
كثيرة هي الكتب التي قرأتها ولقي محتواها وما تنزع له من قصد ، وترومه من هدف، قبولا ً منـِّي وموافقة واعجابا ً بالخصائص التي انمازبها مؤلفوها من استئناء وتؤدة وصبر في استبانة الحقائق واستقرائها ، وذلك أثناء ما كنت لابثا ً ومقيما ً بدمشق حتى معظم شهور العام 2012م ، وحلأتنِي عنها دواع ٍ وموجبات النأي والبعاد عن كلِّ ما يضير ويكدر الخاطر ويكرب النفس من هذا التنازع المنبي عن مصير مجهول ينتظر الوطن السوري بعد أنْ سعَرته وشاركت فيه هيئات وأطراف ديدنها الاستئثار والتفرد بكلِّ شيءٍ ، وتخال ذاتها مصيبة في رأيها وتصرُّفها ، وبقيَّة الناس تخبُّط في العماية والضلالة ، وتزوغ عن الحقِّ إنْ لمْ تحسبها مجرَّد أدناس وأرجاس لا تتورع عن اعتزام تعفيتها لو خلص لها الزمام وساعفتها غفلات الدهر ، ممَّا يتنافى هذا الحال المقرف هو وأحكام أي شرع ، ويجافي نواميس أيَّة سنة .
لمْ أكنْ على بينة ودراية بماهيَّة المؤلفات التي تطبع في العراق طوال السنوات الخمس التي أمضيتها هناك مستثنيا ً منها ما يوافينِي به مؤلفوها مشكورينَ ، فألفِي أنـَّها طبعَتْ في الخارج وتحسب على الحراك الثقافي في البلد لأن كـُتـَّابها عرَاقيونَ شاءَتْ الظروف والأحوال العصيبة أنْ يهجروا الوطن ويؤثروا العيش بمنأى عنه دون أنْ تنبتر صلاتهم وروابطهم بمَن ألفوا مِن أهل وعرفوا من ناس ، ومن هذه العينة الكتب التالية : خمسون عاما ً في الصحافة لمؤلفه الأستاذ الصحافي زيد الحلي ، والبنية السياسية للأحزاب العراقية للدكتورة خالدة الجبوري ، وثالث يندرج في قبيل التأليف المشترك وهو كتاب ( الازدواجية المسقطة ) للدكتور حسين سرمك حسن وقرينه الصحافي سلام الشماع الذي يقطن مملكة البحرين حاليا ً ، وكانتْ لي ثمَّة مداخلات مع مضموناتها وتعقيباتٍ عليها دون أنْ أضنَّ بكلمة إطراءٍ أرى أنـَّها تستحقها عن جدارة وأهليَّة .
وها هِي الأيَّام تمرُّ وتنقضِي بعد أنْ أجلبَتْ علينا بالكوارث الجسام والدواهي المريعة ممَّا امتلأتْ جرَّاءَه النفوس بالتبرم والسُّخط ، وكادَتْ تتخلى وتنفض اليد مِن كلِّ مأمَل بالانفراج ويسر الحال والإيلاء لحياة مفعمة بالدِّعة والاستقرار ، وضامنة للفرد الإنسانِي العائش في هذه الربوع ما يتمناه ويرغب فيه من أمان وسلامة ، فبعد أنْ أفلح الجمهور في بعض المواطن العربية بتقويض ركائز السلطة المهيمنة والمتعسفة بشؤونه ومصايره ، وجد ذاته من غير احتساب بمواجهة ما هو أشنع في قبحه وسوئه ومآله في المستقبل ، من تفرُّق الكلمة وتمزُّق الصفِّ وتمنـِّي رعيل من الفرقاء المتضامنينَ والمتحالفينَ قبل وقتٍ قصير أنْ لو بقوا تحت طائلة النظام المُدَال منه وطوع مشيئتِهِ ، لكانوا في غنية عن هذا الاحتراب الذي سلبهم راحتهم واطمئنانهم والذي لا يعرف أحد متى ينتهي ويقف عند حدوده وينصرفوا لمزاولة أشغالهم ، والعام الذي يظلنا والمزحوم بكلِّ هذه الانتصارات والاخفاقات وخيبة الآمال على وشك مغادرته ليطلَّ عام جديد اعتاد الناس أنْ يتباشروا فيما بينهم أن يجيءَ حافلا ً بالمسرَّات والمباهج ، وتنتفِي منه السوءات والشرور ، بحيث لا يفتكر أحد من ساسة العالم والقادة في الدول القويَّة والمستطيل بتجبره وقدرته على البطش بالدول الضعيفة وسومها المهانة والذل ، في تكدير أجواء السلام الذي يظلُّ البشريَّة ولو في حدِّه الأدنى إذ لا تعدم بعض جهات الكون ألوانا ً من الاحتراب والاضطراب كلَّ مرَّة ، فينتهي إليَّ في الخواتيم مِن أيَّامه المولية بأهوالها وانكادها كتاب من شأنه أنْ يغريَ الإنسان بالأمل وحبِّ الحياة ، ويستلَّ من روحه اليأس والقنوط ، ويحبِّبَ في عينه مضاعفة السَّعي لتجميلها وتنقيتها من الأدران والعواسج ، ويبذر في أعماقه ودخائله بذور التيقن بأنَّ الدنيا أبدا ً في خير ، وإنَّ طيبة القلب ولطف السريرة ونقاء الوجدان هي الصفات العالقة بجبلة العديد الأكثر من الآدميينَ الذين تحتويهم هذه المسكونة ما دامُوا هائمينَ بالفتنة والجمال ، ومنصرفينَ لتزجية أوقاتهم في نجاز ما ينفع الناس غيرهم وينأى بهم عن الختل والوشاية والنفاق ، ألا وهُو كتاب ( الأوراق ) الذي جارى واقتفى مؤلفه الأديب الكويتي أحمد السقاف منوال القدامى من الكُتـَّاب والمؤلفينَ في تخيُّر عنوانات كتبهم وتسمية مأثوراتهم ، فهذه التسمية – ( الأوراق ) – المقتصرة على كلمة واحدة ، دون أنْ يعدوها إلى أنْ يَدُلَّ بتمكنه من التسجيع كما هو معتادهم ، أجتلي من حروفها وأستاف ذوقهم وتقويمهم لمصنفاتهم وما يسفر عنه جهدهم من الصنع والعمل ، وينهمك الباحث الفاضل في تخصيص صفحتين ِ والثلاث في وصف ما تنماز به ديارات العراق في بغداد والموصل والحيرة إبَّان العهود العباسية المتلاحقة من حسن موقع وعمارة مستوفية مواصفاتها من الثبات بوجه العواصف والأنواء ، وما يحيطها من المنابت والزروع ، ويحفُّ بها من الرياض والبساتين ، هذا إلى جودة الخمور التي تقدم لمَن يلمُّونَ بها ملتمسينَ عندها وفي رحابها ما يتوقونَ له من الأنس والرَوح والجمام ، ومخالطة رهبانها ومقاسمتهم ما هم فيه من صفاء البال واطراح الهموم ، ذاكرا ً قبل كلِّ شيءٍ مسمَّيات هذه الأديار واحدا ً بعد آخر ، وهي مسميات غريبة وذات اتصال بتقاليد الديانة المسيحيَّة واعرافها من قبيل : ( دير العَلث ، ودير قني ، ودير سرجين ، ودير سمالو ) .
وأعرفُ بالسليقة والعرف الجاري أنَّ ( دير ) جمعه ( أديرة وديور وأديار ) ، ولمْ أسمعْ يوما ً بـ ( دَيَار ) بفتح الدال وإنـَّما بـ ( دِيَار ) بكسرها ، وتعنِي : الانحاء أو البلدان أو المَواطن بموجب ما أشومه من تفسيرواكتنهه من معنى ، حيث لا حاجة محوجة لتصفح معجم ما وتقليب صفحاته ؛ غير أنَّ الكتابَ ذا يمكن عدُّه وسلكه في عداد الكتب المعنيَّة بتقديم ترجمات لأصناف من الشعراء المشغوفينَ بالخمرة والمولعين بالشراب ، والمفتونينَ باللهو والخلاعة والمجانة ، ويُستقرَى ذلك من كثرة تردُّدهم على هذه الأديَار وإلمامهم بها للتمتع بما يغلب عليها من التناهي في الترف والنعماء ، بعيدا ً عمَّا يوغل فيه الملأ مِن الشقاق والتنازع حول هذا الوطر أو ذاك ، بدليل أنـَّه يقرنُ كلَّ دير بشاعره الذي يستوحِي بواعِث شعره ممَّا يسوده من فنون المَسَرَّة والحبور ، منهيا ً تعريفه بالشاعر ذاك وتولده ونشأته وانقطاعه للدرس واستيعاب علوم العربيَّة وتفرغه لدراسة القرآن وسوغ بيانه حتى يصير مؤهلا ً لقول الشعر المطبوع والمتجرِّد من شائبات الانتحال والتعمُّل ، وهو وإنْ استند إلى مصدرين ِ أو ثلاثة من مصادر الشعر القديم المخصوصة لاستعراض مقاصده وأغراضه قبل عنايته بما بلغه وأوفى عليه اقطابه من تحليق وجودة فنية وبداعة في تصوير المعنى ككتاب ( الديارات ) للشابشتي الذي ساقه على هاته الشاكلة دونَ أنْ يستقصِي وراء اسمه الحقيقي الكامل وفي أيِّ عصر ذاع صيته واستطار نبوغه وتفايضَتْ شهرته بالتصنيف والتأليف ، ومثله العمري مُعِدُّ ومُبَوِّب مسالك الأبصار من الإهمال والتغافل ، إنـَّما توسم في قارئ الكتاب أنْ تواتى له قَدرٌ من الاطلاع والمعرفة الواسعة بالآداب العربيَّة ، وحسبه منه أنْ يعِي ملازمة الشاعر الماجن جحظة البرمكي لدير العلث الكائن في الجانب الشرقي من دجلة مجملا ً أوصافه في القذارة والدناءة ورقة الدين ، غير أنـَّه يثنِي عليه ويقبله رغم ذلك ، لنصاعة أدبه وخفة روحه ، ويزجي عيِّناتٍ وشواهد من شعره ليعلمنا أنَّ وفاته بمدينة واسط صادفت سنة 326هـ ، يلِي ذلك تعريفٌ بابن شبل البغدادي الشاعر المتفلسف وهو من أعلام العصر السلجوقِي ومتوفى عام 474هـ ، وذلك من خلال ترجمةٍ ضافيةٍ اكتنزَتْ بعيون شعره ، وأخصها قصيدته الشهيرة بالحكمة والسرِّ الالهي والتي يستهلهابهذا البيت :
بِـرَبِّـكَ أيُّهَـا الفـَـلكُ الــمـُــــدَارُ أقصْدٌ ذا المَسِيرُ أمْ اضطِرَارُ ؟
…………….
