# وقفة على عنوان القصّة :
في جانب كبير من عمل الكاتب ، تتحدّد اختياراته النصّية الكلّية والجزئية التكوينية بعوامل لاشعورية ، بدءاً من العنوان ومروراً بمتن النص ، ووصولاً إلى خاتمته . والعامل اللاشعوري الأكبر الذي يتحكم بذلك يكمن في “خميرة” الرغبات المحبطة والمكبوتة اللائبة في ظلمة اللاوعي . لقد اختار الكاتب عنوان “زهر اللوز” لقصته هذه . ومن المؤكّد أن الثيمة المركزية لزهر اللوز كرمز لصبيّة علاقة الحب البريئة المبكرة والمجهضة ، هي التي حدّدت اختيار العنوان . لكن القاص – وهذا مؤكّد أيضا – كان قد وضع نصب عينيه الثيمة الكلّية المتعلقة بتصوير معاناة إنسحاق وجود بطله قاسم ، والمرارات المميتة التي جرّعها من كؤوس الإنفصال القسري عن حلم الطفولة ، والسلطة الطغيانية ، والحرب الوحشية ، والغربة في وطنه . ولو وضع القاص المعنى الجمالي الإيجابي لزهر اللوز ، كزهر جميل يكلل شجرة اللوز قبل أن يتم تلقيحه ، ليتحوّل لاحقا إلى ثمار اللوز اللذيذة . لكن ثمار اللوز لا تأتي كلها حلوة المذاق . هناك ثمار مرّة المذاق جدّا . وهذه الحياة الجائرة التي عاشها قاسم ، بعوامل خرابها المتنوّعة ، جعلت نصيبه النوع المرّ فحسب من ثمار زهر اللوز . ولابدّ أن القاص – وهو من بيئة “نباتية” إذا جاز الوصف – قد اختزن هذه الحقيقة في لاوعيه ليوفّر له عنوانا ً ورمزاً مزدوج العنوان يعكس حالة الخراب الشاملة . وبعيدا عن هذا الإفتراض ، وحتى لو كان اختيار الكاتب للعنوان قد جاء “تلقائيا” تماماً ، برغم أننا نقرّ بوجود “حتمية لاشعورية” ترسم أدق تصرفاتنا وأفكارنا ، فإن الإنطباع الإبتدائي الذي سيحمله القارىء عن العنوان “زهر اللوز” ، بجماليته المعروفة ، وثماره اللذيذة سيتصادم مع الحرقة الإستقبالية المقبلة التي ستنبني على المعنى الكلي بعد إكمال النص ، والمتمثل في ضياع زهر اللوز وسحقه في حياة قاسم ، في الواقع من خلال جور السلطة والإنفصال والرحيل والحرب ، وفي الطبيعة من خلال غولة الحرب التي خرّبتها وصبغت الزهور بدم الضحايا .
# اللغة سجينة اللاشعور :
وحين أؤكد كثيرا على الدور الحاكم للعامل النفسي ، ليس في تحديد أسلوبية الكاتب واختياراته النصّية وانتقاء موضوعاته حسب ، بل حتى في تصميم الجملة وتحويل الفكرة إلى شكل لغوي أيضا . فلو قرأ أحد القرّاء المقطع التالي الذي يصف فيه القاص حال قاسم لوجده لعبا لغويّا وحتى فارغاً :
(مرّ بشاب سكران ، وبامرأة مع رجلين ، وبرجلين من دون امرأة .. مرقت سيارة للشرطة ، وأخرى ليست للشرطة – ص 13).
فما معنى هذه التراكمات “اللغوية” : سيارة للشرطة وسيارة ليست للشرطة ؟ وامرأة مع رجلين وامرأة ليست مع رجلين .. إلخ ؟
إن القاص هنا – من وجهة نظري – يحقق أعلى درجات “التماهي – identification” مع محنة بطله ، متمثلا معاناته بإخلاص وعمق جارحين ، وكأنه هو الذي انسلّ الآن من المطعم بعد آخر خيباته حين فقد الورقة الوحيدة التي كانت تشيع في نفسه الإطمئنان أمام العالم المتغير بلا هوادة . إنسلّ منكسرا خائبا وقد اختنقت روحه بإحساس ماحق بخواء العالم الشنيع ، فلم يعد هناك بعد من معنى لحركة الاشخاص التي لا تزيد على مرور امرأة مع رجلين أو رجلين من دون امرأة .. ولا دلالة مميزة لحركة الأشياء من حوله فهي ليست أكثر من حركة سيارة للشرطة وأخرى ليست للشرطة . وقبل هذين المشهدين الفارغين مشهد شاب سكران ضائع كضياع كل الأشياء وبعدهما مشهد امرأة عجوز مخبولة نائمة على الرصيف متدثّرة ببطانية قديمة ، ومع كل هذه المشاهد تبدأ آخر المطاعم بإقفال أبوابها ويتلاشى صوت “أحمد عدوية” ، ويستوحش الشارع ، ويسدل الستار الأسود على معنى الحياة ، ويجلس قاسم في ظلمة شارع الرشيد مقرورا ونعسانا ومهملا ووحيدا.
# محلّية النص هي روح قبل كل شيء :
وقد يعتقد البعض من المتلقين أن ذكر اسم “شارع الرشيد” هو من العوامل المهمة التي ستضفي سمة “المحلّية” على هذا النص ، لأن القاص لم يقدّم ، قبل ذلك ، قرائن كافية تجعلنا نتعرف على “عراقية” المكان . لكن هذا فهم مبتسر ومجتزأ عن الكيفية التي “يُتمثل” فيها المكان في النص السردي . فبالإضافة إلى تمثيل المكان عبر القرائن “المادّية” ، فإن الجانب الأهم ، هو أن يُتمثل من خلال ملامح الشخصيات وطباعها وأرواحها المعذّبة . وصحيح أن سياق الإستهلال بعودة الغائب المتوجّس يمكن أن يحصل في أي قصة محلية او أجنبية ، لكن التحضير الأولي لإيحاءات اسم الكاتب – ولهذا ينبغي أن لا يموت المؤلف – وجهة الإصدار والكتاب ومكان القراءة ، برغم أهميّتها ، لم تغن عن “قاسم” خلاصة التجربة العراقية المهولة التي تجعل الولدان شيبا . قاسم أنا ، وأنت ، وبلاد الخراب ، وزهر اللوز المتساقط على ذرور الدم في مساءات الحرب التي بلا نهاية .
# نصوص الخيبة والإنتظار :
والآن ، وبعد أن حدّدنا الموضوعة المركزية التي تتأسس عليها بنى نصوص المجموعة عن طريق تحليل النص الإفتتاحي ، وهي : الإنتظار وما يرتبط بها من مقدّمات ، وما يترتب عليها من مضاعقات ، كالغياب والخيبة ، وصراع اليأس والأمل ، وتشوّش الذاكرة ، والعامل العراقي الآخر الذي أشعل فتيل كل الإنتظارات والغيبات والخيبات وهو : الحرب ، دعونا نمضي سريعا في وقفات محسوبة مع نصوص المجموعة الثمانية عشر المتبقية :
# قصة “في أقصى الفردوس” :
تكونت هذه القصة من قسمين :
احتمال غير مؤكد (1)
احتمال غير مؤكد (2)
والقاص عن هذا الطريق يضاعف الإحتمالات غير المؤكدة ؛ احتمالات الإنتظار، في حياة بطله الذي (بمحاذاة السياج الشجري نقّل خطواته . بدا حذراً كما لو أنه كان يتوقّع أمراً ما ، لا عهد له به ، سيحصل – ص 15).
والبطل “الشاعر” هنا ينتظر حبيبته الغائبة في الحديقة التي كانت تشهد لقاءاتهما ، والمقعد الأثير الذي كان يحتضن أنبل اسرارهما (يوم كانا يحتميان ، من أذى العالم ، بسورٍ من أغصان الليمون ، ويباركان الحياة بالقصائد والقبل والضحكات – ص 16) .
# وقفة : أين أصبحت الطبيعة في النص السردي العراقي الجديد ؟
ومن سمات هذه المجموعة أن نصوصها تحفل بصور من الطبيعة كعنصر فاعل في النصوص وتأثيث المكان . وستلفت انتباهك – وبقوة – المعرفة التفصيلية للكاتب بمكونات عناصرها وسماتها من لون وطباع . ومن وجهة نظري تمثّل هذه المهارة واحدة من المقومات الكبرى التي بدأ بفقدانها – بل فقدها فعلا – جيل كامل من كتاب القصة والرواية ، لا في العراق حسب بل في الوطن العربي والعالم . فالإنسان يعيش حالة انفصال شبه كاملة عن الطبيعة . وصار النص السردي – تحت أغطية الحداثة – يأتي “يابسا” فاقدا لرواء الطبيعة ونسغها المنعش . وبسبب نقص إمكانات الساردين في معايشة الطبيعة ومعرفة مكوناتها ، صارت وقائع النصوص تجري في الغرف الكابوسية المظلمة والكواكب البعيدة والزنازين والأقبية وغيرها . والكثير يجري في أماكن فنطازية متخيلة . وحين يتناول القاص “مكانا” فعليا ما ، تجده فقيرا جدا في توظيف مكونات الطبيعة من شجر وأزهار وأنهار وأعشاب ونخيل وثمار .
وصدقوني ، كنت اسأل الكثير من الأصدقاء الساردين الشباب عن زهرة الدفلى أو الجهنمية أو طائر الزاغ أو أنواع من التمور فلا يستطيعون وصفها لأنهم لم يروها ! جيل كامل يعايش الطبيعة والأمكنة عموما عبر شاشات التلفاز وصور المجلات . وبيطبيعة الحال فإنني لا أدعو إلى إقحام الطبيعة ووصفها حين ينزل البطل لشراء قميص أو فرشاة اسنان على طريقة كتّاب الواقعية الفجة ، بل أدعو إلى أن تلتقط عين السارد المكان كلّه ، ويوظّف مكوناته الطبيعية بما يخدم الموقف النفسي والفني للشخصيات وصراعاتها . أما سعد محمد رحيم فهو ابن الطبيعة التي تربّى في أحضانها طفلا وصبيا ، ومازالت ذاكرته متّقدة بمشاهدها و”انفعالاتها” الذاتية الواقعية ، و “تفاعلاتها” المصنوعة ببراعة مع شخوصه في نصوصه القصصية والروائية (لاحظ عناوينه فقد بدأ بـ “ظل التوت الأحمر” قصصيا ، و”غسق الكراكي” روائيا). وفي استهلال هذه القصّة وبعد أن يصور لنا حركة الرجل المرتبكة بمحاذاة السياج الشجري للحديقة ، يشغّل بعضا من مكونات الحديقة لتشارك الرجل الخاسر والذي اصطادته دائرة الإنتظار المفرغة مراراته :
(الرحاب النادر لأزهار الجهنميّة ، والرذاذ الشذي للرازقي ، والآس بأناقته المشذبة الراسخة ؛ هذه الأشياء كلها غمرته بحزن نائح ، وجعلته يرمي سيجارته أرضا ويدوسها، ويركل حصاة صغيرة كانت على طريقه . وفي ثنية ما جد غائرة ، من ثنيات روحه ، تألق ضوء مؤسٍ باهر لجزء من الثانية لمّا أنّ باب الحديقة الخشبي وهو يدفعه ليلدلف . ثم انطفأ الضوء ، وسبحت ثنيات الروح في قتامة موحشة ، فألفى نفسه على فراش كثيف من العشب ، تحاصره سكينة ساعة العصر فحدس أن لا أحد دخل هذه الحديقة منذ زمن طويل – ص 15) .
وفي الكثير من النصوص يوظّف القاص مكوّنا طبيعيا يكون بؤرة تلتم فيها خيوط الحوادث وانفعالات الشخصيات ، وتلعب أحيانا دور فاعلٍ أساسي فتكون “شخصية” مضافة بعد أن ينبري الكاتب لأنسنتها وشخصنتها . هناك – على سبيل المثال – غصن شجرة الليمون في هذه القصة ، والسدرة في قصة “رؤيا رفل” ، وشجرة التين في “الجحيم مرّة أخرى” ، وزهر اللوز في القصة التي تحمل الإسم نفسه والتي حللناها قبل قليل .
# عودة :
وفي هذه القصة “في أقصى الفردوس” تلاحظ أيضا “الدقة” و”الوحدة” و”عدم نسيان” القرائن التي يتمتع بها القاص والتي تحدّثتُ عنها في القصة السابقة . فقد تكلم في الإستهلال على ثلاثة مكونات طبيعية هي : أزهار الجهنمية والرازقي والآس ، وها هو يعود قبل نهاية القصّة ليصف حركة الطفل “نور” إبن المرأة – الطرف الثاني في القصة – وهو يركض نحوها :
(ركض نور محاذاة السياج البشري. رأته جزءا من رونق أزهار الجهنمية وشذى الرازقي وأناقة الآس – ص 20) .
وهذه الإعادة تعزّز في ذاتك الإحساس بأن “نور” الراكض جذلا في الحديقة/ الفردوس الضائع ، هو “ثمرة” الرجل الغائب الذي ركل في الإستهلال (حصاة صغيرة كانت على طريقه) ساخطا متذمرا من ثقل غياب حبيبته والإنتظار؛ هذه الحصاة الصغيرة سيتعثر بها “نور” وهو يركض مستجيبا لنداء أمّه فيسقط بين ذراعي “الرجل” :
(كرّرت النداء :
-نور ..
عثر نور بحصاة صغيرة ، وسقط ليجد نفسه فجأة ، بين ذراعي رجل ، غمرته أنفاسه الحارة فبدا قلقا ، غير أنه لم يعترض – ص 20) .
هذه الحصاة الصغيرة ، هي حصاة المصائر التي تتهشم عليها آمالنا وحيواتنا . والمرأة هنا “تستوهم” رجلها الغائب في هيئة الرجل الحاضر فعلا :
(قالت : إنك الآن أمامي .. وبيننا نور .
وكان نور ما يزال على ذراعيه ، مستكيناً حائراً ، فقال بنبرة مشروخة ، وهو يضع الطفل أرضا :
-هذا ، إذا كنت أنا .. هذا الواقف أمامك – ص 21) .
# وقفة فنّية .. راجعوا نصوصكم قبل نشرها :
قلت إن قصة “في أقصى الفردوس” تقوم على “حركتين”: احتمال غير مؤكد (1) ، واحتمال غير مؤكد (2) . لكنها في الحقيقة تتكون من ثلاث حركات حيث هناك حركة ثالثة هي : “احتمال من الجائز تأكيده” . لاحظ تخطيط القاص الواعي لكل اختيار . فالإحتمالان الأولان غير المؤكدين كانا في حكم الإستحالة .. مستوهمين . يصحو في الأول الرجل بعد حلم عتاب واشتباك عنيف مع امرأته (كان يشعر بالخوف ، وبالرغبة في الإبتعاد –ص 18) ، وفي الثانية تستفيق المرأة بعد حلم انقضاض واشتباك عنيف أيضا مع رجلها الغائب : (تستحضر هذه الآونة … شيئا آثما وقدسياً ، عنيفا وعميقا وناعما ومباركاً .. وهو بعيد بعدا لا سبيل للوصول إليه ، وقريب ، غاية في القرب ، حتى لا يمكن رؤيته البتة . تتمدّد على العشب ، وتقرّر البقاء – ص 30) .
وبخلاف الرجل الذي يقرر ان يبتعد خائفا ، تستلقي المرأة – برغم عذابها – مسترخية وتقرر البقاء ، لأن المرأة أكثر حقيقية وإخلاصا من الرجل عادة .
في الإحتمالين غير المؤكدين ، لا يوجد اي مؤشر واقعي ، يفصل في التشوّش الإستيهامي . يقف كلّ من الرجل والمرأة أمام لعبته الإستيهامية التصدّعية . أما في الإحتمال الثالث والأخير فقد صار (من الجائز تأكيده) لأن طرفاً “واقعيا” قد أُدخل إلى دائرة اللعبة برغم السلوك التصدّعي للمرأة . هذا الطرف يتمثل في طفلها “الثمرة” : نور، والرجل الذي استقبل تعرّف المرأة عليه بضحكة صاخبة ، وتمنّى أن يكون حدسها في محلّه .
ولو تأملنا عنوان القصّة “في أقصى الفردوس” فهو ، في الظاهر ، يعني الهناءة والمسرة الباذخة .. بل أقصاها وأعلى مستوياتها . ولكن حين تمضي مع القاص ستجد هذا الإستنتاج الأولي مغلوطا تماما . وهذا دليل مضاف على خطل أطروحة أن “العنوان ثريا النص” حين تُفهم على اساس أن “المكتوب يُفهم من عنوانه” . يلعب العنوان دوره في إطار الصورة الكلّية (الجشطلت – gestalt) حين يوضع في موضعه ضمن إطار هذه الصورة وفي شبكة علاقاته بالمكوّنات الأخرى . فبخلاف ما أوحى به العنوان المباشر كان شخصا القصة : الرجل والمرأة ، في أقصى الجحيم فعليا ، وفي لب الفردوس استيهاميا كرجاء ومنفذ خلاص وهدهدة لجروح الذات التي لا شفاء لها :
(.. غابت عن العالم لحينٍ من الدهر . لكنها حين استفاقت على أنين الأرض الباردة ، وخشخشات النجوم وهي تغمزها من بين أوراق الليمون ، كانت مفعمة بالغبطة ، والرغبة في البكاء ، تشعر في أقصى روحها بحضور الفردوس ؛ الفردوس الساحر والعصي . الفردوس المُحال – ص 19) .
لكن لماذا تعمّدتُ أن أشير إلى الإحتمال الثالث / الحركة الثالثة من القصة بصورة منفصلة ؟
والجواب هو أن هذا “الإحتمال” جاء مطبوعا كعنوان بحرف عادي ، وكأنه جزء من الحركة الثانية ، بخلاف الإحتمالين السابقين اللذين طُبعا بحرف بارز جعلهما يظهران كحركة مستقلة ومنفصلة . وهذا يؤكّد ما قلته مرارا عن أن من الخطأ أن لا يراجع الكاتب العراقي “بروفات” كتابه ، ويترك الأمر للناشر كما يحصل مع الغالبية المطلقة من الكتاب العراقيين في الوقت الحاضر .
# عودة .. كل شيء زاد حدّه صار ضدّه :
تحدّثت كثيرا عن ضرورة أن تكون للقصة لغتها ، وللشعر لغته . وحين يكون ضروريا أن يستخدم القاص اللغة الشعرية في موقف معيّن فعليه أن يستخدمها بجرعات ومقادير محسوبة لأسباب كثيرة يمكن مراجعة آخر دراساتنا (حينما تصبح الشعرية مصيدة للسردية: رواية “ذاكرة أرانجا” أنموذجا) والتي نُشرت في موقع الناقد العراقي ، للإطلاع على جانب منها .
جاء استخدام سعد محمد رحيم للغة الشعرية موفقا ومحسوبا في أغلب النصوص ، بل إن استخدام اللغة الشعرية ، خصوصا في نصوص علاقات الحبّ والإنتظار المجهضة والمحطمة ، صعّد حرقة نفوسنا المستجيبة والمتعاطفة إلى أقصى المستويات . لكن ، وحسب الحكمة الشعبية الباهرة ، فإن كل شيء يزيد عن حدّه يصبح ضدّه ، وعن طريق هذا الإفراط تصبح “الشعرية” مصيدة “للسردية” كما قلت كثيرا . خذ هذه الأمثلة :
– يصف القاص المطر الثقيل :
(المطر يزيد من سطوة سقوطه ، مثل حصان أغرته فتوته فانطلق لا يلوي على شيء – ص 26) .
ومن وجهة نظري المتواضعة ، لا علاقة للوصف بالموصوف ، وصار التعبير لعباً لغوياً لا تُنكر فتنته .
-يصف حشداً احتفالياً للغجر فيقول :
(لا أحد يشاهد هذا الحشد المتآزر من الحمير إلا مع قدوم الغجر ؛ خيول قليلة تزهو في خبب راقص وسط الحضور المذهل في رتابته وسلامه للحمير .. وكلاب متبخترة تحيط بالدائرة الآىسرة – ص 42) .
ولم استطع فهم السلام المرتبط بالحمير !
-ينقل لنا حواراً بين راوي قصة “الغجر .. إن يجيئوا ثانية” ، وامرأة غجرية عرّافة تقرأ الأفكار :
(في ليل الجائحة ذاك كنتُ أتلفت .. قالت الغجرية :
-الحرية أن لا تخاف .
قلتُ : سأجىء معكم .
قالت : لن تستطيع لأنك لم تُجن بما فيه الكفاية .
قبّلتُ شلال الحليب على ساقيها – ص 43) .
وكنا نزور مخيمات الغجر في أيام المراهقة ومقتبل الشباب النزقة المنهوسة بالتفريغ الجنسي المُلح ، ونمضي الليالي العذبة بينهم ، فلم نجد غجرية واحدة تقرأ وتكتب على الإطلاق ، ولم تكن تصلهم صحيفة أو مجلة أو كتاب . ولا أستطيع أبداً استيعاب فكرة الحوارات العالية التي وضعها القاص على لسان الغجرية .
والقاص نفسه تحدث قبل ذلك عن الغجرية كامرأة تأتي راكبة حمارها . ولكنه يضفي عليها أدواراً “شعرية” خارقة :
(من هناك جاءت تمتطي حمارها ، هائجة في عنفوان الماء عند المضائق المباغتة – ص 42 ).
فأي عنفوان مائي تهيج فيه غجرية على ظهر حمار ، وفي أي مكان تكمن مضائقها المباغتة ؟
-أمّا في قصّة “الحافلة” فهناك الشروحات والتعليقات الشعرية البرقية إذا ساغ الوصف ، التي تلحق ببعض المفردات ، فتربكها وتشوّش مسار اللغة السردية ، والمعاني التي تبغي توصيلها . ففي السطر الأول من القصة يصف الراوي صعوده الحافلة :
(وأنا أهمّ بصعود الحافلة “الحافلة كينونة قابلة للدوران والمواربة والإقلاع والترهيب والهمود” سألتني امرأة عجوز :
-ما رقمها ؟
حدقت فيها باستغراب وقلت :
-لا أدري .
غمغمت . لعلها شتمتني . لم أهتم . قطعتُ تذكرة “التذكرة ورقة رهان” ، وارتقيت السلّم “السلّم التواء مريب” إلى الطابق العلوي .. جلستُ إلى النافذة “النافذة مرآة لأكذوبة تتغير” .. امتلأت المقاعد ثم الممر “الممر مسار اعتباطي” … انتفضت الحافلة “تخيلتها تقطر دماً فهي حمراء مذبوحة” .. انهمر المطر “المطر استرسال هش غير مؤكد” … تناهى صوت بكاء طفل “الطفل بياض مشاكس ، ضروري” وعبْر الرصيف “الرصيف خط مجتث من مجال الحواس” … من ص 85 إلى ص 89) .
وأرجوكم لا تحاولوا حشو دماغي بتبريرات عن الشعرية واللغة المتعالية وضرورات إسقاطات المربّع الأزرق ، فأنا لست حماراً نقديّاً يحمل أسفاراً سردية على كتفيه . لدي أكثر من ثلاثين كتاباً نقدياً ، وأتابع تطوّرات المناهج النقدية العالمية ، وأقرأ الشعر والقصة منذ أربعين عاما .
# وقفة عند لعبة الإيهام :
ويوظّف القاص لعبة “الإيهام” في الكثير من نصوصه . محكوما في غالبيتها المطلقة بنتيجة طبيعية تترتب على تسلسل سلسلة الغياب والإنتظار المفتوح المدمّر ، حيث لا يبقى من علاج غير أن نستحضر “الغائب” أو “الغائبة” من أذهاننا ، ونستوهمهم في خيالاتنا وأحلام يقظتنا بطريقة قد تصل حدودا “ذهانية / جنونية” حين لا يقرّ المجموع المراقب الوقائع التي يتعامل معها الفرد المُمتَحن ، وحين يسلك هذا الفرد سلوكا عمليا وواقعيا مع غائبه المستوهَم . اتبع سعد بتوفيق عال هذه اللعبة في قصص هذه المجموعة : “رؤيا رفل” و “الغجر إن يجيئوا ثانية” و “أحابيل المساء” .
وفي بعض النصوص ، يعمد القاص إلى استخدام هذه اللعبة لتجسيد الواقع النفسي والعقلي التصدّعي لبطله ، ولتصوير الواقع الساحق والمتناقض الذي يحيط به ، فيجعل الموجودات تتكاثر بصورة خرافية مرعبة ، والوجوه تتلاشى ، والوجود الشخصي يضمحل كما في “الجحيم ربّما” و “اللغز” ، أو حين تُقاد الجموع قسراً وبلا رحمة لتتجه بقوة متسلطة مرعبة نحو قدر مفتوح كما في “الحافلة” . أو قد تكون جزءا من عملية تصدّعية تحاصر الشخصية وتعود في معظمها إلى مشاعر مُسقطة مؤرقة من الشعور المهلك بالذنب – guilt feeling ، كما في “الكلب .. الكلب” و “ذلك الوجه” و “في انتظار البرابرة” . وفي “الكلب .. الكلب” يعبّر الرمز الحيواني عن قوّة معاقبة وراصدة تطارد الفرد صاحب الوجدان الآثم ، الذي تلاحقه الكلاب أيضا والآخرون في “الطريدة والآخرون” .
وفي الكثير من المعالجات القصصيّة التي يوظّف الكاتب فيها لعبة الإيهام ، نجده يزاوجها بتقنية فنطازية أخرى هي لعبة “القرين” الذي يمثّل في أغلب الحالات جزءا من الجهاز النفسي ، ينفصل بفعل طعنات الواقع الجائر الممزقة التي تصيب العقل فتصدّعه . يحصل ذلك في قصّة “ربّما في مكان آخر” و”الكلب .. الكلب” و”ذلك الوجه” و”الشاهد” . ففي قصة “ذلك الوجه” مثلا ، ينفصل الأنا الأعلى / السلطة المعاقبة الداخلية وعين الرقيب التي لا تنام في دواخلنا، فيطارد الشخص من مكان إلى آخر ، وينهكه ، ويشلّ قدراته الإبداعية على الرسم . وعبثا يحاول الهرب والخلاص بتغيير مسكنه أو تسمير النوافذ :
(أنا قدرك .. اللعنة التي اصابتك .. ولن تنجو – ص 99) و (إلى أين أيها الجرذ ؟ أنا موتك البطىء . وسأطاردك حتى وإن وصلت إلى آخر الدنيا – ص 100) .
ولم يستطع الظفر في هذه اللعبة المنهكة والجنونية إلا بعد أن تأكّد – ومن خلال استجابة الناس المحيطين به ، اللامكترثين ، والذين يصمونه ساخرين بالجنون – أن مخاوفه محض هذاء في الخارج ، وأنها تنبع من الداخل ، وأن عليه أن يقتل هذا الأنموذج “الأبوي” الخاصي أصلا ، بالقدرة التي يبغي شلّها وإخصائها وهي القدرة الإبداعية . أن يقضي على الوجه المخيف المطارِد بالفرشاة .. يرسمه ويمحوه على نفس لوح الخشب الذي اشتراه ليقتل به حرّيته :
(الضربات الأخيرة كانت رشيقة تنم عن حيوية واعتداد . راح الوجه على إثرها يرتخي .. ينحل .. ويموت – ص 102) .
# لعبة “التكثير” المخيفة تُبتذل .. ولكن :
في أكثر من نص من نصوص هذه المجموعة استثمر القاص ما يمكن أن نسمّيه “لعبة التكثير المخيفة” إذا جاز الوصف . يتكاثر واحد من مكوّنات القصّة ، ويكون مخيفا بطبيعته أو ذا دلالات مخيفة عادة ، ويكون تكاثره الملاحق في نهاية القصّة عادة ، فيعصف بوجود الراوي أو محيطه ، ويرتفع بحركة الحوادث والدلالات إلى ذروتها . لكنني أعتقد أن تكرير هذه الطريقة في أكثر من نص واحد وفي مجموعة واحدة يؤدي إلى ابتذالها ، مثلما يخلق إحساساً لدى القاريء ، وكأن الكاتب يريد التخلّص وإنهاء القصّة عن أي طريق مؤثر في نفسه . في قصة “الكلب .. الكلب” يحاصر نباح الكلب الراوي الموسوس الهذائي ويخرّب حياته . وفي النهاية تتكاثر الكلاب .. واحد .. إثنان .. مئة .. لتؤذن بلحظة التصدّع الهذياني “الجنوني” النهائي . وعملية التكثير المرعبة هذه تستند إلى المكوّن الأساسي في القصّة وهو الكلب فتأتي نهاية متسقة . أما في قصّة “الطريدة والآخرون” فيتحدث الراوي عن ولوجه متاهة المستنقعات هرباً من مطارديه . ومع تقدّم الزمن ، وتفاقم النزف من ساقه المصابة برصاصة ، وانهيار قواه ، تبدأ عملية الإحتضار التي تبلغ قمتها مع هجوم الكلاب … آلاف الكلاب عليه :
(وبغتة وثبت من المغارات كلاب سود مجنونة .. آلاف الكلاب الضارية الجائعة . حاولت أن أمدّ يدي علني أتقي ، يائسا ، اندفاعتها الوحشية ، فلم أستطع .. عندئذ شعرت بالأرض تحتي تنشق ويتلقفني الفراغ ، فرحت أغوص .. أغوص – ص 74 ) .
وفي قصة “ذلك الوجه” يتكاثر الوجه الساخر العابث المهدد الذي يحاصر الراوي في كل مكان ، ويتكاثر في الحركة السابعة من القصة إلى ما لا يُحصى من الوجوه في الشوارع والساحات والمواخير والجوامع (ص 100) .
حالة التكثير “الإيجابية” الوحيدة هي الحالة التي صوّرها القاص في قصة “شاعر” التي يُعتقل فيها شاعر ظلماً وطغيانا . وفي الزنرزانة تتفجّر في روحه ينابيع الشعر ، ويخط بقلم رصاص وجده في قاع جيبه على الحائط قصيدة سمّاها (أشجان البنفسج) . وبعد هدم السجن (وفجأة من بين الأنقاض انبجست آلاف من أزهار البنفسج الرائعات – ص 146) .
وهي نهاية تكثيرية باهتة . لماذا ؟ لأنها عولجت عشرات المرات في القصة والشعر والسينما والمسرح ؛ أن يتكاثر شيءٌ ما كرمز لقوة الإرادة المقاوِمة ولمواجهة الفناء والإستبداد .
ولكن .. محاولة التكثير المخيفة الخلّاقة هي التي نجدها في قصة “اللغز” التي تتحدث عن رجل يعود إلى بيته وزوجته بعد أربعين يوما من الغياب (بحكاية أدهى من أيّ كلام – ص 155) . “عاد نحيفاً فاقداً عافيته في لغز الغياب” . ثم يحصل شىء يثير الدهشة والرعب ، فكونه أكثر ضآلة من قبل ، هو أمر اعتيادي جدا . لكنه بدأ يتضاءل بصورة متصاعدة حيث صار يقصر عشرين سنتمترا كلّ شهر . كانت زوجته تصرخ : ماذا فعلوا بك ؟ وهو يكتفي بإغماض عينيه وإطلاق دموعه السخينة . (بعد أشهر قليلة ، صار في حجم طفل لم يتعد سنته الأولى – ص 157) ، فحملته زوجته على ذراعها وخرجت به إلى الناس ، وسط دهشتهم واستغرابهم وعدم قدرتهم على تقبّل فكرة أنه طفلها أو زوجها أو حبيبها . حاصرها رجال يحملون البنادق ، وطلبوا منها العودة إلى بيتها . لكن بدأت نساء لا حصر لهن بالخروج من الشوارع الفرعية ، وهنّ يحملن على أذرعهن مخلوقات ضئيلة تصرخ بنفس صرخة الرجل الأول :
-انظروا لهذا الذي يجري وحلّوا اللغز .
طوابير طويلة تصرخ وتتجه إلى ساحة المدينة من غير أن يجرؤ أي كان على إيقافها – ص 158 – نهاية القصّة ) .