شوقي يوسف بهنام : حسين مردان وعوالم العقاقير المرعبة
رؤية نفسية لمجموعة “صور مرعبة” الحلقة السادسة/2

shawki 2hussein mardan 5إشارة : بمثابرة وعزم يواصل الناقد المبدع “شوقي يوسف بهنام” استاذ علم النفس في جامعة الموصل / كلية التربية ، نشاطه النقدي والبحثي الرائع ، فقد صدر له – ونحن ننشر الجزء الثاني من الحلقة السادسة عن مشروعه المتفرّد عن الشاعر حسين مردان – كتابان : الأول هو الشافعي بوصفه رائدا للتحليل النفسي ، أما الثاني فهو بلند الحيدري وتعشق الظلمة : رؤية نفسية .
فتحية له على هذا الجهد الرائع .

ذلك هو الحلم الذي رآه الشاعر . وما عدا الفتيات العاريات المعلقات على صلبان ، فان الحلم شبيه بالكابوس ان لم يك هو الكابوس بحصر المعنى . ويرى الحفني  ” ان الكابوس هو من الاحلام والفرق بينهما فرق في الدرجة لا في النوع .. ويتميز الكابوس بأعراض ثلاثة ، اولها الشعور بالخوف الشديد والهلع ، وثانيها الشعور بضغط شديد على الصدر وبصعوبة في التنفس ، وثالثها الشعور بفقدان القدرة على الحركة … ” (6) . فصور الخنازير والثيران المجنحة والجثث الباردة اللحم والعصافير الملونة ، كلها من علامات الكوابيس الليلية .فالأعراض التي ذكرها الشاعر هي علامات دالة على صورة الكوابيس  . لقد نزت أعضائه عرقا وفي نهاية المقطع يمسح شعر صدره بأنامل مثلجة . أما صور الفتيات العاريات المعلقات على صلبان فنعتقد ان الشاعر كان يعشق امرأة من دين غير الدين الذي ينتمي اليه . وهذه ليست رغبة شاعرنا فحسب ، فكلنا يعلم مأساة شاعر الأرض المحتلة وقصته الحزينة مع حبيبته ” ريتا ” . وكان من قبله عميد الأدب العربي قد تعلق بشخص ” سوزان ”  و آخرين غيرهم ممن انتابتهم نفس المشاعر إزاء الغير  . الا ان مسحه لشعر صدره ليست نهاية ذلك الكابوس المزعج . ويبدو من ان هذا المقطع كان كابوس قد انتهى بصحوة عابرة لأن كل تلك الكائنات المتخيلة والصور التي مرت أمام الشاعر وهو تحت تأثير ذلك الكابوس قد غابت وكانت صحوته عبارة عن مسحه لشعر صدره بأنامله الباردة . وفي المقطع التالي يعاود الكابوس الشاعر مرة اخرى .  لنرى إذن ما هي احداث الحلم أو الكابوس الذي يرويه لنا حسين مردان حيث يقول :-
وتنبعث الاصوات دفعة واحدة
صحون تتحطم
ديوك تصيح
نباح جراء
ثم صوت حزين
كصلاة راهبة في معبد مهجور
يا حبيبي
ايها الحبيب العزيز
ويعلو وقع اقدام كثيرة
على ارض موحلة
وتنطلق قهقهات مسجونة
….
فافتح عيوني
فاذا برجل نحيف ،
نحيف كخيط مفتول
ينظر الى بعينين مقلوبتين
وينحني لينزع حذاءه ويقذف به
وجهي
واستيقظ مذعورا
(المصدر نفسه ، ص 252-253)
*******************
ذلك هو المقطع الأخير من الحلم أو الكابوس إذن . لقد استيقظ مذعورا من خلال رجل يشاركه في الغرفة  ، على ما يبدو ، كان هو السبب في هذا الاستيقاظ الذي خرج الشاعر من كابوسه . وعلى الرغم من احتواء الكابوس على اندفاع الاصوات دفعة واحدة والصحون المتحطمة وصياح الديوك ونباح الجراء الا ان الشاعر استطاع ، ومن خلال هذا الكم الهائل من المثيرات ، ان يميز صوت حزين يشبه صوت راهبة وهي تصلي في معبد مهجور . هنا مرة اخرى يعبر الشاعر عن رغبته التي عبر عنها في المقطع السابق والمتضمنة فتيات عاريات معلقات على صلبان .. وهذه المرة الشاعر اكثر صراحة فتلك الراهبة نطقت بعبارتها الخالدة :-
يا حبيبي العزيز
ايها الحبيب العزيز
**************
وما من شك في ان شاعرنا هو ذالك الحبيب الذي تقصده الراهبة .. او هو تخيل وابتكر ذلك الصوت الحزين ناطقا بتلك العبارة . نعم حسين مردان هو حبيب تلك الراهبة التي تقطن ذلك المعبد المهجور ووجدت في حسين مردان ضالتها الكبرى ولم تجدها في المسيح !!! . لقد قطع حبل رغباته مع هذا الصوت الحزين رجل نحيف كان يطارده ويهدده بضرب حذاء على وجهة . وكان الاستيقاظ المفزع . كان هذا الرجل هو احد المسافرين الذين يسكنون فندقا كهذا ليوم أو لأكثر . ومن سوء طالع الشاعر ان هذا الرجل لم يتحمل ولم يعبأ بفضفضات الشاعر اثناء تجواله في كابوسه . وهذا ما سوف نجده في المقطع التالي والاخير من القصيدة . يقول الشاعر :-
اكنت تحلم ؟
قال ذلك احد المسافرين وهو يحاول
حشر قدمه في حذاء عتيق
فغمغمت وانا اطيل النظر الى
حذائي الغافي عند عتبة الباب
وياله من حلم مخيف
وضحكت ضحكة مجنون عاد اليه
عقله
فجأة
(المصدر نفسه ، ص 253-254)
***********************
إذن كان هذا المسافر ذو الحذاء العتيق هو الآخر مثل حسين مردان الشبيه بالمتسولين ان لم يك واحدا منهم . وكان سؤاله لشاعرنا :-
اكنت تحلم ؟
**************
كان بمثابه الايقاظ القهري الاجباري . وكأني به يقول : كفاك من هذه الترهات والسخافات . الغمغمة هنا هي بقايا الكابوس الذي كان تحت تأثيره . حذاء الشاعر هو الآخر كان غافيا . وفي تقديرنا ان هذا الاستخدام الرمزي هو ان هذا الحذاء قد تحمل كثيرا من اعباء ومتاعب التجوال والتسول فغفى هو الاخر . الحذاء لم يعد قادرا على مطاوعة الشاعر الى حيث يريد . فكان عند العتبة متروكا ومهملا . كانت ضحكة الشاعر التي شبهها بضحكة مجنون هي ضحكة رجل يستفيق من حلم ليلي اعاده الى عالمه المؤلم ذو الليل الطويل .. وكان ذلك على حين غرة !!! .