وهكذا دواليك لكلِّ دير شاعره المسحور حينَ إقامته الموقوتة فيه وأخذه نصيبَه من المتع والملذات ، وكذا نعاود إحاطتنا بحيوات الشعراء الذين سبقَ لنا أنْ أطلعنا على ماجرياتها في مؤلفات معدة لتواريخ الآداب العربيَّة ، أمثال : عـمر الوراق قرين أبي نؤاس ، وكشاجم الهندي الأصل والارومة ، والسري الرَّفاء الذي كان خصيما ً للخالدَينَ أديبي الموصل ، وهما : أبو بكر محمد بن هاشم وأبو عثمان سعيد ابن هاشم ، حيث تطاول عليهما واتهمها بسرقة شعره والتعويل عليه في ذيوعهما ؛ والخباز البلدي الذي كانَ أميا ً بالمرَّة ورغم أميَّته وبعده عن القراءة والكتابة فقد تفوق على نظرائه ببداعة شعره وامتلائه بالمُلح والطرائف ، وضاهى غيره من المبدعينَ وأتى بما لم يُسبَق إليه من التفنن والاقتباس من آي القرآن الكريم .
ولا يخفى أنَّ جُلَّ أولاء هم من الشعراء المتأخِّرينَ والذين لاذوا بكنف قصر سيف الدولة الحمداني وعاصروا المتنبي الذي طمس اعتداده وتشامخه وكبرياؤه نبوغَهم وعفا على ما توافر لبعض لقياتهم من صياغات بارعة وحسن استواء مقبول والتولي عن جدة المعاني وقوتها .
والطبعة التي أتداول وأتصفح من كتاب ( الأوراق ) هي الثالثة الصادرة في العام 1982م ، بعد أنْ سبقتها طبعتان الأولى في العام 1954م ، والثانية 1977م ، فاستجمعَتْ فيه ثلاث مقدماتٍ بناءً على ذلك ، حيث ينصُّ في هامش الطبعة الأولى على اندثار هذه الأديرة وعفائها وتداعيها إثر انحلال الدولة العباسيَّة وما تسبَّبَتْ فيه الغزوات الأجنبيَّة من الخراب والدمار بعدما أسلفه الرهبان من ازدهار العلوم العربيَّة وقدَّموه من خدمات ومعاونات لمبتغي الدرس الفلسفي والحكمة ، وتروقنا بوجهٍ خاص المقدِّمة الثالثة المكرَّسة لبيان تقييم بعض الأساتذة والمختصينَ ، ومنهم الدكتور أحمد مطلوب الذي ثمَّن جهد المؤلف واطراءه جهرة من الشعراء الكلفينَ بالصراحة ، والمقبلينَ على الانخراط في زحام الناس وغمار الحياة بلا طلاءٍ ، وكيفَ اسفروا عن وجوههم وصوروا حياتهم وحياة المحيطين بهم من الناس بلا أدنى تزيف أو اصطناع .
فلنا أنْ نعجب للحياة الحُرَّة التي كانتْ تعمُ الوسط الاجتماعي أيَّامَ دولة بني العباس في جو من التسامح والطلاقة والرحابة الفكريَّة دون أنْ نسمع بوصايةٍ لأحد المنافقينَ والشياطينَ على تصرُّفات بني الانسان وخلقياتهم ، فمَا أحوجنا للتحلل والانفلات من آصار الجمود والتزمُّت ، ونتفطن إلى أنَّ بعض وعَّاظِنا لا يعدمُونَ من بينهما ولاء الذين يقارفونَ بنت الحانِ سرا ً ، فهم بهذا الوجه من جهتين ِ لا جهة أساءوا ؟ .
********
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com
MahdiShakerAlobadi@Hotmail.Com