د. محمد جاهين بدوي:تَجْرِبَةُ العِشْقِ وَالاغْتِرَابِ في ديوان ” قَلِيلُكِ لاَ كَثِيرُهُنَّ” ليحيى السماوي
دراسة تحليلية (الحلقة الاولى)

1 – الشاعر:

هو يحيى عباس عبود السماوي، وُلِدَ بمدينة السماوة بالعراق في السادس عشر من مارس 1949م، تخرّج في كلية الآداب جامعة المستنصرية عام 1974م ، ثم عمل بالتدريس والصحافة والإعلام، استهدف بالملاحقة والحصار من قبَل البعثيين في النظام الصدّامي حتى فرّ إلى المملكة العربية السعودية سنة 1991م، واستقرّ بها في جدّة حتى سنة 1997م يعمل بالتدريس والصحافة، ثم انتقل مهاجرا إلى إستراليا؛ وبها يقيم حتى كتابة هذه السطور.

أو كما يعرّف هو بنفسه بلغته الشعرية في ذلك الحوار الذي أجري معه بالمجلة العربية السعودية: ” اسمي الثلاثي: يحيى عباس عبود.. انتقلت من رحم أمي إلى صدرها بتاريخ 16/3/1949م في بيت طيني من بيوت مدينة السماوة.. أحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، وظيفتي الحالية: فلاَّحٌ في بستان الأماني، أو: صياد ، غير ماهر، أنصب شباكي وفخاخي في حقول الحلم، أملاً في اصطياد هُدْهُدِ فَرَحٍ على غصن اليقظة في زَمَنٍ ذَبَح الحزنُ فيه عصافيرَ الأحلام..”

وعن حبه لمدينته السماوة مسرح طفولته وصباه وصدر شبابه وانتقاش صورتها في قلبه وذاكرته يقول: ” كانت مدينة السماوة، المكان الذي حُفرت تفاصيله في الذاكرة وبخاصة “حي الغربي”، بأزقته الترابية الضيقة، وبيوته الملاصقة تلاصق قطيع ماعز في طريق ضيق.. ولأنني كنت ابن بقال فقير، فإنه لم يكن بمقدوري الحلم بزيارة بغداد التي أسمع عنها كما لو أنها تقع في قارة أخرى”

وفي هذه البيئة البسيطة بتكوينها العميقة بفطريتها وبكارة مشاعرها نشأ السماوي متشربا أفاويق البراءة والأمان والتكافل الاجتماعي، وإلى ذلك يشير بقوله: ” تعلمت من تلك البيئة أن التكافل الاجتماعي هو أعظم الأسوار والحصون لدرء المخاطر، وأن التقوى وحدها الكفيلة بسكب مياه الفرح في دوارق الروح، وأنه ليس ثمة ما يُثري فقر الجسد كغنى الروح، وتعلمت من تلك البيئة أيضًا، أن بذرة الصدق، هي الطريق الأسهل لاقتطاف ثمرة النجاح “.

2- إصداراته:
أصدر السماوي حتى الآن أربعة عشر ديوانا شعريا وكتابين نثريين، يُعَدُّ ديوان ” قليلُكِ لا كثيرهنّ ” من أواخرها؛ فقد أصدره في طبعته الأولى بمدينة سيدني بإستراليا سنة 2006م.
وهذه هي الإصدارات الستَّةَ عشر مرتبة زمنيا على النحو التالي:
1- عيناكِ لي دُنْيَا، بالعراق سنة 1970م.
2- قصائد في زمن السبي والبكاء 1971م.
3- قلبي على وطني 1992م.
4- من أغاني المشرد 1993م.
5- جرح باتساع الوطن ( كتاب نثري ) 1994م.
6- الاختيار 1994م.
7- عيناك لي وطن ومنفى 1995م.
8- رباعيات 1996م.
9- هذه خيمتي.. فأين الوطن؟ 1997.
10- أطْبَقْتُ أجفَاني عليكِ. 2000م – إستراليا.
11- زَنَابقُ بَرّيَّةٌ (رباعيّات). أغسطس 2003م – إستراليا.
12- الأُفُقُ نافِذَتِي. أكتوبر 2003م بإستراليا.
13- نقوشٌ على جِذْعِ نخلةٍ 2005م.
14- قَلِيلُكِ.. لا كَثِيرُهُنَّ 2006م إستراليا.
15- البكاء على كتف الوطن. دار التكوين سورية 2008م
16- مسبحة من خرز الكلمات ( نصوص نثرية ) دار التكوين، سورية 2008م .

والناظر المتأمّل إلى هذه الإصدارات للشاعر، وتواريخ صدورها في طبعاتها الأولى تتجلّى له منذ اللحظة الأولى أمور كاشفة في سياقها الفنّيِّ والتاريخي في سيرة شاعرنا، والتأريخ لأطوار تجربته الشعرية.
أولها: أصالة موهبته الشعرية، ونضجه الفنيّ المبكّر، فقد أصدر مجموعتيه الشعريتين الأوليين ” عيناكِ لي دُنْيَا ” سنة 1970م و ” قصائد في زمن السَّبْيِ والبكاء ” سنة 1971م أي قبل تخرّجه في كلية الآداب جامعة المستنصرية سنة 1974م؛ وهذا يعني أنه كان على أعتاب الجامعة عندما أصدر مجموعته الأولى، وكان في السنة الأولى من دراسته الجامعية تقريبا عندما أصدر مجموعته الثانية، وهذا ينبئ عن موهبة أصيلة ناضجة آتت يانع ثمارها وهي في هذا الطور من صدر شباب الشاعر، وتشكّل الكثير من أفكاره ورؤاه الثقافية.
وثاني هذه الأمور: هو تتابع إصدارات الشاعر وتواترها زمنيا على نحو لافت، فما يكاد يمرّ عام حتى يصدر مجموعةً شعريةً، بل ربّما يصدر في العام الواحد أكثر من مجموعة، وهذا ينبئ كذلك عن تدفّق ينابيع موهبة الشاعر، وغزارة روافدها التي تمدّها ببواعث الشعر ومثيراته.
وثالث هذه الأمور: وهو ما يلفت نظر القارئ لأول وهلة كذلك، وهو دوران عامة دواوين الشاعر في فلكِ تجربةٍ شعرية أصيلة محورية في شعره، قد تتعدّد وجوهها، وتتباين معارضها ومجاليها، ولكنها تصبّ في نهر كبير أثير لدى شاعرنا، وهو نهر تجربته الوطنية التي تهيمن على آفاق الرؤية الشعرية عنده، وتلوّن كافة صورها وتشكيلاتها الشعرية.
ورابع هذه الأمور: وهو ما يجدر بنا أن نتوقّف عنده في هذا السياق، وهو هذه الهُوّة الزمنية التي بلغت نحو عشرين عاما في سلسلة إصدارات الشاعر من سنة 1971م سنة إصدار مجموعته الشعرية الثانية إلى سنة 1992م زمن إصدار مجموعته الشعرية الثالثة: ” قلبي على وطني ” بعد خروجه الأوّل من العراق إلى السعودية، وهذا ما دعا إلى التساؤل عن سرّ هذا الصمت الطويل في طور من أخصب الأطوار العمرية والفنية في تجربة شاعر مثل شاعرنا السماويّ، وقد كانت هذه الهوّةُ – في رأيي – كُوّةً نفذتْ من خلالها الكثير من الأضواء الكاشفة على حياة الشاعر في هذا الطور الذي عانى خلاله ألوان المرارات وصنوف العذابات على الأصعدة كافة نفسيةً وحسيةً على أيدي زبانية النظام الصدّاميّ البائد، بدءًا من إقصائه عن ممارسة وظيفة التدريس واضطراره إلى العمل موظّفًا ببريد مدينة السماوة، والزّجّ به في أتون الحرب العراقية الإيرانية مع أن النظم كانت تقضي بعدم تجنيد المعلمين، مرورا بمتابعته وملاحقته والتحقيق معه، وتفتيش داره مرارا لا يدري هو نفسه عددها تحديدا لتكرُّرها، وهو ما عبّر عنه بقوله في رسالةٍ للباحث: ” لا أعرف عدد المرات التي أجرتْ فيها مديريات الأمن والاستخبارات العسكرية تحقيقات كان يمكن أن تقودني نحو حفرة من حفر مقبرة سرية … لكني أعرف تماما أنني قد تحملت من صنوف التعذيب، ما يكفي لموت حصان سليم البنية … ” وفي هذا ما يكشف عن حجم الجحيم الماديّ والمعنويّ الذي نصبه النظام الصدّاميّ وزبانيته للشرفاء كافة في عصره، وما يكشف عن خطورة الكلمة والقصيدة في هذه المرحلة بوصفها جريمة من كبريات الجرائم في أثناء عهدٍ كان ذلك طابعه وديدنه، وهذا ما يفسّر صمت شاعرنا الظاهريّ، وإمساكَهُ عن نشر شعره وإذاعته في هذه الفترة، بل وإتلاف ما كانت تطاله أيدي أسرته من شعره وإعدامه خشية أن يتحوّل ذلك إلى ورقة إدانة تودي بحياة الشاعر، وتكون ذريعةً للمزيد من التنكيل به.
ثم يخرج الشاعر بعد فشل الانتفاضة الشعبية فارًّا إلى السعودية سنة 1991م ليستأنف نشاطه الثقافيّ والنضاليّ بها، ملتحقًا بإذاعة ” صوت الشعب العراقي ” المعارضة للنظام ، محررًا في قسم البرامج السياسية والثقافية – وكانت تُبَثُّ من مدينة جدة السعودية – آنذاك، ثم شرع ينشر المقالات والقصائد في المنابر الإعلامية والأدبية، داخل المملكة وخارجها.

* * *
3- الديوان:
” قَلِيلُكِ.. لاَ كَثِيرُهُنَّ ” هو الديوان قبل الأخير في سياق الإصدارات الشعرية زمنيًّا ليحيى السماوي في منفاه، وهذا العنوان ليس لإحدى قصائد هذه المجموعة، على عادة كثيرين من الشعراء، عندما يختارون عنوان إحدى القصائد المحورية في مجموعاتهم الشعرية لتكونَ وَسْمًا مُعرِّفًا، وملمحًا لافتًا، في إشارة فنيةٍ ضمنية منهم إلى أن هذه القصيدة أو تلك تمثل البؤرة الرؤيوية، أو الفضاء الشعريّ الأرحب في الديوان الذي يمثِّل بدوره طورًا من أطوار تجربة الشاعر فنيا وفكريًّا، ولكنه عنوان أُنْشِئَ قَصْدًا ليكونَ فُسْطَاطًا تستظلّ به قصائدُ الديوان جملةً، ذلك لأنه يحتمل في طِيَّاتِهِ الدلالية موقف الشاعر النفسي الذي هو عليه مقيم، وإن تقاذفته المنافي، وتهادته الفلوات، وهو أن ” قليل الحبيبة/ الوطن، وإن كانَ ” كَأْسًا من سَرَابٍ ” فهو اختياره الأخير، وهو وحده الذي يُروِّي مهجته، وينقع غُلَّتَه، وليس كثير الأخريات، وهذا هو المعنى الذي يقرره صراحة في قصيدة ” سَتُسَافِرِينَ غَدًا ” وهي القصيدة الرابعة من قصائد الديوان، وذلك حيث يقول:

إِنِّي لَيُغْنِينِي قَلِيلُكِ عَنْ كَثِيرِ الأُخْرَيَاتِ..
فَلاَ تَلُومِي ظَامِئًا هَجَرَ النَّمِيرَ..
وَجَاءَ يَسْتَجْدِيكِ كَأْسًا مِنْ سَرَابِكْ.

ولعلَّ في صياغة عنوان الديوان على هذا النحو ما يؤكِّد هذه الوحدة الشعورية، وثبات الموقف النفسيّ والفكريّ الذي اختطَّه الشاعر لنفسه في سائر دواوينه الشعرية السابقة، وفي هذا الديوان على وجه مخصوص.
والديوان من حيث الشكل والقالب الفني يضمّ إحدى وعشرين قصيدة، منها الإهداء، فهو عبارة عن قصيدة مستقلة، وهذه القصائد تتراوح بين الشكلين: التقليديِّ الأصيلِ ذي الشطرين والتفعيليّ، وإن غلب الشكلُ التفعيليّ من الناحية الكمية، فقد استغرق هذا الشكل ستّ عشرة قصيدةً، واستغرق الشكل الأصيلُ خمسَ قصائدَ طِوالاً، كما تراوحت رؤية الشاعر في هذا الديوان بين تجربة عشق الحبيبة / الوطن، والحبيبة المرأة، وتجربة معاناة النفي والاغتراب، مصطبغة كل تلك النماذج بغنائية عذبة، ووجدانية رقراقة تفيض بها تضاعيف قصائده عامة.
* * *
4- المحاور الرؤيوية العامة في الديوان:
1- تجربة عشق الوطن/ الحبيبة.
تتراوح تجربة الشاعر في هذا الديوان بين عدّة محاور رؤيوية أثيرة، تتناغمُ فيما بينها وتتضافر مُشَكِّلَةً فضاءات الرؤية الشعرية للسماويّ، يأتي في مقدمة هذه المحاور محور عشق الوطن/ الحبيبة، وهو محورٌ مهيمِنٌ أصيل متجذّر في تجربته الشعرية عامّة، يُنوّع عليه في سائر قصائده، ملوّنا آفاقها الشعرية بطيوفه وظلاله وتجلياته، وقَلَّ أن تجدَ في تجربته الشعرية، على امتدادها واتساع آفاقها، قصيدةً تخلو من بعض هذه التجليات، التي تتردّد أصداء الإحساس بالنفي والاغتراب في جنباتها رقراقة عذبة شجية، وتتفاوتُ متراوحةً بين الخفوت والجهارة، ولكنها تبقى هاجس الشاعر الذي يلفّع آفاق تجربته، ويلفّها بغلائل الوجد الشفيفة، ويرقرق في حناياها ماء الشعر العذب، ونسغ الأسى والحسرة والحنين الموّار بنفسه لا يخبو له أوار، أو تنطفئ له جذوة.
وتأتي تجربة عشق الحبيبة الوطن في مقدمة طيوف المشهد الشعري في ” قَلِيلُكِ لاَ كثيرُهُنَّ ” تلك التجربة التي يتماهى فيها الوطن مع الحبيبة، ويتشكّل عبر رسومها، ويتبدَّى في قَسَمَاتِها، وتغدو الحبيبة كذلك من بعض وجوهها، وفي بعض تجلياتها الروحية وطنًا للنفس، وسَكَنًا للفؤاد، وإنهما ليَتَمَاهَيَانِ، ويغدو أحدهما معرضًا تتجلّى على صفحته صورة الآخر في تواشج رؤيويّ حميم، حتى يصيرا في مخيلة الشاعر شيئًا واحدا، لا يُخَال أحدهما إلا متماهيًا بصورة الآخر، مصطبغًا بألوانه، وما ذاك إلا لحنينه المحرِّق إليه، وشدة إحساسه باغترابه عن ذاك الوطن، الذي يحمله بين جوانحه، ويجري منه مجري الدم في العروق، وإن ابتعد عنه دارا، وشطّ مزارًا، ولعلّ قصيدة ” تَمَاهٍ ” بكل ما تحتمله مادة هذه الكلمة بوصفها من مفردات المناطقة ومصطلحاتهم – تمثل هذا البُعْدَ الرؤيويّ والنفسيّ في تجربة الشاعر في هذا الديوان، وها هو ذا يفصح عن كُنْهِ هذا ” التَّمَاهِي ” وحقيقته فيقول:

