخارج دون أنْ يتجنبَ تعريض المرحوم الشَّاعر المصري نجيب سرور وتشنيعه في سياق قصيدةٍ منشورةٍ في مجلة            ( الشِّعر ) المصرية الصَّادرة في ستينيات القرن الماضي وتسفيهه لادعائه أنـَّه نجا من مقصلة نوري السَّعيد ومن ثمَّ الزِّراية بمذهبه الشِّعري .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *