
في الرواية عادة ما يتم توضيح الأفكار والسيطرة على الغموض وان بلغ حدا فوق المستوى المعهود عند المجتمعات البشرية ويتجاوز حدود صيغتها التقليدية ،لان الرواية في واحد من أهدافها تسعى أن تبث حياة تحمل بين طياتها سؤال كيانها الساعي إلى نتيجة ضامنة، عن ماض امتد إلى الحاضر وأبقى ملامحه تسود فيه، ويمكن ان تتصل هنا الفطرة كقيمة ذات كاتبة بقيمة الإبداع المتخيل، حيث تتجلى المعطيات تدريجيا ويتوضح المقصد ، ورواية ( سفر الثعابين ) مثال على نمط وجودي وجه أفكاراً منها ما هو غير نمطي ومتخيل نسبة كبيرة وشكلا اعتمد الخيال العام للذاكرة، وشخصيات منها ما هو كارتوني ليواكب التغيرات السريعة الإيقاع في بنية الحدث وتمثيل تفاصيلها المبهمة وغير التقليدية، أي إنها تمثل المحور في كيان الرواية، ومنها ما هو من دم ولحم ليضمن لكيان الرواية انسيابية مقنعة لتمثل شكل الرواية ومظهر الحدث ، والتي تمثل الهيكل في الرواية، وتميزت رواية (سفر الثعابين ) بأهمية في الاستهلال الواضح في الإيحاء وغير المنفرط لندرك المقصد الأساس للرواية مباشرة، واستهلال الرواية أراد أن يوهمنا من أول جملة ، حيث لا يبين لنا ماهية شخصيته ان كانت كارتونية او من دم ولحم ، فتقول الجملة الابتدائية ،( من عالم آخر يقدم كان نائما واستيقظ..)، ويشكل الاستهلال في العمل الروائي ميزة وأهمية ، وميزته هي التي يتمثل بها كعتبة اولى في الشكل الهندسي لكيان الرواية الداخلي ، وأهمية أن التلقي سيواكب الحدث تصاعديا بشكل تدرجي من خلال العتبة ولا يقفز إليه .
ان حميد الربيعي يستثمر حدثه غير المكرور والتخليقي من جهة اخرى، ويجعل نمو الحدث غير أفقي ليدعم مضمون شخصيته دون شكلها ويحقق عبر التخليق نشاطها التفكيري الحاد الإقناع غالباً ، وشخصية رواية ( سفر الثعابين ) تقريبا وجودية بتباين في المواقف ، فهو يشبه ( ميرسو ) بطل رواية البير كامو ( الغريب ) والذي كان يدخن ما يقتطعه من خشب السرير في سجنه ، وهذا حين يفرغ كيس تبغه يسعى لإبداله بورق الأشجار التي يمكن ان تلف كما السيكارة وهذا المستوى الوجودي حاد الإيقاع ، وحرية الشخصية داخل كيان الرواية تمنحها ميزات إضافية ، ومن المهمات الاستثنائية في هذه الشخصية ، انه فوق مستوى الواقع العام للحياة ، وهذا مهم في الرواية ،لأنها تجديد مستمر حتى بلوغ أقصى درجات المتعة وذروة الذائقة الجمالية ، ومن المهم ان يتحايل الروائي على الواقع ويقفنا أمام شخصية مبهرة تشدنا اليها بتواصل ونصير نراقب حركتها داخل كيان الرواية ، فكيف اذا كانت الشخصية تقفز كالغزال بين الصخور وبندقيته لاتفارق كتفه ، وثمة جانب مهم في زمن تلك الشخصية، حيث إن الآنية التي هي كزمن تمثيله واضح، يختلف هنا أيضا، فالحاضر قد يكون ماضياً وربما سحيقا، وحرية الفطرة ايضا عند تلك الشخصية تمنح الرواية حدوداً أوسع.
الرواية عادة ما تسعى عبر إدارة الروائي لسيرورة الحدث للتمييز بين الموضوعات الطبيعية التي تمتلك غاية داخلية وبين الأخرى التي على العكس من ذلك كالموضوعات الثقافية الخاضعة لغاية خارجية وقد تكون الغاية الداخلية فيها مبهمة، ورواية ( سفر الأفاعي ) ليست نمطية الحدث او متطرفة به ، لكنها تؤكد دلالة العنوان من جهة وجود سفر مضطرب، وخاصة أن هناك سياحة سردية ليست هي جزءاً مركزياً من الحدث او الثيمة ، بل ان حركة الشخصية الحرة وإيقاعها السريع تبثان في الحدث ذلك النمو الملمحي والوصفي الذي تتوضح به تلك السياحة ، وربما يبلغ السرد صفة تضاريسية أحيانا رغم الوضوح النسبي للامكنة ، او الاكتفاء بالإشارة إليها ، وان يكون هناك تضاريس سردية يكون الوصف اشاريا كي لا تفقد الشخصية نظامها وترتبك او تحلق بتلك السياحة ، وعلى الأخص في مناطق غير ماهولة ويتم خلالها مطاردة واقتناص المهربين عبر الحدود، لكن يبقى أساس افكار الرواية والتي هي ضمان لحياة تخيلها كاتب الرواية ان تبلغ بالشخصية حدود الاكتمال وتفسير مضمون تلك الشخصية وموقفها العام والخاص .
