ناطق خلوصي : تطفّل !

على جاري عادته ضحى  ً ، استلقى على الأريكة الخشبية القديمة المركونة لصق جدار الطارمة المطلة على حديقة البيت . هكذا يفعل كل يوم : يقرأ أو يفكر ويتأمل ، باحثا ً عن فكرة قصة يقتنصها من هنا أو هناك ، وقد شحت الأفكار لديه ويخشى ، وقد استبدت به الشيخوخة ، أن يفتقدها بعد الآن .
فجأة ً سقط ظل شخصٍ ما قريبا ً منه ، فهبّ من مكانه على عجل ، وإذ أدار رأسه رآها تقف على مقربة ذراع من الباب الخشبية المفتوحة . احتدّ صوته :
ــ ما الذي جاء بك الى هنا ؟
ردّت بصوت خافت :
ــ طلب مساعدة .
ــ ومن أين دخلت ؟
ــ من هنا .
وأشارت الى الحديقة فأدرك انها تسللت محتمية ً بأغصان الأشجار . ساوره الشك بسوء نيتها . قال :
ــ لا أحد يطلب مساعدة بهذه الطريقة اذا كان سليم النية .
ــ كيف يطلبها إذن ؟
ــ يطرق الأبواب وينتظر من يخرج اليه ، وأنت لم تفعلي ذلك .
ــ سامحني يا عمي فقد كنت على عجلة من أمري .
ــ وما الذي دعاك الى ذلك ؟
ــ زوجي مريض وهو راقد في المستشفى وقد أجرى عملية جراحية قبل يومين . انه شبه معوّق أصلا ً ، واليوم هو موعد زيارته وأريد أن أشتري له بعض الطعام . أنت تدري ان طعام المستشفيات تعافه النفس .
رآها تنظر اليه ببصر ثابت وخيّل اليه ان فكرة قصة جاءته ماشية ً وعليه أن يقتنصها فبل أن تهرب . أومأ برأسه اليها فاقتربت منه . ومن أجل أن يجس نبضها ، أشار اليها أن تجلس ، فجلست الى جواره دون تردد . تأملها ، وقد كاد فخذها يحادد فخذه ، فوجد فيها ما يبعث على الاشمئزاز: وجه داكن تتوزعه شعيرات ناتئة والزغب ينتشر على شفتها العليا ورائحة زنخ تزكم الأنف . تنحى قليلا ً ليبتعد بجسده عنها فوجدها تقترب منه . هل أوقع نفسه في ورطة حين اشار عليها أن تجلس ؟ ما الذي سيظنه من يراهما معا ً حين ينظر خلل المشبك الذي يعلو باب البيت الحديدية ؟
قال :
ــ وماذا يعمل زوجك ؟
ردّت بصوت خفيض :
ــ عاطل مثل كثير من الناس.
ـ كيف تعيشون إذن  ؟
ــ ابواب الله واسعة .
ــ  ما سبب عطالة زوجك ؟
ــ كان يسير عائدا ً الى البيت فأصابته شظية انفجار.
أهي صادقة أم انها تستدرجه  لتستدر عطفه ً ؟ قال هامسا ً :
ــ وأنت ؟ ألا تعملين ؟
رآها تبتسم ابتسامة غامضة حار في تفسيرها . ردّت هامسة ً هي الأخرى :
ــ أعمل . هل تريد أن أؤدي لك خدمة ؟
ــ  أي نوع من الخدمة ؟
ــ من النوع الذي تقدمه المرأة للرجل .
شعر بها تزداد احتكاكا ً به فازداد احساسه بالورطة وقد أدرك ما تعني . ساورته فكرة أن ينهض ويصرفها عنه ، لكن الحاح الرغبة في مواصلة البحث عن مشروع كتابة قصة جعله يحجم عن ذلك . لقد وجد فيما يحدث معه مادة  الحبكة التي ينتظرها بفارغ الصبر ، مدفوعا ً باحساس داخلي بأن يواصل استدراجها واستنطاقها ما دامت هي راضية . همس مبتسما ً :
ــ ومن الذي يرضى بك وأنت على هذه الحال ؟
احتد صوتها قليلا ً :
ــ ماذ ا تعني بهذه الحال ؟
أومأ لها أن تخفض صوتها لئلا يبلغ أحدا ً في الزقاق ، وما لبث أن عاود همسه :
ــ أعني وأنت بهذا الوجه الذي تعافه النفس !
شابت صوتها نبرة احتجاج :
ــ  وما حاجته لأن ينظر الى وجهي ؟ ليغمض عينيه اذا شاء . ان أي صاحب حاجة عندي عليه أن يتقبلني كما أنا عليه .
انها تتحدث بمنطق سليم شجعه على مواصلة استنطاقها :
ــ  لكنه سيدفع نقودا ً !
ــ وسأمنحه ما يقابل نقوده .
شعر بانه صار يتمادى في التوغل في خصوصياتها وقد يقوده ذلك الى متاعب لا تحمد عقباها . لاذ بالصمت للحظات . وجدها تضع يدها على فخذه فاقشعر بدنه . سمعها تقول وهو يحاول الابتعاد  بجسده عنها :
ــ وحدك ؟
ــ الآن نعم .
ــ وزوجتك ؟
ــ  ذهبت الى الدار الأخرى منذ سنوات .
ــ هل تعني ان لك دارا ً أخرى غير هذه الدار ؟
ــ نعم . انها الدار التي لا دار بعدها .
أدرك انها لم تستوعب ما قال فغمره شعور بالارتياح . عادت تسأل .
ــوكيف تصبر بدون زوجة ؟!
ــ وطّنت نفسي على ذلك .
غمغمت :
ــ لا أصدّق!
عادت تسأل بعد لحظات صمت غامض :
ــ أليس لديك أولاد ؟
ــ لدي .
ــ أين هم ؟
ــ انهم في أعمالهم .
وكاد يقول انه فقد ولدين في الحرب وان زوجته لم تتحمل فجيعتها بفقدانهما  فلحقت بهما بعد أشهر وهاهو يعيش على وقع ذكرياته معها: يسمع حسيس قدميها وهما يدبان في رواحها ومجيئها متنقلة ً بين الغرف والمطبخ ، وهسيس أنينها الموجع وتهدج نحيبها الذي لا ينقطع . كاد يقول لها كل هذا لكنه أحجم في اللحظة الأخيرة .  وجد جسده ينضغط على حافة الأريكة الجانبية . سمعها تقول  بتودد :
ــ لماذا لا ندخل لنتحدث على راحتنا ؟
صدمه ما سمع فلهوج وهو يقف :
ــ لا . لآ . هذا غير ممكن .
احتج صوتها :
ــ لماذا غير ممكن ؟ !  انت لوحدك وتأتيك الفرصة اليك ، فلماذا تضيعها ؟ .
ردّ كأنه يريد أن يحسم الأمر :
ــ أنا رجل في وشالة العمر ، أعني متقدم في السن كما ترين ولا اقوى على القيام بما ترغبين فيه .
احتجّت  :
ــ لماذا تقول هذا ؟ ما زلت في عز شبابك .
ــ أي شباب هذا الذي تتحدثين عنه ؟
ــ جرّب ولن تخسر شيئا ً .
ساورته الرغبة في أن يتقيأ . انها تطلب منه أن يختلي بها على سريره وما زالت رائحة الإلفة الطويلة التي خلّفتها زوجته تفغم أنفه وتملأ صدره .
اتجه نحو باب البيت الداخلية ، فرآها تقفز من مكانها لتلحق به . وجدته دخل وردّ ظلفة الباب فبلغه صوت استيائها :
ــ لماذا تفعل ذلك ؟
ــ دعيني أجلب لك المساعدة التي تريدينها .
تملـّكه الشك في أن تكون سليمة العقل لكنما حيّره المنطق السليم الذي تتحدث به . غاب قليلا ً وعاد فسمعها تدمدم . سحب ظلفة الباب اليه قليلا ً ومدّ يده لها بالورقة النقدية خلل الفرجة التي أحدثتها حركة يده . وجدها تمسك يده وتتشبث بها لكنه استطاع أن يتخلص منها . رآها تبتعد فلاحقها صوته :
ــ تعلمي كيف تدخلين البيوت من أبوابها بعد الآن .
2
لم يساوره الشك في انه  كسب من هذه الزيارة الغريبة  المفاجئة أكثر مما خسر . فها ان حبكة القصة تنمو في رأسه مغتنية ً بتفاصيل ترفدها مخيلته . سيخرج بنص مثير إذن إذا ما تهيأ له أن ينتهي من معمار قصته بشكل يرضيه فيرضي قارءها معه . غير ان عليه أن يتوصل الى حل العقدة ، وهو ما صار يشغله . ظل بضع ليال  ٍ يفكر بحل مناسب ، لكن ذهنه لم يسعفه في الوصول الى الحل المطلوب . توصل الى أكثر من حل لكنه لم يقتنع بأي منها . وعلى حين غرة ، جاءه الحل ماشيا ً هو الآخر على نحو ٍ لم يكن يتوقعه . يا لها من مصادفة !
كان يقف في الحديقة عصرا ً ، منشغلا ً بهاتفه الخلوي ، محاولا ً الحصول على فرصة اتصال بعد أن عجز عن أن يفعل ذلك في الداخل بفعل ضعف شبكة الاتصالات . وفجأة ً أحس بوقع أقدام وقد أوشك الحصول على فرصة الاتصال . أ بقى الهاتف  في يده وتراجع خطوة الى الوراء . رأى رجلا ً بجسد بغل صار في مدخل الحديقة تتبعه امرأة تضع على رأسها عباءة  تلتمع تحت مساقط أشعة شمس آخر النهار . ما هذا الذي يحدث ؟ من هذان اللذان تطفـّلا عليه واقتحما خلوته الآمنه في حديقة بيته ؟ حقا ً انه زمن لا يمكن للمرء أن يأمن على نفسه ويأخذ راحته فيه حتى وهو في بيته ! انه لم يرهما من قبل ، أو هكذا خيّل اليه . تراجع أكثر وهما يقتربان منه وقد ساوره قلق مصحوب بشيء من الخوف . هو لوحده الآن ولا مناص من أن يحترس . هل ينادي على أحد جيرانه ؟
تراجع  أكثر فهو في مواجهة غير متكافئة : جسده النحيف في مواجهة جسد البغل الذي صار يقترب منه متبوعا ً بالمرأة التي معه. والآن بدأ يتذكر انه سبق له أن رأى امرأة بهذه الملامح . أتكون تلك المرأة التي تطفـّلت على خلوته حين جاءت تستعطفه لطلب مساعدة ؟
صار في الطارمة الآن ورأى الرجل الذي يحمل جسد بغل يزداد اقترابا ً منه ، تفصله عن المرأة خطوة واحدة .، فلم يجد سوى أن  ينزلق عبر الباب الى الداخل . ليس من الشجاعة أن يفعل غير ذلك وهو  في مثل وضعه .  رأى في القادم الغريب غريما ً له . ردّ الباب وأحكم اغلاقها بالمزلاج ، فجاء صوت محشرج كأنه صادر عن حنجرة مبحوحة:
ــ أهكذا تستقبل ضيوفك ؟
صار وراء النافذة الآن وسحب ستارتها وفتح درفتها فوجد نفسه وجها ً لوجه أمام الأثنين . سمع الصوت المحشرج من جديد :
ــ لماذا فعلت هذا ؟
ــ ماذا تعني بهذا ؟
ــ رفضت استقبال ضيوفك !
ــ لم يسبق لي أن رأيتكما من قبل .
صفع سمعه صوت المرأة هذه المرة :
ــ كيف تقول هذا ؟ ألم ترني حين طلبت منك مساعدة قبل أيام ؟!
أية قدرة على الاحتيال واستغفال الآخرين ! هي إذن تلك المرأة التي أثارت استفزازه ، ولا بد من أن يكون الذي معها زوجها . لكنه رجل معافى يحمل جسد بغل . لا آتار اصابة سابقة  أو عوق ولا معالم مرض قريب . سمعه يقول :
ــ كنت انتقدتها في زيارتها السابقة لاهمالها نفسها . كانت بعض الظروف قد ألجأتها الى ذلك .
شعر برعشة خوف تهز جسده . أتكون قد جاءت بزوجها ليحاسبه على تدخله في خصوصياتها بهدف ابتزازه ؟ انها ورطة حقا ً . غير ان رعشة الخوف في داخله سكنت حين بلغ الصوت المحشرج سمعه :
ــ وها هي قد عملت بنصيحتك وجاءت متزينة كم تراها . فعلت ذلك من أجلك .
شعر اللحظة بالاشمئزاز ولكن من هذا الذي يحمل جسد بغل هذه المرة وكاد يبصق احتقاره في وجهه ، غير انه تمالك نفسه  . قال بهدوء غريب :
ــ وما المطلوب مني الآن ؟
ــ أن تفتح الباب وتدعنا ندخل بيتك ضيوفا ً عليك .
ــ آسف . لست في وضع يسمح لي باستقبال ضيوف في هذا الوقت .
ــ دعها تدخل هي لوحدها إن كنت خائفا ً !
ــ وماذا تفعل هي ؟
ــ تقوم بخدمتك بالشكل الذي ترغب فيه !
ــ وأنت ؟
ــ أبقى واقفا ً هنا لحمايتكما .
فجأة ً خيّل اليه ان جسد البغل ينكمش ويتضاءل حتى يستحيل الى نفاية تافهة . احتد ّ صوته :
ــ أخرجا من بيتي . أخرجا قبل أن يخرج ولداي ..
وهمس لنفسه ” من القبر ” وصمت للحظات وقد دمعت عيناه وشتم مشعلي نيران الحرب في سره . انتزعه الصوت المحشرج :
ــ أكمل . لماذا سكت ؟!
قال وهو يتمالك نفسه :
ــ يخرجان اليك ويخرسانك .
رأى عيني غريمه تقدحان شررا ً وقد علا صوته :
ــ ليخرجا . لست خائفا ً من أحد .
ــ حتى من الحكومة ؟
ــ حتى من الحكومة .
ــ حسنا ً إذن . انتظر .
رفع هاتفه النقال حتى صار في مواجهة الواقف  أمام النافذة ، وضغط على زر الكاميرا واطمأن الى انه أفلح في التقاط الصورة . أدار الهاتف نحو الخارج . قال :
ــ انظر . هذه صورتك . سأريها لرجال الحكومة التي تقول انك لا تخاف منها .
ــ وأكرر القول انني لا أخاف أحدا ً .
انتبه الى ان الصوت المحشرج خرج خافتا ً هذه المرة . قال :
ــ  حسنا ً إذن . سأتصل بالشرطة . أعرف ضابطا ً هناك . انتظر وسترى  .
تظاهر بأنه ضغط على زر الاتصال للتمويه وقرّب الهاتف من أذنه  وقال بما يقترب من الهمس لكنه همس مسموع من الواقف قبالته وقد شحب وجهه :
ــ ملازم كريم !
وقبل أن يواصل التظاهر بالحديث ، رآه يرتعش ويومىء للمرأة ايماءة ذات معنى قبل أن يطلق ساقيه للريح !

       كانون الأول 2012

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *