يقدّم ” ضياء الخالدي ” ،من خلال روايته ” قـَتـَلة ” ، لوحة بانورامية للموت مرسومة بألوان صارخة يطغى عليها لون الدم ومؤطرة بالحس المأساوي بدءا ً من عنوانها الاستفزازي المباشر ، مرورا ً بجوها القاتم وليس انتهاءا ً بخاتمتها المفتوحة على أسوء الاحتمالات .
تقع الرواية في مئة وتسعين صفحة من القطع المتوسط تتوزع على ثلاثة عشر فصلا ، يتوجها الروائي باهدائها الى أمه ” الى أمي … وحدها لا غير ” ويقتبس قولاً لنيتشه يوظفه في مقدمة الرواية : ” من ينازع وحوشا ً يجب أن ينتبه جيدا ً ألاّ يتحول الى وحش ، فحين تطيل النظر الى الهاوية ، تنظر الهاوية اليك ” . واذا تمعنا بصورة الغلاف ( وهي لهاتف فرحات ) سنجدها تنضاف الى العنوان ومقولة نيتشة ، في الايحاء بطبيعة الأحداث التي تناولتها الرواية . فالطفلة الواقفة خلل فتحة في قاطع كونكريتي ربما أحدثتها قذيفة ، تبدو كأنها تنظر الى مكان ما ، لعلهالحي الذي يقع فيه بيتهم الذي تم تهجيرهم منه ، أو أنها تتطلع الى واقع مغاير للواقع الآني الذي تعيشه وتتطلع من خلاله الى المستقبل ، وهو مستقبل قد يكون غامضا ً أو مجهولا ً . ويبدو واضحا ً ان الفنان الذي صمم الغلاف استوحى الصورة التي استخدمها من مقطع ورد في الرواية ” تحيط السيدية جدران اسمنتية تمتد بمحاذاة الشارع الرئيس ، وهناك فتحة في الكونكريت وقفت عندها طفلة ترنو للعالم الخارجي. ربما تنتظر أبا ً أو أخا ً . ” ( ص 109 ) .
ان الخالدي ينظر الى الهاوية حقا ً ، ببصرٍ يقظ ، يتوغل في أعماقها ليكشف عن خفاياها بتبصّر ووعي وبحس نقدي لا يخلو من قسوة صادمة مستمدة من قسوة هذه الأحداث . تتعرض الرواية الى فترة قريبة جدا ً من تاريخ العراق الحديث ، فترة حساسة تتمثل في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة على وجه التحديد، وما شهدته بغداد ، وهي مكان الأحداث الرئيسي ، من مآس ٍيقول عنها الروائي على لسان السارد : ” في الشهور الماضية امتلأت الشوارع بالجثث، والحرب الأهلية الشاملة التي كنا نقرأ عنها في الكتب والصحف صرنا نعيشها . الهوتو والتوتسي يلعبون في أزقة عاصمة دأبت عبر تاريخها على أن تطرد أبناءها خارج الحدود أو تضعهم وراء القضبان ” ( ص105 ) ، و ” وأنت تسير في أحياء العاصمة ، وخاصة الضواحي ، ستجد صبية بملابس سود يحملون بنادق كلاشنكوف . مراهقون يعرفون بدقة أخبار الموضة وأين وصلت في تسريحة الشعر أو الملابس والأحذية وتحولوا خلال السنين الثلاث الأخيرة الى اداء دور يتحكم فيه رجال عن بُعد ” (ص 106 )أو ” مفردة الموت تتكرر في الأمكنة والأزمنة والأحلام ” ( ص 107 ).. وبسبب حداثة زمن أحداث شهدها الناس ، فإن ثمة ما يستلزم أن يكون من يتصدى لمثلها ، دقيقا ًٍ وأمينا ًفي تناولها ، وأزعم ان ضياء الخالدي كان كذلك.
لقد بدا ، من خلال بطله السارد عماد الغريب ، على المام واضح بتفاصيل جغرافية الأمكنة ، تفاصيل تجعل المرء يعتقد بأن الروائي نفسه ، وقد تقمص شخصية بطله السارد ، كان على تماس مباشر مع الأحداث التي وقعت فيها وشاهد عيان عليها أو انه عاشها بنفسه بتفاصيلها المؤلمة . وبطل الرواية عماد الغريب ، غريب في شخصه حقا ً . لقد قدم الروائي من خلاله نموذجا ً للانتهازية العقائدية والسياسية وتخلخل الرؤية الفكرية ، وتذبذب الإيمان بالأفكار التي يحملها ثم ما يلبث أن يتحول عنها في تنقـّل متواترخاضع لطبيعة الاتجاه العام في الفترة الزمنية التي يعيشها . فقد بدأ بالايمان بالفكر الماركسي حين كانت الظروف التي استحدثتها ثورة 14 تموز 1958 تشجع على مثل هذا الايمان ، وما لبث أن اصبح بعثيا ً بعد 8 شباط ، لكن تذبذب ايمانه ظل يرافقه وظلت تحولاته قلقة إذ ما لبث أن عاد الى انتمائه الفكري الأول ولكن دون ثبات ، لتقوده سلسلة التحولات الى اللواذ بالدين وقد تجسد ذلك في قوله وهو في طريقه الى مرقد الإمام زين العابدين عندما كان هاربا ًالى كركوك من شبح القتل على يد زمرة ” ديار ” التي كان يعمل معها وانقلب عليها : ” وها أنذا أقترب من القبة الخضراء في الشمال . فلتمت الكتب وضجيجها ، ولتكن الريح الشديدة التي تعول في داقوق بمثابة مكنسة تزيح قمامة ما آمنت به سابقا ً . لا أريد ان أفكر ، واستنتج ، وأحكم على الناس . بل أحدق في السماء فلقط ! ” ( ص 178 ) . ويلقي بطل الرواية تبعة ما حدث ويحدث على عاتق حرب احتلال العراق . فحيث كان يسير هو وزوجته نحو مرقد الامام بحثا ً عن الخلاص ، ” كانت التلال تحيط جسدين تسمّرا على قارعة الطريق . الأرض مليئة بالحصى ومزعجة كانها الغربة بعينها . حتى اللغة اختلفت . انها الحرب الأخيرة التي قلبت كل شيء. لا يزال الدوي مستمرا ً والبشر يسقطون فليكن الإمام ملاذنا ومقامه الطاهر في أعلى التل مقصدنا ” ( ص 178 ) . لكن هذا التحول الجديد ما يلبث أن يتخلخل هو الآخر. فقد ظل حلم العودة الى بغداد ، والى ” السيدية “حيّه السابق على وجه التحديد ، يأسر روحه ويهيمن على تفكيره ، حتى اذا ما وجد فرصة أن يفعل ذلك ، وإن كانت فرصة محفوفة بالمخاطر ، غامر بانتهازها : ” كنت أمسك بالمصحف بقوة وذهني يحاول أن يرسم لي السيدية لحظة دخولي اليها . لا مجال للتفكير بما انساق اليه ، فالكوابيس والوساوس تكبر حين أنشغل بما سيواجهني . فلأعتمد على الحظ هذه المرة . معي القرآن وبركات الإمام والشيخ وقلبه الذي دعاني للرجوع ” ( ص 183 ) ، وكأنه هنا يسعى للرجوع الى جذوره الأولى : جذور الانتماء الى الماضي والى الحي السكني والمدينة والوطن بالتالي . لكن الفرصة التي كان يحرص على انتهازها ، اصطدت بعقبة لم يكن ينتظرها وإن كانت عقبة متوقعة في زمن الاحتلال ، فقد ” ظهر رتل همفي أمريكي في خط السير المعاكس ، ولأن الشارع ضيق ذهابا ً وأيابا ً ، فقد خرجت سيارتنا عن الطريق وتوقفت على التراب . الأوامر تقول ان على السيارات المدنية المعاكسة التوقف حين يظهر الأمريكان . أما السيارات التي خلف الرتل فعليها الابتعاد مائة متر على الأقل . من سوء حظنا ان الرتل توقف . تلك مشكلة كبيرة ، فلا نعرف متى سينطلق ثانية ً؟ والشمس تنحدر نحو الغروب ” ( ص 184 ) ، وكأن هذا كان عامل إحباط قاد الى اهتزاز ايمانه الجديد الذي اشرنا اليه بعد أن طال الانتظار وهو في السيارة التي كانت تقله وزوجته الى منظقة ” العظيم ” وهي أقصى ما تصل اليها السيارة آنذاك كمحطة ممكنة في طريق العودة الى بغداد ، وحين طال الانتظاركثيرا ً ، طلب من زوجته أن تتمددعلى مقعد السيارة الخلفي و : ” نزلتُ من السيارة وشاركتُ السائق شرب العرق ، وقد بدا مسرورا ً وراح يحدثني أحاديث مضحكة وكأننا صديقان منذ زمن طويل . أنهينا قنينة العرق والأميركان لم يتحركوا ، تمددنا على حصيرة وغرقت في نوم لم أذق مثله منذ زمن طويل ” ( ص 190 )، فعل هذا مستسلما ً، في محاولة للهروب من الواقع الذي هو فيه شأنه في ذلك شأن سائق السيارة القديمة .
ومن أوجه الغرابة في شخصية بطل الرواية انه كان مسكونا ً بحلم تنقية المجتمع بتطهيره من السيئين فيه من خلال تصفيتهم جسدبا ً ، وهو حلم يقظة طوباوي يكشف عن دخيلة غير متوازنة . ولعل هذا الحلم هو الذي قاده الى اعادة الارتباط بصديقه السابق ” ديار ” وهي الشخصية التي تلي شخصيته في الأهمية . كان ديار زميل دراسة في المرحلة المتوسطة وهو الذي فتح عينيه على الفكر الماركسي متأثرا ً بأخية السجين السياسي الذي مات في السجن . اغترب وعاد من اغترابه مع من عاد في زمن الاحتلال ، لكنه عاد بوجه مغاير لذلك الوجه الذي كان عليه في مطلع شبابه ، واذا به يفتتح مكتبا ًمجهول الهوية ويسرف في صرف الدولارات دون أن يعرف “عماد الغريب ” مصدرها وكلّف عماد بمهام ذات صبغة مشبوهة ، مهمة تجسسية على وجه التحديد : ” حالما وصل ديار الى العاصمة طلب مني أن أدوّن له على الورق ما أعرفه عن احياء بغداد . الناس والبيوت والشوارع والحياة اليومية . بدت مهمة كبيرة وأنا أتعامل مع بشر يتحفوننا يوميا ً بالمفاجآت ، وينجزون اعمالهم بالسخط والرضا ” ( ص 21 ) ، ليتضح فيما بعد أنه كان يشرف على جانب من عمليات القتل التي سادت زمن الاقتتال الذي شهدته بغداد آنذاك ، واستطاع أن يجذب عماد اليه فاستجاب هذا ربما مدفوعا ً بآثار حلمه بتنقية المجتمع من السيئين ، فكانت أول عملية له على طريق المران على تحقيق ذلك الحلم ، أن قاد أبا حمدان ، وهو جار له في حيّه ، بالخديعة الى فخ انتهى به قتيلا ً في سيارته ، مبررا ً فعلته البشعة بقوله ان أبا حمدان كان ” نذلا ً يفتعل المشاجرات مع جيرانه. يدمر كل من اختلف معه حتى لو كانت القضية تافهة ” لا يهمه سوى تأمين مصالحه الشخصية دون النظر الى أي اعتبار آخرثم صار يتعامل مع جماعات مسلحة ذات تأثير في المنطقة . لكن الشعور بالندم صار هاجس عماد بعد ذلك : ” حين أضع رأسي على الوسادة ، يستيقظ أبو حمدان ، فأحاول الهرب من شبحه ، يبدو من القوة بحيث يمنعني من تشتيت صورته . هناك صوت يأتيني من بعيد ، يتهمني بالنذالة ، والخسة ، يردد : كان أبو حمدان يثق بك ثقة عمياء ، وقد غدرت فيه. لن تنفع الكلمات التي ستبرر بها فعلتك ” ( ص 117 ) ، ولعل ذلك كان سببا ً في ارتداده عن المنحى الذي ورط نقسه فيه .
ان الروائي يبرىء ذمة اليسار من سلوك ديار المنحرف . حين يلومه عماد : ” الانسان اليساري لا ينجرف الى هذه الوساخة ” يرد بالقول :” لست يساريا ً. كانت مرحلة مراهقة وانتهت “( ص 139 ــ 140 ” . وقد أدان سلوك ديار اللاأخلاقي حين أشار الى واقعة اغتصابه للصبية ابنة جارهم قي زمن مراهقته واضطراره للزواج منها درءأ ً للفضيحة وتحت التهديد ، ثم عاد وطلقها بعد عام. ويبدو ان هذا الفعل لم يكن وليد نزوة طائشة من نزوات المراهقة وأنما وليد خلل أخلاقي . فقد تكرر ذلك حين عاد من الخارج وهو في الستين من عمره ،إذ استغل الصبية ذات الثلاثة عشر ربيعا ً التي جاءت تلوذ به في مكتبه هربا ً من أهلها الذين كانوا سيقتلونها ، فأقام حفلة ماجنة على شرف جسدها الرخيص الذي انتهكه . وفعل الروائي بصديق عماد السابق عبود مثلما فعل بديار . فهذا اليساري السابق عاد بوجه مغاير هو الآخر ، ( وقد كانت الشبهات تلاحقه حتى بعد تركه الوطن ) ، فوضع نفسه في خدمة ديار والمهمة المشبوهة التي كلف بها عندما كانا في الخارج . .
لم يكن عماد الغريب شابا ً نزقا ً يقوده طيشه الى أن يتصرف بحماقة ، فهو على ابواب الشيخوخة غيران ما كان يعاني منه انه لم ينجب ولعل عدم الانجاب خلخل وضعه النفسي وأورثه ضربا ً من الحقد وجد منفذا للتنفيس عنه من خلال عمله بمعية الزمرة التي مارست التقتيل وبينها قاتل محترف نفذ عملية تصفية أبي حمدان بحضوره ، فضلا ً عن ايمانه بالغيبيات حتى انه قال للشيخ القيّم في مرقد الامام زين العابدين : ” الجن تطاردني ، وربما هي الآن خارج هذا المقام .. …أخبرني السحرة ولا أعرف كيف أتخلص منهم ” ( ص 180 ) . غير انه أجرى مراجعة ذاتية في آخر المطاف ووجد انه كان على خطأ ، وشعر ان عليه أن ينقي نفسه قبل أن يفكر بتنقية المجتمع .
وأزعم ان الروائي زج بشخصية شكرية في مجرى احداث روايته دون أن تترك تأثيرأ على سيرورة عملية تطورهذه الأحداث . . وشكرية هذه ثمامنينية ذات ماض ٍ ملوث تمتد جذوره الى المبغى العام السابق . يقول عماد : ” أثار عبود فينا الرغبة بحديثه عن شكرية وقوتها الفريدة ، حيث يمكنها التنقيب عن البشر والأشياء ومعرفة أسرار الحوادث والوقائع . وصلت أخبارها الى لندن ، حيث أوساط السياسيين المعارضين ، الذين أرادوا استثمار موهبتها ” ( ص 29 ) ، وإذا بها تصبح عالة على عماد ولا تقدم شيئا ً يذكروقد أخطأت في العديد من تنبؤاتها وتوقعااتها . ولعل الروائي أراد من وراء الزج بها أن يكشف عن ضحالة تفكير الذين فكروا بالاستعانة بها .
ان هذه الرواية التي كتبت بلغة متدفقة تجعل القارىء يلهث للحاق بها ، جاءت وثيقة ادانة لكل ما يتهدد الإنسان من ارهاب وقتل وعنف واختطاف وتهجير ، وما يصادر حريته وحقه في العيش بأمان ، ليس في العراق حسب وانما في كل مكان ، وهي بشهادة شاهد يحتكم الى ضمير كان غائبا ً فاسترده ليكفـّر عن ذنوب سابقة وصار هاجسه قول الحقيقة كما رآها ، دون أن ينحاز الى أحد أو ضد أحد !
ناطق خلوصي : بانوراما الموت في رواية
تعليقات الفيسبوك