في قصيدته الاخرى والمعنونة عالم المورفين او قاع الخارق نجد تحولا عند الشاعر. وهذا التحول سيكون بمثابة رحلة داخل الذات لاكتشاف عوالمها ومجاهليها . وبالطبع سيكون الشاعر هو بطل تلك الرحلة الى ذالك القاع .. اعني قاع الخارق .. وكعادته يدخلنا الشاعر الى عتبات قصيدته بعبارة مركزة وهاهي العبارة :-
فناء تام وحنين الى
النوم لا يوصف
(المصدر نفسه ، ص 255)
**********************
اذن المكان الذي يلج اليه الشاعر هو الفناء . والشاعر لم يحدد ماهية هذا الفناء . هل هو فناء جسمي ام نفسي ام هو الفناء بمفهومه الصوفي (7)  ؟ . وفي المعجم الفلسفي نجد تعريفا للفناءAnnihilation  من وجهة نظر فلسفية وهو على النحو الاتي ” فلسفيا : انتقال من الوجود الى اللاوجود ويقابل الحدوث (البدء المطلق) الذي هو الانتقال من اللاوجود الى الوجود .. (8) . ويرى شبل ” ان معنى الفناء والغوص في اللانهاية الالهية الي أخـِذ من المصطلحات الصوفية ، يذكِّر بصغارة الانسان النسبية وبصغارة الخلق في مجمله . الله وحده يظل الاعظم واللامحدود .” (9)  وفي تقديرنا ، على الاقل ، ان الفناء الذي يعنيه الشاعر هو الشعور بالضياع والخواء . الا ان هذا الفناء مقرون بالحنين التام نحو النوم . بمعنى ان هناك ارقا عميقا يعيشه الشاعر . ولم تستطع جرعات العقاقير التي تعاطاها قد ساعدته في التخلص من هذا الارق الذي كان يهاجم الشاعر اينما توجه وحيثما كان . ولنقرأ مقاطع القصيدة لعلنا نجد جوابا لهذا التساؤل الذي ادخلنا الشاعر الى عوالمه . يقول في المقطع الاول :-
شواطئ من ضباب
وارض من أجنحة الذباب
وجبال من حديد
آفاق غامضة
دروب مفروشة بالورد
ملايين الغربان ترفرف فوق
قلاع من المرمر الأسود
نساء من فضة تخرج من دهاليز
حارة في اعماق الجليد ، لتضطجع
على سواحل عقيق
أشجار طويلة كأسلاك مضفورة
تنكا أغصانها على شرفات
السحاب
رجال بلا عيون
يضحكون ويرقصون
على حافة غليون
(المصدر نفسه ، ص 255)
**********************
يكرر الشاعر العناصر التي ذكرها في القصائد السابقة . اعني عناصر الغرائبية والعجائبية . فما معنى عبارته :-
شواطئ من ضباب
وارض من اجنحة الضباب
**************
الى باقي مضمونات السرد في القصيدة . الا ان هناك عنصر يلح عليه الشاعر الا وهو خروج النساء من دهاليز حارة . بينما وصف الرجال بأنهم بلا عيون يضحكون ويرقصون على حافة غليون .. الشاعر هو الوحيد الذي راى تلك النساء وهن يخرجن من دهاليز حارة . ومن المؤكد ان النساء كذلك قد رأين الشاعر وهو يراقب ذلك الخروج . ان الشاعر يريد ان يكون ملكا اوحد للنساء . نساء الارض كلها . الرجال الآخرين مصابين بالعمى . الشاعر هو الوحيد الذي له كل العيون ليرى النساء كلهن في وقت واحد . وقد ترك الشاعر كل تلك المثيرات واحلها الى اشياء لا قيمة لها.. فقط النساء خرجن للاضطجاع على سواحل عقيق كن موضوع رؤيته وانتباهه . في المقطع التالي سوف يعقب هذا السكون والهدوء عاصفة هوجاء .. ترى كيف يصور لنا الشاعر صورة العاصفة تلك .. يقول الشاعر :-
وتزار *** العاصفة
ويتساقط حولي الرعد
وأظل اركض فوق البحار
لأسقط في النهاية
وراء حدود الأرض
حيث لا موت ولا حياة
لا زمان ولا مكان
هنا اغوض في اعماقي
وأحملق في ذاتي
فلا ارى غير الظلام
(المصدر نفسه ، ص 256)
**********************
هذا المقطع لا يشير إلى كونه .. اعني الشاعر يعيش الحلم بمعناه المألوف .. انه مجرد حلم يقظة . حواس الشاعر كلها مستنفرة .. رقابته الشعورية نافذة المفعول .. انه يرى ويسمع ويحملق ويغوص ويسقط في النهاية . صحيح ان حلم يقظته هذا يمكن ان ندخله دائرة الفنتتازيا بمعناها المتعارف عليه الا انه وفي الوقت نفسه يعد شطحة لا غير . لا ينبغي ان نقارن هكذا شطحة بشطحات المتصوفة . ولكن المهم في هذا المقطع رؤيته للذاته على صورتها الحقيقية التي تناهت الى عينيه . ان ذاته ليست غير ظلام . والظلام في معناه النفسي . يرى الباحث خليل احمد خليل في رمزية الظل ما يلي ” هو نقيض النور ، من وجه ؛ وخيلة  الاشياء ذاتها ، من وجه آخر . رمز الخيال ، الاشياء اللامعقولة والمتبدلة .
1-  الظل هو القرين ، الين مقابل اليانغ عند الصينيين . لفقدان الظل عدة معان :-
أ-  عدم قابلية الجسد المطلقة لاختراق النور (حالة الخالدين) .
ب- وضع الجسد على سمت الشمس ، فلا يترك ظلا .
ج- وجوده عند شجرة (Kien) ، فلا يترك ظلا .
2- إبليس (أب + ليس) هو الذي لا أب له ، ولا ظل له ، إلا إذا تلبس الإنسان أو الحيوان أو الشيئ .
3- لدى شعوب افريقية ، الظل هو الطبيعة الثانية للكائنات والاشياء ؛ وهو عموما متصل بالموت : في مملكة الاموات (أرض الظلال) لا غذاء سوى ظل الشيئ . حياة في الظل : حياة ناقصة ، مكبوتة ، محبطة .
4- الاغريق يقربون القرابين ظهرا ، اي في وقت بلا ظل .
5- الانسان الذي باع نفسه للشيطان ، فقد بذلك ظله ، اي انه لم يعد ينتمي الى ذاته . لم يعد موجودا ككائن روحي ، نفسي ، ليس الشيطان ظله الداخلي ، بل هو الذي صار بلا ظل (مظلة واقية ) .
6- كل وحي هو من ظل الله ، من نوره . (يولج الليل بالنهار ، ويولج النهار بالليل ) .
7- في تحليل يونج : الظل هو كل ما ترفضه الذات ، ومع ذلك يفرض نفسه عليها دائما ، مباشرة أو مدوارة . ينعكس الظل في الاحلام ، على شاكلة بعض الاشخاص (انعكاس بعض سمات الأنا اللاوعي) .” (10) .
*****************
الظل والظلام والظلمة كلها مترادفات لظاهرة واحدة .. على الاقل في المستوى النفسي . وعندما يعيش الشاعر في هوة الظلام فهذا يعني انه في غمرة اليأس او هو مغمور فيه . ولذلك سيجد نفسه في ظلمة القاع . وهذا ما يخبرنا عنه في المقطع التالي من القصيدة :-
وفي قاع (الخارق)
عندما يتجمد العقل
وتنشل الغريزة
وتموت الحركة
هناك
على صدر الصمت المطلق
أتقلص في أعماقي
وأتلاشى كعمود من دخان
واضيع ، أضيع في اللاشيء
(المصدر نفسه ، ص 256)
********************
بعد ان انتهى المطاف بالشاعر الى حيث الظلمة في المقطع السابق .. ها هو الآن يصل الى الأعماق . في تقديرنا ، على الأقل ، الأعماق في نظر الشاعر هي نهاية الأشياء … أي لا أشياء بعدها . يمر بخبرات متعددة ؛ جمود العقل ، وشلل الغريزة وموت الحركة . أليست هذه هي ذاتها أعراض الفصام التخشبي (الكتاتونيا)؟؟ .
انه يصل الى منطقة الصمت المطلق . قلنا ان الشاعر قد عاش خبرات متعددة . ها هنا يعيش او يتخيل حياة الموت ان صح التعبير . الخطاب الديني هو الآخر لا يعارض هذه الفكرة في جانب ما من جوانبها . الاموات الآن هم احياء مع وقف التنفيذ الى ان يأتى الحساب . في المنظور الاسلامي الصمت المطلق يعبر عنه بمفهوم ” عذاب القبر ”  .عبارته :
اتقلص في أعماقي
واتلاشى كعمود من دخان
واضيع في اللاشيء
*************
عبارته هذه يمكن ان تكون علامة من علامات فقدان الآنية  او الشخصية Depersonalization كما يفهمها الطب النفسي . يعرفها الحفني بما يلي ” ينتاب شعور بأن المريض به غير حقيقي ، وان العالم من حوله ليس من الواقع ، أو انه صار غريبا على نفسه ، وأصبح العالم من حوله غريبا عليه . وقد لا يشك في وجود جسمه ، فهذه يده وتلك أطرافه ، وهي ليست سرابا ، ولكنها مع ذلك قد تحولت إلى أطراف جسم لم يعد يعرفه ، وقد تزداد وطأة المرض فيفقد الوعي تماما بنفسه وهويته ، وقد يكون فقان الشخصية جزئيا او كليا ، وغالبا ما يأتى المريض عقب فترة من النوم الخفيف أو بعد نوبة إغماء ….”  (11) . من جانب آخر يمكن ان تكون هذه المعاناة تعبير عن محنة وجودية كما يفهمها سارتر مثلا أو الفلسفات العدمية الأخرى والتي كان لها تأثيرها على مثقفي أجيالها . كما ان الفكر الماركسي قد أربك المثقف العربي في رسم صورته عن العالم الذي يعيش في أجوائه على وجه العموم . فهناك اليأس والحيرة والبلبلة المعرفية وهنا الأمل والصورة المشرقة للعالم والغد الجديد . المهم في هذا المقطع هو الشعور بالضياع والتلاشي والتشضي الى أجزاء غير محددة .. لنرى ما هي إحساساته كما يصفها لنا في المقطع التالي . يقول :-
وفجأة ترتجف عروق الأرض
وتتطاير الدور في الفضاء
فترى الناس كحشرات مقصوصة
الأجنحة
تتأرجح فوق المنائر
وعلى أسلاك الكهرباء
وتهبط السماء ببطء رهيب
وتتهاوى النجوم
كرات صغير من البلور
ويمتزج صراخ الأطفال
بأناشيد الملائكة
وتمتد من فراغ الأبد
أذرع صفراء
فأنكمش داخل نفسي
كدودة عمياء
وأتعلق برجل طائر اعور
لحملني الى هاوية العدم
فأرى الدود يدب على عظام الآلهة
ويهطل المطر في بقاع مجهولة
وانطلق عبر السماء
وأطوف في أروقة الجحيم
ذات اللهب البارد
(المصدر نفسه ، ص 257-258)
*********************
انها صورة تنتمي الى ما نسميه بالنصوص الرؤيوية مثل سفر الرؤيا وقصة الإسراء والمعراج . انه يوم القيامة .. يوم النفير . لقد قدم  … والشاعر خرج من صمته على حين فجأة . ورأى الكارثة الكونية الكبرى . واختلط الحابل بالنابل إذا صح التعبير . لقد رأى الناس ، وهذا المهم في رأي الشاعر في تقديرنا ، رآهم ” كحشرات مقصوصة الأجنحة ”  . كان الشاعر ينظر الى الناس بذات الصورة وهم أحياء في الأرض . فكم يكونوا وهم في السماء ؟؟؟ . الا ان مقام الطفولة يبقى حنينا أو نكوصا نحوها ولذلك امتزج صوت الأطفال بأناشيد الملائكة . انه صورة مقتبسة من صورة المخيال الشعبي للعنصرين معا .. اعني الأطفال والملائكة . ومن هنا كان هذا الامتزاج وهذا التداخل .. انهما من مصدر واحد .. الا يقول هذا المخيال :” الأطفال طيور الجنة ” . أنهم رمز البراءة والأصول النقية للبشرية . يقول الباحث اللبناني خليل احمد خليل عن رمزية الملائكة ما يلي :-
” الملائكة ، كائنات خفية ، وسيطة بين الله والعالم ، مذكورة بأشكال مختلفة في النصوص الآكادية والأوغاريتية والتوراتية والقرآنية وسواها .
1- يعتقد أن الملاك كائن روحي محض ، أو أنه روح مناط بجسد أثيري ، هوائي ، لكنه لا يستطيع أن يتشكل إلا بالشكل المظهري للإنسان .
2- يعتقد بأنه مكلف بوظيفة إلهية هي بمنزلة الوزارة بين عالم الغيب وعالم الشهادة : الملاك وزير خفي ، يحمل رسالة (رسول) يحفظ أمانة (حافظ) ، يقود الأفلاك ، ينفذ الشرائع أو القوانين ، ويحمي الأصفياء .
3- للملائكة نظام خاص ، قوامه المراتب والمجاميع ، وفقا للصفات الإلهية أو الأسماء المنسوبة إليها .
4- الملائكة رموز للنظام الروحي ، بقدر ما هي رموز للوظائف الإلهية ، رموز للعلائق بين الله ومخلوقاته .
5- خلافا لما تقدم ، يعتقد أن الملائكة رموز لوظائف إنسانية مترفعة ، أو رموز لتطلعات  محيطة ومستحيلة . يذهب ريلكه الى ان الملاك يرمز الى المخلوق الذي ظهر فيه التحول المنظور الى مستور ، هذا التحول الذي يعانيه البشر أنفسهم .
6- للملائكة ، حملة العرش الإلهي ، ستة أجنحة : منها جناحان لستر الوجه عن رؤية الله ؛ وجناحان لستر القدمين (ستر العورة ، ما بين السرّة والركبتين ، عند الذكر والانثى ) ، وجناحان للطيران والتحليق .
7- تضطلع الملائكة بدور علامات التبشير القدسي ؛ فتبدو كأنها كائنات خفية ، قدسية ، تقوم بخدمة عرش ملك السماوات والأرضين . ويرى أتباع أرسطو ، أن الملائكة عقول خفية تدير الأفلاك وتدبر نفوس الكواكب وما فيها من نبات وحيوان وبشر .
8- الملائكة هي ، في المعتقدات الأسطورية والدينية ، جند الله ، بلاطه وبيته . تتولى نقل أوامره إلى النار ، وتسهر على تنفيذها . ويصار إلى ترتيبها بحسب قربها من العرش او ابتعادها عنه . مقال ذلك :
–  ميكائيل قاهر التنانين ؛
– جبرائيل رسول الله وهادي المستجيبين ؛
– رافائيل مرشد الأطباء والمسافرين ، إلخ
9- يسود اعتقاد لدى الملائكيين ، بأن للملائكة جسما مماثلا للجسم البشري، على الرغم من اعتبارها كائنات روحية بحتة . الا ان طعامها يختلف عن طعام البشر ، فهي تأكل من السماء ، ويعتقد جوستان مثلا ان خطيئة الملاك ناشئة من علاقته الجنسية بنسوة ينتمين الى العرق البشري . وان أولاد هذه العلاقة ، يسموّن ” شياطين ” أو أبالسة (أب ليس) .
10 – يعتقد أن لكل إنسان مؤمن ملاكا حارسا ؛ يقود حياته ، يربيه ويحميه (لوط ، إسماعيل ، يعقوب ) ؛ ويتدخل لصالحه في الحروب والحملات والمخاطر . وهو في كل حال رسول بشار للنفس البشرية ” (12) .
***************
المهم في كل هذا ان الشاعر اختلطت عنده الأصوات وهو في تجواله في أروقة الجحيم . الا ان جانبه السيكولوجي لم يتغير فهو لا زال يعاني من نفس الاعراض ، وفي هذا المقطع يعاني شاعرنا من الانكماش . ولكنه انكماش دودة عمياء . هنا نظرة سلبية نحو الذات .. بل ازدرائها . في ذات الوقت لديه الرغبة في الخلاص من واقعه هذا .. الا ان هذه الرغبة لن تجد طريقها اليه …فيصادفه طائر اعور ليتمسك برجله ويحمله الى هاوية العدم ليرى تلك الواقعة التي طالما تمناها الا وهي :-
فأرى الدود يدب على عظام الآلهة
*************
الا ان هذا المنظر لا يروق له . لان مطرا قد هطل في بقاع مجهولة وينطلق شاعرنا عبر مجاهيل السماء . الشاعر يقدم لنا مفارقة عجيبة حول جهنم . عن الآخرة بشقيها ” الجنة والجحيم ” يحدثنا الدكتور خليل احمد خليل ما يلي ” الآخرة هي المجال الاخفى الذي يعتقد ان الموتى ” يذهبون إليه ” . وهي تختلف عن رمزية العالم الآخر ” العالم الآخر ” ، ظل الآخرة او ظل عالمنا نحن ، الذي يعتقد بعض سكان كوكبنا ان في إمكانهم الذهاب إليه والإياب منه . فيما لا يعود احد من الآخرة.
1- الآخرة ، مقام الآلهة ، هي نقيض عالم البشر وهي خارج صروف الزمان والمسافة . أهلها خالدون فيها . بلا زمان .
2- تدعى في ايرلندا (Sid) او (Sidh) . بمعنى السلام . الآخرة عالم قدسي ، لا يتصل به البشر الا في بعض الأحيان (الأعياد) والأماكن (مواضع خاصة) . (13) . الشاعر يركز على الجانب السلبي من الآخرة اعني جهنم .
المفارقة التي تبرز أمامنا هي ان جهنم موضع العذاب الأبدي .. الخالد . (14) قد تصورها بصورة مقلوبة . وبدلا من ان تكون لهب النار الجهنمية حارقة .. رآها شاعرنا باردة . إذن جهنم هي جنته . ها يقول :-
وأطوف في أروقة الجحيم
ذات اللهيب البارد
******************
ماذا رأى الشاعر من خلال طوافه هذا ؟ هذا ما يخبرنا به المقطع التالي من تلك الرحلة التي تشبه رحلة شاعرنا الكبير أبو العلاء المعري والتي رواها في رسالة الغفران . يقول الشاعر :-
وفي كهف عريض طليت جدرانه
بشحم البشر رأيت الشيطان على
عرش من اللحم
وبين قرع الطبول
وزفيف الجن
اقتربت من اله الشر
وما كدت انظر إلى وجهه
حتى رأيت نفسي
فرضخت برعب
انه أنا ، انه أنا
وعلا الضجيج
(المصدر السابق ، ص 258)
*****************
يخبرنا الباحث اللبناني ؛ صاحب معجم الرموز عن رمزية الشيطان ما يلي ” ترهة الشيطان قريبة من خرافات التنين والحية والوحش (حارس العتبة ، ومن رمزيات الانغلاق(محور التوقيف ) . تجاوز محور التوقيف يعني اللعنة او القداسة ، ضحية الشيطان أو مصطفى الله . ترتبط بفكرة الله ، فكرة انفتاح المركز المغلق ، فتح باب الرحمة والنور والوحي .
1- يرمز الشيطان الى كل القوى المخيفة ، المظلمة ، التي ‘تضعف الوعي وتجعله يتراجع إلى وسط الليل (الالتباس والغموض) في مقابل مركز الضوء (الله) : الشيطان يحرق في عالم سفلي ، الله يشع في السماء .
2- الشيطان (المقسم او المبدد Diabole) هو خلاصة القوى المفككة والمهدمة لشخصية الإنسان . توصف المرأة الفاتنة بأنها شيطانية ، بمعنى أنها تجتذب قلوب الرجال  (تجتذب شهواتهم إلى شهواتها) وتقسمهم وتبدد طاقاتهم ووحدتهم .
3- الجحيم المجال الحيوي للشيطان ، حيث يندغم الحيوان والإنسان (إبليس) .
4- على الصعيد النفساني ، يظهر الشيطان العبودية التي تتنظر كل من يظل خاضعا للغريزة خضوعا اعمى ؛ لكنه يشدد في الوقت عينه على أهمية الشبق الذي يمكّن الإنسان من التفتح والتجدد والتكاثر ، والعودة إلى بيت الله بقوة  (15) .
********************
تجواله في الجحيم قاده الى ملكها . وبدلا من ان يرى السماء السابعة ومحتويتها رأى الكهف (16) . ومن رمزيات الكهف هو انه دال على اللاوعي ومخاطره (عالم الوحوش المرعبة) . كما يرمز الى استكشاف الأنا الداخلي ، ولاسيما الأنا القديم ، المكبوت في أعماق الباطن (عقدة قابيل الذي قتل أخاه هابيل ؛ وعقدة تروفونيوس ، قاتل أخيه ،إلخ ) . وبدلا من ان يرى الله رأى الشيطان . في هذا المنظر تجلى له الشيطان وهو في وسط مجموعة من الجان في حفل طقوسي كما تمثله الأساطير والحكايات في عالم الميثولوجيا . الشيطان جالس في كهف وقد طليت جدرانه بشحم ضحاياه اعني البشر الذي أغواهم وأوقعهم في شراكه . لقد روعه هذا المشهد الاحتفالي في عالم الجن . لكنه كان من الجرأة لأن يقترب منه ذلك الإله . فكانت المفاجأة الكبرى للجميع ولحسين مردان أيضا . حسين مردان هو الشيطان بعينه والشيطان هو حسين مردان . هنا اعتقاد بتناسخ الأرواح الذي تؤمن به بعض الفلسفات القديمة وأهمها الفلسفات البوذية بوجه خاص . ولذلك علا الضجيج في المكان .. اي في عالم الجحيم . الا انه ، وعلى ما يبدو ، لم تك هذه الرحلة الى عالم الجحيم قد راقت لشاعرنا لأنه قد رأى حقيقته اعني هويته قد انكشفت وعرف هو خفايا ذاته وأسرارها . هنا كراهية للذات وفي الوقت نفسه قد برزت مشاعر الندم وهيمنت وغزت وعيه وهاهو يرغب في العودة الى عالمه اليومي . لنرى ما هي صورة هذا العالم الذي يرغب الشاعر لأن يعيش بين أجوائه . يقول الشاعر :-
أريد ان أعود
أريد ان أعود
ويعود كل شيء الى ما كان
وافرك أجفاني بيد مرتعشة
وأتقدم من المرأة
فلا ارى غير الفراغ
لاشيء غير الفراغ

(المصدر نفسه ، ص 258-259)
*****************
لكن الحقيقة غير ذلك . لقد دب اليأس في نفسه من جديد . الشاعر كان قد اعتاد على عالم مملوء بالنساء وبالنساء فقط . هو الرجل الوحيد في هذا العالم . هذه أمنية الكثيرين .. إن لم تك أمنية الجميع . ان يكونوا مع النساء فقط . النساء خلقن .. لأجله .. لأجل كل واحد منهم . نساء ورجل واحد . و لا يهم من يكون هذا الرجل … حسين مردان .. ادونيس .. البياتي .. نزار قباني .. او عالم من رجال وامرأة واحدة يتهافت عليها الجميع .. لميعة عباس عمارة … غادة السمان .. نوال السعداوي … العالم الذي تخيله الشاعر او أراده هو من هذا القبيل . ولكن عاد الى واقع مرير .. عالم ممتلئا بالفراغ . أيمكن ان نتصور عالما كهذا ونعيش فيه ؟؟ الفراغ يحيط بالشاعر أينما توجه وأينما ذهب .. يالخيبة هذا الرجل المسكين إذن ..
*******************
في قصيدته الأخيرة من هذه المجموعة  يقدم لنا الشاعر صورة أخرى عن ذاته . في هذه الصورة يعيش الشاعر مفارقة تضخم الذات مع شعورها بالخواء .. وعنوان القصيدة يعبر عن هذه المفارقة وهي قصيدة ” عملاق من رماد ” . وكعادته يكتب لنا الشاعر تعليقا فرعيا يعد بمثابة مدخلا إليها . يقول :-
شعور بالقوة وإحساس بالفوز
ولكنها قوة فارغة وفوز ينتهي
بالانحدار دائما
(المصدر نفسه ، ص260)
*****************
والقصيدة لها عبارة في مقدمتها تشير الى نوع العقار الذي يعيش تحت تأثيره . والعبارة هي ” أجواء الخمر ” . يقول فيها الشاعر :-
لم اسكر بعد
وتمتلئ الكؤوس
هراء
قوي ؟
وهل هو أقوى من الموت ؟
بإمكاني سحقه
حتى ولو كان أنا
وتلتوي الأشداق
وترتفع الأيدي بالأقداح
كم هو جميل هذا الساقي !
إنَ له وجها كوجه ” دوكلاس ”
اصمت
لم ندر انك من عباد الحب الشاذ
تعالى يا (ولد)
….
هات لنا زجاجة أخرى
كفى . لقد سكرت
إنَ وجهك أصبح كالحديد المحمي
لن اسكر ولو شربت زقا
سأحب من جر الزقاق على
الثرى :
لعن الله أبا نواس
بل رحمه الله
يا (ولد)
(المرجع نفسه ، ص 260-261)
*******************
انه جو الحانات الليلية والشعبية منها  . وليس من المبالغة إذا قلنا انه جو متشابه في جميع الثقافات ان لم يك واحدا . فهو مكان للتفريغ الانفعالي . الكحول يعمل  أو يساعد على أن يكون  اللاشعور مستعدا لتفريغ محتوياته وتقيأ أوجاعه . وسواء أكان هذا الرجل الذي يوجه حسين مردان رسالته إليه ليس غير ذاته أو ان يكون شخصا آخر . المهم هنا هو النزعات العدوانية التدميرية  تكون مستنفرة ومستعدة للعمل . وإذا كان هذا حال الفرد فما بالك بجميع مرتادي الحانة ؟ عندها يكون اللاشعور قد صار جمعيا .. الا انه لاشعور متضارب المحتويات لأنه تجمع عشوائي . اللهم الا إذا قسمنا الحانة الى طاولات وجالسيها . عندها تكون الطاولات هي التي توحد الرغبات والاتجاهات والميول والقيم والآراء ووجهات النظر . والشاعر قد عبر عن هذا السلوك النمطي في الحانة بشكل رائع . قلنا ان هناك رسالة قد انطلقت من طاولة ما . وهذه الرسالة كانت تحديا لشخص جالس هناك يجتر أحزانه ومعاناته . وسواءا أكان هذا الجالس المتلقي لهذه الرسالة هو الشاعر نفسه أو انه شخص آخر وان الرسالة قد بثها شاعرنا له وهو في حالة نشوة البطولة الخمرية !! . فان الموقف واحد في الحالتين . انه يعيش حالة إسقاط لمشاعر مكبوتة على وجه جلي وواضح . الجالس هناك رجل مهموم ولذلك فهو جالس وحده . شاعرنا يعيش نفس الازمة حتى ولو كان مع لفيف من اصدقائه . هنا ابراز لمشاعر الجنسية المثلية عند رواد هذه الحانات . شاعرنا هو الاخر يكشف عن تلك الميول او لا يرى فيها ضررا ما . الشاعر ابو نواس هو رمز للجنسية المثلية في الحضارة العربية . الحانة إذن وبهذا المعنى مكان للتفريغ الانفعالي والنفسي . الكحول يساعد على زوال الرقابة كما هو معروف وانطلاق محتويات اللاشعور . ها هنا لا شعور الشاعر يخرج نحو السطح .. نحو الخارج .. نحو الآخر .. الآخر الذي يعد سببا لمتاعبي واحزاني . والشاعر الذي يحتج على الاخر لا يستطيع كشف احتجاجه الا في الحانة .. ذلك المكان الذي يستطيع ان يلعن ويطلق الشتائم كما يشاء وعلى من يشاء . وحجته في هذا السلوك الانفجاري هو انه مخمور ولا حساب عليه . قلنا ان هذا الاخر الذي يجلس قبالة الشاعر قد يكون شخصا حقيقا وقد يكون مرآة للشاعر نفسه .. بمعنى ادق انه شخص متخيل من قبله .
في المقطع التالي سوف نرى ان هذا الانفعال الانفجاري سوف يتحول الى سلوك عدواني على ارض الواقع . يقول الشاعر :-
هات ” صحنا ” من الباقلاء
وتملأ الكؤوس لتفرغ
وتفرغ لتملأ من جديد
أتدري ما يقوله عنك فلان
” فلان ” إنه نذل
ولكن وانت نذل ايضا
لقد أردت أن أقول لك ذلك
من زمان
إنك تهينني
وارتفعت يدي واستقرت
على خده
وبدأت المعركة
كانوا ثلاثة
ولكن كان يتخيل لي إني
استطيع أن أقاتل جيشا
(المصدر نفسه ، ص 261 -262)
**********************
في هذا المقطع يطالعنا الشاعر بصورة الآخر عنه . وعلى الرغم من أن نشوة الخمر قد وصلت الى درجة الاتقاد فان الاستبصار مازال عملا . وطلبه ” لصحن الباقلاء ” إنما يأتي من هذه المادة الغذائية شائعة الاستعمال في هكذا امكنة . ان هذا المكان لا يعرف ” المزات الغربية أو الراقية مثلا ” ولذلك فان البقلاء هي من المواد المهمة الواجب توفرها هنا . ولكن المهم هو النقلة الفجائية عند الشاعر .
– انت نذل
تلك إذن هي صورة الذات عند الآخر . الا ان الشاعر لا يقف سلبيا إزاء هذه الصورة . الاخر بدوره نذل . إن لم يك الجميع . الناس كلهم انذال فليذهبوا الى الجحيم . ومن السلوك اللغوي ينتقل العدوان الى سلوك حركي باستخدام اليد الا ان الهلوسة الكحولية تتجلى هنا . فعدد اللذين على الطاولة هم ثلاثة لكنه يتصور نفسه انه ينازل جيشا . وفي تقديرنا ان هذه الرؤية تحمل رغبات عدوانية تجاه العالم . فالشاعر يتصور نفسه على الطرف المضاد للعالم . وهذا ما يتجلى في المقطع التالي حيث يقول الشاعر :-
ويدور رأسي
واغادر الحانة مثقل الخطوات
وقد جرحت شفتي السفلى
وتمزق قميصي
انذال ، انذال
واندفع الى حانة اخرى
لأعب كأسا كبيرا
صعاليك
آه لو كنت احمل سكينا
ياللحقراء
وخرجت اسحب قدمي
كثور متعب
الى اين ؟
وترنحت كزورق في محيط
الى ” الملهى ”
(المصدر نفسه ، ص 262-263)
************************
حتى عالم الحانات لا يتحمل حسين مردان . هذا العالم الذي يكتض بالمهمشين من أمثاله . هو المهمش المختلف عن المهمشين .
ها هو ينتقل الى مكان اكثر ابتذالا من الحانة . انه الملهى . مكان النساء المنحرفات بكل ما تحمله هذه المفردة من معنى . وقبل انتقاله اليها تمنى لو يملك سكينا حتى يصل الى مآربه . وهو القضاء على كل من وصفه ونعته بانه ” نذل ” . هم الصعاليك . ذلك هو نعته لهم .. لا مكان له بينهم .. كان الكحول قد اخذ مأخذه منه فأخذ بالترنح . وقد كان وصف الشاعر لسلوك الترنح هذا وصفا دقيقا . لنتخيل كيف يبدو حال الزورق وهو في المحيط .. حالة الضياع الكلي . المحيط سوف يبتلع ذلك الزورق .. ترى ماذا حدث له وهو يهم بالدخول الى الملهى . يقول الشاعر :-
عفو . عفو
حيا عفو
ورقصت القاعة على دوي
التصفيق
وقذف رجل ” عقاله ”
في الفضاء
وهدر ثمل مربع القامة
يا عين يا عين
وزمجر بلطجي مشهور
” للكاع ”
واختلطت التأوهات العميقة
ورقصت على كرسي
يالنهدين الملمومين
ياللردفين المترفين
وتقدمت فجلست
في الصف الأول
وصحت مع الطائحين
عفو
نحيا عفو
ونظرت نحوي
وابتسمت
وانسدلت الستارة
فتحاملت على نفسي ومضيت
الى باب المسرح
والتقيت بها خارجة ،
فجذبتها كالمجنون
واغرسن أسناني
بلحم خدها الوردي
وصرخت المرأة
وبدأت المعركة الثانية
وانتهت بي
إلى مركز البوليس
(المصدر نفسه ، ص 263-264)
*****************
كان جو الحانة متنفسا للشاعر عن حاجاته . والحانة هي للرجال . لذلك نراه يمجد الجنسية المثلية ورمزها الأكبر ابو نواس . كما ان خلافه مع اصدقائه كان يتمركز في الحانة على صورة الذات بشكل اساسي . هنا الجو متمم لذلك الذي في الحانة . ولكن مع وجود نساء .. اعني بائعات الهوى . ولذلك فمن الطبيعي ان تكون المنافسة على امرأة . والشاعر يستعرض الحاضرين .. ذو العقال والسمين الثمل والبلطجي . وكلهم كانوا سكارى يشاهدون منظر الرقص في ذلك المكان . وعندما يصل السكر مداه يفعلون ما ذكره الشاعر من حركات وانماط سلوك . كل حسب تركيبته الثقافية ونمط شخصيتة . والشاعر ينقل ذلك المنظر بامانة . هو الآخر قد وصل السكر مداه . الا انه كان الاشجع من الجميع وهذا هو المهم في تقديرنا . فجلس في الصف الاول لكي يكون الاول من يتقدم او يقدم نفسه الى راقصة الصالة في هذه الليلة . الرغبه في التفوق لم ولن تغادر شاعرنا اينما كان واينما توجه . وهو يستذكر القول ” ما فاز باللذات الا من كان جسورا ” . وهو يترجم هذا القول في سلوكه مع الراقصة ولكن ياللاسف فان الشاعر لم يصل الى اللذة بل انتهى الى مركز البوليس . وبالتالي حشر مع المشردين مرة اخرى . تلك كانت نهاية الشاعر في مجموعته مع عالم العقاقير والكحوليات والمخدرات . اليست فعلا رحلة تثير العجب ؟؟ .

الهوامش :-
1- شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 131 .
2- د . خليل ، خليل احمد ، 1995 ، معجم الرموز ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 137 .
*  في الديوان وجدنا بدلا من هذه المفردة ، مفردة الحاه . ونعتقد إن ما ثبتناه هو الصواب .
** هكذا وجدنا المفردة في الديوان .
3- مارزانو ، ميشيلا ، إشراف ، 2012 ، معجم الجسد ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ج2 ، ص 1153-1159 .
4- د . خليل ، خليل أحمد ، المصدر نفسه ، ص 109 .
5- د . خليل ، خليل أحمد ، المصدر نفسه ، ص 91 .
6- د . الحفني ، عبد المنعم ، 2003 ، موسوعة الطب النفسي ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط4 ، ج2 ، ص 467-469 .
7- د . الحفني ، عبد المنعم ، 2003 ، الموسوعة الصوفية ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط1 ، ص 903-904 .
8- د. مدكور ، إبراهيم ، 1979 ، المعجم الفلسفي (إشراف) ، مجمع اللغة العربية ، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية  ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ،  د.ت ، ص 141.
9- شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، ترجمة : انطوان الهاشم ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 244 .
*** هكذا وجدنا هذه المفردة في الديوان ، وفي تقديرنا ، ان الاصوب هو ” وتزأر ” لا  ” وتزار” .
10- د. خليل ، خليل أحمد ، المصدر السابق ، ص 110-111 .
11- د. الحفني ، عبد المنعم ، 2003 ، موسوعة الطب النفسي ، مكتبة مدبولي ، جمهورية مصر العربية ، القاهرة ، ط4 ، ج2 ، ص 417 – 421 .
12- أ-  د. خليل ، خليل احمد ، المصدر السابق ، ص 166- 168 .
12- ب – شبل ، مالك ،  المصدر السابق ، ص 309-311 .
13- أ- د.خليل ، خليل احمد ، المصدر السابق ، ص 14 .
13- ب : بنوا ، جورج ، 1996 ، تاريخ جهنم ، ترجمة : انطوان . أ . الهاشم ، منشورات عويدات ، بيروت ، لبنان ، ط1 . الكتاب استعراض لفكرة جهنم في الحضارات الإنسانية عبر التاريخ .
14- شبل ، مالك ، المصدر السابق ، ص 78 و 80 .
15- د . خليل ، احمد خليل ، المصدر السابق ، ص 100-101 .
16- د . خليل ، احمد خليل ، المصدر السابق ، ص 146-147 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

تعليق واحد

  1. د محمد صالح رشيد الحافظ

    عزيزي استاذ شوقي … تحياتي لك ولعالمك الخاص وتقدير لأسلوبك السهل المتداعي الجميل….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *