مثل القناص الذي يختار أعلى وأبعد نقطة عن الهدف ليؤمن أقصى قدر من الدقة في تحديد الإحداثيات والإصابة ، إختار ( ماريو بارغاس لوسا ) أبعد نقطة ممكنة على مرتفع الزمن تبعد خمسة وثلاثين عاماً عن مصرع الدكتاتور في روايته ( حفلة التيس ) ، وهو الحدث الأساسي للرواية والمحرك لكل الأحداث الفرعية والمكملة الأخرى ليبدأ من هناك الفصل الأول ، ولتكون نقطة البداية هذه هي بداية زمن السرد ، والتي يمكن وبحسبة بسيطة أن نحدّدها بعام 1995 ، بينما يمتد زمن الرواية للفترة من 1930 – 1961 وهي الفترة التي هيمن خلالها الدكتاتور ( فخامة الدكتور الجنراليسمو رافائيل ليونيداس تروخييو ، ألمُنعم ، وأبو الوطن الجديد ) على كل مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جمهورية الدومينيكان الكاريبية ، وجيّر كل ما على أرضها لصالحه ، ولصالح عائلته الفاسدة ، وأتباعه اللصوص والقتلة .
ولأنه بدأ السرد من النقطة التي يُتوقع أن تكون الخاتمة مستخدماً تقنية البدأ من النهاية ، اي من حيث كان عهد الدكتاتور قد انقضى واصبح ذكرى ، فإنه سيكسر نمطية الزمن الكرونولوجي وإتجاهه متخذاً من تاريخ مصرع الدكتاتور نقطة المنتصف على مسطرة الزمن يتنقل بحرية ما بين طرفيها من فصل إلى أخر ، وهكذا تكرّر اكثر من مرّة حادث مصرع الدكتاتور ذاته في أكثر من فصل ، ولكن في كل مرة بطريقة مختلفة ومن زاوية مختلفة ، كما تكرّر ايضاً اكثر من حادث بنفس الألية .
إذن ، وكما سبق ، فالرواية تبدا من حيث يجب منطقياً أن تنتهي ، فصفحات التاريخ قد طوت ذكرى الدكتاتور المصروع ، وبدأت مرحلة التغيير ، وتقليب صفحات الماضي المؤلم مع عودة ( أورانيا كابرال ) وهي بنت احد اهم مساعدي الدكتاتور وأحد أبرز المثقفين والمفكرين الدومنيكانيين ، ألوزير والسيناتور ورئيس مجلس الشيوخ السابق الدكتور أوغسطين كابرال الملقب ب ( مخيخ ) المحرّر الأول للدستور الذي أصدره الدكتاتور في بداية عهده والذي قدم تنازلات مهينة للنظام الفاسد لا تتناسب مع كفاءته ومواهبه طوال فترة عمله في خدمة الدكتاتور ونظامه قبل أن يتخلى عنه الأخير لأسباب غامضة في واحدة من نوبات نزقه غير المحسوبة لتحيق بالرجل الموهوب الأزمات المالية ، وليتعرض إلى الجلطة الدماغية التي أصابته بشلل كلي لا علاج له .
وكانت أورانيا قد غادرت الدومنيكان إلى الولايات المتحدة قبل فترة وجيزة من مصرع الدكتاتور عام 1961 بدعم من الكنيسة بحجة الدراسة في خروج هو اقرب للهروب دون ان تبلغ اقرب أقربائها ، ودون أن تودع حتى أبيها ، بعد ان تعرضت لإغتصاب مهين من قبل الدكتاتور في مخطط غاية في الخسّة شارك فيه أبوها من أجل نيل رضا وعفو الدكتاتور ، ومن أجل أن يُعيد إليه حقوقه المهدورة ومناصبه التي جرّده منها بدون سبب مقنع . ومع عودتها يبدا زمن السرد بنبش مؤلم لذاكرة الماضي في مواجهة من طرف واحد ما بين عقل الحاضر المثخن بجراح المهانة والاغتصاب تمثله ( أورانيا كابرال ) ، وبين عقل الماضي المعطل بالشلل والمتورط في مؤامرة الإغتصاب يمثله والدها الدكتور أوغسطين كابرال .
النصوص الفرعية :
إن النص الكلي للرواية نصّ مُركّب تتشكّل في طياته أربعة نصوص فرعية تتوزع على أربعة وعشرين فصلاً ، وتتداخل الفصول بالنصوص تداخلاً يسبب الغواش أحياناً ، ويوهم بالارتباك والتناقض ، فالحادثة التي تُحسم وتُطوي في نص تعود لتروى من زاوية أخرى في نص أخر ، عاد للظهور فيما بعد ، مما يدعم فكرة أن لكل نصّ من النصوص الأربعة بنيته ، وإستقلاليته ، إضافة إلى نسقه العلائقي الذي تنشط في إطاره الشخصيات مكونة شبكة ذات طبيعة مغلقة على مكوناتها ، لا تُفتح على شبكات النصوص الأخرى إلا في إستثنائين :
ألأول : إنفتاح شبكتي علاقات النصين الثاني ( نص الدكتاتور ) والثالث ( نصّ المتمردين ) على بعضهما مكونتين معاً شبكة متنافرة توصم بطابعها النص الرابع ( سنفصّل ذلك في حينه ) .
ألثاني : إنفتاح الشبكات في كل النصوص على شخصية محورية واحدة تمثل البؤرة التي تتحرك من حولها الأحداث ألا وهي شخصية الدكتاتور .
