((كاظم اسماعيل الكاطع..ما مرتاح))
((ما مرتاح..
منك.. مني.. من الجاي من الراح
ولا مرتاح
عيوني تستحي بس الدموع وكاح
ما مرتاح من شفت الشمس تنزل تبوس الكاع
وبجف الطفل تنلاح
اي طبعاً ولا مرتاح))
هكذا يقرر ((كاظم اسماعيل الكاطع)) مرة واحدة والى الابد بانه: ((ما مرتاح)).. وفي الحياة العملية كُتب على ((كاظم)) أن لا يذوق طعم الراحة أبداً.. مسيرة حياتية مريرة عاشها هذا الشاعر المجيد توجها القدر بجلطة دماغية وشلل نصفي وتضخم في القلب وارتفاع في ضغط الدم الشرياني.. ثم داء النقرس الذي يسمونه ((داء الملوك)).. هكذا تنعم الحياة على كاظم بأمراض الملوك ولم تفكر يوماً بأن ((تُّمرضه)) بشيء من فيروسات رفاهتهم ونعيمهم وثرواتهم. أما خسارات كاظم في احبائه موتاً وانتحاراً فقد جعلتني اقتنع بأن مفردة ((المثكول)) قد وشمت على جبين هذا الإنسان وروحه. وُلد كاظم ليخسر.. وولد ليكون وحيداً وولد ليكون ((ما مرتاح))…
لكن، على عكس ما يُتوقع من الأنسان العادي الذي تحطمه الشدائد… فإنّ الكاطع لم يهزم أبداً.. يذكرنا بعبارة ((أرنست همنغواي)) الشهيرة: ((الإنسان قد يتحطم.. لكنه لا يهزم)) -مفارقة حياة همنغواي الذي تحطم ثم مات منتحراً لا تنطبق على الكاطع- . ومن عمق عذاباته المهيبة والمدمّرة قدم لنا الكاطع أروع الوصفات العلاجية الشعرية التي تطيل في أمد أعمار آمالنا المحبطة.. وتهدهد أرواحنا اللائبة على أساس القاعدة النفسية العراقية -وهي ماركة مسجلة للعراقي- في علاج الكآبة والتي تقول: ((علاج ضيق الصدور زيارة القبور)):
((يالطولك رمح تدري الملامة تصيح/ مو بسّ الطيور الناصية تنلاح/ احجزلك شبر راح المكان يروح/ ورفوف القيامة مصفطات ارواح فوك ارواح/ تلكه هناك بيه داخل يجلبه اثنعش ساعة الليل/ وحضيري يغني شلون إلك مصباح/ ما مرتاح.. ما مرتاح..))
معادلة غريبة تلك التي يصوغ وفقها ((كاظم)) تفاعلاته الكيميائية الشعرية ولم يمسك بها احد من النقاد . معادلة ((كاظم)) هو هذا المزج الباهر بين دوافع الموت ودوافع الحياة.. بين الألم واللذّة.. بين تجليات الأبيض الباذخة واختناقات الأسود المميتة.. ففي ظل القيامة المخيفة حيث تتكدس الأرواح.. وحيث السعي للحصول على شبر يتيم يجعل الموت لقية ورحمة يرتفع صوت داخل حسن وحضيري أبي عزيز صادحا بأغانيهما العذبة .. في شعر كاظم – وهذه من سماته الفريدة – يتعشق السادي بالمازوخي بطريقة جدلية خلاقة : ((ذب نظارتك وامسح دموع العين/ واتباره الذمم وي سنبل الفلّاح/ طفّي آخر جكارة بخشبة التابوت/ لأن كلب الخشب بس بالجوي يرتاح/ دايخ بالحلم بس لا خبر موزين/ مات الورد كله وما بجه الفلاح/ من ربعي ولا مرتاح…))
..هكذا يصبح للخشب لحم يحترق وروح تتلوى من الألم..
وصورة ((كاظم)) الشعرية ((خشنة)) إذا جاز التعبير.. قاسية وموغلة في الأذى والألم.. ومفرداته دموية صادمة تعبّر في معانيها العميقة عن جانب من شحنات العدوان الشخصية المكبوتة التي يراكمها الإحباط الخانق .. إقرأ أي قصيدة له وستجدها حافلة بمفردات : الموت.. الدم.. الحزن.. السراديب.. الخوف.. القتل.. الكي.. الجروح.. الفاجعة.. المنية.. التعب.. القبور.. المقبرة.. الرأس المقطوع.. وغيرها…
لكن جبروت ((كاظم)) يتبدّى في هذه المسألة بالذات : في الصور الشعرية ((الخشنة)) التي يقدم من خلالها أروع التشبيهات والضربات الإستعارية الشعرية البهية التي لا تتكرر:
((سافرت وبجنطتي كتاب وقصيدة
وفوطة أمي الطاحت من الراس
يا نهر التعب عبرني أريد أرتاح
يا نهر التعب لعيوني عبر انعاس..))
كيف نفك مغاليق هذا اللغز/ الصورة ؟ هل هناك قدرة لدى نهر التعب وهو المختنق بالإعياء والإجهاد على أن ينقل الشاعر المحطم من ضفة يأس إلى ضفة نماء وأمل؟ ثم يربكنا كاظم بـ ((حركة)) شعرية ماكرة وذلك حين يطلب من نهر النعاس أن يمنح عينيه نعاساً يعينه على محنة الأرق المتطاول الممضّ فيلغي بذلك نشاط نهر النعاس المفترض في البيت السابق.. مع الكاطع تدخل متاهات مدوّخة لكنها ساحرة.. إنه يلعب بمقدرات القارئ برهاوة تسحر الأخير الذي يلتذ.. كمرآة لجلد الشاعر لذاته بطوفان سياط التعذيب، وها هو الشاعر يعود ليتساءل بطريقة تجهض كل ما أسسّه المتلقي من توقعات:
((دلّيني مكانك وين جبتلك ياس/ لا يذبل بدية الياس/ دلّيني اعله كبرك وين/أخاف الظلمة تذبحني وأجي من المكبرة بلا راس)).
.. ولنتوقف قليلا ونقرأ:
((ودمي ينبع من سراديب الضلوع
ويرسم جروحي على الفانيلة))
وأتساءل الآن بثقة : أليس بإمكاننا أن نضع هذه الصورة الشعرية في مصاف أرقى الصور الشعرية العالمية النادرة؟ هنا الشاعر لا يكتب بل يرسم.. ولا أعلم هل مارس الفن التشكيلي وهل درس فن التصوير والألوان أكاديمياً أم لا ؟ قف وتأمل قليلاً الدم الأحمر النابع من سراديب الضلوع وهو ينطبع على الفانيلة البيضاء جروحاً توازي استدارات الأضلاع… أغمض عينيك وتخيل الفانيلة البيضاء المخططة بضلوع حمر قانية . ويعود الشاعر الى مزاوجة الأحمر بالأبيض.. الموت بالحياة.. الأمل باليأس.. والأقدام بالإندحار.. في ((معلقته))- قصيدته : ((الليلة أموت اللية)).. ولا نعلم متى يموت الكاطع الذي يهددنا بالموت منذ عقود:
(( الليلة أموت الليلة / الغيم مد إيده اعله راسي/ والمطر شد حيلة / ودمي ينبع من سراديب الضلوع ويرسم جروحي على الفانيلة / يا سنيني الرايحات وداعت الله انطنّي بوسة / موادع الخل الخليله / بهداي يا غور الحزن مكتول إجاك ويه الكصب / بهداي حطّه اعله الجرف / ومحمداوي للكلب غنيله )).
نفرح أم نبكي وهل هي لحظة ولادة أم ساعات موت؟ رعشة بداية أم اختلاجات نهاية واحتضار ؟ ابتسامة يأس منتصر أم وجوم أمل مندحر؟.. إنه كل ذلك.. أنه البهاء النفسي الخارق الذي يتضاعف إشعاعه من خلال تكثيف فعل الشحنات المتضادة :
((والنوارس مو طبيعية النوارس
كل مهمتها تفرح الناس
وتبجي الجرف من تنكتل))
أو هي اللحظة التي فيها :
((خلص باكيت الجكاير بالدرب
كمت أشرب بروحي
وصعد دخان كلبي… لغيمة الوهواس))
وقابل أيها القارئ بين الدخان وغيمة الوهواس.. المشكلة أن من نتائج هذه الخلطة الشعرية النفسية العجيبة أن الشاعر يمعن في تعذيب ذاته حتى في اختيار حروف القوافي.. فقد عُرف عن كاظم اسماعيل الكاطع ميله المثابر لإختيار الحروف النادرة الصعبة الاستخدام كقوافي شعرية .. وهذه سمة تميزه من بقية أقرانه ومجايليه ومن جاء بعده حتى يومنا هذا .. حتى ليبدو لك أن الشاعر يدخل في حلبة صراع تعجيزي مع ذاته في هذا المضمار :
((نشدوني عليك وجاوبت مَدري
اسألت عنك مدينة وبادية وكلشي..))
أو:
((ماضم عليك الجدم غمض عيونه ومشى
ودّاني إلك واذعنت.. وآنة بطرك
شفّه وإذن تستمع..
مجبور أفضي الخلك
***
جيتك بليلة شته.. ظلمة ومطرهه رشك
وشبعده صار الدرب.. خوف ورعيد وثلج
وجفوف إيديه زرك
بس كالوا إلمن تدك.. كلمن مشه الحالته:-
واحد سكن بالغرب واحد سكن بالشرك))..
..أبا وسام..لا أستطيع أن أقول لك شيئا وأنا أراك مرّتين على شاشة التلفاز تشكو الإهمال الرسمي وغدر الزمن النذل بعد أن استفرد بك وحيدا عاجزا ومريضا سوى أن أدعوك إلى أن تبقَى ممسكاً بجمرة العذاب والشعر والخسران.. فمن احتراق لحم روحك يتصاعد عطّاب الحياة والموت ولهيب إبداع الخيبة العظيم ..وأسألك : أما زلت تنشد حتى هذا اليوم :
(( الله يا هالوطن ..
نيرانه مثل الثلج
يجوي وأكول : إشّاه ))
وهل ما زلت مقتنعا بمعادلتك الشعرية التي سمّم بها الفنان الكبير ( سعدون جابر ) عقول وأرواح الجمهور العربي حين غناها في الثمانينات :
(( اللّي مضيّع ذهب
بسوك الذهب يلكاه
واللي مضيّع محب
يمكن سنة وينساه
بس المضيع وطن
وين الوطن يلكاه ؟؟ ))
ما اروعك اخي ابو علي ؛ وانت تضيف ابداعا لابداع الشاعر العظيم – بحق – كاظم الكاطع
الذي قطع المفازات الشعرية وحده ؛ ووضع العامات الدالة في طول طرقاتها لمن ياتون بعده ..
وكم اتمنى ان يتبنى موقع الناقد العراقي ؛ حملة للتضامن الانساني مع الكاطع فهو يحتاجها اكثر مما يحتاج عطف المؤسسات الرسمية او المدنية ..
من حقه على عشاق شعره .. وعلى تلاميذه .. وعلى وطنه ايضا ؛ ان يردّ له شيئا من فضيلة وجوده على قيد الابداع ؛ على الرغم من كل ماناله من طعنات وجراح
تحية طيبة للموقع الثقافي العراقي الابداعي وللأخ الأستاذ الدكتور حسين سرمك والقائمين
على شؤونه وانه لواحة غناء بأزاهير الثقافة وألوانها
دمتم موفقين على طريق استجلاء مكنونات ثقافتنا العراقية والعربية وجوهرها وجواهرها وبناء جيل الابداع والثقافة الحقة ودمتم موفقين