تتكون الرواية من ستة مقاطع تتناوب في الطول والأهمية والوصف ، وكل مقطع روائي يبدأ بعنوان دلالي أو إيحائي او يرمز إلى معطى معين، وتلك المقاطع في إشارتها الظاهرية لا تعطي انطباعاً تاماً او يشير الى مضمون الفعل الروائي ، والروائي حميد الربيعي ربما تقصد ان يجعله مفردة واحدة ، وقد بدأت الرواية بداية صحيحة جدا ، حيث ان دلالة المقطع الاول كانت مفردة (الأحراش) تشير الى فضاء يستوعب حدثاً ، فيما اجد بعض الروايات تبدأ باسم شخص من شخوص الرواية، وقد حدث هذا عند نجيب محفوظ في رواية (ميرمار ) ، لكن دربة نجيب محفوظ وثقافته الروائية تفهم ان اسم شخص هو أفق محدد ، فبدا السرد بمفردة ( الإسكندرية ) والتي كانت اول مفردة في الرواية ، وطبعا هي كمدينة تشير إلى أفق مفتوح ، وميزة الاستهلال المفتوح الافق مهمة لان التلقي يحتاج أن يبدأ متأملا ، وكما انك ليس من السهل أن تواجه حدثا متشعبا من افق ضيق ، حيث يصعب تواصل في التعبير المباشر عن الافكار , وكما ان القناعة لن تكون بمستوى ايجابي , ومن هنا تأتي ميزة استهلال او مفتتح رواية ( سفر الثعابين ) , والتي مضمونا هي رواية متفوقة في تخيل حدث يحتاج إلى إدراك واسع في استيعاب التفاصيل الجغرافية داخل المتن السردي ,ودقيق ايضا في تحديد ملامح تلك التفاصيل وصفا وإشارة , والاهم من ذلك كله دون أدنى انحياز عاطفي من الروائي للمكان , بل انصب الاهتمام على الجو العام لتلك التفاصيل , والتي تمثل مساحة لنشاط بصري للشخصية الأساس، او تعكس حركته عضويا , والتي امكانية ان تكون كارتونية جعلتها تتقدم الى مستوى الانموذج ، وهذا طبعا مؤشر اهمية وامتياز لراوية ( سفر الثعابين ) , والتي تميزت فيها فطرة الكاتب بالتناص مع الموهبة بعد تاهيل وحدة مشتركة، فكان الخيال الأدبي يتمثل بالشخصية الابداعية اي بالموهبة, التي تحتاج إلى أرضية او واقع أو ظل اجتماعي على اقل تقدير ، وكان المخيال هنا مدعوما بالفطرة ، فكانت الذاكرة ثرية ومتنوعة , وقد نشط الخيال الأدبي وعلى الاخص في سرد يصف تفاصيل طبيعة حدود دول ,والقصبات والقرى المنتشرة قرب تلك الحدود .
في المقطع الثاني كانت الرواية قد نحت الى نسق تاريخي ، حيث ان تاريخ الشخصية وتاريخ الكاتب متناصان في هذا الفصل او المقطع الذي اسماه الروائي حميد الربيعي ( الموكب ) ، وثمة مشترك فاعل تاريخيا وبرمزية واسعة يمكن ان تنتج معنى عميقاً او سطحياً على السواء ، واستفاد الكاتب هنا من النسق التاريخي مثلما استفاد منه محمد خضير في قصته ( الشفيع) ، والحضور الذي يشكله التاريخ هنا مهاب ، ولذا يجب الاهتمام بتلك الهيبة دراميا او رمزيا وعلى الأخص في الإطار التراجيدي وبعد المأساة ، وقد استغل حميد الربيعي الفطرة هنا في إطار الذاكرة التي تشكل المقابل الموضوعي للتاريخ ، وقد اهلت الفطرة فعل المضارع إلى استيعاب الماضي البسيط ، وكما امكن للفطرة استدراج الأسطورة الى بيئة النص الروائي ، والإطار الفني كان لابد للموهبة والوعي حيثيات التجربة من دور تكميل حتى بلوغ الماضي والحاضر من تجانس يغني مقطع الوصف , ويجعل الشخصية متوافقة مع طبيعة الانموذج الروائي عبر استيعابها للزمن ، كما ان هناك انعطافة أثرت العامل الجمالي حين امتزج التاريخي برميته الشجنة بالواقع المقلق، والتمازج بلغ حد التجانس الذي زاد في هذا المقطع جمالية وقيمة ابداعية، وطبعا هنا لابد من دور لقاء فطرة الكاتب التي أعادت صور التاريخ دون قصدية قد تؤثر على التجانس ان وجدت ، ولا حتى دفعت الفطرة عاطفة الكاتب دون تنظيم لها او أوجدت تبريراً خالياً انفعالياً برمزية غامضة، بل كانت الفطرة مثال الروائي التكميلي ، حيث الخيال عار دون الفطرة ، ودون منطق او موضوعية تامة .