وتتميز تلك الشبكات في كل نص بطابع مختلف عن سواها ‘ فهي في النصّ الأول تنماز بطابع القرابة ما بين الأب كابرال وإبنته أورانيا وعمتها وبنتيها وحفيدتها ، بينما هي في النص الثاني ذات طابع وظيفي ( عسكري وسياسي )يترك أثره على طابع العلاقات البطريركية بين الدكتاتور وأبناء أسرته الذين يتحولون وفق تراتبية تمزج ما بين النسب والمنصب إلى موظفين في جهازه الحكومي ، مهمتهم فيه إدارة أموال العائلة وتوجيه مصالحها المالية ، وإبقاء هيمنتها الكلية على البلد . وفي النص الثالث تأخذ شبكة العلاقات طابع الزمالة أو الرفقة بين مجموعة المتمردين ، وهم من مشارب وانتماءات وأعراق مختلفة جمعهم بغضهم للدكتاتور .
وباستثناء حالة التجانس التي توصم العلاقات في النصوص الثلاثة ، فإن العلاقات في النص الرابع تتسم بالتضاد والتصادم ما بين مجموعتين متصارعتين متنافرتين لكل منهما قناعاته المتعارضة مع الأخرى بما يدفع إلى الصدام الحتمي بينهما من أجل ضمان بقاء أحداهما فقط في ساحة مضطربة لا تستوعب الجماعتين معاً في وقت واحد .
في ( النصّ الأول ) وهو النصّ الذي يشغل الفصول ( 1 ، 4 ، 7 ، 10 ، 13 ، 16 ، 18 ، 24 ) تروي أورنيلا كابرال بعد عودتها من منفاها ( الإضطراري ) قصة اغتصابها من قبل الدكتاتور وهي لم تزل طفلة ، وكيف هرّبتها الكنيسة بمساعدة خارجية إلى أمريكا . وتتكون شبكة العلاقات في هذا النص – كما تبيّن سابقاً – من الأب كابرال وابنته والعمّة وبنتيها وحفيدتها ، هذه الشبكة لا تخترقها أية علاقة خارجية ولا تؤثر بها ، وكل الأشخاص الهامشيين الأخرين الذين يمرون مروراً سريعاً ويذوبون في تيار الأحداث ( مثل ممرضة الأب كابرال المشلول والببغاء شمشون ) ليس لهم اي تأثير على ما سيلي وبالتالي لا يمكن إعتبارهم جزءاً من مكونات الشبكة بقدر ما هم جزء من متطلبات السرد . ويبقى الدكتاتور بالرغم من عدم حضوره الفعلي ضمن هذا النص – إلا من حيث هو ذكرى – هو علة الحدث .
إن زمن هذا النص هي فترة وجيزة من عام 1961 ، وهي الفترة التي تشكلت خلالها إنطباعات اورانيا المريرة عن الاغتصاب الذي تعرضت له من قبل الدكتاتور ، وكل ما سبق او تلى تلك التجربة هي تداعيات التجربة ، وإعادة تجميع وتركيب لمواقف مرت في وقتها امام عينيها دون ان تمكنها براءتها الطفولية من تحليلها وفهمها ، ولكنها اعادت ربطها ضمن ظروفها الموضوعية وقراءتها بعد هروبها ، ومن ثمّ نضجها ، لتتوصل إلى نتائج غاية في المرارة والإحباط خصوصاً فيما يتعلق بالدور الذي لعبه السفير السابق وقوّاد الدكتاتور ( مانويل ألفونسو ) في إقناع أبيها لتقديم إبنته أضحية على فراش الدكتاتور من أجل استعادة الثقة به .
وبالعموم فإن الفترة الزمنية التي شغلها النصّ الأول تشكل السنة الأخيرة في عمر الدكتاتور وتتداخل مع الفترة الزمنية للنص الثاني الذي يمتد للفترة ما بين 1930 – 1961 اي طيلة الفترة التي هيمن فيها الدكتاتور وزمرته على الدومنيكان ، سواء بشكل مباشر أو من خلال أخيه أو من خلال الرئيس الدمية الدكتور ( خواكين بالاخير ) . وسنسمي هذا النص بنص ( أورانيا كابرال ) .
يشكل النص الثاني العمود الفقري للرواية ، فهو المخصص لصانع الاحداث الأول دكتاتور الدومنيكان الذي يطلق عليه الثوار من شعبه تسمية ( التيس ) او ( هيدرا ) والتسمية الأخيرة ذات دلالة سواء بمعناها المثولوجي الإغريقي أو بمعناها العلمي البايولوجي . هذا الفصل يتناول تاريخ صعود الدكتاتور بدءاً من أيام شبابه الأولى في سلك الشرطة ، يوم كان يتدرب على يد قوات المارينز الأمريكية ، وحتى صعوده إلى أعلى منصب في الدولة ، ويشغل هذا النص خمسة فصول من فصول الرواية الأربع والعشرين هي الفصول ( 2 ، 5 ، 8 ، 11 ، 14 ) وتتناول الحياة السياسية والاقتصادية الفاسدتين للبلد في ظل الدكتاتور ، والأليات التي إعتمدها لإدارة الحكم وإدامته والتعامل مع المعارضين والتعريف بأقرب المقربين إليه ، مثل زوجته المهيبة دونيا ماريا التي لا تشبع من سرقة الملايين من أموال شعبها الفقير وإيداعها في بنوك سويسرا ونيويورك ، والتي تُصدر كتباً يكتبها باسمها الكاتب الاسباني الأصل الدومينيكاني الجنسية خوسيه ألمونيا – الذي أرسل جوني أبيس رئيس الاستخبارات العسكرية من يقتله كعربون لنيل ثقة الدكتاتور – ولكثر ما صدقت زوج الدكتاتور هذه الكذبة صارت تظن نفسها مثقفة وكاتبة ، وتتعامل مع وسائل الإعلام من هذا الموقع . ويُعرّف النصّ بابنة الدكتاتور الجميلة التي يُحتفى بها كملكة ، وبإبنه المدلل رامفيس الذي رُقي إلى رتبة جنرال وهو في العاشرة من عمره ، وبإخوة الدكتاتور الأوغاد واللصوص ، إضافة للتعريف بأبرز مساعديه ومؤهلاتهم العملية والسلوكية وأبرزهم جوني أبيس رئيس الاستخبارات العسكرية المتورط في أحط عمليات الاغتيال للمعارضين السياسيين ، والذي وصفه احد المتمردين بأنه لا يتورع أن ( يدسّ يده في البُراز ، بل يدسّ جسمه ورأسه إذا اقتضى الأمر ) وكان الدكتاتور يعرف جيداً أن أبيس هو الشخص الوحيد الذي لا يستطيع خيانته بين جميع من يحيطون به ، حتى لو رغب في ذلك ، لأن الدكتاتور هو الشخص الوحيد الذي لا يكرهه ولا يحلم بقتله، وعلى حد قول الدكتاتور نفسه لجوني أبيس ( إننا متزوجان إلى أن يُفرّق بيننا الموت )، إضافة إلى أن هذا النصّ يكشف أسلوب الدكتاتور المهين في التعامل مع مساعديه ، وتلويثه لحيواتهم الخاصة إلى درجة الاشتراك معهم في زوجاتهم على فراش واحد وبمعرفة الازواج وموافقتهم ، وكل هؤلاء يشكلون شبكة العلاقات المغلقة لهذا النص ، وسنسميه نص الدكتاتور .
اما النص الثالث فمخصص لعملية التخطيط والتنفيذ لإغتيال الدكتاتور ويشغل ثمانية فصول من الرواية هي الفصول ( 3 ، 6 ، 9 ، 12 ، 15 ، 17 ، 19 ، 23 ) ، وهذا النص يُعرّف بمجموعة المتمردين الذين يشاركون في عملية التخطيط والتنفيذ لاغتيال الدكتاتور . وشبكة علاقات هذا النصّ مغلقة على الأشخاص الأساسيين الذين سينفذون العملية ، إضافة إلى الداعمين لهم أو المطّلعين على خطتهم من العسكريين العاملين في أجهزة السلطة ومن الدائرة القريبة من الدكتاتور ، ولكن أشكال المعارضة التي يقدمها النص الثالث هي أوسع من مفهوم المتمردين ، فالمتمردون لا يشكلون سوى المظهر المسلح للمعارضة ، أما أشكال المعارضة بصورة عامة ، فهي :
1 – المعارضة الداخلية : وتشمل
– المتمردون الثوار الذين يخططون لعمل مسلح للقضاء على الدكتاتور .
– ألمعارضون السلميون ، وهم بالعموم من رجال الكنيسة الذين يُخفون مشاعرهم تجاه النظام خوفاً من بطشه ، لكنهم يُقدمون الدعم والرعاية لضحاياه عندما يحتاجونها
2 – ألمعارضة الخارجية : وتشمل
– ألمعارضة الوطنية في المنفى وتحديداً في المكسيك وفي مقدمتهم الزعيم النقابي اليساري لومباردو توليدانو .
– ألمعارضة الدولية للنظام ، وتقف في مقدمته مجموعة الدول الأمريكية ، إضافة للولايات المتحدة الأمريكية التي يعاني نظامها السياسي من الانتهازية والازدواج في التعامل مع نظام الدكتاتور ، ففي حين تساعد حكومتها المعارضين الدومنيكانيين بالمال والسلاح ، وتضع أسطولها الحربي على مقربة من السواحل الدومنيكانية في إنتظار إشارة التدخل عسكرياً ، إلا أنه لا يعدم وجود أعضاء من الكونكرس الأمريكي يتقاضون الرشاوى من الدكتاتور ، والتي ينتزعها لهم من خزانة دولته التي هي واحدة من أفقر دول العالم من اجل أن يمنحوه دعمهم ، ومن أجل أن يضمنوا له سكوتهم على جرائمه .
من بين كل أولئك المعارضين ستقع التبعات الدموية لعملية إغتيال الدكتاتور على المتمردين الثوار حصراً الذين خططوا ونفذوا العملية ، وهؤلاء هم الذين سيقتصر السرد عليهم ضمن هذا النص من بين كل أشكال المعارضة الأخرى التي لن تعدم تلميحات مبتسرة وطفيفة عنها هنا ، وهناك . وسنسمي هذا النص بنصّ المتمردين .
علاقات التضاد :
في الفصل العشرين تبدأ ملامح نصّ جديدٍ بالتشكل ( وهو النصّ الرابع ) الذي يشمل الفصول ( 20 ، 21 ، 22 ) وذلك جراء إنفتاح وتداخل شبكتي علاقات النصّين الثاني والثالث على بعضهما لتكوين شبكة علاقات هجينة متسمة بعدم تجانس مكوناتها وجنوحها نحو التضاد والتنافر ما بين عناصر المجموعتين مما يجعل من التصادم ما بينهما ضرورة وجودية تمليها حالتي تنازع المصالح وصراع البقاء ، فعلى أحد طرفي شبكة العلاقات الجديدة يقف اتباع الدكتاتور الموتورون والمدفوعون برغبة همجية للثأر والانتقام لمصرعه ، وعلى الطرف الأخر يقف منفذو عملية الإغتيال الذين يبدو أن منتهى هدفهم كان مقتصراً على تصفيته دون تجاوز ذلك إلى إحداث تغيير شامل لتركيبة النظام ، ولذلك وجدوا أنفسهم بعد تنفيذ عمليتهم قد وقعوا ما بين مسجونين أو مطاردين في أحسن الأحوال ، أما في أسوئها فقد خسر البعض الأخر منهم حياته تحت التعذيب .
وفي هذا النص تنتهى إلى الأبد أسطورة الدكتاتور ولم يعد صوته المتفرّد مهيمناً على الأحداث ، كما تتلاشى فكرة التمرّد بعد أن لم تعد دوافعها مبرّرة لتشغل هذا النصّ وتميّزه عمليات البحث عن منفذي عمليات الاغتيال والمتورطين والمشتبهين بها ، والقصاص منهم بوحشية تمثل الصورة المثلى للتنفيس عن الكراهية التي نفخها الدكتاتور على طول سنوات حكمه في نفوس أتباعه ، وفي هذا النصّ تروى أشرس اساليب التنكيل المبتكرة التي اجترحها أعوان الدكتاتور من ذاكرة الانتقام المريضة ثأراً لمصرعه وأبشعها خياطة أجفان المتهمين بالإبر والخيطان ، والإخصاء بقطع الخصيتين بالمقص ، وإطعام المعتقلين من لحوم أبنائهم . وضمن هذا النصّ تتصاعد الضغوط الدولية ضد رئيس الجمهورية ألشاعر والحقوقي الدكتور خواكين بالاغير الذي نصّبه الدكتاتور رئيساً ليمنح فساده وانتهاكاته الفجّة شرعية دستورية ، وليتفادى عقوبات منظمة الدول الأمريكية .
وقد تحوّل بالاغير هذا بعد مصرع الدكتاتور من رئيس دمية إلى رئيس حقيقي قاد بنجاح عملية التحول الديمقراطي ، وإحداث إنفراج في الوضع السياسي ، وقد اقترن ذلك بخروج عائلة الدكتاتور مع أموالها الطائلة إلى الخارج ، وإلقاء الرئيس بالاغير خطاباً في الأمم المتحدة أدان فيه عهد تروخييو واعتبره خطأً تاريخياً ، وطالب الأمم الحرة المعونة لإعادة القانون والحرية للدومنيكان ، علماً أنّ الدكتاتور المصروع كان قد عين قبل بالاغير أحد إخوته رئيساً للجمهورية ، وسواء في فترة ترؤس أخيه للجمهورية ، أو في فترة حكم بالاغير ، ظل الدكتاتور يحركهما كدميتين من وراء الكواليس ، من دون أن تكون له صفة رسمية تجبرهما للاذعان له في أغرب نموذج للدكتاتورية العسكرية .
إن التناقض الذي تسبب في نسج شبكة علاقات غير متجانسة ( أتباع الدكتاتور في جانب وقتلته في الجانب الأخر ) سيستمر خلال الفصول التي تشكل النصّ الرابع ما دام الصراع ما بين طرفي الشبكة ما زال مسوّغاً ، ولكنه سينحسر مع تراجع احد الطرفين من الحياة العامة وتحديداً الطرف العسكري بفعل الضغوط الداخلية والخارجية التي ستخلخل المعادلة القديمة وتعيد بناء الدولة الجديدة .
لقد منحت طبيعة الصراع في الجمهورية الكاريبية نشاطات الشبكة الأولى ( شبكة المتمردين ) طابع الإستتارة ودفعتها للعمل في الخفاء ، وقد مكنها ذلك من التخطيط والإعداد والتنظيم والتنفيذ بهدوء ، بعكس الشبكة الثانية ( أتباع الدكتاتور ) التي تتميز بأن كل عناصرها معروفون للجميع ، ويتحركون بمنتهى الحرية لأنهم يملكون السلطة والثروة والقوّة ، وأن رهان البقاء معقود لطرف واحد من الإثنين ، وبالتأكيد لن يفرّط به الطرف المالك للسلطة والقوّة ، ولن يدّخر جهداً في استخدام كل قوة البطش التي بحوزته لإبعاد المنافسين والمتنطّعين .
بيد أن التناقض ما بين ( المعروف / المجهول ) سهّل تحرّك الشبكة الأولى في الظلام ، وعلى مقربة من منطقة الدكتاتور ، بل وكسب بعض معاونيه إلى صف المتمردين . ولكن ما إن تتمّ عملية الإغتيال حتى تختل ثنائية ( المعروف / المجهول ) ويصبح المجهول معروفاً ، وتتكشف الخيوط المخفية ، وتبدأ المطاردات وتتوالى الإعترافات التي لم يحسب لها المتمردون حساباً ، فقد كانت عملية الإغتيال مبنية على ردود أفعال عاطفية لا يتجاوز هدفها النيل من رأس النظام وعدم تجاوز ذلك إلى باقي الجسد الفاسد ، فقد كان المتمردون يأملون بأن ينصاع كلّ العسكريين العاملين في الأجهزة الحكومية لسلطة الجنرالات المنضوين تحت جناح حركة التمرد ما إن يُعلن نبأ مصرع الدكتاتور مباشرة ، وبذلك سيُلقى القبض على إخوة الدكتاتور ، ويُعدم رئيس المخابرات العسكرية ، ويُقام مجلس مدني – عسكري ، وينزل الشعب إلى الشوارع ليقتل المخبرين سعيداً بنيله حريته ، ولكن الأمور لم تجر على هذه الشاكلة فقد بقيت قوّة البطش قائمة بعد زوال الرأس ، بل صارت أكثر ضراوة ودموية مما قصر الفعل الروائي في ( الفصل الرابع ) على عمليات مطاردة وتصفية المتورطين والمشتبه بهم في عملية الاغتيال ، والتي يتصاعد إيقاعها صخباً كلما فشلت الجهود في العثور على جثة الدكتاتور المصروع .
ولكن التصاعد غير المنطقي لوتيرة التعذيب والتصفيات سيقود إلى الإنفراج ، ويُخرج الصراع من إطاره الدموي باعتباره صراع بقاء ، ليضعه في مستوى اسمى يتسم بالتحضر والرقي ، ويقود باتجاه حتمية التغيير . فمستوى البطش الذي أطلقه أعوان الدكتاتور إنتقاماً لمصرعه سينبّه المجتمع الدولي إلى ضرورة الضغط والتدخل لتهدئة الاحتقان الداخلي ، وإعادة قاطرة السلطة الجانحة إلى سكّتها .
ومع إنزياح الدكتاتور من المشهد إنزاحت شبكة علاقاته ، وانتهى ( النصّ الثاني ) من السرد . وبالطريقة ذاتها فإن خلخلة شبكة التناقض ما بين المتمردين واعوان الدكتاتور قد تسبب في تلاشي ( النصّ الرابع ) الذي إحتواها . وبذلك تستمر الرواية حتى نهايتها مع النصّين ( الأول والثالث ) بحكم بقاء شبكتي العلاقات المرتبطة بهما والممثلتين لقوى الرفض والتغيير .
فضاء العلامات :
إبتدأت الرواية بفصل ينتمي إلى النصّ الأول ( نص أورانيا كابرال ) ، وانتهت بالفصل الرابع والعشرين الذي ينتمي لذات النص في تاطير دلالي جمع الكل داخل إطار حواري مكوّن من حزمتين من التداعيات والرؤى المتباينة .
ألحزمة ألأولى : ضمت حواراً ثنائياً ما بين عقلين ، عقل الأب ( الماضي ) المشلول ، وعقل الحاضر ( أورنيلا ) المشبع بالكراهية ( وقد سبقت الإشارة إليه ) .
والحزمة الثانية : ضمت ثلاثة رؤى لثلاثة أجيال :
1 – الرؤية الأولى : تمثلها العمّة العجوز التي ما زالت تحنّ إلى أيام الماضي ، ولا ترى في الدكتاتور السوء الذي يراه الأخرون فيه ، عاكسة حالتي سلام وتآخ واضحين ما بين الماضي وأبنائه .
2 – والرؤية الثانية : تبدو منشطرة إلى إتجاهين بالرغم من إنها رؤية جيل واحد :
ألاتجاه الأول : تمثله اورنيا كابرال وهي صوت الرفض والادانة للخطأ التاريخي الذي يمثله الدكتاتور وحكمه وزمنه ، وكذلك لتعاطف والدها معه وتسخير ثقافته ومعرفته للعمل في خدمته .
ألاتجاه الثاني : تمثله إبنتا العمّة اللتان تبدوان محايدتين ، فلا هما ضد الدكتاتور ولا هما مؤيدتان للتغيير ، بل انهما تحاولان تسوية التناقض بين العهدين من خلال تسوية الخلاف ما بين الأب وابنته اورنيا ، وكأنهما تقولان كفى كراهية ، لقد تحركت العجلة دون استئذان من أحد ولم يعد أمام الجميع سوى الإذعان لقانون الحركة .
3 – ألرؤية الثالثة تمثلها الحفيدة التي ولِدت بعد أن كان الدكتاتور قد أصبح ذكرى من الماضي البعيد ، وبذلك فإنّ هذه الرؤية – التي لم تنضج بعد – ليست من بقايا الماضي ، ولا هي جزء من الحاضر ، إنها المستقبل المعافى من أمراض الأجيال المضطربة والمأزومة ، ألمستقبل الذي لا ينشغل بالنبش في قمامة الذكريات ، إنها رؤية الحداثة التي لا تلتفت إلى الوراء ولا تُعنى بالماضي ولا بمعاناته ، بل انها لا تتفهمه لأنه غريب عنها ولم تعش أيامه ، كما إنها لم تعد مهمومة بالنضال من اجل التغيير فقد أصبح التغيير حقيقة ونمط حياة ، ولذلك كان أقصى دور أدته الحفيدة في الحوار الخماسي أنها ظلت طيلة الوقت في حالة صمت وتأمل ، مع بعض التساؤلات الحائرة التي تؤكد من خلالها أنها لا تعي ما يُقال .
كل هذه الرؤى تعكس تصوراً بوليفونياً متعدد الأصوات ( بلغات متعددة هي أصوات الشخصيات ) ( 2 ) ، لكل صوت مستوى خطابه الخاص التي تميزه وتعكس ثقافته ووعيه ومستوى استيعابه للاحداث ، وقدرته على التماهي مع النظام أو التمرّد عليه ، ثم عكسه لبيئته ولمعتقداته . وتبرز جلية طبيعة ومستويات الخطاب المختلفة ما بين الشخصيات ، فاللغة ( كون أيدلوجي ، فضاء من العلامات )( 3 ) تُخفي وتكشف طبيعة المجاميع وثقافتها ومهنها وأجناسها وتاريخها الشخصي والاجتماعي ، ففي النص الأول يبرز التباين في مستويات الخطاب وتعدد الأصوات واللغات ما بين المجاميع من جهة ، ومن جهة أخرى ما بين الأفراد ضمن المجموعة الواحدة ( أو بالاحرى تعدد مستويات الكلام ) ويبدو ذلك جلياً ما بين أورانيا كابرال ومحدثاتها ، وسأكتفي بنموذج واحد يختزل طبيعة لغتها اللائمة والساخرة والمُقرعة وهي تخاطب والدها المشلول ( كنتم تستلذون التلوّث بالقذارة ، وإن تروخييو قد أخرج من أعماق أرواحكم ميلاً مازوشياً ككائنات تحتاج إلى من يبصق عليها ، يهينها ، لأنها بالتحقير تجد ذواتها ) .
وفي نص الثوار يبرز التباين ما بين لغات الثوار أنفسهم ، وبإمكاننا أن نميّز اللغة الدينية الورعة ذات الطابع الكاثوليكي في كلام ( سلفادور ) وهو ثائر من أصول عربية ( من قرية بسكنتا في جبل لبنان ) هرب منها أجداده في نهاية القرن التاسع عشر جراء الاضطهاد الديني ، وجابوا نصف العالم محافظين على إيمانهم بالمسيح والصليب حتى استقروا في الدومينيكان ، ولذلك يطلق على سلفادور ب ( التوركو ) ، والنص الحواري التالي يوضح الفاصل ما بين لغة سلفادور ولغة احد رفاقه ( إمبرت ) وهو فاصل مجتزأ يمكن تعميم نتائجه على الحوارات الأخرى ما بين سلفادور ورفاقه الأخرين مع تباينات ضئيلة :
( إمبرت : …. ، ألا تستثير كل الكلمات البذيئة غضب الرب ؟
سلفادور : غضب الرب لا تستثيره الكلمات وإنما الأفكار البذيئة ، وربما لا يُغضبهُ المخنثون الذين يسألون عن تخنثات ، ولكنهم يسببون ضجراً شديداً
إمبرت : وهل شاركت في القربان الرباني صباح هذا اليوم لكي تصل إلى الحدث العظيم بروح نقيّة ؟
سلفادور : أنا أشارك في تناول القربان كلّ يوم منذ عشر سنوات ، لست أدري إذا ما كانت روحي مثلما يجب أن تكون روح المسيحي ؟ فهذا أمر لا يعرفه إلا الله . )
وسلفادور هذا لا يُقدم على عمل قبل أن يستوضح رأي الكنيسة حتى إذا كان ذلك العمل إغتيال الدكتاتور ( سأقتل تروخييو يا أبتاه ، أريد ان أعرف إذا ما كنت سأحكم على نفسي باللعنة ) . ولعل إبرز دوافع سلفادور للاقدام على اغتيال الدكتاتور هي ممارساته المشينة ضد الكنيسة ورجالها ( لم يعد هذا محتملاً ، ما يفعلونه بالمطارنة وبالكنائس ، وهذه الحملة المقززة في التلفزيون والصحف والاذاعات ، يجب وضع حد لكل هذا بقطع رأس هيدرا ، هل سأحكم على نفسي باللعنة ؟ ) .
وفي نص الدكتاتور تبرز ملامح لغة الدكتاتور وأتباعه متسمة بهيمنتها وعنجهيتها ، واستنادها على قوّة السلطة وليس على سلطة المنطق والعقل ، فهو يُقرّع ( الدستوري سكران ) وهو واحد من أهم مساعديه ( إذا واصلت نبش أنفك أو أذنيك فسوف أستدعي المساعدين وأقيّدك ، لقد منعتك من هذه القذارات هنا ، هل أنت سكران ؟ ) ، ولعل خير عاكس لقصور لغة الدكتاتور هو مفهومه للجدارة ، وتطبيق ذلك المفهوم لتحديد تراتبية الفئات الاجتماعية ( يحتل العسكريون المقام الأول ، فهم يؤدون الواجب ، وقلما يتآمرون ، ولا يضيعون الوقت ، وبعدهم يأتي الفلاحون في منشآت تكرير السكّر ، وفي أكواخ القرى ، ففي مصانع السكر تجد أناس هذه البلاد الأصحّاء ، ألشغيلين والشرفاء ، وبعد ذلك الموظفون ، فالمقاولون ، فالتجّار ، أما المتأدبون والمثقفون فهم الأخيرون ، بل إنهم وراء رجال الدين ) .
جدولة بمستويات السرد :
ألجدولة التالية تسهّل قراءة النص الشامل للرواية ، والنفاذ عبره إلى تفريعاته الأربعة ( النصوص ) المتداخلة مع بعضها مع احتفاظ كل نص باستقلاليته . وبدون هذا التفريع قد تبدو هناك بعض البقع البيض التي يصعب ملؤها ، كما قد تبدو الكثير من التناقضات المضلِلة التي تعمّد الكاتب إيهام القاريء بها من أجل أن يُسوّغ تحقيق هدف أكبر ألا وهو الجمع ما بين الراوي العليم من جهة ، ومن جهة أخرى توخي تعددية النص ، وانفتاحه على أكثر من مستوى صوتي ولغوي ( وسنأتي على ذلك فيما بعد ) .
ملاحظات حول الجدولة :
ألملاحظة الأولى :
سبق أن بينا بان الرواية تبدا فصلها الأول ، وتُنهي فصلها الأخير ( الرابع والعشرين ) بالنص الأول ، وبينا دلالة ذلك من وجهة نظر علائقية ، بيد أن ثمة دلالة أخرى يبدو أنها أكثر التصاقاً بنهاية الرواية ، هي أن النص الأول الذي يؤطر داخل فصلين من فصوله ( الأول والأخير ) كل أحداث الرواية هو النص الوحيد المصطبغ بالطابع المدني ، في حين أن الطابع العسكري ، أو المدني المسلح هو طابع النصوص الأخرى ، وان تبئير الأحداث مدنياً معناه ( عقلنتها ) ، فالعقل المدني مهما رفض أو تمرّد فإنه لن يحيد عن الخيار الذي رسمه الراوي ل ( أورانيا كابرال ) وهي تُمارس رفضها وتمرّدها في حدودهما القصوى ، وإن تأطير كل فصول الرواية بفصلين ينتميان إلى الحياة المدنية ليس سوى محاولة تقنية لإخراج الحياة من الخانق الذي وصلت إليه جراء تغليب لغة اللاعقلانية ، ومنطق القوّة الباطشة ، من أجل إعادتها إلى إيقاعها المنتظم والهاديء ، وبهذا الخيار التقني الصرف إنسحبت من المشهد السردي إلى منطقة الغياب كل وجوه العنف والتطرف ، وانتهت الرواية مدنية ًكما كانت قد بدأت .
ألملاحظة الثانية :
تتعاقب النصوص الثلاثة ( الأول / الثاني / الثالث ) بالظهور المنتظم بشكل متتابع بدءاً من الفصل الأول وحتى الفصل الخامس عشر وهو الفصل الذي كانت فيه مجموعة أخرى من المتمردين تترصد الدكتاتور في نقطة أخرى على ذات الطريق الذي الذي قتل فيه الدكتاتور ، ولم تكن تلك المجموعة قد علمت بعد بأن رفاقهم قد نجحوا في قتل الدكتاتور ، وباغتياله ينتهي النص الثاني ( نص الدكتاتور ) وتتعاقب بعده الفصول بانتظام ما بين النصّين ( الأول والثالث ) أو نصّي ( أورانيا والمتمردين ) فقط حتى نهاية الفصل التاسع عشر ليظهر مع الفصل العشرين النصّ الرابع الذي سيشغل ثلاثة فصول دفعة واحد ة هي ( 20 / 21 / 22 ) وليعود بعدها تعاقب الفصلين المتبقيين ( 23 / 24 ) ما بين النصّين الأول والثالث .
هذا التعاقب المنتظم ما بين النصوص والفصول هو عملية تنظيم للزمن تُهيّء لتقبّل الأحداث التالية بمرونة دون أن تخلف فجوات يحس من خلالها القاريء بالفراغ والضياع ، كما أن هذا البناء المنتظم والمحكم الذي يأخذ بالحسبان التركيز على نصوص بعينها يكشف عن أهمية شبكة العلاقات المميزة لكل نصّ ، ودورها في وضع حد للفوضى الإنسانية التي ساق الدكتاتور ونظامه البلد إليها .
ألملاحظة الثالثة :
في الفصل الثاني عشر تمّ تنفيذ عملية إغتيال الدكتاتور ، وهذا الفصل ينتمي إلى ( النصّ الثالث ) المتعلق بالمتمردين ، ولكن ذلك لم يمنع – كما يُلاحظ من الجدول – عودة الدكتاتور إلى المشهد السردي في الفصل الرابع عشر المنتمي ل ( النصّ الثاني ) أو نصّ الدكتاتور ، مواجهاً للرئيس الدمية بالاغير في حوار هو مزيج من التقريع والتهديد واللوم على بعض تصرفاته التي لم يستسغها الدكتاتور . بل وأن كثيراً من الأحداث تعود بعد تصفيتها للظهور مجدداً في الفصول التي تعقب تصفيتها ، ومنها على سبيل المثال عودة البروفيسور أوغسطين كابرال إلى دائرة السلطة ، وعرض أرائه ومقترحاته في بعض القضايا على الدكتاتور ، في حين أن الرواية كانت قد بدأت فصلها الأول بتأكيد تنحيته ، وإصابته بالشلل الدماغي .
هذه العودة للدكتاتور ولكابرال وسواهم في الظهور وفي فصول أعقبت تصفية وجودهم السردي ، ما هي إلا تأكيد على ان لكل نصّ من النصوص الأربعة إستقلاليته من حيث إنه يشكّل بنية دلالية فرعية قائمة بذاتها ، بالرغم من أن تلك الاستقلالية لا تتعارض مع مبدا تكامل النصوص مع بعضها بما يدعم بناء عمل مركّب تتسم بنيته الكلية بالتعقيد .
ألملاحظة الرابعة :
في الفصل ( 20 ) يبدأ النص الرابع بالتشكّل ، ثم يتتابع متواصلاً في الفصول ( 20 / 21 / 22 ) دون أن تخترقه أية فصول تنتمي إلى النصوص الثلاثة الأخرى ليكون بذلك النص الوحيد الذي بدأ وانتهى متواصلاً في دلالة ربما تكون مقصودة على أن حالة الإضطراب الإجتماعي والتوتر السياسي المتسمين بالقسوة والدموية تبدأ وتتصاعد ثمّ تنتهي دفعة واحدة ، وإن ظروف الصدام شديدة التعقيد التي وصمت هذا النص لا تحتمل المطّ تأخيراً أو تأجيلاً كما احتملته الظروف الأقل تعقيداً التي وصمت الأحداث في النصوص الأخرى . ومن المعروف أن تلافي أثار هذا النمط من الظروف يُملي مبادراتٍ وحلولاً بنفس زخمها ، ولكن باتجاه معاكس لها ، ولا بأس أن نذكر أمثلة للمبادرات المتسارعة والمكثفة التي ساهمت بها الجهات الخارجية والداخلية لتطويق نتائج الاغتيال ، ولخلق الظروف التي تدفع باتجاه حلحلة الوضع السياسي ، وإقامة بديل يتناسب مع حجم التضحيات من أجل عدم تكرار إنتاج دكتاتورية أخرى مستقبلاً ، ومن أجل إنهاء الظروف المريعة التي ساهمت فنياً في الضغط على الكاتب ، وأجبرته أن يحشر ثلاثة فصول متعاقبة ومتتالية في نصّ واحد :
– فقد جاءت لجنة من منظمة الدول الأمريكية لمقابلة المعتقلين السياسيين .
– وعاد بعض المنفيين إلى الوطن
– وظهرت بعض مطبوعات المعارضة
– وبدأ الناس يفقدون الإحساس بالخوف ، أو إنهم تخلصوا من السحر الذي أبقاهم مستسلمين جسدياً وروحياً للدكتاتور .
– وصدر عفوٌ سياسي وفتحت السجون
– وتشكلت لجنة لتقصي الحقائق من أجل معرفة مصائر الذين نفذوا عملية الاغتيال ، وكان أتباع الدكتاتور المقتول قد قتلوهم جميعاً ، وأعلنوا في وسائل الإعلام انهم هربوا من السجن بعد أن قتلوا الحراس .
– وبعد أن كان منفذوا الاغتيال قتلة ومجرمين ، أعيد لهم الإعتبار ، فأصبحوا أبطالاً ، وأطلقت أسماؤهم على الشوارع والساحات .
قراءة ختامية :
في هذه الرواية التاريخية بإمتياز يدير ويوجّه الكاتب بمهارة وتلقائية أعداداً هائلة من الأشخاص الأساسيين والثانويين ، بل وحتى الهامشيين ، لكل منهم ملف ممتليء بالمعلومات والحكايات المفصلة والدقيقة ، تتفرّع منها ملفات أخرى مليئة بمعلومات وملفات ذات مستوى أدنى ، ولكنها لا تقل عن معلومات المستوى الأول دقة وتفصيلاً ، وبالتالي فأن جمع الملفات وربطها ببعضها دون أن تتخلف جراء ذلك أية فجوات نصيّة ، أو تناقض ما بين المعطيات ، لا يتيسر إلا وفق مخطط مدروس يُدار بمهارة من قبل راوٍ محتجب على الدوام يرى أدق التفاصيل ولا يراه أحد أو يتنبّه إليه ولا يترك وراءه أثراً يشير إلى موقعه أو مركزه ضمن شخصيات الرواية ، إنه الراوي الشبح فائق العلم ، الحاضر الغائب معاً ، والمُعفى من أيّ دور في الأحداث ، ولكنه حاضر فيها جميعاً ، يعلم بها قبل وقوعها أحياناً ، ويرصدها أثناء وقوعها مفتضّاً اسرارها ، وهو بالإضافة إلى علمه التام في كل الصغائر والكبائر ، يرصد ليس أدق التفاصيل المادية والخبرية فحسب ، بل وحتى المشاعر والأهواء الإنسانية أو ( المؤنسنة ) ، وقد بلغ من العلم حدّاً جعله يتتبّع مسير البول داخل الجهاز البولي للدكتاتور ، فمن أجل لفت الانتباه إلى فعالية عضوية طبيعية ونمطية لدى كبار السن فهو ( يؤنسن ) البول وهو ينطلق من أسر أوعية الجسد المغلقة إلى الهواء الطلق ( تجمّد الدم في عروقه ، فالبول يخرج منه ، إنه يشعر به ، بدا له أنه يرى السائل الأصفر يسيل من مثانته ، يخرج دون طلب الأذن من ذلك الصمّام غير النافع ، من تلك البروستات الميتة ، ألعاجزة عن وقفه ، يخرج نحو قناة الإحليل ، ويسيل بمرح فيها ، ويخرج باحثاً عن الهواء والضوء ، … ) لقد التقط مشاعر الفرح التي تبدر عن السائل الأصفر وكأنه يُصغي إلى صمته الرطب ، ويترجم رطوبته اللالغوية إلى لغة .
ويتكرّر ذلك في عدة مواقع ، ولكنه يسمو أحياناً بالنص إلى مستوى الدهشة ، ويُخرجه من إطار التوقع حين يصوغ بلغة مقصودة مشاعر عرضية مفاجئة وعفوية ( وضع تروخيو يده على وجهه لأنه ظنّ أنّ تثاؤباً سيفاجئه ، ولكنه كان شعوراً زائفاً ) . ولكن يبدو أن الراوي العليم بكل ما يوجه به نصّه من هيمنة وتفرّد لم يتسبب في إنتاج رواية مونولوجية أحادية لسبب بسيط هو أن الكاتب اعتمد ألية تجمع ما بين النقيضين فمن جهة إعتمد على سرد الراوي الوحيد العليم ، ومن جهة أخرى ضمّن روايته أكثر من صوت وأكثر من وجهة نظر ، وذلك باعتماد آلية تفريع النص الواحد إلى أربعة نصوص لكل واحد منها بنيته المتفرّدة وصوته المميز ، وبمعنى أخر وضعنا الكاتب بإزاء أربع روايات عن موضوع واحد ، كل رواية منها تنظر إليه من زاوية محددة ومن وجة نظر أبطالها .
ويبقى هناك سؤال أخير يثيره هذا النوع من الروايات التاريخية بامتياز ، الحافلة بالأحداث المتشعبة والتفاصيل الدقيقة ، هو ما مدى إمكانية التلاعب بالمعطيات التاريخية التي يسمح بها الفن من أجل إنتاج عمل يُحسب على خانة الإبداع ، وليس على خانة التوثيق ؟
هوامش :
( 1 ) حفلة التيس – ماريو بارغاس لوسا – المدى
( 2 ) التناص – دراسة في الخطاب النقدي العربي / سعد إبراهيم عبد المجيد
( 3 ) ألراوي – ألموقع والشكل / يمنى العيد