
إشارة : ستقوم أسرة موقع الناقد العراقي بإعادة نشر بعض مقالات المبدع الكبير الراحل “حسين مردان” بين وقت وآخر ، لأنها وجدت فيها تشخيصا دقيقا وحيّا للكثير من أمراض الثقافة العراقية في الوقت الحاضر ، الأمر الذي يجعلها متجددة برغم رحيل مردان منذ أكثر من أربعين عاما ! هي دعوة للقراءة والتأمل في افكار المبدع حين يكون صادقا .
في العراق عدد كبير من الادباء والشعراء والكتاب، وبعضهم يتمتع بطاقة جبارة على الانتاج والابداع، فما هو سر هذا الفتور الذي يسود الحركة الادبية في العراق في هذه الفترة؟ اعتقد ان اضطراب المقاييس الادبية وما صاحب بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة من غموض وكثرة الاساليب الجديدة الواردة أو المبتدعة في انبثاقات الادب العراقي وما رافق ذلك من بلبلة وفوضى هي السبب المباشر الذي اوجد في نفوس بعض من هؤلاء الادباء هذا الانكماش الذي ادى باكثرهم الى هذا النوع من الجمود الادبي الذي يطلق عليه بعضهم اسم – الانتظار- .. وهو اشبه بانتظار الشيطان امام باب الفردوس.وذلك لانهم لا يستطيعون ان يخرجوا من الدائرة النحاسية التي يدورون داخلها والتي تضيق حول افئدتهم يوما بعد آخر. فالمفروض في الاديب الفنان الاستيحاء,فنحن نقرأ قصصا كثيرة عن الاجواء الغريبة والمغامرات الخطرة التي قام بها أمثال(بودلير ورامبو وملر ولورانس واسكار وايلد وغيرهم….) من رجال الادب والفن للحصول على تجارب جديدة لضمان استمرارهم في الانتاج الفني, وقد دفع بعضهم حياته أو كرامته ثمنا لذلك بينما نرى أن أكثر ادباء العراق الممتازين يعتمدون في انتاجهم وابداعاتهم على تقمص تجارب غيرهم من مشاهير الادب والشعر فالقراءة هي المصدر الوحيد لتوسيع آفاقهم الفنية وقد نجد ان بعضا من هؤلاء يتفاعل مع تجارب الاخرين الى درجة الاستجابة الفعلية لتلك التجارب ولاينفك يتمدد في اعماقها حتى يشعر اخيرا بملكيتها له ومن ثم ينطلق محاولا ان يعيش في تلك التجربة ليخرج منها اخيرا بقصيدة او قصة جديدة. واستطيع ان اؤكد انه ليس هناك شاعر عراقي واحد لا يسرق.. عفوا لنقل لا يقتطف شيئا من كبار شعراء العالم ولعلني استطيع ايضا ان أؤكد انه ليس في العراق شاعر واحد استطاع ان يعبر عن مجتمعه تعبيرا عميقا واسعا لأن اكثر شعرائنا النابغين قد فقدوا مرونتهم وسقط بعضهم فريسة لوحش الغرور مما فسح المجال امام بعض المشعوذين من الشعراء والادباء للظهور والادعاء بالتفوق والنبوغ ويعود السبب في ذلك للقحط النفسي الذي اخذ يملأ اعماق شعرائنا وادبائنا الحقيقيين. فهم يدعون دائما بانه لم يبق ما يوحي بالشعر وهناك ملايين من الاحاسيس الصغيرة والانفعالات الشعورية الغامضة التي تصلح للكتابة والشعر ولو اني اعتقد ان مهمة الفنان الحقيقي هي الكشف عن المتاهات المجهولة في داخله والتعبير عن الصراع بينه وبين الطبيعة واظن ان هذا لايحتاج الى الانتظار الذي يصر بعضهم على التعلق به. فانا شخصيا اذا لم اجد ما يثيرني لقول الشعر فليس معنى ذلك اني ساضع نقابا على نفسي مستسلما للشلل كما يفعل بعضهم بل سأتجه كما حدث فعلا الى كتابة القصة واذا لم اوفق فسأتجه الى النقد والدراسات الادبية وربما اذهب ابعد من ذلك فأمارس فن الرسم أو الموسيقى فالمهم بالنسبة للفن الاصيل هو الاستمرار في الانتاج الفني.. فأنا الذي اخلق الموضوع وليس الموضوع هو الذي يدفعني الى الانتاج والحق أننا لم نعمل شيئا بعد..! لننظر قليلا الى الفضاء لنفكر قليلا في الطبيعة وبكل ما فيها من تناقض ونمو, ولنحلم قليلا بالصمت فحتى في الصمت الميت يوجد ما يلهم ويثير.. فما معنى هذا الثلج الذي يغطي أرواح أدباء العراق.! إن الفنان الحساس الذي ينظر الى نفسه كخالق مبدع لايمكنه ان يقذف بالقلم الى البحر ويسند جبهته العريضة على راحته, قائلا للناس ليس في حياتكم وارضكم ما يصلح لقلمي إن الفنان هو الكائن الذي لا يستطيع ان يعيش حياته الا عن طريق فنه وحده. فاذا انقطع الفنان عن ممارسة عمله لانه لا يجد المساحة الكبيرة لمد جناحيه الطويلين فمعنى ذلك ان هذا الفنان يشكو النقص في عدم القدرة على التخلص من اليبوسة التي تحيط به كجدر من قار ولعل معظم ادباء العراق وشعرائه يعانون في هذه الفترة من اليبوسة ليس من الخارج فحسب بل ومن الداخل ايضا.