إشارة : بهذا الردّ المتوازن الهادىء المتحضّر ، يفتح الأستاذ سعد سعيد باب المناقشة الثقافية بمعنى الكلمة التي تقوم على النماء من خلال الإختلاف ، والهم احترام الرأي الآخر . فتحية له .
كنت قد آليت على نفسي منذ البدء، أن لا أرد على مقال يخص ما أكتبه مهما كان، ولكن يبدو ان صديقي واستاذي د. حسين سرمك قد شاء لي أن اجرب هذه الممارسة بعد أن فاجأني بمقال يتناول مجموعتي (كواليس القيامة) وفلم (ديك سامي) المبني على قصة من قصصها، وما ردي هذا إلا لأني اربأ بالرجل عن أن يفهم ما كتبته خطأ، كما أن معرفتي بمدى وطنيته ومبدئيته، تدفعني إلى الحرص على بيان موقفي مما كتب لكي يتاح له أن يعرف عني ما لم يعرف بعد، بسبب قصر مدة صداقتنا، ولا أعرف، لعلي لم أتقن ما كتبت، ولكن سوء الفهم يجب أن يزال.. كما أنني لن أرتضي لنفسي أن أكون أقل منه وطنية.
أنا لا أريد أن أناقش رأي د. حسين من ناحية فنية لما يخص الفلم ولا من ناحية أدبية لما يخص مجموعتي (كواليس القيامة)، بل أود أن أناقش أقواله التي وردت في مقاله المذكور فقط، ولكن قبل ذلك أود أن أؤكد على أني سبق وأن أكدت في مقدمة الطبعة الأولى للمجموعة أنني كنت واع جدا وأنا أكتب تلك القصص، لمسألة أني كنت بذلك اخاطب عقلا منحازا ضدي اساسا وكانت مهمتي دقيقة في ان اقول له ما عندي ولذلك كان لا بد من التوازن فيما اطرح، ولم يكن يساعدني أن أقول مباشرة أنهم (خنازير) مثلاً لأني افقد بذلك الفرصة التي كنت انتويها، والغريب هو أني تمكنت من أن اقول هذا لهم فيما بعد (ضمن أحد نصوص المجموعة وهو شمشون تحديدا) من دون أن افقد فرصتي، والدليل هو أن الكثير من الأمريكان ناقشوا تلك النصوص معي من خلال أحد المجتمعات الافتراضية التي نشرت فيها، ولم يعترض منهم أحد لأني استطعت أن أقول أنهم أولاد خنازير، بل وقردة ايضا ولكن على لسان شخصية تعاني من مصاب أليم فعجزوا عن الاعتراض!
المهم.. لقد انتقد صديقي د. حسين في مقالته اهداء مجموعتي وقال عنه أنه (غائم وبلا ارتباطات مرجعية معلنة أو مستترة تتيح للقارىء تفسير معطياته).. معتمدا في ذلك على أن نصوص المجموعة ( تتحدث عن الإحتلال الامريكي القذر والوحشي للعراق).. ولكن نظرة بسيطة على مجموعتي (رغم اقراري بأني لم افكر بالكتابة إلا بسبب قيامتنا) ستبين أني تحدثت عن الاحتلال وما حدث قبله (الحصار الظالم) وما ساد بعده (وان كان الامريكان المحرك الأول له، ولكننا لا يمكننا أن نتغاضى عن الدور القذر الذي لعبته القوى المحلية والمناطقية فيه)، اي أن ما أصابنا لم يكن نتيجة لذلك الاحتلال الحقير فقط، رغم أن القوة المحركة له هي نفسها من تسببت في اذانا، ولكن كان لها من العوامل المساعدة ما يجعلني لا أستطيع ككاتب أن أتجاهلها، ولذلك كان حديثي عن زمن ظالم، لا عن حدث بعينه، وأود أن اذكّر بأن حفلات الموت العراقية بدأت من مطلع الثمانينات وبغض النظر عن الاسباب والمبررات، فالموت هو الموت وأنا كاتب ولست بالسياسي.. والموت ما زال مستمرا!
أنا طبعا لن أعلق على ما قاله د. حسين عن (جورج لاركن) فهو الطبيب وجورج هو العيّنة التي انتقاها ليطبق عليها ما يعرفه في مجال النفس الانسانية، ولا يهمني ان ادافع عنه.. ولكني شعرت بحرج كبير بسبب ما نضح من جمل صديقي من ايحاء بسذاجتي او قلة خبرتي!.. وأنا قد لا اكون أذكى الرجال واكثرهم تجربة، ولكني لست ساذجا وقد تعودت أن أتبين طريقي جيدا قبل أن أخطو، ولهذا فقد كتبت قصص هذه المجموعة من أجل العراق فقط، ولم افكر ولو للحظة واحدة في استخدامها لكسب مادي، ولو تهيأت لي الفرصة لترددت لأني أعرف بأن الارتضاء بمثل هذا الكسب سيسيء لنيتي الاولى، ولذلك أهديت القصص التي كتبت لأجل الترجمة فقط لا غير، إلى (جورج لاركن) ليفعل ما ظننته خيرا لقضيتنا كعراقيين، ونحن نعرف جميعا أن خيبة الظن لا تشير أبدا إلى علة في التفكير، فإن اضمر هو ما لا أعرفه فإن ذلك لن ينتقص من نيتي ولا جهدي في هذا المجال.. وإذ أقول من أجل العراق فقط، فليتكم تعرفون كم مرة أهديت المجموعة عندما قررت نشرها بالعربية بعد الانتهاء من مشروع لاركن، إلى مجموعات وحركات تدعي حب العراق لينشروها ويستفيدوا من عملية بيعها، أيام لم يكن بمستطاعي أن أنشرها أنا لسبب مادي، ولكنهم لم يستجيبوا! فبادرت إلى نشرها على حسابي الخاص حالما تمكنت، واشهد الله على أني لم أبع ولو نسخة واحدة.. بل أهديت كل ما وصلني من نسخها، بل وأعدت طباعتها في بغداد لأستمر في التوزيع.
وصولا الى (ديك سامي) أقول.. أولا لم تكن هذه القصة محاولة لشرح (احتلال العراق) بل هي مجرد وجهة نظر (من ضمن وجهات نظر عديدة وردت في المجموعة) في جانب من الجوانب التي لا تتسع لحصرها كتب، وهو ما يجعل حتى من رواية ضخمة مجرد تسطيح للحدث.. ونحن نعرف جيدا أن للحدث جذور تأريخية مهمة لا بد من العودة اليها عندما نريد أن نتصدى إلى حدث بهذه الضخامة، ولا يمكن لغير (الملاحم) الضخمة أن تستوعب كل التفاصيل التي يجب أن نوردها ونحن في سبيل شرح ما حدث وهو ما لم احاوله، مرة لضخامة المهمة التي رأيت أنها أكبر من قدراتي، وثانية لأني أخشى على حياتي اذا ما فعلت فما قد يقال في هذا الشأن لن يرضي الجميع حتما.. وأكرر، الجميع.
وأنا إذ أؤكد أنني أكتب ردي هذا على د. حسين بكل محبة، فإنني لا ارغب أبدا في إخفاء عتبي عليه لأنني أستغرب كيف لم ينتبه إلى ما ظننته أنا شديد الوضوح!.. لقد كان الديك هو الطاغية وقد أقرّ هو بذلك في مقالته.. فمن يمتلك الطغاة في عالم يكاد يكون قرية صغيرة؟! أو ليس هو القوة الكبرى فيه.. أنا لا اعرف كيف فسر صديقي أن سامي هو المجتمع الذي ظهر منه الديك وأنا لم أتحدث عن تربية.. بل عن امتلاك! لماذا لم ينتبه إلى الاسم؟! وكيف فاته أنه اشارة واضحة إلى اسم سام والمعروف عن أمريكا انها بلاد العم سام؟!.. نعم أنا أؤمن بأننا نستحق جزئيا ما يحدث لنا لأننا سمحنا للطغاة أن ينتهكوا أعراض دجاجاتنا.. بل وأخواتنا! وها نحن نملأ الدنيا صراخا بعدما أتانا من علّم (الصغير) فنون الاغتصاب.. المعلم الأكبر الذي أمعنت في ابراز مهمته الرئيسية من خلال العنوان الذي كان بالانكليزية كما هو المفترض.. حيث أن الديك بالانكليزية هو rooster وهو cock أيضا، ورغم أن الاسم الاول قد يفي بالغرض لأنه يعني ايضا الشخص المغرور إلا أني فرضت على المترجم أن يكون الثاني لأنه يعني ايضا قضيب وهو المعادل الرمزي للسلاح الذي دأبت به أمريكا على اغتصابنا منذ أن أصبحت المتحكم الاول والاخير في حياتنا!
وإن كان الشيء بالشيء يذكر، فاسمحوا لي بالقول، لقد كنت آمل أن ينتبه أحد إلى ما قلته بكل ثقة وانا أتحدث عن ماساتنا والمتثمل في المقطع الأخير في القصة، والوارد في الفلم:
(ثم تركهم لحيرتهم المطبقة وذهب يبحث في الحقول البعيدة عن فتاة تنتظر من يغويها، أو، من يغتصبها عنوة في الأقل!!!.)
وأعني بضمير الغائب هنا، سامي اللعين هذا.. هذا المقطع الذي اثبتت الأحداث أنه استقراء مضبوط لما سيحدث بعد حرب العراق ولا يمكن لأحد أن يدّعي أن (الحقول البعيدة) تعني القرية نفسها التي اغتصبت (دجاجاتها)، كما فسّر د. حسين، بل هي قرى أخرى، وهي بكل تأكيد الدول العربية الأخرى التي حان دورها بعد سنوات بالضبط كما توقعت أنا.. انا لا يعجبني أن اسمّي هذا نبوءة كما قد يفعل البعض ان انتبه، ولكنه استنتاج صحيح كان واضحا للعيان بالنسبة الي منذ الوهلة الاولى.. كنت آمل أن ينتبه أحد من دون حاجة إلى تنبيه، ولكن أملي قد خاب، وها قد اضطررت إلى التنبيه!
لقد مضت سنوات منذ أن كتبت مقدمتي للطبعة الثانية ولا يمكنني أن أجد الأدلة على صحة ما أوردت فيه من أقوال لأنه ضاع بين ركام الانترنيت الهائل، ولكني لم أورد الفقرة التالية (حاول جورج لاركن جاهدا أن يحقق مشروعه المسرحي ، ولكن يبدو أن مسارح أمريكا، على كثرتها، قد ضاقت به. فقد عجزت ديمقراطية أمريكا عن تحمّل رأي آخر قد يخالف ما تدّعيه. بل وصل الأمر بهم إلى أنهم شككوا في وطنية الرجل بسبب مشروعه هذا) إلا بعد أن قرأت بنفسي في مقتطفات من بعض الصحف الامريكية من شكك بوطنيته، وهو ما حدث ايضا في بعض المواقع الالكترونية المهتمة بهذا الشأن.. أنا يا سادتي أطيق أن يكون نقد ما أكتب بالغ السلبية ولكني لن ارتضي ابدا أن يشكك أحد بصدقيتي التي تبدو بالنسبة لي كمعوق احيانا لأني لا اسمح لنفسي بايراد فكرة لا اؤمن بها حقا وهو ما يجعل من مهمة تثبيت الافكار في كتاباتي همّاً دائما لاني لا انفك اسأل نفسي ان كان حقا ما اكتبه!
أما عما فعله لاركن وما أنتواه فحقيقة أن ذلك لا يهمني لأني قدمت له أصدق واحسن ما عندي، وإن كنت قد فرحت عندما نال الفلم جائزة أحسن دراما في احدى المهرجانات الأمريكية، فلأن تلك الدراما كتبتها بنفسي ووفق رؤاي التي قصدت، وهذا ما يجعلها في منأى عما يبيّتون.
كتبت هذا وسأرسله إلى صديقي د. حسين وكلي ثقة بأنه ناشره على موقعنا الجميل (الناقد العراقي) كرد على مقالته التي فاجأتني حتما، ولكنها لا يمكن أن تهزّ ثقتي بهذا الانسان الطيب الجميل.. تقبلوا جميعا محبتي.. ودمتم.