
في يوم ربيعي من عام 2000 اطل علينا المبدع – عزيز عبد الصاحب – في اتحاد الادباء ، وهو يدعونا بابتسامته وطريقته المسرحية لحضور وقائع مهرجان بغداد المسرحي على خشبتي مسرح الرشيد والمسرح الوطني ، وزع علينا منهاج الاسبوع ، حيث كان المبدع الكبير مشاركا في الاسبوع واعتقد في اليوم الثاني للمهرجان في مسرحية من تاليفه واخراجه عنوانها– العقد – وارفق دعوته الشفهية لنا باعلان جميل خصنا فيه لحضور مسرحيته تحديدا ، الصقه في لوحة اعلانات الاتحاد ، – ادعو زملائي الادباء لحضور عرض مسرحية – العقد – …………….. – وقد لبى الكثير منا دعوة – ابو سعد – وكان العرض مسائي وفي مسرح الرشيد .
كانت المسرحية تعتمد فكرة جميلة مستوحاة من اجواء – الف ليلة وليلة – ولكن بثيمة معاصرة ، عموما اعجبنا كثيرا بالعرض واتحدث هنا عن نفسي – اعجبت بكل مفردات العرض من ديكور واخراج وقصة اعتمدت لغة شاعرية واجواء ساحرة جسدها نخبة من الممثلين الرائعين ، لكني سجلت في مفكرتي بعض الملاحظات التي قررت ان انقلها في الوقت المناسب للاستاذ عزيز ، حيث تركزت في اغلبها على اداء احد المحاور الرئيسية في المسرحية ممثلا طاعنا في السن ، كان يجاهد لكي يكمل الجمل التي كان لزاما عليه ان يقولها بحزم- كونه ملكا – كان كل شيءا متكاملا الا الاداء المضني الذي كان الملك يحرص على ان يقدمه ، ولم اكلم صديقي -عزيزا -عن هذا الا في اليوم التالي حيث كان عرض لمسرحية كلكامش التي قدمها اعدادا وتمثيلا المبدع – سامي عبد الحميد – يومها اصطحبت ابنتي – دنيا – التي كانت يومذاك طالبة في الاعدادية ، حينما وقع نظر عزيز عبد الصاحب على دنيا وكان اخر عهده بها وهي طالبة في الابتدائية هرع الينا وعانق دنيا بابوة مذهلة وهو يصرخ بصوته الحنون – عرفتك انت حبيبتي دنيا – وذرف دمعة وهو يعاتبني على المصاعب التي تجعل الاحبة يفترقون بهذا الشكل ، وحرصت على ان نجلس في قاعة المسرح قبل الجميع حيث القاعة هادئة لكي استطيع ان انقل له ملاحظاتي عن العرض ، جلست دنيا وسطنا وقبل ان يسألني عن رأيي بمسرحية – العقد – اخرجت الورقة التي سجلت فيها ملاحظاتي ، لكني طويتها ودخلت في الموضوع الذي شغلني وهو – الملك – في مسرحية – العقد – وهل ان ضعفه متعمدا ، وقبل ان اكمل اسئلتي وملاحظاتي عن الخلل والصعوبة التي كان الملك يجبر نفسه في ايصال ماكان يريد منه المخرج ، ربما اثارت كلمة – الملك – لدى عزيز غضبا جميلا وقال لي :
– لقد كثر اللغط ، عن موضوعة الملك ، ولست الاول الذي ينقل لي ملاحظاته ، صدقني ياعزيزي ، كنت اتهرب من الاسئلة عنه ، ولماذا هو بهذا الضعف ازاء باقي الممثلين؟ ، ولكن امامك وامام – حبيبتي دنيا – لااستطيع الا ان اخبرك ، والموضوع ليس للنشر الصحفي ، ولكني اقوله لك امانة لااريد فيها ان ابرر ايما شيء وسانقل الموضوع حرفيا ولانك تعرفني فلازيادة ولانقصان فيما ساقوله لك ، يااخي ان من ادى دور الملك هو صديق طفولتي وصباي ، هذا الرجل كان فيما مضى عملاقا على المسرح ، كنا معا في المدرسة بدءا من الابتدائية فالمتوسطة ، اخترنا الفن منذ الصبا ومارسناه في كل اماسينا الجميلة ، صحيح ، اوافقك الرأي ، كان اداء الملك ضعيفا ، لكنه كان عملاقا في مجاهدته ، وعنفوانه ، كان يقدم اقصى مايمكن ان يقدمه بشرا في العطاء على الخشبة … تصور من اجل ايصال كلمة واحدة على المسرح ، واصل ، كلمة واحدة ، فقاطعته
– ولماذا هذا الممثل المجهد والمتعب …..؟
قال وهو يزيل بقايا دمعة سقطت من عينيه :
– لابديل لي غيره ، واكمل …..
– لولاه لما قدم هذا العمل ، هو ثيمة العمل الرئيسية ، قاطعته مجددا
– ولكني لم اجد ان ضعفه كان مكملا لشيء ما في العرض … قاطعني …. مكررا جملته الاولى ….. لولاه لما قدم هذا العمل ، ادهشني حزنه وقلت :
– لم افهم …!!
قال وهو يحاول ان يتحرر من شيء ما ربما لم اكن ادركه حتى تلك اللحظة
– من حقك انك لم تفهم ، يااخي هذا الممثل الذي ادى دور الملك هو صديق طفولتي وصباي ، انقطعنا عن بعضنا زمنا لااستطيع تحديده ، ولكن جمعتنا ظروف كابوسية غريبة ، حينما كنت في زيارة لاحد اصدقائي الراقد في مستشفى المدينة الطبي ، رأيت في اقصى الصالة
علامة ما ، اجبرتني على التركيزعلى شيء ما غامضا ، لم ادرك كنهه ، لكنها سحبتني نحو سرير في اقصى زاوية الصالة سريرا يرقد فيه مريضا ، كان ذا وجه مألوف ، وجسد نحيف يهتز اعياءا ، اقتربت منه دون وعي مني ، لفت انتباهي انه يحمل شبها عجيبا بصديق صباي ، المسرحي العملاق ، ولكن لولا نحوله وشحوبه لقلت انه هو ، وبقيت متسمرا امام سريره انه يشبهه تماما ولماذا استبعد ان يكون هو ، حينما سألت الممرضة عنه – لانه كان غارقا في غيبوبة – قالت ان اسمه …… ياللهول ، انه صديقي – سيفيق بعد قليل لقد زرقته بالمهدىء ، حالما يغادره المسكن سيفيق من الالم ، تسمرت امامه ، كان هو صديق طفولة الفن ونضوجه معا ، ولم اكلمه لانه كان في غيبوبة مذهلة تشبه الموت تماما ، ولم اتحرك ، لم استطع ان افارقه ريثما يفيق ، وفعلا حالما افاق كلمته ، فتذكرني ، بدلالة الابتسامة العريضة التي رسمها على وجهه وهو يسمع صوتي وانا احاول ان استدرج ذاكرته ، فبدا بكامل وعيه ، وطلبت من الممرضة ان تجلب لنا من كافتيريا المستشفى شيءا ما نأكله او نشربه لكنه قاطعني طالبا منها ان تأتيه بما طلبناه على حسابه ،- كان مكابرا كما عرفته طوال عمره – في ذلك اليوم جلسنا معا حتى المساء ، تكلمنا في كل شيء ، عن المسرح ، والحياة والموت . استأذنته للذهاب الى البيت ، ووعدته ان اكون هنا في صباح اليوم التالي ، شد على يدي بيده الواهنة ، وقبل ان اخرج من المستشفى ، اكملت الترتيبات اللازمة لنقله الى غرف العناية الخاصة ، والححت على الممرضين ان تكون الغرفة التي يجب ان ينقل اليها تطل على النهر وبسريرين فقط – وقد دفعت التأمينات اللازمة لذلك – في صباح اليوم التالي جلبت له ملابس جديدة ، وترمس شاي وترمس حليب خالص كنت احتفظ بقليل منه في ثلاجة البيت ، ومجلات وكتب مسرح ، وربما رواية ، وحساء لذيذ اعدته ( ام سعد ) ايقضته وكانت الشمس تطل علينا من النافذة التي فتحتها ، حالما دخلت الغرفة ، حينما فتح عينيه رافق ذلك ابتسامة كالتي عهدتها في وجهه :
– لماذا كلفت نفسك ياعزيز بكل هذا ، هل يصلح العطار ….
ضحكنا ولكني قلت
– بلى ، في بعض الاحيان يمكن للعطار ان يصلح ماافسده الدهر ولو قليلا وهذا افضل من لاشيء، تواصل ضحكنا ، ومن يومها حرصت على الزيارة اليومية ، وفهمت من الاطباء انه مصاب بورم خبيث في الرئة ، وانه في مراحله الخطيرة .
تكررت زياراتي له بشكل متقطع في اول الامر لكنها تحولت الى يومية ، لانني في اليوم الذي لاازوره فيه يقابلني في اليوم التالي بالم وعتاب مذهل ، ( دونك …. دونك … اموت ) وبقينا نتبادل المعرفة المختلطة بالكثير من التأملات المتعلقة بالحياة والموت على هذا المنوال يوميا ، كان لديه استعداد لقراءة اكثر من نصف رواية في اليوم الواحد ، وربما مسرحية او اكثر ، والغريب ان ذاكرته كانت تعمل اكثر من ذاكرتي ، وهناك في تلك الغرفة التي كان عطر مياه دجلة الخالد ينفذ عبر اسمنتها وشرفاتها وكل زواياها ولدت فكرة مسرحية – العقد – وقررنا معا ان اقوم انا باخراجها وبمساعدته طبعا وان يقوم هو بتمثيل الدور الرئيسي او الشخصية المهمة في المسرحية ولم نجد شخصية اكثر اهمية من شخصية – الملك – كنا نكتب ونضع السيناريوهات والتخطيطات اللازمة للديكور والاضاءة والاكسسوارات وكل متعلقات المسرحية ، وكنت اردد مع نفسي انه يجب المضي في المشروع ، وكنا احيانا نجلس في الشرفة التي اتخذت منها حمامات ذات ريش ابيض ناصع اعشاشا لها قرب الزوايا الحديدية ، وفيما بعد اكتشفت انه من ساعد على اقامة تلك الاعشاش لانه كان يرمي لها الخبز الذي يقطعه ويحوله الى كرات صغيرة ، ولهذا كانت تقف على الاعمدة قربنا ولم يكن يخيفها صراخنا وضحكنا الهستيري ونحن نكتب مشاهد المسرحية ، صدقني لقد حفظ الدور باكمله دونما بروفات مكررة ، ولكن كانت تنقصنا زيارة الى المسرح لكي نحدد اماكن وزوايا حركة الممثلين الاخرين ، فاستأذنت الطبيب المشرف على علاجه في ان نخرج لساعه او ساعتين لزيارة المسرح ، رحب الرجل بالفكرة رغم انه همس في اذني انه ضعيف وربما لاينفعك، افهمته – بالاشارة طبعا – اني مستعد لتحمل كل شيء حتى اعادته في اخر الليل الى المستشفى ، ومن يومها كنا نخرج ونعود وايدينا متشابكة ونحن نردد مقاطع من هاملت او عطيل او السياب وربما وهذا ماكنا نحرص على ترديده الكثير من قصائد الماغوط، كان الطبيب يحرص على ان يفحصه صباحا قبل ان نخرج ويعطيه الدواء اللازم ، وبعد اسابيع من ذلك ، همس في اذني ، – وهو يلحظ التغير الكبير الذي طرأ على شكله ، وقوة صوته وقدرته على الحركة :
– اى سحر واى بلسم قدمته له ، انه يتحسن بسرعة غريبة على هكذا امراض !
صحيح انه كان مختلفا عن باقي الممثلين لانه – وهذا ماكنت المسه ولم اجرؤ على قوله له لانني اعرف انه يعرف ذلك – كان يجبر نفسه على ان يجاري حرارة المشاهد منطلقا من انسجامه مع الدور . صمت -عزيز عبد الصاحب – وهو يمسح دموعه ، ويربت على كتف دنيا
– لايهم ابنتي اننا اقحمناك في هذا الموضوع الشائك ، تحمليني
وكنت اشجعه على ان يستمر
– وبعد ؟
– هذا ماجرى ، وهذا ماتم ، وكانت اول النتائج التي لمسها الاطباء استجابة جسده السريعه لابسط علاج يقدمونه له، واستغربوا كثيرا من التحسن الذي طرأ على صحته ، وخضع الى دورة من التحاليل الجديدة التي اكدت تحسنه .وقدمنا المسرحية كما رأيتها انت بالامس ، كان الرجل يجاهد من اجل ان يوصل مايريد ، انها رسائل كبيرة ، وبعد العرض الذي شاهدتموه بالامس ، ناولته سيناريو جديد لمخطط مسرحية جديدة قررت ان اشاركه التمثيل فيها ، طلبت منه ان نكتبها ونخرجها ونمثلها معا .
يومها اتذكر اني نهضت من مكاني وطبعت قبلة على خد المبدع الكبير – عزيز عبد الصاحب – واستأذنته في تدوين ماقاله لي ونشره على شكل قصة ، ضحك الرجل وقال اذا وافقت حبيبتي – دنيا – فانا موافق ، وبعد ايام كتبت قصة بعنوان – العرض الاخير – لم اذكر فيها ايما اسم لاي ممثل او اى مسرحية ولكنها فقط مهداة الى – عزيز عبد الصاحب وفاء – كانت تدور في المضمون الذي حدثني فيه عزيزا ونشرت القصة في مجلة – الف باء – وجريدة العرب اللندنية وبعدها التقيت بعزيز عبد الصاحب الذي شكرني على القصة والاهداء ولكنه فجعني بخبر وفاة صديقه الممثل – الملك – منذ اسبوع وانه متأسف لانهما كانا قد اكملا اغلب بروفات العمل المسرحي الجديد الذي سبق ان اخبرني عنه ، وانه الان بصدد اعادة اخراج العمل الذي قرر ان يطلق عليه عنوان قصتي – العرض الاخير – ولكن سيقدمها وحده – كموندراما – سيقوم هو باداء الدورين ، ولااعلم بعد كل هذه السنوات ، اى حتى هذه اللحظة التي تلقيت فيها نبأ موت – زوربا المسرح العراقي – المبدع عزيز عبد الصاحب – هل عرض المسرحية ام تركها كما هي ضمن ملفاته الكثيرة التي اطالب ابنه الفنان – سعد عبد الصاحب – الذي كان نجم مسرحية – العقد – السالفة الذكر . بان يحاول البحث عنها واعادة الحياة فيها رغم الموت الذي طال الاثنين.
لقد كرس الرجل العملاق حياته لفنه مخرجا وممثلا مسرحيا وشاعرا وملحنا ، سمعت منه اجمل الاغاني بصوته الجميل ، حياة مليئة اكبر من ان توصف واذا ما حاولنا وصفها فهي تشبه سيرة ملك كان يدرك مدى التعقيد الذي قد يصل اليه التعامل المباشر مع امثاله ومريديه في هذا الزمن الصعب ، كان – زوربا – او – انتوني كوين – حقا بل اجمل ، انه زوربا المسرح العراقي …… عزيزي – عبد الصاحب – اولا وداعا ، وثانيا شكرا على فكرة قصة – العرض الاخير – التي انشرها ادناه مرة اخرى اذ اجد ان نشرها مرة اخرى الان خاصة بعد وفاة بطلي القصة ، عفوا اقصد مخرج المسرحية وبطلها ، الملك في مسرحية العقد و المخرج والمؤلف ، غيابهما الان اجبرني على اعادة نشر القصة واما موضوع اهدائها ، فهي مجيرة اليه وحده ……
——————————————————————
العرض الاخير
قصة قصيرة
الى عزيز عبد الصاحب وفاءً
15-4-2000
في مثلث العتمة والدخان ، خلف بقية ضوء زجاجي ، لمحت عينيه تجوسان في الفراغ المبهم ، ثم انسحب بعيدا عن الضوء المسلط عليه من السقف ، وانظم الى جوقة الممثلين ، كان رأسه يتصاعد برهة ويهبط ، يشكل زاوية منفرجة مع قامته الطويلة ، ويمد ذراعا وصوته يتهدج ، وهو يواصل مد ذراعه بحركة بطيئة حيث تتهدل السترة الرمادية ذات الازرار الكبيرة علىجسده المرتعش، ويبتعد عنه الضوء اذ يسلط على ممثل اخر ، وينزوي وهو يرفع رأسه بصعوبة وسط الوميض الخافت لاحد المصابيح المسلط على اسفل جسده ، يسير نحو الضوء كانه يتبعه ، ويتلألأ العرق على وجهه المغطى بالمساحيق ويترجف التاج وهو يعب الهواء مباشرة الى الرئتين بعد ان يفتح فمه على اتساعه تنفس يشبه العواء ، ربما سمع الجمهور حشرجة الرئتين وهما تمتصان الحياة بمشقة ، ويتحرك نحو الضوء ، الوجه الهادىء المحفور ، الكثير من الاخاديد الغائرة التي تبدو كأنها اجزاء تساقطت من الجبهة الشاحبة رغم المساحيق ، يسطع الضوء ، ويهدر تصفيق الجمهور ، جوقة الممثلين تنحني ، حيث كان يتوسطهم بقامته الطويلة ووجهه المتعرق الشاحب ، تنحني جوقة الممثلين مرة اخرى قبل ان تزحف الستارة الزرقاء ، ويتواصل التصفيق …….
– عمل جميل .
همست في اذني وهي تضغط على اصابعي ، ومن حولنا تواصل ضجيج الجمهور وهو يتجه نحو منافذ الخروج ، بقينا جالسين ، فواصلت بهدوئها الذي اعرفه:
– لم يطرأ تغيير كبير في الديكور ، وكذلك خلفيات المشاهد عن عرضكم السابق ، بل حتى الممثلين ……. صمتت لكن مشاعري لم تصمت ، كان دفؤها مذهلا اذ ايقظ لاشعوريا حماسة التداعي والانفراط مع الحدث ، بل الغوص فيه ، خلت اني اسمع موسيقى العرض تتردد في رأسي ، بل تلامس اشيائي الكامنة هناك ، في تلك الاعماق السحيقة ، كانت تلوك مخارج الحروف برقة تذيب فراستها فيها ، وسط الصخب الذي تزايد بعد ان تلاشت اصوات الموسيقى تماما ……
– الا شيئا واحدا !!
تملكني توجس انها يمكن ان تقول لي بصلافتها التي اعرفها (( انك مخرج …… ربما تقولها انك لم تراعي شروط العرض … تحاول ان تمرر …. )) ربما تقولها ، تطلق ماتريد ان تقوله بصراحة لايمنعها اى شيء ، حتى الاشياء التي تربطنا ، لكنها عرجت حول الموضوع من بعيد …
– دوائر الضوء كانت بعيدة عن الملك ، ولم تضع سوى هالات ملونة حوله ، لكنها بعيدة عنه جدا !!
– وبعد …. ؟
– لاشيء اخر …. عدا ..
واشارت باصبعها نحو بوستر كبير حمل صورة له ….
– عدا .. هذا !!
اعتصرتني غصة وانا اعرف ماذا كانت تريد ان تقول ، فتجاهلت اشارتها ، لكنها واصلت بعناد غريب :
– كان هزيلا ، وعاجزا ، وكنت تبعد عنه الضوء ، …..
قلت في محاولة لابعادها عن موضوع الملك :
– وهل هناك شيء اخر …. ؟ فردت علي بسؤال اكاد اعرف انها ستقوله لي
– هل عزلته مقصودة … ؟
– لا ……
قلتها بصوت يشبه الصراخ ، وانا احسها انها بدأت تطبق على فريستها
– هل هو مريض …. ؟
– …………………………….
بدأت تقترب اكثر من الموضوع ، ولكن باصرار
– كيف يمكن ان يكون بهذا الهزال ….؟
واصلت اسئلتها بتدفق عجيب وانا ساهم ، كانت تضغط بشدة على الجرح دون ان تدري وتجاهلت حوارا يشبه الصراخ بين رجلين ، اقتربا منا وصوتهما اعلى من اللغط الذي احاطنا، نهضنا مقتربين من احد منافذ الخروج ، وجدت نفسي محاصرا بالانفاس والضجيج ، فطلبت منها ان نعاود الجلوس ريثما تخلو القاعة
– هل سمعت ….؟
قالتها وهي تقترب مني مشيرة الى الرجلين الذين تجاوزانا وهما يرمقاني بنظرة بلهاء ، لم افهم منها شيئا …. كنت مستغرقا وانا اتطلع الى الستارة المسدلة ، انا متاكد انه لم يزل جالسا على المقعد الملكي وعيناه زائغتان في المدى بحثا عني ، انه يتوقع دخولي عليه في كل لحظة ……
– هل حقا عزلته مقصودة … ؟
طالعتني بعينين متوثبتين ، مما جعلني اجيبها بتوتر ..
– وهل يهمك ذلك كثيرا …. ؟
فواصلت بنفس النبرة …..
– ماداعي هذه الضجة حول ممثل ، صحيح انه ممثل مختلف ، ولكن صدقيني انه ممثل عملاق ، صحيح انه بطيء الحركة ، ربما بسبب السن ، ولكن هل اوصل لكم مااراده المخرج او المؤلف.. ام لا ؟ بلغ توتري حدا لم اعد بعده قادرا على كبح الصراخ الذي تدفق من فمي ، نحوها ، وحملته الكراسي الفارغة من الجمهور الذي كان ينسحب ببطء …..
– اجل مقصودة ، فليس من المعقول ان يكون جميع الملوك اصحاء وصغار السن ووسيمين كما تحلمين بهم ، انهم بشر مثلنا ، يكبرون ، يمرضون …..
عقدت الدهشة لسانها ، ولم تقاطعني …. فواصلت
– اسندت الدور اليه … اجل … وماذا في ذلك ، ممثل افنى عمره على الخشبة ، لكنه مرض اخيرا ، اعتزل العالم ، انزوى في احد المستشفيات ، وحينما عثرت عليه صدفة ، علمت انه يعاني ورما لافكاك منه ، فواصلت زياراتي له ، احسست ان شيئا بدأ يتدفق في عروقه منذ زيارتي الاولى له اخرجه من الدائرة المغلقة عليه ، كان مستعدا لان يحيا ، رفض في البدء ان يقترب (( احسست ان صوتي بدأ يرتجف ، وانا اغرز نظراتي في عينيها اللتين احاطتهما العتمة ……
– اجل انه ضعيف ، وماذا في ذلك ، كنا نغادر المستشفى ظهرا ، بعد ان نجري البروفات ونعود اليها بعد انتهاء العرض ونقدم اعتذارنا الى الدكتور الذي كان يكتفي بابتسامة ، وكنا ندعو الاطباء لزيارة المسرح كل يوم ، فيوافقون ، يهزون رؤوسهم .. لكنهم لايأتون … مشغولين دوما ، تصوري اني لاحظت ان خطاه اصبحت اكثر ثباتا ، واخذ يتفاعل مع الحدث بسرعة ولم تفارق الابتسامة المشرقة وجهه المتعرق دوما ، ومن فمه صرت اسمع لحنا سمعناه في طفولتنا وحفظناه وكنا ننشده كلما جمعتنا غرفة المستشفى …..
عانقتني ببراءة ولمحت دموعها ، غادرت القاعة ، وبقيت وحيدا وانا اردد بالصوت نفسه :
– سيدتي … استطيع ان اجلب ممثلا اخر اكثر حيوية .. واكثر وسامة وفتوة … ولكن … هذا الجبل الجميل من سينفخ فيه الحياة الا دورا كدور الملك في هذه المسرحية ……
ومن بعيد … في زاوية من زوايا المسرح تحركت الستارة قليلا ، لمحت الملك يتكىء على الكرسي الرئاسي وهو يلوح لي ان اقترب ، فهرعت اليه ، كانت القاعة فارغة تماما ، عانقته بحرارة وانا الهث :
– كنت رائعا ايها الملك ……
ابتسم … ولمحت في ثنايا ابتسامته مثلثا اخر … اعرفه ، سألني بعفوية افتعلها بالتأكيد …
– كم بقي من ليال نعرض فيها هذه المسرحية ؟
لم اشأ ان اخبره ان عرض الليلة كان العرض الاخير ، لكني ربت على كتفه وانا اقدم سيناريو مسرحية جديدة له