محمود سعيد : ندى الفجر

mahmood saeed 4لأوّل مرّة في حياتها تنام برتني على رصيف شارع، بعيدة عن بيتها ومدينتها ألفي ميل تقريباً، قضت الليلة قلقة، استيقظت غير مرّة في الليل، تفتح عينيها، تجرُّ سحاب كيس النّوم، تتأكد من وجود مارتن قربها، تطمئن، ترجع إلى إغفاءتها بسرعة. قبل السّادسة صباحاً علا زعيق الشّرطة فجأة، انتفضت وهي في الكيس، وما إن فتحته رأت ألن، كيتي، مارتن يخرجون من أكياسهم مع الآلاف الذّين رقدوا مثلهم على أرصفة شوارع شيكاغو وساحاتها العامة، ابتسمتْ. رطوبة ندى الفجر الطّرية أنعشت حواسها، يا لرائحة الطّبيعة! يا للأريج الطّيّب! ثم تبدّد ذلك الشّعور بصراخ الشّرطة، زعيقهم، كلماتهم المسمومة وهم يلوّحون بهراواتهم: انهضوا. انهضوا أولاد الـــ. .
حينما استقامت ورتّبت حاجياتها في حقيبتها، سألها مارتن بدون أن تبادره، وهو يبحث بنظراته في واجهة شارع جاكسن: قهوة؟ ابتسمت، كانت هي أيضاً تبحث عن مقهى، لكنّ أرصفة الشّارعين المتقاطعين مليئة بالمستيقظين الباحثين عن قهوة وشيء ما يفتح الرّيق. ازدحام لم تتوقّعه، لم تستطع أن تتبيّن واجهة أيّ مخزن، مطعم، كانت متعبة، يكاد ظهرها ينقصف، ساق مارتن وألن عشر ساعات من لايندن إلى سياتل، وخمس ساعات في الطّائرة إلى شيكاغو، لابدّ أنّ جميع الوافدين إلى شيكاغو اليوم كانوا متعبين مثلهم، كان ألن وكيتي يتثاءبان، بدا ألن مسحوقاً يستدعي الرّأفة، أمسكت كيتي يده بحميمية وابتسمت، وعندما كانوا يسيرون جميعاً نحو الحديقة الكبرى كانوا يرشفون القهوة بسعادة، تساءل مارتن وهو ينظر نحو ألن وكيتي: ترى كيف يبدو مارك بعد كلّ تلك المدّة؟
كانت كيتي تلفّ ساعدها حول خصر زوجها ألن: لا أدري.
حدّق زوجها بها :ماذا تتوقعين؟
ابتسمتْ، لم تجبْ، قال ألن عوضاً عنها: لابد أنّه ظلّ وسيماً رائعاً قويّاً.
قبّل ألن كيتي في فمها قبلة خاطفة: كنت أحسده على كيتي كثيراً.
ابتسم مارتن بسعادة، قالتّ برتني: كلّ الشّباب كانوا يحسدونه على كيتي، كانت وما زالتّ أجمل امرأة في مدينتنا الضّغيرة.
أحمرّ خدّا كيتي، توهّجت عيناها، اغلقتهما برهة، ثم نظرت إلى مارتن بحبّ وشدّت خصره: كنتم جميعاً تلتهمونني بنظراتكم الوقحة.
قهقه ألن: نعم، كنت أعتبرك أملاً لا يرتجى.
التّفت مارتن، نظر إلى ألن: كلٌ يبحث عن كنزه حتى يجده.
هبّ نسيم بارد من جهة البحيرة هامت عينا ألن في الماضي، تأرجحت ذكريات لاندين وبرودتها، قفزت طفولته أمام عينيه. كرات الثّلج تنقذف بكلّ قوّة. من يرمي أبعد؟ هييــــي. أنا. تتدّفق الضّحكات، تتوجّه القذائف نحو الوجوه كلّها. مرح هائل، يهرب الضّارب ويتبعه الآخرون، صياح. تماثيل الثّلج، يشتركون جميعاً بصنعها، ألن ينهيها بلمساته الفنيّة الرّائعة. يختار حصاتين معبرتين في العينين حتى لتبدوان وكأنّهما حيتان ناطقتان، يقفون أمام النصب ويصفقون، يدورون حوله، يعبدونه، يصرخون، يرفعون أيديهم إلى السّماء وينحنون نحو الأرض. مارك وحده يحطّمها، يحطّم كلّ شيء ويهرب. يتبعه الآخرون لكن من دون جدوى. حين يأتي يستعر العراك، يتغلّب على الجميع ويهرب، مرّة واحدة كمنوا له لكنّه بعد كرة ثلج واحدة صعقته بقوّة في وجهه، رجع على أعقابه، ثم فأجأهم بعد قليل وحطّم الغزال الذّي أقاموه طيلة يومين. في البدء كانوا كلّهم يلعبون معاً، في المدرسة، خارج المدرسة، يلعبون حتى يستدعيهم الأهل، ثم حدث التّغيير من غير أن يحسّوا به، انكفأت الفتيات بعد العاشرة على بعضهن، انسحبن، لكنّهم لم يبتئسوا، خلقوا عالمهم المستقل، ولم يدرِ أيّ منهم متى بدأت تكتلات أخرى تنشأ، بعد سنة، سنتين، لا أحد متأكد، بدأت صداقات تختلف عما قبل: قُبل، ضمّات، عناق، غيرة، عراك، مؤامرات، مقالب توجد ذكريات مستقلة، لكنها كنيازك السّماء لا يمكن تحديدها بوقت أو مكان، ربما يستطيعون وسمها بكلمات، لكنّها ملأت حياتهم بفرح لا ينتهي حتى يبدأ، بقيت ذكرى ساعاتها تدفئ الشّرايين.
ابتسم ألن، نظر نحو مارتن: ألا تتذكر نحن شباب لايندن، كيف كنا نتنافس للحصول على نظرة من كيتي، قهقه مارتن وهو ينظر إلى زوجته برتني: أنتَ لا أنا.
ضحكوا جميعاً، استمر ألن وكأنه لم يسمع شيئأً: أحببُتها من النظرة الأولى، لكنّها كانت تحبّ مارك. مارك ابن عمي، صديقي، لولاه لما تعرّفت إليها، كنت أتمنى لو تعطف عليّ مرّة واحدة بنظرة، حتى لو كانت غير مقصودة، ثم أُصبتُ بكآبة شديدة، أحسست أن لا حياة لي في لايندن بدون كيتي، غادرتها إلى سياتل، بدأت أعمل أربع عشرة ساعة يوميّاً حتى في العطل لأنساها، لم أرجع حتى ركب مارك مغامراته الأخيرة التي انتهت بالجنديّة ثم اختفى.
نظرت برتني نحو كيتي: والآن؟
– ماذا تقصدين؟
لم تقل برتني شيئاً لكنّ نظراتها كشفت بصراحة “أبقي منه شيء ما في داخلك؟”
أغمضت كيتي عينيها، ثم رشفت شيئاً من القهوة، لم تجب بأيّ كلمة، أسندت رأسها على كتف ألن كمن تريد أن تؤكّد أنّ مارك اختفى من داخلها.
حديقة شيكاغو الكبرى قرب بحيرة مشيكن مكتظّة بالقادمين، من شيكاغو، ضواحيها، بقية مدن الولاية، ولايات أخرى. ضوء الصّباح يزحف بهدوء، يغمر الفضاء الواسع حتى شارع الكونكرس من الجنوب، متجاوزاً نصب الألفيّة الهائل البشع، لم يعجب ألن، ولا مجموعته. ما إن رآه مارتن البارحة حتى نبر بحدّة: يا للقبح! كيف يبددون الملايين على نصب كريه كهذا؟
لم تعد الحديقة الكبرى مرتع نزهة، أصبحت خليّة نحل، انتشر المتطوّعون في كلّ مكان، حدّق ألن بهم: يالهم من منظمين!
بأيديهم كتيّب التّظاهرات الأسبوعية، ساعاتها، أيّامها، طرق سيرها. أمكنة التّجمع والانفضاض، الوصايا الملحّة. ورشات عمل متنوّعة، منبثّة في كلّ مكان من الحديقة، هناك انغمر بمهنيّة جادّة هائلة من يُعِدُّ لافتات خفيفة تحمل باليد عليها شعارات شتى: يا أعضاء الناتو أخزيتم مدينتنا باجتماعكم فيها. بؤس البشرية أن تعيش الرّأسمالية أطول مما تستحقّ، أزيلوا جيفة الحلف من مدينتنا، الناتو عدو الشّعوب، لا مجد إلا للسّلام. فجّروا النّاتو القذر. اللعنة على الحلف، قرود النّاتو يزنون بالشّعوب، لا لمصّ دماء الأمم الأخرى.
مئات يشاركون في صنع ما يعبر عن سخطهم من الحلف، يصنعون من المقوى صواريخ، طائرات، قنابل، تماثيل ملوّنة تمسخ السّياسيين إلى حيوانات مسعورة، بينما يتكرّر أكثر من غيره وفي ألوان لا تحصى شعار: دعوا الشّعوب تعيش يا مصاصي الدّماء.
في نحو العاشرة أعلن ميكرفون قويّ أن هناك خطباء مهمّون سيوجّهون خطابات قيّمة. تجمّع الآلاف حول منصّة في وسط الحديقة، ثم بدأ نساء ورجال نشطاء في جميع حقول حقوق الإنسان، البيئة، الحريّات العامّة، التّلوث، الفصل العنصري، الغلاء، أفغانستان، العراق. سياسيّون، أساتذة جامعات، مثقّفون، كتّاب، شعراء، رجال دين. أمريكان، أوربيّون، أسيويّون، أفارقة. شخصيّات تناضل من أجل استقلال حقيقيّ لدول العالم النامي: فلسطين، أمريكا اللاتينيّة. أخرى ضد القواعد العسكريّة الأمريكيّة، كوانتينامو، أبو غريب، شجب سيطرة الاقتصاد الأمريكيّ على العالم.
فجأت هُرعت الشّرطة، نحو ساحة الخطب، كوّنوا نصف دائرة قسمت الجماهير قسمين، قسم قرب المكرفون وقسم بعيد عنه، ثم عزّزوا قواهم فأصبحوا نحو سبعة صفوف عازلة.
تساءل مارتن مستنكراً: ما هذا؟
أجاب ألن: هذا رائع، بشارة خير، جاؤوا ليتثقّفوا. ضحك الآخرون. بحثوا عن مايك وهم يسمعون أصوات الخطباء يملأ الفضاء، قال ألن بفرح: قرأت اسمه على رأس المحتجّين من المحاربين القدماء الذّين يرومون إرجاع الأوسمة التي حصلوا عليها في حروب العقدين الأخيرين في العراق وأفغانستان.
– أين اختفى إذاً؟
– لا أدري. والمشكلة في هذا التّجمع الهائل أنّنا لا نعرف من نسأل عنه.
اقتربوا من المنصّة، لم يشاهدوا سوى أمرأة ستينيّة نحيفة جداّ ترتدي بلوزاً صوفياً بلون الزّبدة، وتنّورة جينز طويلة، وتضع على عينها عوينات كبيرة، كانت تقدّم خطيباً كلّ بضع دقائق. قالتّ برتني: لنقف على الرّصيف حينما تبدأ المسيرة لنرى المتظاهرين جميعاً.
– أيّ رصيف؟
فتح مارتن كتيب التّظاهرة، ثم رفع رأسه بعد ثوانٍ: لنرجع إلى تقاطع شارعي ستيت وجاكسون، ستمرّ التّظاهرة من هناك، هيّا، لم يبقَ لدينا سوى عشر دقائق.
بالرّغم من قصر المسافة إلا أن الحواجز المتعدّدة التي تسدّ الطّرق جعلتهم يصلون الشّارع في أكثر من نصف ساعة. وقف ألن على رأس قدميه، حدّق في الشّارع الطّويل، كان خالياً إلا من صفوف الشّرطة، صفّان في اليمين وصفان في اليسار، تبدو الصّفوف من بعيد خطوطاً زرق بطول أكثر من ميل. هتف من دون شعور: من أين جاؤوا بهذه القوّة المسلّحة، عشرات آلاف شرطيّ؟ أيعقل هذا؟
خوذ زرق، سود، حربيّة كاكيّة، قبعات الكاوبوي القهوائيّة، قبعات وقاية حوادث الدّراجات الناريّة، بزّاتهم الأنيقة والمخيفة معاً، هراواتهم! شرطة راجلون، شرطة على دراجات ناريّة، على دراجات هوائيّة، شرطة خيّالة يمتطون خيولهم بتمكّن وسيطرة كأيّ راعي بقر متمرّس. أعين تقدح شرراً، استعداداً، تحفّزاً للحرب، يقف في المقدّمة ضابط بيده هراوة قصيرة يضرب راحة كفّه بتشنّج تهيؤاً للعراك، كامراتهم تصوّر كلّ شيء. تساءلت برتني أيضاً: من أين جاؤوا بهذا الكمّ الهائل من الشّرطة؟ ثم ردّدت السّؤال بصوت خافت غير مرّة، كأنها تبحث عن جواب في داخلها يؤكد لها بأنّها واهمة، وما تراه ليس سوى خيال.
قال ألن: ربما انتدبوا المتقاعدين لهذه المهمّة.
ابتسمت كيتي: ربما أحيوا أمواتهم.
أكدّ عجوز بجدّ، كان يقف قرب ألن من الخلف: كلّنا نحبّ الشّرطة.
ضحك شابان كانا على يساره، قهقه ألن: ربما في بلد آخر.
أضافت كيتي: أو في حياة أخرى.
دوّامة مرح صافٍ لفّتهم في نكات متوالية استمرت حتى العاشرة، إذ فأجأهم حرّ قويّ، مضمّخ بشيء من الرّطوبة، انتقلوا إلى حيث مظلّة مقهى السّعادات الأربع الكبير، المنتصب على الجهة اليسرى من الشّارع. كان أمامهم شاشة جبّارة في أعلى تقاطع الشّارعين، بطول عشرين متراً، عرض أربعة عشر، صورة الزّعماء يتوسّطهم أوباما بين الأعمدة اليونانيّة الضّخمة، تقطع الإبتسامة وجهه قسمين، يحيطه زعماء الحلف، تلتها صورة أخرى، الزّعماء حول مائدة مستديرة، أمامهم قناني ماء، وأوراق بيض وأقلام، وعلامات اهتمام وفخر ونفاج بادية على وجوههم تعكس ما لديهم من قدرة جبارة تتوازى وسيطرتهم على مقدارت العالم، ملامح جادّة مكفهرة منحوتة على صخور صلبة جامدة، ثم صورة نساء الزّعماء والفرحة تغطي وجوههن في رحاب ابتسامة واسعة تملأ الأرض، توالتّ لقطات تعبّر عن قوة الحلف حاملات طائرات، صواريخ، انفجارات القنابل تمحق الإنسان والحيوان والطّبيعة في العراق وأفغانستان، مناورات تظهر قوّة الحلف كأعظم عصبة عسكريّة وُجدت في التّاريخ. من بعيد هلّت موسيقى حزينة لفتت الأنظار، ثم لاحت تباشير مسيرة صامتة، نحو خمسمئة متظاهر، يرتدون الأسود حداداً على ضحايا حروب الحلف الجبّار، واستهتاره بحيوات وشؤون شعوب الدّول الأخرى. قبل أن تنتهِ مسيرة الحزن الضّامت تدخّلت الشّرطة، أرغمت المتظاهرين على تحويل مسارهم إلى شارع آخر، فجأة تدّفق آلاف رجال الشّرطة مدجّجين بالسّلاح والهروات، نزلوا إلى جانبي الشّارع، وقفوا سدّاً مانعاً متجّهماً على حافتي المسيرة. لم يتركوا للمحتجين سوى ثلاثة أمتار في الوسط. أشار أحد الواقفين إلى ضابط في ستيناته يرتدي قميصاً أبيض على طرفي ياقته أربعة نجوم، ينظر إلى المظاهرة بغضب، قال: ذاك قائد الشّرطة في شيكاغو.
الهتافات في أوجها، على من يريد أن يتكلّم مع لصيقه أن يصرخ بصوت عالٍ، هتف مارتن: سنتأخر، ستضيع علينا بطاقة الطّائرة.
قال ألن: لا يهمّ أن نرى المظاهرة كلّها، المهمّ أن نرى مارك ونشاهد قسماً منها.
في نهاية مجموعة الصّامتين المحتجّين على الحروب مجموعة من الشّابات يرقصن ويغنين على أنغام موسيقى تصدح بمعاني السّلام، رقص، غناء، موسيقي، أمامهن شرطيّ يصورّهن بشريط سنيمائيّ قال ألن: حتى الرّقص والغناء مرفوض.
قالتّ برتني: إنّهن في نظره عدميّات.
فجأة علت موسيقى النشيد الوطنيّ، شُدّ الانتباه، لاحت من بعيد مجموعة المحاربين القدماء، تسبقهن لافتة بطول سبعة أمتار، ارتجفت كيتي وهي تقرأ الشّعار: ليتنا ما قتلنا الأبرياء.
هتفت برتني صارخة كالمجنونة فجأة: ذاك مارك. ذاك مارك. ذاك.
في الخطّ الأمامي شاب في بداية الثّلاثينات، وسيم، طويل، متين البنية، يجنح قليلاً إلى اليمين، التّفتَ الأربعة نحوه، طفقت ملامح كيتي تتغيّر، صبغت الحمرة وجهها، أخذت دموعها تهمي، ارتجفتْ، عانقت ألن بيسراها، شدّها إليه، بدأ هو أيضاً يرتجف، صرخ مارتن وبرتني من وراء حاجز الشّرطة مارك، مارك مارك، لوّحا له.
لم يلتفتْ إليهما قطّ، ينظر إلى الأمام مرفوع الوجه، صلب التّقاطيع، في عينيه لا مبالاة وضياع.
عاودوا الصّراخ كلّهم باستثناء كيتي مارك. مارك مارك، مارك.
لم يلتفت مارك نحوهم، حتى إذ حاذاهم على بعد متر واحد تقريباً صرخوا مرّة أخرى بقوّة مارك، مارك، مارك.
كان هناك غير واحد من الناس يصوّر الأحداث، وكانت هناك آلة تصوير سينمائية ضخمة، بيد ضابط شرطة يقف وكامرته على منصّة خلفهم بارتفاع متر واحد، كان بإمكانه لعلوه عن الأرض تصوير مساحة هائلة من الشّارع، يبدو أنّ رجل الشّرطة ومنصته وآلة تصويره جلبت نظر مارك، التّفت نحوها، حدّق بها بتحدٍّ، حينئذ لوّحوا كلّهم بأيديهم بحركات دائريّة هائجة سريعة. آنذاك نظر مارك إليهم، انتقلت عيناه بينهم واحداً واحداً، ابتسم فجأة، شعّت عيناه وملامحه الجميلة بألقٍ فريد. ثم اندفع بضع خطوات نحوهم بقوّة تاركاً صفه، بان في خطاه عرج واضح في رجله اليمنى، مدّ يده، وصلت أصابعه إلى أصابع ألن وبرتني، لكنّ الشّرطي القريب منه فاجأه بضربة قويّة من هراوته، أحدثت في الحال جرحاً بطول ثلاث سنتيمترات فوق عينه اليمنى، صرخ جميع من رأى الضّربة محتجّاً همجيّ، وحشيّ، متخلّف، شرطيّ وحشيّ.
تدفّق الدّم على وجه مارك، ثم ترنّح، سقط على الأرض، انحسر طرف بنطال ساقه اليمنى عن قدم صناعيّة مثبّتة في ساقٍ حديد، توقّفتْ مسيرة المحاربين القدماء. هرعوا إليه. أنهضوه. أسرع شاب بإسعافات أوليّة، مسح مارك الدّم عن عينه اليمنى بيده، ونظر نحو مجموعة ألن، أراد أن يبتسم، لكنّ الابتسامة كانت مثقلة بالألم، مدّ يده ثانية ليلمس أيّ يد تمتدّ من المجموعة إليه، فرفع الشّرطي هراوته ثانية وهو يكزّ على أسنانه استعداداً للضّرب، لكنّه فقد الهراوة فجأة، انتقلتْ بلمح البصر إلى يد مارك، أهوى بها على وجه الشّرطيّ فسقط حالاً على الأرض. هجم نحو أربعة أفراد شرطة نحو مارك، لكنّهم كانوا يسقطون الواحد تلو الآخر ما إن تطالهم ضربة منه.
اهتاج العراك، وسط تشجيع المشاهدين وهتافهم، حصل المحاربون القدماء على هراوات السّاقطين. لولا اندفاع منظمي المظاهرة وتدفّق مئات الشّرطة وسقوط بضعة متظاهرين على الأرض بينهم مارك إضافة إلى أربعة أفراد من الشّرطة، لما توقّفت المعركة. تضاعف جدار الشّرطة العازل حول الضّحايا السّاقطين على الأرض. حاولت المجموعة أن ترى ما حلّ بمارك عبثاً، ثم سمع صوت سيارات النجدة البشع، يطغى على الشّعارات، رأوا عمليّة نقل الأجساد الثّمانية. كانت كيتي وبرتني تبكيان بحرقة. بللتِ الدّموع وجه ألن، خرجوا من الازدحام بصعوبة. وقفوا بضع دقائق حيارى، تساءلت برتني وهي تمسح دموعها وتحاول السّيطرة على نفسها ماذا نفعل؟
قال ألن: جئنا لنرى مارك.
أجاب مارتن: لنذهب إلى المستشفى.
قال ألن: لنسرع ونأخذ تكسي تتبع سيارات الإسعاف، وإلا تهنا، شيكاغو واسعة فيها مئات المستشفيات.
لم تعطهم موظفة الاستعلامات إذناً برؤية مارك. أنزلوا حقائبهم الثّقيلة من على ظهورهم، جلسوا في غرفة انتظار قرب الباب، لم يكن فيها سوى رجل وامرأة قلقين ينتظران، سيارات الإسعاف تتوالى، رافق الممرضون بعد بضع دقائق خمسة مضروبين. أورام وجوههم بادية للعيان مع جروح تنزف، واحد فيهم لا يستطيع فتح عينيه. جيء بشاب في الخامسة والعشرين أشقر وسيم ذي شعر طويل تلطّخ الدّماء وجهه، مغلق العينين. بعد ذاك جاءت أربع سيارات إسعاف. فتاة في الثّامنة عشرة، عينها اليمنى قد اندلقت على وجهها، يصبغ الدّم وجنتها وحنكها. انفلتت من كيتي صرخة ألم وهي تشيح بوجهها. بعدها جاءت النقالة بشاب أسود يغطي الدّم أذنه اليسرى وصفحة رقبته، يده تضغط بشاش أبيض على الجرح. شاب نحيف مكسور الأنف والدّماء تملأ فمه وذقنه الملتحي. شاب أبيض تلوثّت ملابسه الخارجية والدّاخلية بدماء غزيرة. آخر رأسه ملفوف بالشّاش الأبيض منقوع بالدّم. فتاة في السّابعة عشرة تبدو من دون حراك ودماؤها تقطر من النقالة.
في القاعة تلفزيون ينقل دعايات طبيّة، أغفى مارتن وبرتني وألن، وحدها بقيت كيتي يقظة. توقّفت عن البكاء.
استيقظ ألن بضع مرات، كان يقرأ في مجلة الجغرافية الوطنيّة بعض الوقت، ثم يرجع لينام. بعد خمس ساعات سمحوا لهم برؤية مارك، كان رأسه ملفوفاً بالشّاش الأبيض، عيناه مغلقتان، أنابيب المحلول والدّم والماء مثبتة في أنفه وساعده، كانوا يريدون أن يتكلّموا معه ولو جملة واحدة، سأل ألن: أهو نائم؟
– لا. قالتّ الممرّضة الفليبينّة الشّابة.
هتفت برتني: لكن عينيه مغمضتان.
نعم. في غيبوبة، طلبنا سجله الطّبي من المصادر العسكريّة. هذه ثاني غيبوبة تحدث له. الأولى سنة 2006 بعد انفجار الفلوجة، هناك فقد سمعه وساقه.
هتفت كيتي: آه، لهذا لم يسمعنا.
انفجرت تبكي، سأل ألن: كم ساعة تستمرّ الغيبوبة؟
حدّقت فيه بألم لا أستطيع أن أقول لك. إسأل الطّبيب ديفاش.
أشارت إلى الغرفة السّادسة في ممرّ طويل، توقّفت برتني قريباً من الباب المسدود، بينما وقف الآخرون قرب الحائط، انتظروا نحو عشر دقائق، وحينما فُتح الباب، خرجت شابة في العشرينات، محتقنة الملامح، ساعدها مربوط إلى رقبتها، هُرع إليها الرّجل والمرأة اللذان كان ينتظران، تكلّما معها بالإسبانيّة، قال ألن، إنهم يسبّون الشّرطة. ثم هدر معهما بلغتهم، فاحتدّ صوت الرّجل، قال بالإنكليزيّة كنّا جميعاً على الرّصيف عندما هاجمها الشّرطي وكسر يدها.
حينئذ تنبّه الطّبيب الأسمر إلى برتني، أعادت استفسارها عن مارك، قال الطّبيب: دامت الغيبوبة الأولى ثلاثة أشهر، لولا أنّ جسده قويّ لمات، لا ندري كم ستدوم هذه.
هزّ رأسه يائساً، ثم أعطاهم أرقام هواتف المستشفى لكي يتّصلوا متى شاؤوا. تركهم مسرعاً، اختفى في دهاليز المستشفى، بينما كانت كيتي تحتضن رجل مارك الصّناعية وعيناها تهميان.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *