
حكاية السيد والعبد حكاية أزلية، لا تنقلب المعادلة بينهما إلا في ظل ظروف تختل فيها الموازين فيصبح السيد عبداً والعبد سيداً، وفي رواية (شعب يوليو) للروائية نادين غورديمر نقف وجهاً لوجه وبوضوح إزاء هذه الحالة، فالسيد (بام) وزوجته (مورين) وأطفالهما الثلاثة، وهم من البيض، يضطرون للهرب عقب ثورة الزنوج في جنوب إفريقيا، ويصبح (يوليو) وهو الخادم الذي قضى خمسة عشر عاماً في خدمتهم، دليلهم ومرشدهم، لأنه يعرف الطريق جيداً.
وعبر (188) صفحة من الهروب المحفوف بالمخاطر، ومن ثم الاختباء في بيت أم يوليو، وتغير الظروف، تنقلب المعادلة.. هكذا تريدها الروائية نادين غورديمر المولودة سنة 1922 في جوهانسبرغ لأب تاجر مجوهرات وأم تنحدر من أصول بريطانية، والحاصلة على جائزة نوبل عام 1991، وهي من الكاتبات اللواتي كرسن حياتهن الأدبية لمناصرة قضايا الزنوج، وحاربت التمييز العنصري بكل أشكاله، ونددت بسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، واشتركت في حركة (الوعي الأسود).
تبدأ رواية (شعب يوليو) التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية عام 1994 من أحد الصباحات، حيث العربة تتأرجح على طريق الهروب وحيث النوم مضطرب يغشاه توقع هجوم في أثناء السير، ثم وصول العربة الى قرية من قرى الزنوج، وتبين الكاتبة خلال تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر مدى الفروق بين الحياة التي عاشوها كأسياد في بيت مريح متعدد الغرف، وحيث الزوج يعمل مهندساً معمارياً والزوجة في إحدى المؤسسات، وبين الكوخ القذر الذي لا يحمي من برد ولا من مطر، بأرضية غير مفروشة ووسائد قش.. أما العربة (الكرفان) التي كان الزوج قد اشتراها لمتعة العائلة فتصبح هي المنقذ في عملية الهروب، ومن ثم يتم استخدامها للنوم طيلة المسافة التي تقطعها العائلة الى قرية الزنوج.
بدأت ثورة الزنوج بإضراب لاتحاد العمال السود احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية، ثم تلاه إضراب آخر، وآخر حتى تطور الأمر الى انفجارات وأصبح إطلاق الرصاص من مفردات الحياة اليومية، وتزامن مع ذلك أحداث شغب وإشعال النار في الممتلكات الحكومية الخاصة والعامة، وصار البيض هدفاً إما للطرد وإما للقتل على أيدي مثيري الشغب.
رافق(يوليو) العائلة في هروبها، هو الذي قاد العربة للأماكن الأكثر أمناً حتى وصلت الى قريته واستضاف عائلة (بام) برغم ما قد يتعرض له من أخطار، ومن وقت لآخر كان يغطي العربة للتمويه في وقت كانت فيه طائرات الثوار القادمة من موزنبيق تواصل طلعاتها لتعقّب قوات البيض العسكرية.. كان يوليو يقوم بكل شيء، تحضير الطعام، جلب الماء والبنزين، والعناية بالأطفال، إنه ( عمل لا يمكن وصفه إلا بمعجزة) في تلك الظروف الصعبة.
لقد أصبحت عائلة بام بعد تلك السطوة والجاه لا حول لها ولا قوة، تتبع إرشادات الخادم يوليو دون اعتراض، راضية ومطمئنة لتوجيهاته.. وقبل أن يصلوا بر الأمان في القرية الفقيرة كانوا قد قطعوا 600 كيلو متر، تخلت أم يوليو للعائلة عن كوخها، وتعرفت مورين زوجة بام على عائلة يوليو، والتي سبق أن كانت تبعث لها الهدايا دون أن تراها.
إنه موقف صعب ذلك الذي وضع يوليو نفسه فيه، (فإذا استطاع أن يضمن قبول عائلته لذلك الوجود الغريب لعائلة بيضاء بينهم وأن يحملهم على التزام الصمت، فهو لا يمكنه أن يمنع الآخرين الذين يعيشون في الجوار من اكتشاف عربة رجل ابيض) من هنا يبدأ الصراع، صراع خوف عائلة بام وصراع يوليو من توجسات ما سيحدث بعد الهزة العنيفة التي أحدثها وصول العائلة البيضاء الى القرية المعزولة، حتى أن زوجة الخادم لا تخفي دهشتها وهي تردد: البيض هنا؟ ألم تخبرنا كيف يعيشون هناك؟ حجرة للنوم وحجرة للاستحمام وحجرة للجلوس وأخرى للكتب، حتى أنت لك حجرة وحمام في منزلهم، والآن تقول لي ليس هناك مكان؟
وخلال هذا الوقت الكل يهرب، والهروب له ثمن، منازل البيض تُحرق والقتال يستمر وسط المدن، المطارات تغلق والطائرات تقصف، الصليب الأحمر يصدر نداءات للتبرع بالدم ومصانع الغاز تشتعل، بينما أعضاء الكونغرس الأمريكي يطالبون بفتح جسر جوي لنقل الرعايا الأمريكان.
من تلك الساعات المريرة انطلاقاً الى قضية الزنزج وما رافقها على مدى سنوات من إذلال وعبودية تكتب نادين غورديمر مستحضرة كل ذلك الخوف وانعدام الفهم لدى الناس بضرورة التعايش بحب وسلام، والبغضاء التي تولدت عبر سنوات القهر والشروخ التي تركت آثارها في الروح الإفريقية، وتخلخل العلاقة بين السيد والعبد، تلك التي أملتها الظروف.
لقد أمسك يوليو بزمام أمر العائلة محافظاً في البداية على المسافة المتعارف عليها بينه وبين سيده، لكن بمرور الوقت أخذت العلاقة تلك شكلاً آخر، ليس فقط بالنسبة الى الخادم بل حتى العائلة، فالتغيرات التي حدثت إثر ثورة الزنزج وأحداث الشغب على الأرض لها ما يوازيها في الروح.. سلوك عائلة بام تبدل تبعاً لذلك، الأطفال من جانبهم تغيروا، صاروا يلعبون مع الأطفال السود ويتبنون معتقداتهم، ولورين تشارك القرويات في جمع النباتات من الأرض وتخوض مثلهن في الأوحال بعد أن كانت تتلقى دروساً في الباليه، وخادمهم يوليو هو الذي يقود العربة وينقل لهم الأخبار، أما بام وزوجته فيتأرجحان بين الثقة به والخوف من الوشاية بهما، ونحن القراء لا نملك إلا أن نتبنى الشك واليقين مثلهما في الوقت الذي ننحاز لكل ما هو إنساني في هذه الرواية التي كتبتها نادين غورديمر قبل عشر سنوات من حصولها على جائزة نوبل.
صورة مرئية أمام شاشة الخيال تلك التي نراها في رواية (شعب يوليو) عالم يعيش فيه البيض برفاهية لا يحلم بها السود ولا يسمع عنها فقراء القرى المنسية.. ما إن يحل الليل في تلك القرى حتى تختفي الأشياء في بحر من العتمة، مياه الأمطار تجد لها أكثر من منفذ الى أكواخ الفقراء، والنار المشتعلة في الموقد تملأ الأكواخ بالدخان، والزاد يكاد لا يكفي الأفواه الجائعة.. إنها صورة صادقة لتفاصيل يومية عاشها الزنوج تحت وطأة الفقر في بلد يمتلك ثروات هائلة من الذهب والماس والغابات والأنهار.
تقول الروائية ميشيل تروشان، وهي المترجمة لأعمال نادين غورديمر الى الفرنسية (إن الكاتبة تعرّفت على ثقافات عديدة جعلتها تشعر بقيمة الأدب، كما فهمت واقع الحياة في القارة الإفريقية وأحست أن البيض يحاولون محو العالم الحقيقي للأفارقة) وسئلت نادين غورديمر عن سبب تمحور كتاباتها حول الزنوج فقالت: لم أنس مجيء البوليس للبحث عن مربيتي السوداء واتهامها بتناول مشروبات كحولية كانت ممنوعة على الزنوج، ولم أنس ما حدث في المكتبة العامة التي لم يكن مسموحاً للسود بدخولها، مُنعت إحدى السيدات بالقوة من الدخول لا لشيء إلا لأنها سوداء، فكيف لا تصبح التفرقة العنصرية هي قضيتي الأولى؟
في رواية شعب يوليو استنفرت نادين غورديمر كل حواسها الوجدانية لتقدم لنا عملاً متقناً بلغة (مشحونة بالرمز والسخرية) كما يقول المترجم أحمد هويدي.. وكشفت النوازع الإنسانية والتناقضات الجوانية لشعب قرر أن يعيش.