المتن الحكائي في رواية ( سفر الثعابين ) خطاب حساس ، وهو ليس كثير التفاصيل والتشعبات ، ولكنه ممتع في اختياره لتفاصيل فيها رمزية متعددة الوجوه ، فحكاية تصف لنا بندقية قديمة نسبيا لابد من ان تثير تاملنا ونحاول استرجاع الماضي من خلال علاقتنا الإدراكية مباشرة ، او نعيد سؤالاً قد محي من ذاكرتنا ، فنحن لانعرف بشكل مباشر سبب استخدام البغال لتهريب السلاح ، والكيفية التي يتحول بها جندي قصير إلى دب نتن ، وهناك أسئلة اخرى يثيرها الخطاب الروائي في رواية ( سفر الثعابين ) ، وصراحة استفاد الكاتب من طبيعة التفاصيل تلك ليكتسب المكان هويته دون اخلال او عدم وضوح ،بل باقناع يواجهنا مكان النص الروائي ، وهذا صحيح جدا فالمكان افضل ان يشكل دلاليا ودون مباشرة بشكل فج ، فتفاصيل المسرودة وضحت معالمه وكذلك التضاريس ايضا هي اشارة لمناخه ، وكانت التفاصيل موجودة سيان مفصولة عن الانموذج الروائي ومشهودة ,او هو من يعبر عنها عبر التشكيل البصري لها وصفا , وحسنا فعل حميد الربيعي حين اتاح للخيال الادبي المساحة الأوسع في تخليق التفاصيل بدل الاستذكار الذي يجعل تبديها قاصرا جماليا ودلاليا ، وطبعا هناك مرجعية أساس للخيال الادبي قبل موهبة الكتابة والتخيل وهي الفطرة الادبية ، والتي هي صافية تمنح الروائي صورا نقية وربما بعد ذلك يكون الإطار الايدلوجي يوجد ويتحقق.
الرواية لم تشر الى زمن محدد ، وذلك راجع لان هناك فعل أمر ورد في السياق النحوي، ولكن دون تاثير سلبي على اللغة الروائية ، ونجد فعل الامر كان يفرض إزاحة نسبية على فعل الرواية سيان كان مضارعا مستمرا ام يكون ماضيا مستذكرا وغير متموضع ومشهود الحضور ، ولكن سيرورة الحدث زادت ميزة ، لان المضارع المستمر لا يمنح التلقي تأملا بتواصله ، وتكون طبيعة الحدث بتواصلها تقليدية ، والماضي أيضا يفقد قيمته ويكون خالياً من الاقناع ، او ربما يبلغ حدا سرياليا ، وهذا يعني ان فعل الأمر كان حلقة ربط منطقية ، وايضا له دور في تفعيل زمن الحدث ، وهنا نحدد مستويين من اللغة ، الأول منهما هو اطار اللغة العام ، والثاني منهما هو اطار اللغة الروائية ، والأول هو نحوي فيما الثاني ابداعي وجمالي ، وايضا ثمة فارق بين العضوي نحويا واللفظي علاماتيا او اشاريا او دلاليا ، وأيضا هناك فارق بين اللغة الروائية المباشرة واللغة الروائية الواضحة ، ومؤكد لكل منهما وظيفته التي قد تمنح الاداء ميزة ، ومؤكد ان اللغة الروائية تنساب سردا دون ثبوت في اطار محدد حتى في المتن الحكائي ، ورواية (سفر الافاعي ) امتازت بانسياب اللغة الذي لا يقف على طبيعة لغوية محددة ، وذلك عائد لطبيعة التفاصيل المختلفة تماما أحيانا وأخرى نسبيا وقد تطلب التنوع التام بين التفاصيل والتي بعضها مثيرة ، ومنها ما هو فيه رمزية حادة الإيقاع ، ان يتناوب السرد بين الإطار التقريري والإطار التعبيري حسب مقتضيات السرد ، وهذا ما زاد الرواية متعة وقيمة جمالية أيضا وجعل الحدث شيقا والشخصية من جهة التعبير كارتونية ، ومن جهة التقرير من لحم ودم ، وهذا ما دعم بلوغها صفة الأنموذج الروائي ، وقلما تبلغ الشخصية هذا الحد المهم والحيوي والمثير والجدلي أيضا