حمد علي حسن : زيارة إلى ” مزار ” ناطق خلوصي

أن رواية ” الـمـزار ” هي الرواية الثالثة للروائي ناطق خلوصي بعـد رواية ” منـزل الـسرور ” 1989 و رواية ” الجحـيـم ” 2001. إنها رواية اجتماعية واقعـية بمـوضوعـها وشخـوصها و أسلوبها . يحـاول السيد خلوصي إن يؤرخ من خلال الخطاب الـروائي للحـرب في الـعـراق ( لم يحـدد زمانها ) ٍ و ما آلت  إليه من نتائج على مستـوى الأفـراد ، رجـالا و نساء و أطفالا، و تأثيـراتها  على العـلاقات الاجتماعية ، ثـكل الأمهـات و تـرمـل الـزوجات و فـواجـع الآباء و يتـم الأبناء  نتيجـة استشهاد  الـرجال ، أبناء و أزواجا  و آباء.
يحاول الروائي الانتصار لقيـم الخيـر و المحبة و التسامـح و تعـزيـز الـنـزعـة التصالحية بين الناس ( انتفاء نزعـة الانتقام ) من خـلال انتصار الشخصيات الـرئيسة بتحقيق طمـوحاتها الـفـردية و الوطنية و هـزيمة الشخصيات التي لا تمتلك شـرف الانتماء للوطن في محنته  و كذلك لنزوعها الـعـدواني . أنه يحاول أن   ينقـل  ما هـو خـاص بالإبطال كأفـراد إلى ما هـو عـام ، المجـتمع . ليعـزز بذلك مـغـزى الحياة و القيم النبيلة الرائعة لـدى الإنسان  العادي من خـلال استكشاف حقائق النفـس البشـرية ثم التعاطف معها في أزمتها .
تبـدو الـرواية  ذات  إشكالية فلسفية بعرضها القلق  الروحي والنفسي  للشخصية المركزية (  المـدرس الأرمـل ) و الالتواء النفسي و السلوكي لشخصية ( قـدري ) و يقـدم الروائي كل هـذا بأداء ذي رومانسية عالية و شـاعـرية و إيحائية رقيقتين .
تـعـتمـد الرواية حكاية أرمل و أب لبنت واحدة في سن الزواج وخريجة كلية و ولد في العاشرة معوق نتيجة قصور في نمـو الغـدة النخامية مما يجعله يعيش في طفولة دائمة (ص 34 ) كما انه أب لشهيـد  الذي يعجل استشهاده في رحيل أمه منذ ست سنوات . و أرملة شهيـد  حرب  في رونق الشباب و أم لطفل صغير. تتمحـور حول هاتين الشخصيتين شخصيات أخرى توظف الرواية موضوعة العلاقة بين الأرملالمتقدم بالعمر نوعا ما و المرأة المترملة من زمن قريب في مبناها الحكائي ويجتهد الروائي كثيرا ليجعل هذه العلاقة ضمن دائرة القبول الاجتماعي وانسياقه الأخلاقي .
يرسم الروائي شخصيات متوازنة لـذا تتعـدد الأصوات في الرواية : المدرس الأرمل وأرمـلة الشهـيـد و أم الشهيـد وأخـوه ” قـدري “و أخته ” مديحه ” و تتمحـور هـذه الشخصيات حـول الشخصيتين المـركـزيتين ، المدرس ” ساهـر عبـد السلام ”  و ” مريم ” أرملة الشهـد ،بشكل متوازن إلى حـد كبير والعالم الخارجي . وتشكل شخصية ” قـدري ” الطـرف الآخـر في المـوازنة الفنية و الفكرية والأخلاقية في الرواية ، أنها شخصية إشكالية  ، لا تحمـل نـزعة تصالحيه مـع الآخـرين  ، أنها محملة بشكوك و عـدوانية اتجـاه الآخـرين الـذين يتواجـدون حـولها .أن هذه الشخصيات حقيقية وذات تجـربة إنسانية  معاشة و لم تكن وليدة مخيلة ،لذا لها حضور متميز طوال الرواية و كثيرا ما يقتـرب الروائي منها من الخارج و الـداخل في وقت واحـد ، أنها كيانات ذات حـرية كاملة في التـحـرك في عوالمها وفق رؤى تجعـلها ضمن دائرة القبول الاجتماعي  ، انه لا يضع بينها وبين السرد مسافة كبيرة بل انه يمنحها حرية كاملة للتعبير عن دواخلها الفكرية و الوجدانية بمصداقية عالية .
لا يتكأ الروائي على الرمزية العالية في رسم تلك الشخصيات و الأحـداث الروائية بل انه يوظف المباشرة في ذلك  من غيـر اللجـوء إلى أشكال استعارية باستثناء  الصراع بين شخصيتي المـدرس “ساهـر” و قـدري” إشارة إلى الصراع التقليـدي بين الخيـر و الشر. كما أن الشفـرات و الرموز التي تـوافـرت في ثنايا النص الروائي لا تحمـل القارئ إلى عـوالـم  الشخصيات الخفية .
يجتهـد الروائي كثيرا ليجعـل مصائر الشخصيات و دلالاتها الكنائية متطابقة مع منطـق الحياة و ضمـن القبول الاجتماعي و بين المتطلبات الفنية للمنطق الـروائي  و هنا لا بـد من التوقف مليا  عنـد الرأي و الرؤية فيها . قـد يكون الرأي بالنسبة  للـروائي استجابة عقلية محسـوبة  وفق أوضاعه الاجتماعية و قناعاته الفكـرية، أما رؤيته فبوسعنا أن نأتي على استخلاصها أيضا  من خلال تحليل جـاد و معمق  للأساليب الفنية التي يوظفها في منجـزه الإبداعي .
تقوم الـدلالة الأخلاقية على مستوين ، الأول حـركة الشخصيات ، كل واحـدة على حـدة ، مواقفها من الآخـرين الذين حولها في الحياة نفسها ، و الثاني مادة الخطاب الروائي ذاته والأساليب الفنية التي يوظفها الروائي في هـذا المنجـز و التي ينبغـي لها أن تكون متماهية مع رؤيته الأخلاقية تماما كما في نهاية الرواية ، زواج المـدرس الأرمل من أرملة الشهيـد  الذي يعـبـر بصورة جلية عـن تناغـم الدلالة في مستـويات ذلك الخطاب الروائي .
يختار الروائي أبطاله من الناس البسطاء كما يبدو لنا من الخارج مما يجعلنا  قادرين  بيسـر أن نتعـرف على مكنوناتهم الـوجـدانية و الفكـرية من خـلال أحـلامهم و تطلعاتهم و مواقفهم إزاء الأحـداث التي يـمـرون بها . أنهم شخصيات من الواقع أكثر مما هي من الخيال و بوسع القارئ إن  يجـدها في عالمه نفسه إن ْ  لم تكـن جـزء منه. أنها صور غير مستنسخة  للناس الذين يحيون حياة حقيقية ، أنها تـُعرض من خلال عملية إعـادة خلق  واعية .
يحظى الاهتمام بالشخصية  النسائية ، لدى الروائي  بحيز اكبرمن بين الشخصيات الأخـرى في روايته وبيد أنه لا  يتعامل معها  كأنثى فقط بل انه يجعل منها شخصية فاعلة كالرجل تماما و لا يتناول مشاكلها بشكل منفـرد بل من خلال علاقتها بالحياة العامة . من نتائج هـذه النظرة نراه ينأى بعيـدا عن  مشكلاتها الخاصة كأرملة ، حرمانها الجنسي و تأثيرات هذا على سلوكها العام و نمط حياتها الأسـرية ، و بهذا يبدو أن الروائي و كأنه يلغي حاجاتها البيولوجية إلى الجنس و ليجعل من سلوكها السوي محط أعجاب  الآخـرين و تـعـد هذه الشخصية شخصية منتصرة ، ف” مـريم ” بما تتمتع به من صلابة المـوقف و تماسك نفسي و عاطفي تتسامى فوق حرمانها الجنسي نتيجة استشهاد زوجها ” فارس ” في الحـرب.  أن الروائي لا يحاول أن يقتـرب من ذلك ليكشف لنا عن دوره في تحديد مساراتها الأخلاقية و النفسية والوجدانية . ثم هناك شخصية الأم الثكلى و معاناتها  لفقدها أبنها الشهيـد و للتصرفات  الطائشة و المخـزية لولـدها الآخر ” قدري ” و لتأخـر زواج أبنتها ” مـديحه” و كذلك شخصية ” مـديحه ” نفسها. و يمـدنا الروائي بمقـدار كبير من التفاصيل السلوكية و الاجتماعية و الأخلاقية  لهذه الشخصيات ضمن فضاءات الرواية نفسها و هذا بدوره يجعل من الرواية في شكلها و مضمونها رواية واقعية اجتماعية
يبدو لنا الروائي حـذرا في تعامله مع موضوعة الجنس و لم يقترب منه كثيرا   بل انه لا يطرحها طرحا مستقلا عن القضية الاجتماعية على الرغم من نزعته الواقعية كما يفعل العديد من القصاصين و الروائيين العراقيين في أعمالهم بصورة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية  حيث تشكل موضوعة الحـرمان الجنسي موضوعا شيقا  لما له من تأثيرات كبيرة  في المجتمع  . (شجاع مسلم العاني \ المرأة في القصة العراقية ص 145 )ٍ أننا لا نجـد إشارة مباشرة وصريحة إلى أزمة جنسية لـدى أية واحـدة من الشخصيات النسائية في الرواية فهو يصور مشاعـر البطلة وأحاسيسها بنوع من التـداعي المحـسوب ليكون ضمن دائرة القبول الاجتماعي من خلال شرعنة تلك المشاعـر و الأحاسيس  و ينجح كثيرا في التعبير عن تلك الأزمة التي هي للقارئ عادية وغير ذات إشكالية كما تعـود أن يجـدها في قصص و روايات أخـرى. و عندما يقترب من الحـرمان الجنسي عند البطلة ” مـريم ” و تأثيراته عليها فأنه يتناوله بشاعـرية رائعة تسمـو بمشاعـر القارئ  عاليا و بعيدا عـن الوصف الـرخيص و المبتذل الذي يخـدش مشاعـر القارئ بعبرات فاحشة و كما أنه لا يمـد الأزمة إلى فضاءات أخـرى في الرواية  من خلال تـداعيات البطلة و ذكرياتها عـن زوجها الشهيـد و هذا ما يظهـر أن العنصـر الاجتماعي المكـون لشخصيتها أكبر كثيرا من تكوينها كأنثى و زوجة توقفت عنـدها التجـربة الجنسية المشرعنة سابقا و هكذا لا يبدو الجنس مـؤثرا في تشكيل الشخصية النسائية و في التحكم في أحاسيسها وسلوكها تماما بعـد سنوات من التعطل و الجـدب ، لقـد توقف الجنس هنا كقـوة دافعـة ، سلوكا ونشاطا .  و بتجنبه مناقشة موضوعة الجنس  نجـد أن الروائي يتسامى بمكانة البطلة إلى مرتقى جـديد فهي عنـده ليست كائنا ذا غـرائز حيوانية كما قـد تكون عنـد غيره  ، أنها إنسان بعـواطف جياشة بيد انه ذو عقلانية تنأى به عن كونه مجمـوعة غـرائز جنسية تقـوده و تأسره ، بعبارة أدق  انه يجعلها أنسانا ينتمي بوعي إلى واقعه الاجتماعي ” العـراقي ” انتماء صادقا و حقيقيا . أن هذا النمط من الشخصية النسائية لا يظهر البطلة على أنها جسـد  يسعى لأن يؤكـد حضوره من خلال إشارات إغرائية ( زينة و تبرج و عرض جسد ) أنها ذات إنسانية بطموحاتها المشروعة تسعى بجـدية لتحقيقها وفق معايير السواء العام ، المجتمع و إنسياقاته الأخلاقية .
يعرض الروائي الظواهـر السلوكية للشخصيات من خلال الحـوار الذي يتلاءم كثيرا والمستوى المعـرفي و الثقافي لتلك الشخصيات ، باستثناء  بعض المفردات التي ترد في حديث الأم ،( امرأة أمية ) و يكشف هذا الحوار  بدوره عن دواخلها أو يسبر أغوارها فيرسم نموذجا  اجتماعيا واضح المعالم والذي يتوجب على القارئ  أن يتخـذ موقفا منه سلبا أو إيجابا . ويوظف الروائي هذا الحوار مع السرد في عملية استبطان لتلك الشخصيات و من ثم تقديم وجهات نظرها الاجتماعية و الفكرية و الأخلاقية كما في وصفه لما يجول في خلـد “قدري” و في أعماقه  ،سلوك ملتوي ، ثم  كأزمة ضمير حادة  فيما بعـد ، بأدوات سرد بسيطة دون اللجوء إلى أسلوب التحليل  ،إلى حـد ما  ، كالمونولوج الداخلي ليكشف عن معاناته كمأساة شعورية.إن الشخصيات تتحدث بوعي وعقلانية منظمة  . ليس هناك شخصيات متناقضة  ،لقد رسمت كل واحدة منهن كما هي في واقع الحياة  وبالشكل  الذي يجب أن تكون عليه وفق رؤية الروائي .
تبدو الرواية من خلال تعدد الشخصيات  متعددة الأصوات ، فبالإضافة إلى الشخصيتين المركزيتين (  ساهر ، المدرس الأرمل و مريم ،زوجة الشهيد) هناك قدري و أمه و أخته مديحه و “نهى ” ابنة المدرس،  و الخال” الحاج عزالدين” و” هوبي “غير أن هذا التعدد لا يؤدي إلى اختفاء الراوي الخارجي ، المؤلف ، بل انه الصوت الأعلى لأنه العارف العليم  و المتسيد  إلى حـد كبير. أن تعدد الأصوات هذا يؤدي بالضرورة إلى تعدد الرؤى  و إلى تنوع مستويات السرد.
يوظف الروائي الخطاب الروائي  أسلوبا آخـرا في السيرة الروائية دون اللجوء إلى الخطاب التاريخي على الرغم من أن الرواية ذاتها تحفل بقـدر لا بأس به ، من الإشارات التاريخية من خلال الإشارة إلى نتائج الحرب ( ترمل الزوجات و يتم الأبناء و ثكل الأمهات ) بيد أن هذه الشخصيات لا تبدو على أنها تاريخية  ، إنها شواهـد على أحـداث  و ليست تسجيلا توثيقيا. إن الرواية كجنس أدبي معني بالمجتمع برصده السير الاجتماعية ، فلا بد وإن ْ يؤرخ الحوادث التي تؤثر بشكل و آخـر ،بالسيرة الاجتماعية للشخصيات الروائية و على مصائرها سلبا و إيجابا ، ويلجأ الروائي، من خلال تتابع الأحـداث ، إلى أسلوب التعـرية الرواية لشخصياته التي تتمحـور حول الشخصيتين المركزيتين  و بشكل خاص شخصية “قـدري ” الذي يصب الروائي عليه جام غضبه طوال الرواية . و كنتيجة لما تقـدم ، تتعـدد الأصوات و تتنوع أساليب السرد لكن يعلو صوت الراوي الخارجي  أكثر مما يعلو صوت الراوي الضمني من خلال الحوار، فنجد تسيـد  نوع على حساب نوع أخركما أسلفنا  غير أن الأسلوبين  يوظفان في عملية بناء روائي متجانس و كثيرا ما يلجأ الروائي إلى أسلوب الاسترجاع بغية تزويـد القارئ بمعلومات عن الشخصية و طبيعة تكوينها النفسي و المعـرفي .( ص 12) مثلا .
يستخدم الروائي بنجاح السرد بواسطة ضمير الغيبية (هـو)   ( اقتراب من البطل بما يضع مسافة بين السـرد و هذا البطل )  و  كما انه يستخدم  ، أحيانا ، السرد بواسطة ضمير المتكلم  (نوع من سيرة ذاتية ) ويوظف كلاهما في عملية ناجحة لإبراز الشكل الأساسي للرواية المتعددة الأصوات .أن هذا التزاوج ، نوعا ما ،  يوجـد نوعا من التجاذب بين الخطابين و بذلك تعرض الأحداث من وجهة نظر البطل نفسه و وجهة نظر السارد الآخر ، الشخصيات الأخرى ، أيضا وكثيرا ما نجـد الروائي يستعمل الطريقة التقليدية ( ضمير الغيبية ) في السرد  و يقوم بتعريف القارئ بما تكون عليه الشخصية  و لما تقوم به من أفعال ، انه راصـد كبير للسيرة الروائية من خلال سـردية النص .  كما أنه يستخدم ضمير المتكلم  ليتقرب أكثر من السيرة الذاتية وللخروج من الخطاب الروائي إلى حد ما  و ليقدم  أيضا ،عملية استكشاف دقيق لطبيعة الشخصيات و بهذا  يجعل القارئ ملما بتفاصيل عواطف تلك الشخصيات و أفكارها.  كما أنه ليس من الصعوبة للقارئ أن يستنتج الحكاية الثانوية التي تنشأ في النص الروائي لتكمل فكرة الرواية وحبكتها وكثيرا ما نجـد  هذه الحكاية تحقق أغراضها الجمالية  مثل قصة “هـوبي ” و “مـديحه “.  لا يلجأ السارد إلى الـرمز ألا ما نـدر رغم تعدد الدلالات الرمزية   (رمـز المـزار و المقابر و الأرامل والأيتام ) وتشير نهاية الرواية إلى رمزية عالية (زواج الأرامل )  إي استمـرار الحياة و العطاء  على الرغم من الانكسارات التي أصابت المجتمع إبان الحـرب . إن أسلوب المزاوجة بين نوعين من السرد يوفر نوعا من توافر روح الأداء الواحـد  و بهذا لا يكون الإيقاع سريعا كما انه ليس بطيئا ثقيلا فيبعث على الملل ،غير  إننا نجـد في بعض الأحيان و ليس دائما  نوعا من الإغراق في التفاصيل الدقيقة يأتي في سياق  السرد كوصف بيع الأرملة لمصوغاتها الذهبية (ص 384 ) كان بالإمكان التخلي عنه .
تشكل الرواية موقفا أخـلاقيا واضحا من الحـرب ، الحـدث التاريخي الكبير في الرواية ، بكل مكان وزمان ومن نتائجها لما لها من تأثيرات خطيرة على علاقات الناس أفرادا ومجموعات  غير انه لا يؤرخ للحـرب كأحـداث بل  انه تعامل مع نتائجها  في مجمل الحياة في البلـد و تعكس الإشارات  إليها التي تضمنها النص في مراحـل متعـددة  ( الأرامل و المعوقون والقبور وزيارتها من قبل الأهـل ) عمق تلك التأثيرات.لقـد تعامل الروائي معها  بشكل يميز الخطاب الروائي عن الخطاب التاريخي . انه لا يقوم بدور المؤرخ لتفاصيل دقيقة لذا لا نجد روايته تقترب من الطبيعة التسجيلية بتناولها فترة الحرب  و أن ْ حاول تسجيل أحداث مهمة في مسار الرواية مثل كيفية استشهاد ” فارس ” خلال إحدى الطلعات الجوية لطائرات العدو . ( ص 179) أو في وصف ” هوبي ”  لمحاولة إنقاذه جندي جريح في ارض المعركة و التي على إثرها أصيب إصابة خطيرة في ساقه مما سبب له العوق . (ص 235 و ما بعدها )   بيد انه لا يذكر في  أية حرب أصيب بها ” هـوبي ”  ثمة إشارة أخرى للحرب عند وصف جبن ” قدري ” وتخاذله .” في الوقت الذي كان الرجال يتساقطون في جبهات القتال دفاعا عن الوطن ، كان هو يختبئ في البيت مثل جـرذ مرعـوب “. ( ص 233)  و كقول ” مريم ” إلى ” ساهـر ”  و هما في المقبرة بجوار قبري زوجته و أبنه  ” قـدرنا أن تنتزع الحـرب أحبتنا منا . ” ( ص 272 )
تحفل الرواية  على الأغلب ،بمجموعة من الشخصيات النمطية  لا سيما النسائية منها ، مبنية على  فكرة أو خصوصية واحدة  ،لا تقدم الرواية تفاصيل كبيرة عنها F.M. Forster. ( Aspects of the  Novel ( 1927 )، باستثناء “مريم” الشخصية التي يلم القارئ بمعلومات و تفاصيل كثيرة عنها و تشكل شخصية “قدري ” نموذجا للشخصية المـركبة و المعقدة في مزاجها  و دافعتيها واضطراب  سلوكها ، أنها ذات خصوصية دقيقة فلا يمكن و صفها كشخص حقيقي قادر على إدهاشنا كأي شخص حقيقي   ( المصدر السابق ). بيد أنها رواية ذات بطل ايجابي  (المدرس و الأرملة  )الذي يجـد نفسه أمام خيارات صعبة تقوده إلى توكيد ذاته من خلال مواجهة الواقع، وتشكل جميع الشخصيات  طيفا رائعا للإنسان بما تبدي من أنماط سلوكية مقبولة و بما تمتلك من امتلاء وجداني كبير و صدق معتقد لذا هي دائما ضمن القبول الاجتماعي وأنساقه الأخلاقي .أن الشخصية النسائية  شخصية ايجابية  متماسكة وجدانيا و أخلاقيا كما أن الشخصية الذكورية  أيضا لها الحضور الايجابي نفسه باستثناء شخصية ” قدري ” بسلوكه الملتوي ونزوعه العدواني اتجاه الآخرين .
يتمثل  البطل  ” ألذكوري ” بشخصية “ساهـر عبد السلام ” المدرس الأرمل  منذ ست سنوات و الأب لشهيد حرب   وبنت ” نــهــى” في سن الزواج الذي ترفضه منذ تخرجها من الجامعة و ولد في العاشرة من العمر ، معوق بسبب قصور في نمـو الـغـدة النخامية مما يجعله يعيش في طفولة دائمة ( ص 34 ) . أنها شخصية ممتلئة بما لـديها من تراكم معـرفي و خبرة سنوات العمـر ،غير أنها تبدو مسكونة بنوع من القلق( كثرة التساؤل ) نتيجة التغير الذي يصيب قناعاته الفكرية بتقدم العمر و اغتناء التجربة المعاشة  ، كما انه يمر الآن بتحولات عاطفية كبيرة في وجدانه كأب ورجل أرمل يعيش في وحـدة  ،مـركـونا في عالم من صنع خاليه .( ص 153 ) و تكشف التساؤلات الكثيرة في داخله عن قلق نفسي على الرغم من قناعته ، خاصة  عندما يتعلق الأمـر بالآخرين ،  طلابه و ابنته و ولـده و مريم فيما بـعـد .( مسألة الزواج منها )
يكشف الروائي التغييرات التي يفرضها  عليه التقدم في العمر،مسببا أتساعا في الفضاء الروحاني  في نفسه ، فيبدأ يؤمـن ، إلى حـد ما، بالجانب الغيبي من الحياة  ( ص 143) و يظهـر ميلا و اهتماما بعلم الباراسكولوجي  على الرغم من عدم إيمانه بتفسيرات الناس لأمـور غيبية لا يقـرها العلم ( ص 182 \183 )   وكما في حديثه لطلاب صفه في المدرسة عن الخضر والموروث الشعبي . كما انه يظهر غير واثق من نفسه إمام أسئلة طلابه و خشية أن يحـرج بأسئلتهم أو أن يخـرج إلى فضاءات الحرية في الكلام  فيحس في قرارة نفسه أن ليس فيما يقوله شيء أو رأي قاطع  و صريح ، انه ليس مقتنعا تماما بما يقوله هو نفسه فكيف سيقنع به الآخرين؟ (.ص (143\ 144 ) غير أن وازعه الأخلاقي كبير  و هذا ما يسبب له نوعا من الارتباك عندما يحاول التقرب من الأرملة أو عندما يكـذب على ابنته ،كذبة الذهاب إلى حفلة العرس ( ص 80)  و نجد تأثير الوازع الأخلاقي كبيرا في تكوينه  حينما يصف حالته بعيدا عن الجنس ، انه لم يلمس جسد المـرأة منذ سنوات ، انه حبيس قوقعته الجسدية معزيا نفسه باستذكار فرص الجسد التي واتته خلال سني مراهقته مع فتيات و نساء متزوجات كـن يتوددن إليه   و تنطق عيونهن بالرغبة المشتعلة في  الداخـل . (81 ) كما انه مسكون بقلق خفي بسبب عوق ولده الصغير “حسام ” أن شخصية “ساهـر”  لا تكون فقط ساردة بل أنها راوية مشاركة في الحدث  و منها تنطلق معظم الأسترجاعات و أحـداث السـرد في الرواية .
أما الشخصية الذكورية الأخرى فهي شخصية “قدري ” أخ الشهيد “فارس ” زوج الأرملة “مريم”  و تعد  الشخصية الإشكالية في الرواية و كما أنها الطرف الآخر  في الموازنة الفنية مع شخصية المدرس “ساهر عبد السلام ”  لما تمتلك من نزعة شريرة  ويصب الروائي جام  غضبه عليه  فيصفه  بكل الصفات السيئة التي  تحمل القارئ على رفضه باستمرار، إنه مشاكس و نذل و متعال و  رعديد حين يحاصر و نزق سهل الإغضاب  و مسكون بعقدة الإحساس بالفشل ، شخص أفسدته حياة الترف التي عاشها في كنف أبيه ( ص67) ذو عناد أرعن و مظهرية جوفاء ، جاهل و غير مثقف و غير محب لأحد رغم وسامته ، أنه ذئب في أهاب إنسان . ( ص54 ) و لئيم و حقود لا يعرف معنى الأخوة و صلة الرحم. ( 251 ) لذا نجده رافضا لزواج أخته ” مـديحه” من ” هوبي ” لأنه  أبن فحام و معوق لا غير . له دهاء الثعلب الماكر و خبثه و وضاعته وهناك موقف آخر يقدمه الروائي دليلا على سفالته ، حين يقتحم  غرفة أخيه الغائب في جبهة القتال و يحاول اغتصاب زوجته ، “مريم”. لذا هو على استعداد لأن يـدير ظهـره لكل ما هو متعارف عليه  بين الناس ( 213) لا يعير اهتماما للعلاقة مع الآخرين إلا من خلال النفع حتى وإن كان نفعا رخيصا و على  حساب المبادئ . ثم انه ذو لسـان رخـو لا يتورع عن الكشف عما يفعله متباهيا بمغامراته العابثة دون أحساس بالخجل . ( 85 )
إن شخصية لها كل هذه الصفات لا تحمل قدرا من الفكر الرصين و لا يمكن أن تجعل القارئ  إلا أن يتخذ موقفا رافضا لها و لسلوكها و أفكارها اتجاه الحياة عامة  و تمثل هذا بموقف سائق سيارة الأجرة الذي يطلب منه ترك السيارة  من غير أن يدفع الأجرة احتجاجا على ما يطرحه من أفكار تسئ للوطن  و عدم كرهه  للذين يخططون لبسط سيطرتهم على العالم ويخبئون نياتهم وراء ستار العولمة . ( ص 24 و ما بعدها ) في نهاية الرواية  يظهر” قدري” ضعيفا منهزما  إمام المدرس “ساهر ” و ” مريم ” غير إن الروائي لا يتركه دون علاج تجسيدا لنزعته التصالحية البعيدة عن الانتقام فيجعله يعود إلى جادة الصواب متعافيا من أزمته الأخلاقية و حالة  اللاتوازن حين يسترد وعيه.
” مريم ”  أرملة شهيد حرب و أم لطفل صغير ، ترملت وهي لا تزال في رونق الشباب و هي على قسط كبير من الجمال . قوية و صلبة في مواقفها ، تستند إلى جدار قوي من الإرادة والعزم ، لا تنشد إلى سحر السرير و جوع الجسد، لها قدرة كبيرة على مقاومة حسيس الجسد .(ص 142)و بقيت قامة منتصبة برأس مرفوع . لا تشتكي مما تعانيه ، حرمانها الجنسي ، حتى في خلوتها مع نفسها .  و عندما تتحدث عن علاقتها مع المدرس نجدها تنجذب إلى سحـر غامض و تستجيب إلى نداء خفي يحفـزها على مواصلة السير إلى جواره . ( ص 334 )  أنها شخصية   غير مصابة بنوع من الرهاب و لا تعاني من أي خلل في تكوينها النفسي و الأخلاقي و لهذا لا تظهـر استجابة للإثارة تحت أي سلوك قهري تتعرض له من قبل ” قدري ” لما تمتلك من ولاء وصدق المعتقد.أنها محصنة بنوع من الردع الداخلي . أن ” مريم ” الطرف القوي في الرواية وتتمثل قوتها و بسالتها  برفضها محاولات  ” قدري ” لحملها على الزواج منه  لأنها تدرك تماما  انه طامع في مالها . و  تتمثل أيضا بموافقتها  على الزواج من المدرس الأرمل على الرغم من أنه يكبرها بعشرين عاما . أنها قادرة على صنع مستقبلها بنفسها . و يعبر هذا الموقف عن الحاجة الضرورية لتعديل بل تصحيح عادات و أعراف اجتماعية تقليدية موروثة من زمن مختلف لم تعـد بعـد الحـرب ملائمة و صالحة نتيجة لما  أستجد من ظروف  حيث تزايد عـدد الأرامل ليصبح وضع الأرملة وضعا مزريا  و من هذا المنطلق يتوجب النظر إلى زواج ” هـوبي ” معـوق الحـرب من ” مـديحـه ” ، أنه واقع جـديد يتطلب أعادة النظر في كثير من العادات والمفاهيم .
يذكر الروائي العربي الكبير ” حنا مينه ” في كتابه ” هواجس في التجربة الروائية  ص 91 ” أن البطل الايجابي ضرورة تاريخية و اجتماعية و روائية لأنه ينبغي أن يكون قدوة. و هذا  ما يفعله السيد خلوصي بتقدمه شخصيتي “ساهر عبد السلام” و ” مريم ”  على إنهما نموذجان رائعان لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان السوي لينجـز دوره الايجابي في المجتمع   وليكون جديرا بالاقتداء .
عند اقتراب الرواية من نهايتها ، تتغلب نزعة التصالح على نزعة الانتقام لـدى الروائي  لذا إننا إزاء نوعين من التحول: الأول ، عودة “قـدري ” إلى جادة الصواب وقبوله ثانية في دائرة الأهـل  وحضوره عقد قران المدرس من  “مريم ”  و قضية زواج ” هوبي ” من ” مديحه ” وتدخل الخال، الحاج عز الدين ،  فيها.( ص 100 و ما بعدها ) ،( نوع من تدخل السرد في تفصيل الحبكة الثانوية ) والثاني  دلالة انتصار وجهة نظر الروائي بزواج الأرامل بموافقة ومباركة الأهل  (المجتمع ) .  تعد هذه النهاية مقنعة و حاسمة من خلال انتصار قيم الخير والتسامح منطلقة من مبدأ العـدالة الشعـرية : مكافأة الأخيار و معاقبة الأشـرار  ، وينتصر الجميع بما يحملون من صفات الخير و المحبة و التسامح و التسامي  فوق الجروح و الإيذاء  ويهـزم “قـدري ” بما ما يحمل من اضطراب سلوكي و نزوع عـدواني يلازمه من بداية الرواية حتى نهايتها تقريبا. أن الروائي يقف بوضوح إلى جانب الشخصيات الايجابية التي تسمو إلى مواقف النبل و الخير بجدارة  و يعـزز قيمها بالتحاق ” قـدري ” بها، (عودة الابن الضال . )
لعنونة الرواية بكلمة واحـدة ” المـزار ” ،  كإشارة مكانية ، مملكة روحية ، دلالة عالية التـرميـز ، أنها العتبة الأولى للنص التي تشير إلى  دور الجانب الروحي وتأثيراته في سير الشخصيات. يوظف الروائي المزار فضاء للقاء الرجل الأرمل و الشابة الأرملة و بهذا يهيأ ذهـن القارئ لقبول شرعنة هـذه العلاقة و طهارتها. كما تشير زيارة هذا المـزار بوضوح إلى عمـق جـذر الأيمان الروحي لـدى الناس ، وتشكل  هذه الممارسة جـزءا من البناء الروحي لقطاع واسع من المجـتمـع .( ص 242) أنه ” طـقـس يبعـث على راحـة روحية ” أن هـذه الإشارة المكانية ذات دلالة رمـزية فائقة .أنها تشير بوضوح إلى دور الفكر الغيبي في الرواية وتقدم تفسيرا مفاده أن الإنسان ليس جسـدا  و حسب، أنه روح أيضا و أن أيمانه بالخوارق والمعجـزات و كرامات الأولياء على علاقة بالروح ، لكن ، حسب رؤية الروائي ، لا شيء يحـدث دون أمـر الله  (ص 184 )  و هـذا ما يفسر لنا تقاليد الموروث الشعبي الـذي يتمثل بإيقاد الشمـوع على كـرب النخيل و دفعـها على سطح المـاء . (  ص185 ) و كذلك وضع الحـناء على جـدران المـزار إيفاء بالنـذر، ،أشارة إلى تحقيق  ما يطلبه الـفـرد من الخضـر .
و تشير  دلالة المـزار ، في الوقت ذاته ، إلى الخيال الشعبي و موروثاته  التي يتناقلها الناس  جيلا بعـد جيل , كما أنها تشير إلى طبيعة تكوين الـذهنية العراقية و العربية التي تؤمـن بالخـرافة و الأسطورة ، أي القطاع الخـرافي و الأسطوري  للعقـل العـربي حسب وصف الـدكتور ” علي زيعـور ” في كتابه ( تحـليل الـذات الـعـربية   .ص 10). أن الروائي يورد كل هذا ليشير  إلى ما يتغلغل في النسيج الروحي لتلك الـذات و يلعب الـمزار دورا رائعـا في الكشـف عن الأيمان الروحي  المتوارث  لديها ، كما أنه يجسـد أيضا الأيمان بالخـوارق و كرامات الأولياء وتحـكم ذلك في مصير تلك الـذات . لقد أصبح المـزار منطلق إشعاع روحاني كبير بل  وحيـد فتمحـورت حوله كل الإشارات  الفلسفية و الدينية التي تعبر عن المعتقدات  ليس على مستوى الشخصيتين المركزيتين ” ساهـر عبد السلام ” و ” مريم ” بل  المجتمع كله و عبر فترات زمنية مختلفة . انه لا يؤمن بها  كممارسات ، بل انه يحترمها ليعبر بذلك عن احترامه للذين يؤمنون بها . (ص242)
أن هذه الرواية منجـز إبـداعي مستـوفيا ، إلى حـد كبير ، شروطه الفنية  و هذا ما يجعله في مديات الأنجـاز الجمالي . لـقـد تمكـن الروائي من أن يعبر عن رؤاه الاجتماعية والفكـرية والسياسية بقصديه محسـوبة من خلال قصديه النص نفسه و بلغـة بسيطة مـؤثـرة  بالإضافة إلى جعله شخصياته شخصيات نامية متطورة و واقعية و ليست خيالية .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *