تخليق السرد في رواية ” ذاكرة ارانجا ” للروائي محمد علوان جبر هو عملية حذرة لكنها تتطور بمقويات مقتناة من مصادر مشتركة بين الاسطورة والتاريخ الواقعي للاحداث . “ارانجا” هو الاسم التاريخي لمدينة كركوك التي وجدت على خارطة الوطن العراقي منذ خمسة الاف سنه / وهي فترة زمنية تقارب تاريخ بداية الحضارة أو الحضارات العراقية . وعرف عن المدينة انها صارت موطنا لاقوام مختلفة لكنها متفقة على العيش بسلام في ظل حقوق منجزة ومتفاهم عليها بين الجميع بالكثير من العفوية . لذلك فخارطة الاحداث وتوزيعها في السرد الروائي في ” ذاكرة ارانجا ” تمتد على وفق امتداد الوطن العراقي لأن اقوام كركوك يمتلكون امتداداتهم في التضاريس العراقية ، لكننا نحذر من امكانية فهم هذه الفكرة على اساس ان شخوص الرواية هم من نفس المدينة ويمثلون اطيافها القومية . نريد ان نقول ان حضن كركوك قد اطلق دفئا مماثلا لدفىء المناطق الاخرى التي كانت سوحا لاحداث هذا العمل السردي وهي بذلك ليست حزاما اطاريا خارج البيئة الروائية بل بؤرة حرارية داخلية اسست للتطور اللاحق للشخوص وانضاج الصخب السردي في نسغها.هنا يفرض المكان هيبته رغم محاولات التحليق الناجزة للعبور الى الرحاب الانسانية. إن مصدر هذه الهيبة التي يطلقها المكان يكمن في ان العراق باكمله هو الحاضر من خلال ارانجا او كركوك . ان رواية ” ذاكرة ارانجا ” لا تكتفي بقدرتها على التسجيل الواقعي بل تتعداه الى التحليل والاستبطان النفسي للشخصيات الذي من خلاله
قدمت عرضا لحال الواقع الاجتماعي والسياسي . انها بهذا تقدم نفسها باعتبارها رواية شخصيات بالدرجة الاولى ، بمعنى انها ركزت على الشخصيات ضمن اطار ثلاثة ركائز بؤرية تبث محتوياتها مما تحمله على اكتافها من احداث تنتضمها حبكة متحركة رئيسة وحبكات ثانوية تتطلبها سير الاحداث وضرورات تقديم الشخصيات .هذه الركائز هي اولا انتقاء الشخصيات ،ثانيا تقديم الشخصيات وثالثا تطورها او ثباتها . اظهر الكاتب قدرته المميزة في انتقاء الشخصية القادرة على خلق علاقة حميمية مع القارىء وهو بهذا ضَمِن ذلك النوع الضروري من الـتآلف بين القارىء والشخصية . لأن هموم ” هوبي عبد الرزاق ” و”نجمة” “وابراهيم ” “وسلام” والاشعاع الذي تبثه شخصية ” حسنة ” رغم ثانويتها هي انشغالات ولدت وتولد اليوم في احضان المجتمع رغم اختلاف الظروف التاريخية . ان ” هوبي ” ليس الاسم الحقيقي لهذه ىالشخصية بل ان اسمه السابق ” حسن ” لم يسعفه في إجرءات الدخول الى الخدمة الطوعية في الجيش بحثا عن تحريك وسائل العيش اليومي بعد هجرته الاضطرارية من قريته ” المجرية” الى البصرة فحصل ” هوبي” على اسمه عن طريق الصدفة واستمر في ملازمته حتى بعد ان تعرض للاعتقال والتعذيب والتشريد دون ان يرتكب ذنبا بل ان ذنبه الوحيد يفرز الكثير من مرارة الظروف التي عاشها العراقيون اثر انقلاب شباط الدموي عام 1963 . قدّم مساعدة مالية بسيطة لعائلة زميله العريف ” على اكبر ” المناضل الشيوعي الذي اقتاده الحرس القومي الى غياهب معتقلاته تاركا عائلته دون معيل فاصبح هوبي البريء شيوعيا خطرا في نظر الجلادين الجدد ورافقته هذه التهمة رغم اصراره على الابتعاد عن العمل الحزبي لصالح الشيوعيين ، بل اكتفى بحبهم الذي لا يستطيع اخفائه ، وقد تكونت عناصر هذا الحب بعد تراكم اسباب سيجري التطرق لها لاحقا . إنها ثيمة شائعة ليس في الحياة العراقية فقط بل وفي العالم ايضا لاسباب كثيرة ليس من شان هذه المقالة مناقشتها لكنها في العراق اكتسبت سعيرا خاصا بسبب حجم الظلم الذي وقع على رؤوس الناس . إن صفة الحميمية تنطبق على شخصيتي ” ابراهيم” و ” سلام ” ابني هوبي و” نجمة ” ايضا .
ينبغي القول ان هناك نوعان من الشخصيات في اي عمل سردي روائي ، الاول الشخصيات المتحركة والثاني الشخصيات الثابته وكلاهما يرتبطان بعلاقة تكاملية تؤسس الجسم السردي حتى نهاية كتابة النص. فعل هذا نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة ، حيث بقيت شخصيات السيد احمد عبد الجواد وزوجته أمينة وابنهما ياسين والشيخ متولي عبد الصمد ثابته لم تتغير رغم ان شخصيات احمد عبد الجواد وياسين والشيخ متولي مارست وعيا فعليا ايجابيا بينما مارست شخصية امينة هذا الوعي ولكن بشكل سلبي ، فواصلت هذه الشخصيات ثباتها مفضلة شغل مكانها السردي لاستكمال مكونات البناء الاجتماعي الذي يساهمون في تكوينه دون تحولات درامية . بينما تعرضت شخصيات كمال وابنا اخته أحمد وعبد المنعم الى تطورات فكرية وتغيرات في المواقف . فالثلاثية “بين القصرين، وقصرالشوق ،والسكرية” هي رواية اجيال ولابد لها ان تصور الشخصيات الثابتة والشخصيات المتحركة .
رواية ” ذاكرة ارانجا ” تحركت على مساحة ثلاث مراحل من تاريح العراق بدأت من العهد الملكي ومارست نوعا من المرور السريع على نتائج ما بعد ثورة تموز 1958فامسكت بالجوهري منها ، شخصية “شكيب” ثم فترة ما بعد انقلاب شباط 1963 كي تؤسس شخصياتها الثابتة : “شكيب وسامر واستاذ حسين وعلي أكبر” . ان ثبات هذه الشخصيات لا يعني انها خُلقت هكذا بل تطورت في ظل الحراك الاجتماعي والسياسي فبل بدء السرد الروائي حتى استقرت على ما هي عليه ، شيوعية حتى النخاع ومناضلة صلبه من اجل العدالة الاجتماعية وعاشت في اطار منظومة اخلاق استمدت من افكارها الشيوعية فصارت قادرة على بث اشعاعها الانساني على من يتصل بها لكن الرواية لاتتناول مسالة التطور الذي حصل على هذه الشخصيات فهي وجدتها هكذا وصار ثباتها على ذلك وظيفة سردية لاعطاء مسوغات التطور الذي حصل على الشخصيات المتحركة وهي هوبي ،الشخصية الرئيسية وابراهيم وسلام . اما شخصية ” نجمة ” فقد ظلت على حياديتها تمارس امومتها الثرية وحبها المؤكد لهوبي و العائلة وترى في علاقة زوجها بالشيوعيين سببا في تهديد استقرار العائلة وامنها فتسعى الى ابعاده وابعاد ولدها ابراهيم عنهم ، لكن هوبي لا يكف عن حبهم لانه خبِراخلاقهم وثقافتهم ، وان ابراهيم ورث هذا الحب عن ابيه فصار فنانا مبدعا بتاثيرهم وبعيدا عنهم ايضا . إن موقف “نجمة ” يمثل موقف معظم الامهات اللواتي يدركن ان الظلم الآتي من الانظمة الديكتاتورية هو المسبب الرئيسي لعدم الاستقرار العائلي بله الفقر الذي تعيشه هذه العائلات وهذا ما نسميه بالوعي الفعلي لكنه وعي سلبي بسبب اصرار هذه الأم على ابعاد زوجها وابنها عن الشيوعيين الذين يعملون بوسائلهم النضالية على انهاء ذلك التهديد. لكن الشيوعيين يجدون العذر لهذه العائلات المغلوبة على امرها في حرصها البدائي على امنها ويمضون في طريقهم النضالي الشاق دون منّه على أحد ويحبون شعبهم دون مقابل ، بل يتسلحون بهذا الحب في مجابهة الصعاب . لذلك تبقى “نجمة ” تلك الام التي جعلت من امومتها سلاحا يحمي عائلتها من غوائل الاحداث موضع احترام من قبلهم باعتبارها انسانة حرة ونظيفة . وهكذا انضمت شخصية ” نجمة الى الشخصيات الثابتة الاخرى بوعيها الفعلي السلبي بينما واصل هوبي تطوره الحياتي والسياسي من قروي عاشق الى مهاجر الى وسيط في تهريب المجوهرات وهو يواصل اغتراف حبه للشيوعيين بعد لقاءه بالشخصية الشيوعية الثابتة ” شكيب ” ثم لقاءه في المعتقل بسامر الشيوعي الاخر بعد ان اصبح رئيس عرفاء في الجيش ثم لقاءة بمعلم ابنه ابراهيم الشيوعي ” استاذ حسين ” وانتهائه بتعميق حبه رغم رفضه الارتباط بهم .
من هنا نستطيع القول ان شخصيات محمد علوان جبرالثابتة تحملت مهمة تحريك الاحداث السردية من وراء الستار كما يقال بتحويل شخصياته الرئيسية الى شخصيات متحركة على العكس من شخصيات نجيب محفوظ الثابتة التي لم تفعل ذلك بذات الفعالية لكن قيصر الرواية العربية اعتمد موجات الأحداث في تحريك الجسم السردي في ثلاثية تتكون من الف صفحة .
اما تقديم الشخصيات فهناك طريقتان معروفتان هما الطريقة المباشرة وغير المباشرة . استخدم الكاتب وسائل من كلا الطريقتين ، فمن وسائل الاولى استخدم الوصف والشرح والتصوير التدريجي والعامل النفسي وإن بشكل محدود . كذلك استخدم الكاتب اسلوب التقديم عن طريق شخصيات اخرى في الرواية . فشخصية ابراهيم قدمت شخصية هوبي من خلال خطاب موجه الى اخيه سلام قبل ان يولد . اما الكاتب فقد قدم سلام من خلال كونه منغولي ، ويمكن للقارىء ان يتصور شكل المنغولي اضافة للحالة النفسية لشخصية سلام وتعلقه باخية ابراهيم الذي لم يجد غيره من يتحدث اليه ويشاركه الضحك والحكايات . اما من وسائل الطريقة غير المباشرة وهي الاصعب وهي التي تظهر التألق الابداعي الوعر استخدم الكاتب الحديث الذي تقدمه الشخصيات ، والاحداث التي انخرطوا فيها التي هي انعكاس لبعض تكوينات نفوسهم وموقفهم . كذلك استخدم اسلوب تاثير الشخصيات على بعضها البعض : تاثير شكيب على هوبي وابراهيم على سلام ، وهكذا تبادلت الشخصيات تاثيرها على بعضها البعض الامر الذي ساهم في القاء الضوء على زوايا من عالمها الداخلي والخارجي . كل ذلك جرى في ظل تحول مستمر للسارد من السارد الاول الى السارد كلي المعرفة ، بل هناك السارد المشكوك في معرفته كما يعرف اكاديميا كما فعل ابراهيم عن عائلته ..
ان رواية ” ذاكرة ارنجا ” ليست عملا بسيطا ، بل انها حاولت استنطاق التاريخ والانسان معا وخلقت ذلك النوع الجذاب من التماهي بينهما ، واوضحت بجلاء ان الانسان ليس صانعا للتاريخ فحسب بل عجلة جبارة تغذ السير نحو تاريخ جديد رغم ظهور ما يعيق حركته .
عبد العزيز لازم : تغذية السرد في “ذاكرة أرانجا”
تعليقات الفيسبوك