بَيْنَكِ والعِرَاقْ..
تَمَاثُلٌ..
كِلاَكُمَا يَسْكُنُ قَلْبِي نَسَغَ احْتِرَاقْ.
كِلاَكُمَا أَعْلَنَ عِصْيَانًا..
عَلَى نَوَافِذِ الأَحْدَاقْ.
وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا..
قَصِيدَةٌ شَهِيدَةٌ..
وَجُثَّةٌ أَلْقَى بِهَا العِشْقُ..
إلى مَقْبَرَةِ الأَوْرَاقْ.
* * *
بَيْنَكِ والفُرَاتْ..
آصِرَةٌ..
كِلاَكُمَا يَسِيلُ مِنْ عَيْنَيَّ..
حِينَ يَطْفَحُ الوَجْدُ..
وَحِينَ تَشْتَكِي حَمَامَةُ الرُّوحِ..
مِنَ الهَجِيرِ في الفَلاَةْ.
كِلاَكُمَا صَيَّرَنِي أُمْنِيَةً قَتِيلَةً..
وَضِحْكَةً مُدْمَاةْ.
تَمْتَدُّ منْ خَاصِرَة السُّطُورِ..
حَتَّى شَفَةِ الدَّوَاةْ.
كِلاَكُمَا مِئْذَنَةٌ حَاصَرَهَا الغُزَاةْ.
وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا تَرْتِيلَةٌ تَنْتَظِرُ الصَّلاَةْ.
في المُدُنِ السُّبَاتْ.
* * *
بَيْنَكِ والنَّخِيلْ..
قَرَابَةٌ..
كِلاَكُمَا يَنَامُ في ذَاكِرَةِ العُشْبِ..
وَيَسْتَيْقِظُ تَحْتَ شُرْفَةِ العَوِيلْ.
كِلاَكُمَا أَثْكَلَهُ الطُّغَاةُ والغُزَاةُ..
بِالحَفِيفِ والهَدِيلْ.
وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا..
صُبْحٌ بِلاَ شَمْسٍ..
وَلَيْلٌ مَيِّتُ النُّجُومِ والقِنْديلْ.
* * *
لاَ تَعْجَبِي إِنْ هَرَمَتْ نَخْلَةُ عُمْرِي..
قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِئَ المِيلاَدْ.
لاَ تَعْجَبِي..
فَالجَذْرُ في ” بَغْدَادْ “.
يَرْضَعُ وَحْلَ الرُّعْبِ..
وَالغُصُونُ في ” أَدِلاَدْ “.
وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا..
شِرَاعُ سِنْدِبَادْ.
يُبْحِرُ بَيْنَ المَوْتِ والمِيلاَدْ “.

وهذا ” التماهي ” بين الحبيبة (المخاطَبَةِ والمنَاجَاةِ) ورموز الوطن وعلاماته التي تشخِّصه في القلب والعقل يأخذ علينا طريقنا منذ أول مقاطع هذه القصيدة ” الكاشفة” عن طبيعة تجربة الشاعر النفسية، وإحساسه الممضّ اللذّاع بغربته، فالحبيبة بينها وبين ” العِرَاقِ تماثُلٌ ” ووجه هذا التشابهِ الذي يبلغ حدّ ” التماهي ” بينهما أن كليهما يسكنُ قلبَ الشاعر، ويستقرّ في سويدائه ” نَسَغَ احتراق ” على ما في هذا التعبير من دلالة لاذعة كاشفة، تدلّ بما تحمله من مفارقة واخزة على عمق تجربة الشاعر النفسية المستعذبة المعذِّبة تجاهَ الوطن/ الحبيبة، أو تجاهَ الوطن والحبيبة في آنٍ، فهو يجد الإحساس بهما، متلبِّسًا به في هذه اللحظة الشعرية كذلك ” النَّسْغِ ” الذي يسري في أوصال النبات وأمشاجه فيمنحه الروح وإكسير الوجود، ولكنه – يا للمرارة – نسغ ” احتراق ” وإيلام وتعذيب !.
وكلتا الحبيبتين في لحظة الشاعر الآنية تلتقيان في أنهما أبعد من أن تُنالاَ، أو أن تَقَعَا في دائرة الرؤية البصرية، أو في مجال الإدراك الحسيّ للشاعر، وإن كانتَا ملء القلب والبصيرة، وهذا هو الأمر الذي يجعل الشاعر بينهما ” قصيدةً شهيدةً وجُثّةً ألقى بها العشقُ في مقبرةِ الأوراقْ ” بكل ما يحلّق في فلك هاتين الصورتين من معاني الشفافية والطهارة وهالات القداسة الروحية، وإيحاءات الموتِ المجازي، والعشق المحبَط، الذي ما يلبث أن يغدو سطورا محنطةً في دفتر، تصوّر حياةً افتراضيّةً بعدما أيأسها وأعنتها أن تصيرَ على أرض الواقع حياةً مكتملة ناضجة، وكونًا حقيقيا تكتسب فيه طموحات الشاعر وأمانيُّه تحققها وذاتيتها الحقة.
وغَيْرُ خَافٍ ما في قول الشاعر ” وَهَا أنا بَيْنَكُمَا.. ” وهو التركيب الذي سيتكرر على نحوٍ لافتٍ في المقطعين التاليين، وكأنه لازمةٌ محورية تقرّر في جلاءٍ بينيّة موقف الشاعر النفسي بين الحبيبة والوطن، وأنه ماثلٌ بينهما على الأعراف، فلا هو سكن إلى صدر الحبيبة، ودفء حضنها، ولا هو قرّت عيناه فاكتحلت بثرى الوطن، ونعمت بأفياء خمائله، وأشذاء رياضه وجنّاته، وإنما هو على ” أَعْرَافِ الوَجْدِ” حُلمٌ مرتهنٌ، وكونٌ معلّق !.
ثم ينتقل بنا الشاعر في اللوحة الثانية إلى وجهٍ آخر من وجوهِ هذا ” التماهي “، وهو في هذه المرة، أو من هذه الزاوية الإدراكية ” تَمَاهٍ ” مع ” الفُرَاتِ ” شقيق العراق، وصنوه الوجوديّ، العتيق، العريق، وشريان الحياة، وعين الوجود في رؤية الشاعر، متماهيًا مع الحبيبة/ الوطن، بل ومتحققا وجوديا من خلال ذات الشاعر نفسه، تحسّ ذلك من خلال قوله: ” كِلاَكُمَا يَسيلُ من عَيْنَيَّ ” فالثلاثة الآن الحبيبة/ الوطن/ الفرات والشاعر قد صاروا ذاتا واحدةً، تتجلّى عبر مجالٍ عدّةٍ، وذلك عندما ” يطفحُ الوجدُ ” ويبلغ أقصى مداه، وذروةَ تفجره بنفس الشاعر، ويحتدم هجير النفي والاغتراب، ” وتشتكي حمامةُ الروح ” الطالبةُ السكينةَ ونعمى القرار من لظى المنافي، وأوجاع التشرّد، في تلكم اللحظة يتمظهر ذلك ” التماهي ” في صورة جديدة، وذلك من خلال أثره في نفس الشاعر، وما يخلعه عليه من هُوِيَّة متشظّيَةٍ متكسّرة مستطارةٍ في الأرض، مغرّبة في البلدان: المنافي، فإذا هو ” أمنيةٌ قتيلةٌ وضِحْكَةٌ مُدْمَاةٌ ” تتحقّقان على نحو منكفئٍ عاجز حسير، وتوجدان عدما نازفًا ” يَمتدّ من خاصرة السطورِ حتى شفةِ الدواةْ “.
وتلحّ على مخيلة الشاعر أطياف الطهر والقداسة، صابغة آفاق صوره، ورؤاه التشكيلية، فيلوّن بها صورة الحبيبة/ الوطن، فكلتاهما ” مِئْذَنَةٌ ” حاصرها الطغاةُ من الداخل، والغزاةُ من الخارج، فهي محبوسة التكبير والتهليل، مخنوقة النداء، مشنوقة الصلوات، ثمّ يقرر على نحو مكرّر مؤكِّدًا تشظّيه وتمزّقه بينهما: الحبيبة/الوطن، ومُثُولَهُ بينهما على نحو عدميّ هناك على أعراف الوَجْدِ تارةً أخرى ” وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا تَرْتِيلَةٌ ” معلّقَةٌ في خاطر صلاةٍ مؤجلةٍ ” في المُدُنِ السُّبَاتْ”. وليُتأمّل ما في هذا التركيب الأخير، وما ينطوي عليه من احتراسٍ ذكيٍّ يشي دلاليًّا بما يُجِنُّه من تفاؤل مستكنّ، كما تستكنّ شذرات النيران تحت كثبان الرماد، فالمدنُ السُّبَات، على الرغم من إغراقها في غيبوبتها، وفقدها وعيَها، أفضل من المدن الموات، فالنائم يُنتظر له أن يصحو، ويرجى له أن يفيق، مهما طالت غيبوبته، ولو قال مثلا: الموات بدل السُّبَات لدلّ ذلك على تشاؤمه، بل على يأسه، وقنوطه المستغرق، من التغيير، وانبثاق فجر الإشراق والتنوير، وهو ما لم يفعله الشاعر، وهذا الصنيع يدلّ على مدى دقته التعبيرية، ويقظته في تشكيل أبعاد رؤيته الشعرية، وتجربته النفسية.
ثم ينتقل الشاعر في المعرض الثالث من معارض هذا ” التماهي ” بين الحبيبة وملامح الوطن وقسماته المائزة، وهو في هذه اللوحة المشهدية بين الحبيبة و” النَّخِيلِ ” رمز الشموخ والخصب والعطاء والتحديّ، فبينهما ” قَرَابَةٌ ” وآصرة رُحْمَى، تعززها وتوثّق علائقها صور الحاضر، ومشاهده الدامية المروّعة، وصرخاته المعولة، فكلاهما ينام ” في ذاكرةِ العشبِ ” وأزمنة الاخضرار الجميل، ويفيق على صرخات الروع والفزع، وإعوال الثكل، وبكاء اليتم، ومشاعر الفقد والضياع، وشاعرنا بينهما على الأعراف من جديد مطموس الهويّة، مقطوع الوشيجة، ضائع الملامح والقسمات، ” وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا صُبْحٌ بِلاَ شَمْسٍ ” ينتظر تحققه وخلاصه وانعتاقه، و ” ليلٌ ميِّتُ النجومِ والقنديلْ ” ضَلّت هواديه، وتاهت علاماته، في حلكة الظُّلْمِ والعسف البهيم.
ويظهر هنا بجلاء طغيان عاطفة الأسى، وغلبة مشاعر اليأس على الشاعر من خلال قوله: ” ولَيْلٌ مَيِّتُ النُّجُومِ والقِنْدِيلْ ” فلقد قرّر الشاعر صراحة موتَ النجوم والقناديل في نفسه، وهي عبارة تدلّ على يأس مهلكٍ قتّال، فلقد انطفأت في نفسه صورتا الإشراق والهداية علويّةً كانت ممثلةً في ” النجوم ” أو أرضيةً ممثلةً في ” القنديل “.
ولكنه على الرغم من ذلك يعود فيؤكد من جديد في المقطع الأخير الذي تتماهى فيه ” نخلةُ عمره الهرمة منذ الميلاد بالنخلة البغدادية ” بقاءَه مصلوبًا بين جذره البغدادي، بكل ما تعنيه كلمة الجذر من ثبات الأصل ورسوخه في تربته: رحم النطفة الأولى، وإن كان يرتضع منه وحلَ الرعب، ويعبّ من مستنقع عسفه وذله الآسن – والغصونِ في مهجره ومنفاه الإستراليّ في أديلايد، مبحرا في رحلة سندبادية عبثية غير نهائية تموج بالأهوال والمخاطر بين ” الموتِ والميلاد “.
وليُتأمّل بصورة خاطفة لامعةٍ سرّ تقديم الموتِ على الميلاد في هذا السطر الختامي الأخير في القصيدة، ولا يقولنّ قائل: إن ذلك لمحض حرص الشاعر على القافية، وإن كان ذلك كائنا من بعض الوجوه، ولكنّ المعنى الأعمق المقصود والمرميّ إليه في هذا التعبير إنما هو البدء بالموتِ/الرعب والفزع، وإن كان ذلك من نقطة الميلاد الحقيقية، إلى الميلاد/الموت/ النهاية/ البداية الحقيقية للانعتاق وخلاص الروح من إسار المنافي الجسدية تارة، والكونية أخرى.
وفي هذه القصيدة – كما رأينا – يتجلّى مدى إحسان الشاعر وإجادته اختيار عنوانها، بوصفه فسطاط القصيدة، أو عمود خيمتها الذي تشدّ إليه كافة خيوطها، ويهيمن على آفاق الرؤية فيها، مشكِّلاً فضاءاتها وأبعادها الدلالية، وكذلك تتفرّع عنه هذه التماهيات عبر العديد من المجالي، منها تماهي الحبيبة بالوطن العراق/الفرات/النخيل، وتماهي ذلك كله بذات الشاعر، وتجلّيه من خلالها، وتجلّيها هي الأخرى من خلاله، وانعكاسها من خلال شعره كله صورا رائعة الجلاء، رقراقة اللحون والأصداء.
وثمة في هذا السياق ثلاث خصائص فنية يجدر بنا أن نسجلها قبل أن نَدَعَ الحديث عن قصيدة ” تَمَاهٍ ” لكونها مياسمَ أسلوبيةً أصيلةً ولافتةً في تجربة هذا الديوان من الناحية الفنية.
أما أولاها: فهي أن هذه القصيدة يمكن نسبتها من حيث الشكل الفنيّ والمعماريُّ إلى ما أسمته نازك الملائكة باسم ” الهيكل الذهنيِّ ” الذي ” ينتقل فيه الذهنُ من فكرةٍ إلى فكرةٍ أخرى خارج حدودِ الزمنِ ” ، وهذا هو الهيكل الأنسب لموضوع القصيدة وفكرتها، لغلبة النزعة الذهنية عليها، وحرص الشاعر على حشد ألوان التماثل بين محاور الرؤيا فيها، من خلال الآلية التي اتبعها في مقاطع القصيدة، وهذا هو الهيكل الذي ناسبه ذلك الختام الذي بلغ ذروة التوتر والاحتدام العاطفيّ والانفعاليّ في المقطع الأخير الذي قرّر فيه الشاعر تمزّقَه على نحوٍ مأساويّ بين هذه المجالي، على الرغم من تعددها، وبُعْدِ ما بينها بُعْدَ وضّاحِ المشارق عن غائر المغارب.
وأما ثانية هذه الخصائص: فهي آلية التكرار، وقد تنوّعت هذه الآلية في شكولها في القصيدة، ما بين تكرارٍ للفظة المفردة ” بَيْنَكِ والعراق.. بَيْنَكِ والفُرَات… بَيْنَكِ والنَّخِيلِ.. ” وتكرار التركيب كما في قوله: ” وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا… “، وتكرار النسق النحويّ، والهيكل الفني على الجملة في كلِّ مقطع، وقد تجلّى ذلك من خلال آلية بنائه لكلِّ مقطع يستهلّه بالظرف “بَيْنَكِ ..” وما أضيف إليه، ويستتبعه، من ملابسات إسنادية، ولواحق متماثلة في طريقة التركيب النحويّ، حتى نهاية المقطع وختام المشهد، وهذه الطرائق الثلاث من التكرار شديدة التناغم والتساوق فيما بينها، فتكرار المفردة كان سبيلاً وفاتحةً للتنوّع المشهديِّ، والتنوّع المشهديّ جاء متضمِّنًا ومشتملاً على طائفة من ألوان التكرار في التراكيب والصياغات الداخلية، وما ذلك كله عند التأمل إلا إفصاحًا ضمنيًّا عن رغبة ملحّةٍ، مسرفةٍ في الإلحاح، من الشاعر على المستويين: الذهنيّ والنفسيِّ، تجاه الحبيبة الوطن، والوطن الحبيبة، وما قد صارا إليه من كونهما وجهين لحقيقة واحدةٍ، يبرهن على ذلك بما وسعه من الوسائل الفنية، والتقنيات التشكيلية.
وأما ثالثة هذه الخصائص: فهي توظيف الشاعر البارع لآلية اللعب الحرّ على المتقابلات لنقل إحساسه بحدة المفارقات في تجربته الشعرية، وهي آلية طالما نوّع شاعرنا، وينوّع عليها بنجاحٍ فني، كما رأينا في مثل قوله: ” نَسَغَ احتراق .. أُمْنِيَة قتيلة .. وضحكة مدماة.. وترتيلة تنتظر الصلاة.. وصبح بلا شمس.. وليل ميت النجوم والقنديل “، وكما سنرى لاحقا في مواضع عديدة من نماذج هذه المجموعة الشعرية.
* * *
ومن هذه النماذج التي تندرج رؤيويا بين قصائد المحور الأول: عشق الحبيبة/ الوطن، هذا الذي تتراسل خلاله طائفة من المفردات المعجمية مُعبِّرةً عن تجربة شاعرنا الروحية، ومدى تهيامه بهذه الحبيبة المحورية في شعره، وتحرّقه حنينًا إليها – قصيدته: ” سَتُسَافِرِينَ غَدًا”، وفيها يناجي هذه المعشوقة المتماهية بمفردات الأنثى، المتبدِّية في ثيابها، في ضراعة الخاشع المتبتّل في محرابها، الذي قد أرهقه الترحال من أمره كل العسر، فجاء يلقي بمواجعه على أعتابها، معلنا أن نهاية فراره منها، إنما هو فِرَارُه إليها، وقَرَارُه فيها، وإن كان حبيسًا خلف أسوارها، أو جَنِينًا في تربتها، يقول:

” الآنَ أرْفَعُ رَايَةَ اسْتِسْلاَمِ قَلْبِي..
جَهِّزِي قَيْدِي..
خُذِي بِغَدِي..
لأَخْتَتِمَ التَّشَرُّدَ بالإقامَةِ..
خَلْفَ بَابِكْ.
جَفْنًا تَأَبَّدَهُ الظَّلاَمُ..
فَجَاءَ يَنْهَلُ مِنْ شِهَابِكْ.
وَفَمًا تَوَضَّأَ بالدُّعَاءِ..
لَعَلَّ ثَغْرَكِ سَوْفَ يَهْتِفُ لِي..
” هَلاَ بِكْ “.
لاَ زَالَ في البُسْتَانِ مُتَّسَعٌ لِنَارِكِ..
فَاحْطِبِي شَجَرِي..
عَسَى جَمْرِي يُذِيبُ جَلِيدَ ظَنِّكِ..
وَارْتِيَابِكْ.
إِنِّي لَيُغْنِينِي قَلِيلُكِ عَنْ كَثِيرِ الأُخْرَيَاتِ..
فَلاَ تَلُومِي ظَامِئًا هَجَرَ النَّمِيرَ..
وَجَاءَ يَسْتَجْدِيكِ كَأْسًا مِنْ سَرَابِكْ.
فَإِذَا سَقَطْتُ..
مُضَرَّجًا بِلَظَى اشْتِيَاقِي..
كَفِّنِينِي حِينَ تَأْتَلِقُ النُّجُومُ..
بِثَوْبِ عُرْسٍ مِنْ ثِيَابِكْ.
وَاسْتَمْطِرِي لِي فِي صَلاَتِكِ..
مَاءَ مَغْفِرَةٍ..
فَقَدْ كَتَمَ الفُؤَادُ السِّرَّ..
لَوْلاَ أَنَّ شِعْرِي..
قَدْ وَشَى بِكْ “.

وفي هذه القصيدة تتجلَّى لنا عاطفتان في نفس الشاعر تجاه هذه الحبيبة، قد تبدوان متباينتين، ولكنهما متناغمتان كلَّ التناغم، متساوقتان مع طبيعة تجربته أشدَّ التساوق، وهما عاطفتا المحبة، والشوق العَرِم إلى الوصال، والتوحُّدِ بالحبيبة، والتخوّف من الختام الداميّ، والنهاية المأساوية، أو الاستشهادية في سبيل هذا الوصال، فهو يتوق إلى الحبيبة، ويحنُّ إلى حِضْنِها، ويعلن استسلامَ قلبه إليها، ودخوله طواعيةً وعشقًا في لذيذ قيدها، وشهيِّ إسارِها، طالبًا إليها أن تأخذَ ” بِغَدِهِ ” وما بقيَ من عمره، ليختتم فصول مأساته في التشرّد بين المنافي ” بالإقامةِ خَلْفَ بَابِهَا ” وفي هذا التركيب ما يُوحِي بتفضيله المكث في إسار الحبيب/ الوطن، وغيابةِ جُبِّها على كونه مطلق السراح، مشرَّدًا منفيًّا في مختلف الأنحاء والأقطار، بوصف ذلك نتيجةً شعوريةً حتميةً لمن عضّته نيوبُ الغربة، وحرَّقه هجيرُ المنافي، فإذا هو يرى بعد طول الشتات أن جحيم الوطن خيرٌ من جِنَانِ المهاجر والمنافي.
ثم يردف بذكر طائفة من الصور الاستعارية التي تعرب عن مدى تهيامه بهذه الحبيبة، وطبيعة تمثُّلِه لها ذهنيا وشعوريا، فهو ” جَفْنٌ تَأَبَّدَهُ الظَّلاَمُ ” وفي تعبيره بقوله: ” تَأَبَّدَهُ ” ما يشي بطول المدّة الزمنية التي قضاها الشاعر مُغَرَّبًا، وعميق وقع ذلك في نفسه، فكأن تلك السنوات لديه صارتْ أبد الآبدين، لا نهاية لآماده وأبعاده، وإذا هو – بكل هذا الظمأ الروحي – قد أتاها ” يَنْهَلُ مِنْ شِهَابِهَا ” وفي هذا التعبير بالنهل من أقباس نور الحبيبة ما يفيد صيرورة نارها التي هي مبعث نورها في نفسه ” مَاءً ” تقومُ عليه حياة روحه، وإكسيرًا أثيرًا لكينونته ووجوده.
ثم يردف بذكر صورة أخرى توحي بمدى ضراعته الخاشعة المبتهلة تشوّقًا إلى الحبيبة، فهو ” فَمٌ توضَّأَ بِالدُّعَاءِ ” الطهور، والصلوات الطيبات، لعلّ هذه الأدعية ، وتلك التراتيل أن تكون مجابةً، فينفتح له صدر الحبيبة، قبل أن يفترَّ ثغرها مرحِّبًا: ” هَلاَ بِكْ “، ولكنه على الرغم من كل ذلك الحنين المحرق لا يخفي عاطفة ” التخوّف ” من تلك الحبيبة، وإن كان مستعدًّا أن يقدّم ما بقي من روحه قربانًا بين يديها، وبرهانًا على أكيد محبته إياها، عسى أن تنجاب بعض غيوم شكوكها وارتيابها:

لاَ زَالَ في البُسْتَانِ مُتَّسَعٌ لِنَارِكِ..
فَاحْطِبِي شَجَرِي..
عَسَى جَمْرِي يُذِيبُ جَلِيدَ ظَنِّكِ..
وَارْتِيَابِكْ.

فهو على يقين أنها ليست الجنةَ المختارة بين جِنَانِ الدنيا، ولكنها الجنة المختارة لديه، وبستانُهُ على استعداد للاحتراق بنيرانها، بوصف ذلك خيارًا شعوريا أخيرا لسنوات النفي والاغتراب، لعلّ حرارة صدق عاطفته نحوها تذيبُ بعضا من جليد ظنونها التي تساورها، وشكوكها التي تتناوشها من كل جانب، ثم يعلن في صيغة حاسمة مؤكَّدَةٍ صريحة هذا الخيار الشعوري والوجدانيّ الأخير قائلاً:

إنّي ليُغْنِينِي قليلُكِ عن كثيرِ الأخرياتِ..
فَلاَ تَلُومِي ظَامِئًا هَجَرَ النَّمِيرَ..
وَجَاءَ يَسْتَجْدِيكِ كَأْسًا مِنْ سَرَابِكْ.

تاللهِ ما أعذب هذا الشعور، وما أرقَّ هذه العاطفةَ، وأرقاها، وأنبلَها، إنّ قليلَ هذه الحبيبة لدى شاعرنا، وإن كان وَهْمًا، لَيُغْنِيهِ عن كثير الأخريات، وإن كان حقا وصدقا، وإنّ كأسها – وإن كانتْ سرابًا خادعًا – لجديرةٌ بأن يهجر، من أجلها، كل ماءٍ عذب نمير، وإن حرّقه الظمأ، واستبدّ به لظاه !
إن صاحبنا السماويّ يلقي بنفسه شعوريا مستشهدًا في أتون هذه المعشوقة، مستحضرًا روعة الاستشهاد، وألق الموت في حضنها، وإن كان جحيما، على طريقة المتصوّفة الذين يرون الفناء سبيلاً إلى البقاء، وإهلاك النفوس في المحبة، سبيلاً إلى وجودها الحقيقي، إن السماويّ يصنع ذلك – في المقطع الأخير – ببراعة فنية فائقة إذ يقول: ” فَإِذَا سَقَطْتُ مُضرّجًا بِلَظَى اشتياقي ” وتأمّل سريعا هذه التقابلية اللافتة في معجمه، إذ يجمع بين ” مُضرّجًا ” و ” لظى الاشتياق ” وما في ذلك من مفارقة معبرة آسرةٍ – ثم ارجع البصر إلى جواب ” إذا ” المتمثل في مشهد هذا العرس وميقاته الذي ” تأتلق النجومُ ” فيه وضّاءةً هاديةً، مطرِّزَةً ثوبَ عرس هذا الشهيد، الذي هو من ثياب احتضانها إياه، واحتوائها له، وكأنَّ لحظة حلوله بين حضنها التي ترادف لحظة عرسه، إنما هي لحظة نهايته وزينته لهذا العرس الجنائزيّ!.
وإنه ليبتهل إليها في هذه اللوحة المشهدية طالبًا إليها أن تصلّيَ لأجله، مستمطرةً شآبيبَ الرحمة، وسحائب الغفران، فلطالما تكتّم فؤادُهُ سرّ محبته، وأعياه تكتم لواعجه وآلامه، لولا أن شعره قد أذاع ما تجنّ أضلاعه، وهل تستطيع الروضة الغنّاء أن تكتم مواجيدها فلا تبوح عشقًا، أو تفوح عبيرا؟!
وفي هذا النموذج – كما أشرت سلفًا – تمتزج العاطفتان: عاطفتا المحبة والتخوف، متناغمتين في نفس الشاعر في نهاية المطاف، فإذا التخوّف يغدو دافعًا إلى مزيد من المحبة، واستهلاك النفس فيها، وتقريب الروح قربانا أخيرا لهذه المعشوقة الأسطورية علها ترضى !
* * *
ومن القصائد الصريحة في نسبتها إلى هذا المحور: محور تجربة عشق الوطن/الحبيبة في شعر السماوي في ديوانه ” قليلُكِ لا كثيرُهنّ ” قصيدته: النَّفّق ” .
غير أن ثمة حقيقة فنية يجدر بنا في هذا السياق أن ننبه إليها، وهي أن طبيعة رؤية الشاعر التي تنتظم نماذج هذا المحور تشبه في طبيعتها طبيعة النسغ الذي يسري في سائر أوصال الشجرة السامقة ، أو النخلة الباسقة، فلا تكاد تتمحّض له أو تستقلّ به قصيدة دون أخرى، أو ديوان دون آخر، وإنما هي منبثة في تضاعيف قصائده، وثنايا تراكيبه، ملقية بظلالها على آفاقه وأجوائه، مهيمنةً على سائر رؤاه.
وإنما كان قصدنا في هذا التصنيف الإجرائي الإشارة إلى هذه الطائفة من القصائد التي يغلب عليها ميسمٌ دون آخر، وتظهر فيها علائمُ بعينها، محتجةً على سبيل الغلبة والظهور لأصالة تجربة ما في محيط رؤية الشاعر الأرحب، فمن الغبن لشاعر مثل السماوي أن يُنظر لنماذجه الشعرية عامة من منظور رؤيوي ومنهج قرائي واحد، يَسجن تجربته الشعرية الرحيبة في إسار شعر النفي والاغتراب فحسب، وإنما تجربة الرجل عند التحقيق والتأمل والقراءة المستأنية أرحب وأثرى وأخصب، وأغدق وأعمق، وهذا ما دعانا إلى اصطناع هذا التقسيم الإجرائي لقصائد هذه المجموعة على هذا النحو، في محاولة منا للكشف عن آفاق رؤيته الشعرية، وأبعاد تجربته النفسية في هذا الديوان خاصة.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *