هشام القيسي : العالم وضحاياه ، فريد زامدار نهار مسور بالحكمة

أية رغبة في تلك اللحظات يرصدها ويجتاز صيحة الأرصفة والأزقة والكلمات ؟ وأية رغبة لم تندثر بعد ؟   انه حلم جميل يردده ولا يردد ، فهو ينبوع لا يستدرج ضياءه لأنه يدرك قطراته وطريقه . وأعبائه عبرت   طرقات تشير الى صباحات زاحفة كونه يفتح نوافذه ويكلم لغة الفجر من الباب المفتوح . وحيثما يصغي لا يجد سوى هذا الصمت المتأجج الذي لا ينهكه ، تراه يطل حريقا : –

(( حلم كاذب
يقسم ظلال هذا الفلك الراكض
يدوس الوجوه اللامكتوبة بالاقدام ،
أريد شعرا يفهمني
ليعيل أرواح الكائنات غير المخلوقة
ويلملم قطع أخلامي …  )) ( 1 )

مازال يعرف أكثر ويرشد ، وها هو ذا في عواطفه ودفاتره لايعود الى مواقده بل يغني ويعلو في هذا العالم العازف على قيثارة الغابة ، والمانح جمرات تحت خيام الظلام والنهار ، وتحت مشاهد تضج بالانكسارات والأحلام المعتادة والكلمات الموشاة بدعوات مبطنة  : –

(( انسكبت داخل ليلة موسمية مقيمة
بصورة خربة ،
كنت تشم نسمة حبلى بعمق يمضي
ولا يرغب في مغادرتك ،
ترقص خارج قدرة الفلك
ترقص .. تختنق .. ترقص .. تبكي
تبلغ بدايات السعادة والنسيان … )) ( 2 )

فريد زامدار إذاً يقدح رؤاه ، ويشهر شرارات  ألآم العوالم كي يلعن الظلام والبكاء وتعب الأحياء : –

(( كنت جرحا مقدسا
وشبحا ممشوقا
لم تدع الفضاء
ينطفيء أمام رؤيتك
التراب والجمال مزيجان أزليان
يعبران ذلك الرمس المعدوم اللون … )) ( 3 )

ويتطلع نحو أزمنة لها قيعان تنادي وتصعد وتعلو في أوقات يتعطل فيها الأرق المنبوذ والدفاتر .
ومن يوم الى يوم يدرك ان الفأس المخبول ينمو في خرائب الأيام المشغولة ، وله في عتمة المياه دعوات تمسها خطب ولكن بصوت آخر باتجاه ذئاب تسوق ومسامير تعبث في أزمنة وزوايا ومدارات هزيلة : –

(( أرى نفسي ضيفا على مائدة أفكاري
أرى نفسي ضيفا على لساني
أرى نفسي ضيفا على دواخل
رأسي
أرى نفسي ضيفا على دواخل
عيني
أقصى أمانيَّ في الحياة .. أن
أتوصل الى معرفة ذاتي ، وأن أصبح
ذاتي … )) ( 4)

أيضا طقوس زامدار وكلماته هي أمتعة وأسوار تصغي للهواء ولا تحتار ، كونها تشرق مثل شمس الصباح ،ومن أبواب الذاكرة تنفتح لها ساعات الانتظار والبداية ومآدب الشعراء المليئة بالتوحد والواعدة بالبحر : –

كل شيء داخل رأسك
ذو قيمة …
ذاتك
تستعيدها في ذاتك .
أمام عينيك … كل شيء
مثل ذاتك ،
متجدد
عنوان تجددك
تتركه في تلك الطرق التي
خبرت ضياعك ،
خبرت سيرك وخطاك
تسمع وقع  قدميك
جيئة وذهابا …  )) ( 5 )

وحيث يبدو العالم مركبا مثقوبا في النهارات المحروقة ، تحوم كائناته في دوي الاشتباك ، وبين الصفحات لأولى وبين الأيام التي تهرب من سجلاتها ، لا يكتفي صوت زامدار الساخن للآحتفال بذكرى الانسان والأشياء البيضاء ومهد الأبدية : –

(( ثمة مئات المسافات الواسعة
رأسك مثقل …
لمن ستأخذه … والى أين ؟
آلام راسك المتمرد
أقوى من موتك …
أين ستأخذ
موت منتصف حياتك ؟
حتى تحس بوجودك
تحس بتكرار
حلم تاريخ
نحر لوركا . )) ( 6 )

كذلك في قاع قلبه ،   وفي أعماق فكره شيء وحيد ينادي وينتفض ، يضيء ويمشي في مصاف الأحياء ، لأنه يحب  ، ويحب من وراء سدود عالية يتنقل بفصول سريالية وفلسفية مليئة بالكلام ، لا تعرف الانطفاء  ولا تنحني : –

(( تأتين …
وأشم فيك رائحة وردة محترقة ،
السماء والماء
يفترقان .. عند استقبالك
لن تعزف  لك
مثل هذه الموسيقى
في كل مرة .
حتى وأنت تقضين نحبك
تحنين الى عزف مزمار
يليق بك
لأجل سماع لحن خالد ومقدس … )) ( 7 )

بهذه المراكب ، وفي أطراف هذا العالم وعبر أمتعة تتعرى في صفحاتها الأولى يشهر فريد زامدار عالمه الفلسفي والسريالي ، ويؤشر لنافذة سحرية يحلم عبرها الانسان .

الهوامش
——–   

( 1 ) اختبارات مميتة . قصائد للشاعر الكوردي فريد زامدار . ترجمة عبدالخالق البرزنجي 21 – 4 – 2011 ملف .
( 2 ) اختبارات مميتة ، كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا .
( 3 ) كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا .
( 4 ) صلاح برواري : فريد زامدار صوت ذئب يصوغ لون عينيَّ ، ملحق النهار الأحد 14 – آيار – 2006
قصيدة صليب الموقف والانكسار – أواخر صيف 1983 .
( 5) نفس المصدر ، خريف  1983
(6 ) نفس المصدر ، أواخر صيف 1984 .
( 7 ) نفس المصدر  ، قصيدة الأخاسيف .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *