
السيرة الذاتية او المذكرات اليومية ميل نفسي يتمركز حول الاعجاب بالذات . هذا الاعجاب ينطلق من رغبة لا واعية في ان هذه الذات قد عانت الكثير والكثير في مسارها الحياتي الطويل . وكلما كان ذلك المسار مفعم بثراء مأساوي كانت الرغبة ملحة في تصويرها وتوثيقها على شكل مذكرات يومية أو سيرة ذاتية . لكي يقول الآخر كم عانى هذا العبقري في حياته ولذلك يستحق الخلود عبر حركة التاريخ . والرغبة تأخذ مدى اعمق في ان تكون هذه السيرة منارا يسير على انواره الاخرين . وبهذا يدخل الشاعر او الفيلسوف او الفنان التاريخ من اوسع ابوابه . وشاعرنا حسين مردان يلخص تلك السيرة في قصيدة بدلا من كتب او مجلدات . وكلنا يعلم يوميات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو او جان بول سارتر او الفيلسوف الروسي نيقولاي بيرديائيف أو الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل أو يوميات هيجل وهو في المعتقل . لنرى إذن كيف يصور لنا حسين مردان حياته في هذه القصيدة . يقول الشاعر :-
كنت بالأمس شاعرا عبقريا
طاهر اللحن وحيه الايمان
ثم عاثت به صروف الليالي
وطوت سفر حبه الاشجان
وعلى ساحل الضباب تبدى
شبح الغيب يقتفيه الهوان
فتوارى طيف الهدى وتمطى
في محاريب قدسه العصيان
وانطوى النور في الظلام وماجت
صاخبات في عرقه الادران
واختفى ذلك الملاك وثارت
نزعات واستيقظ الشيطان
ومضى ينحر الفضيلة حقدا
فهي في مذابح الزنى قربان
ثملت روحه الخطايا
فهو بالدم واللظى سكران
(الاعمال الكاملة ، ج1 ، ص 58-59)
***********************
هنا حسين مردان يعاني من خبرة الاسف Sorrow او الاسى بترجمة الحفني (1) . يعرفه هذا الباحث على انه ” عكس الفرح ، وهو شكل من الحسرة regret وخاصة الحسرة الناشئة عن عاطفة الحب ،ومن ثم فالأسى ضرب رقيق من الحسرة ” . ان الشاعر يأسف على نقاوة طفولته وبراءتها وكيف انحدر مسار حياته من الفضيلة وسقط في ادران الرذيلة فكان ما كان . وهذا المقطع هو صورة لهذا الانحدار .وما ينبغي ملاحظته هنا هو احساس الشاعر بقوة عبقريته . اعني شاعريته . ولكن للأسف هوى في بحار الاثم والرذيلة والسقوط . انه أسف على الماضي بكل حيثياته . ان نظرة الشاعر الى حاضره مفعمة بالحزن والألم . وبالتالي تكون النظرة الى الذات هي الاخرى مغمورة بمشاعر الدونية والنقص . ما الذي نلاحظه هنا .انه اتهام ضمني الى العالم . بهذا المعنى العالم كله محض شر إذا استعرنا تعبيرات شوبنهاور . لقد اختفى الملاك وظهر الشيطان . وميزة الشيطان الكبرى انه الخناس الذي يوسوس بصدور الناس . يستمر حسين مردان في سردياته الذاتية عبر المقطع الثاني ليقول :-
لم يعد يعشق الضياء
في سماوات فلبه الالحان
هكذا اصبحت حياتي سرابا
ومشى فوق صبري الكفران
هكذا اصبحت حياتي روضا
جف فيه الربيع والألوان
بسم الشؤم في رباه فحطت
تتناغى في ارضه الغربان
لا غناء سوى فحيح أفاع
سكرت من لعابها الغدران
فتولت عنه العنادل ثكلى
وجفاه الهزار والورشان *
واختفت كل بهجة وتعرت
نادبات من ظلمها الأغصان
كل ما فيه ميت فهو دنيا
جثمت في رحابها الاحزان
اينما حط ناظر اي ظلام
مرعب الموج ليس فيه أمان
يتلوى به الجنون رهيبا
ويموج الشقاء والحرمان
فوق حدبه ترقد الاكوان
هكذا لملم الزهور الزمان
وغفى فوق ذكري النسيان
فانا اليوم حفنة رماد
خلفتها الايام والحرمان
نحت الخزي في جبيني سطرا
مات فيه الضمير والوجدان
فتخلى عني الصحاب احتقارا
وجفتني الديار والأوطان
فإذا كل ما تمنيت كوم
من تراب ترعى به الديدان
(المصدر السابق ، ص 59-60 )
***************************
ذلك إذن هو الحاضر عند حسين مردان وتلك هي مآسيه وفواجعه. وفي هذا المقطع سرد لكل متاعب حسين مردان الحياتية . ولن نلح هنا على طبيعة المفردات ، على الرغم من انها ذات دلالة نفسية محسوبة على الشاعر . وهي كلها تتمحور على احتقار الذات ولومها وتقريعها . وكلها ملئى بالتشاؤم والفشل والإحباط والتهميش والاغتراب وليس من داعي ، في تقديرنا ، الى ان نقف عند كل فقرة من فقرات هذا المقطع لأنها يسيرة على المتلقي ذو الذائقة النفسية على وجه الخصوص . انها تمثل فشل وجودي تام اذا صح التعبير . في المقطع الثالث وهو المقطع الاخير سيبرز انفعال الاسف بأعلى صورة ممكنة ، حيث يقول حسين مردان :-
آه لو يرجع الذي فات يوما
ولتنسى اساءتي الازمان
فأرى ثغرها الشهي المندى
يخفق الورد فوقه والحنان
تلك ذكرى ماتت بقلب الليالي
واحتواها في كهفه النسيان
سوف افنى وسوف يفنى خلودي
وتظل الجبال والكثبان
سوف افنى وسوف يفنى غنائي
وتضل الغابات والوديان
مثلما جئت سوف اذهب لغزا
يحتويه الغموض والكتمان
(المصدر نفسه ، ص 60-61)
*******************************
يواجه الشاعر نهايته البيولوجية المحتمة بكل مرارة وبكل حسرة . ويعيش الشاعر محنة ” اللو ” . تلك المحنة التي تتمركز عليها خبرة الندم remorse بكل تفاصيلها وحيثياتها . ” لو ان” امنية من امنيات الفشل . انها رغبة في عكس تيار التاريخ الى الوراء . امنية لن تتحقق على الاطلاق . اللهم الا اذا غير الزمان مجراه . وهيهات له ان يفعل ذلك . كان آدم هو الرجل الاول في التاريخ الذي ندم بعدما تجاوز الوصية . والتاريخ كله اعني الناس كلهم يتحملون اثار ذلك الوزر العظيم . فآدم عاش خبرة ” اللو” . ولكن ما نفع الندم . . الا يقول القرآن ” يوم لا ينفع مال ولا بنون ” . التاريخ لا يرجع ابدا على الاطلاق … لن يعود الزمن الى حيث يريد حسين مردان ولا غيره .. حسين مردان سوف يفنى ويبلى . سوف لن يذكر . في هذا المقطع تناص مضموني ونفسي مع احزان شاعر المهجر الكبير ايليا ابو ماضي عندما ناجى البحر وصب له شكواه حول ماهيته ومصيره وهي معروفة ولا تحتاج الى طول وقفة . فقط هو الوجود الذي سيبقى . كل من عليها فان . يذكرنا هذا التساؤل الفلسفي الذي طرحه حسين مردان بعبارة قالها الروائي الفرنسي الكبير فيكتور هيجو عندما قال :
صه يا أبن آدم
فالسماء صماء
والأرض تنظر اليك
بازدراء …
************
فقط هو الوجود الذي كان والذي سوف يبقى . الا ان شاعرنا لم تك محنته بهذا العنف الوجود ي الذي عاشه كبار الفلاسفة والمفكرين .. بل هو يتحسر لأنه لم ينعم برائحة ثغرها الفواحة . فالهم عند حسين مردان ليس هما وجوديا بقدر ما هو هما شبقيا وجنسيا . وعلى اي حال فان الشاعر يعيش مرارة الندم بأقسى صورة لها .
الهوامش :-
* راجع عن معنى الورشان وهو احد انواع الطيور :-
الدميري ، كمال الدين ، 2006 ، حياة الحيوان الكبرى ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ج4 ، ص 573-374 ويرمز الورشان على انه رجل غريب مهين ويدل على اخبار ورسل لأنه اخبر نوحا عليه الصلاة والسلام بنقص الماء لما كان في السفينة ؛ وقيل الورشان امرأة صدوق ، والله اعلم .
1- د . الحفني ، عبد المنعم ، 1978، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ،دار العودة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ج2 ،ص 321 .
شكراااااااااااااااااااااااااا