د. فاروق أوهان : البحث عن إنكيدو بين ملحمة غلغامش، والملحمة المسرحية هبوط وصعود إنكيدو

1farooq aohan 4

لوحة للفنان راكان دبدوب
لوحة للفنان راكان دبدوب

– كان أكغا Agga ملك كيش قد حاصر أوروك، ولم يوافق مجلس شيوخ أوروكاجينا على طلب غلغامش لإعلان الحرب ضد العدو، لهذا حصل على موافقة مجلس الرجل، أي مجلس المحاربين. وهو بالتأكيد يعني ما يشابه مجلس النواب.. وهذا ما يبين لنا بأن غلغامش إذن يعيش ضمن حكم دستوري، لكنه يخرق قواعد هذا الحكم متى يريد، وعند الضرورة، سواء بمرسوم يؤهله ذلك، أو بالخرق المتعمد.
2- وعلى لسان الرجل، الرسول يدعي بأنهم يقولون بأن ذلك يحصل بمشيئة الآلهة، الذين  قدروا بأن يُقص حبل سرته، وأن ما يجري هو تثبيت للحق الإلهي لسلطة الملك غلغامش؛ لهذا احتاج الآلهة لتبرير تحجيم دور غلغامش، لا عقابه، وهو نص إله من أن يجلبوا له الحكمة والتعقيل بصفة بشرية هي كيان أنكيدو، وليس كما يحصل من صراع بين الآلهة في الحضارة الإغريقية، حيث يعاقب الواحد منهم الآخر، ويصارعه، وتجري أمور كثيرة لها علاقة بمستوى تطور تفكير البشرية، وتعقيداتها ( ).
3- فكيف حدث أن اقتنعت الآلهة بإنزال أنكيدو، بشكله الحيواني؟ ألكي يحتاج إلى تأنيس يتماشى والعقلية الأوروكاجينية؟ وهل عاش أنكيدو في البراري لتخدم معرفته الواسعة على البراري والجبال، وعرف مسالكها. لهذا فإن اقتراح أنكيدو على غلغامش جلب خشب الأرز من بلاد الأرز لا غيرها، هو نوع من تأكيد المعرفة، والحكمة من جهة، ولكي يكتمل جواب الأسطورة في قتل خمبابا الوحش (في نظر آلهة ومجتمع أوروكاجينا).
4- إن البراري التي كان يجوبها أنكيدو، ومنها جبال لبنان هي تلك الأمكنة التي تكثر فيها الحيوانات، والنباتات البرية، والحكمة معًا، ولا بد لكي يتعرف الفرد على تلك الأمور أن يكون متآلفًا مع الحيوان، ولا يكون صيادًا لها.
5- وقد أنست شمخة أنكيدو فعليه أن يتقن حرفة الصيد أيضًا، لا ليصطاد الحيوان، ولكن لكي يغامر باصطياد الإنسان في صورة وحش هو خمبابا، ويغزو بلاده، وينهب خيراته.
6- من هذا نستنتج أن بين هبوط أنكيدو وغزوه للبنان مع غلغامش هناك رحلة طويلة ما بين البداوة والحضارة، بعد التأنيس.
7- إن المعلومات التي ترد على لسان أنكيدو عن لبنان، وبعدها عن أوروك، هي معلومات معروفة لدى الأمة الأوروكاجينية: فلبنان تبعد ألفًا ومائة وستين كيلو مترًا في الواقع الجغرافي، أما بمقياس الملحمة فهو: ولتثمين المواد في عصر أوروك هناك تعامل بالمواد المتوفرة: فالسيلا البرونزي = تثبيت المحتوى الفضي للشقل/ والسعر التعادلي للشقل هو أن الشقل = 1/60 من الوزنة البابلية، أي المينة.
ما الحجب السبعة لخمبابا:
هناك مقولة سومرية تقول: إن (الشيء الصعب المنال هو بين التنين الذي يطلق من شدقيه النيران، وبين قوة التقدم ومنعته).
هذه الأمور لها علاقة بشريعة، وجغرافية، وأسطورية الملحمة، حيث يقول نص في ملحمة غلغامش إن خمبابا يرتدي حجبه السبعة، ويختفي، فهل هو التنين، أو العنقاء، أو شكل آخر لميناتور عدو الأمة الأروكاجينية؟
إذن فإن هناك أوجهًا متعددة لخمبابا، وكثيرة، وتفاصيل الأحجبة هي ليست ألغازًا، وإنما تنوع وتلون في وجهات النظر. والحارس القوي لغابة الأرز يسمع صوت البقر الوحشي من مسافة ستين ساعة، فهل يفكر مارد بهذا الشكل، وهل للمارد سعة بال لكي يأمر بمضاعفة الأرصاد، والجواسيس؟ ألا يجوز لنا أن نعتقد بأن في مقدمة غابات الأرز هناك حارس آلي، أو ذو قدرة خاصة متعلقة بالسمع والبصر؟ أو أن نظام الحراسة على غابة الأرز متقدم جدّا في نظام الحراسة، وفي مكان متقدم عسكريّا؟
لهذا، ومن هذا المنظار، نرى أن خمبابا ليس هو الحارس بمعنى كلمة الحراسة، وإنما هو حامي بلاد الأرز، وملكها، ولديه جنود، وعسكر، وحرَّاس على خذخ البلاد الغنية. وهو بذلك يكون الحارس الأخير، أو الحارس الكبير كما يتصوره الغازي، أو المهاجم. وهو ليس بأكثر من اسم لخمبابا، وليس بجندي، فغالبًا، وبما فيه عصرنا، عندما يتم الكلام في وسائل الإعلام عن بلاد العدو، تنسب البلاد والشعب والأمة إلى اسم رئيس أو ملك تلك البلاد لا غير.
ومن الملحمة نفهم أيضاً مدى الفارق بين الحضارتين، من خلال وصف الجيشين: هما جيشان أولهما جيش أوروك النظامي، بقيادة غلغامش، والثاني جيش بدوي بقيادة أنكيدو، القائد الصحراوي (يوحنا المعمدان) جيش القوة، والحكمة.
ولكلا الجيشين معدات كثيرة، لسفر طويل، وحروب غير متوقعة (هجومية)، هي رحلة لمسافات بعيدة، ولكنها رحلة غزو، وارتحال، وليس انتقال من بيئة إلى أخرى، أو من حالة حضارية إلى أخرى.
الحرب، والغزو بين من؟
إن حملة على الغابة إذن هي غزو، وحرب لصراع بين الآلهة على الأرض، لها تفسيراتها الفكرية، والجمالية: هناك صراع بين الإله الحامي غلغامش، وبين الإله الحامي لخمبابا، فعندما يتراجع شمش أمام أنليل في جلسة الحكماء الإلهية، لا بد من موت أنكيدو كحل وسط، وذلك ليس ممكنًا في الحالة الأرضية إلا بالمرض، فكيف تدبر تلك الحيلة؟
إن بعض المفاهيم الكثيرة في الملحمة تستعصي رموزها على القارئ العادي ولهذا يكون من المناسب اعتبار العدو، وهو الوحش الشرير خمبابا، ليس فردًا بل أمة، ولهذا ترد بعض الإشارات بأن مجلس آلهة نيرغال يتناقشون في أمور تحيز شمش إلى غلغامش أثناء معاركه مع خمبابا.
وعلينا هنا أن نقيس بعض التعبير بمقاييسها القاموسية في المعاني، والمباني، بما فيها الآتي:
1- هل يكون في العالم القديم بوابة للغابات، وبضمنها غابة الأرز التي غزاها كل من غلغامش، وأنكيدو، فإذا صح الأمر، وهو وارد كلامًا في سياق السيرة، فإن هذا يعني أن غابة الأرز ليس إلا بلاد الأرز، فيها غابات، وهي مسوَّرة، ومحصنة، وللأسوار أبواب، وعلى الأبواب حراس – قد تكون غابة الأرز لكثرة أشجارها، مسيجة بأشجار الأرز نفسه، ولكن هل غابات الأرز يمتلكها فرد واحد هو ذلك الوحش خمبابا؟ وبهذا تكون بوابة الغابة هي حدود البلاد إلى العالم، أو حدود المينة، فهي المدخل الرئيس، والفم مثل باب البيت المقدس، لهذا لن تكون الأبواب كبيرة الحجم، ما لم تكن أبوابًا لقلعة حصينة، أو مدينة محصنة بأسوار وقلاع.
2- إن تصوير خمبابا حارس الأرز، بكونه ماردًا، وأن أعوانه من الحرَّاس هم الآخرين مردة ليس إلا، هو تسويغ مقبول، وتبرير لفكرة غزو غلغامش لبلاد الأرز، وتخليص الغابة من المردة. وبهذا يكون الغزو مبررًا لأن الغابة فيها إمكانيات طبيعية، وموارد تستفيد منها البشرية، وقد احتجزها المردة، ولهذا فإن كل من يقوم بتخليص الغابة من المردة هو منقذ الغابة، وحامي حمى الأرض، والبشرية، وإن عمله مقدس. أما الأرز فهو هبة الطبيعة، وملك البشرية، وما على غلغامش إلا أن ينقله إلى أوروك لكي تنعم به البشرية، وترضى الآلهة على فعل هذا العمل الخير، وبخاصة، وأن خشب الأرز سوف يصنع منه أبواب لبيوت الزواج المقدَّس، في أمصار أوروك، ومدنها الباقية.
أما وضع غلغامش المعنوي، والفكري فهو:
في الوقت الذي كان غلغامش منشغلا في الداخل بأمور هامشية تافهة، لا تتعدى تثبيت مقاليد حكمه، وذلك بصرعه بطلا جبارًا، وقويّا منازعًا له من جهة، ومن ثم السيطرة على المجتمع معنويّا، ووجدانيّا من خلال أحقيته الإلهية لنزع عذرية كل عروس في يوم زفافها إلى زوجها، فإن غلغامش بعد مجيء أنكيدو صار مختلفًا يبحث عن أمور تعزز موقع بلاده في الخارج، وتقويها، وبهذا تحولت البطولة لديه من دكتاتور في بلاده، إلى بطل قوي يريد منفعة بلاده، ولكن بالغزو الذي كان من تقاليد تلك الأيام، وأصولها المرعية.
فقد كان الشعب آنذاك يعيش في مرحلة بدائية من الرعي والصيد، وبدايات تعلم مهنة الزراعة كأنظمة اقتصادية. في حين كان جيرانهم الشماليون شرقيون، وبخاصة في جبال الأرز متطورين حضاريّا، وأن هناك من يطمح لضم أوروك لبلاده، كلقمة سائغة، ما دام ملكها ملتهيًا في أموره الداخلية.
ورغم أن لأوروك أسوارًا عظيمة، وأسواقًا كثيرة، فكان التسويغ للغزو، هو إحدى الحجج بكون أنكيدو قد ملَّ كسل أهل المدينة، وملَّ الجلوس دون مصارعة للوحوش، والصيد، فكان لا بد من ابتكار حملة تعني الغزو، وتفيد في الترويح عن نفس أنكيدو، وبالتالي جلب خشب الأرز لتجديد أبواب بيوت الزواج المقدَّس في أوروك. هذا التسويغ مهم جدّا، ليس من حيث النية، والهدف الأولي الظاهري فحسب، وذلك لأنه تسويغ لرغبة تافهة، يمكن الترفيه عنها داخل البلاد، ولكن العادة جرت من أجل تبرير لغزوة غلغامش، ووضع اللوم كله على أنه فيما لو حصل أي رد فعل، فإن النتائج ومحصلاتها سوف تكون غير محمودة، ولن يتحملها لا كاهن ولا حاكم بل سوف يتحملها فرد واحد تصب عليه اللعنات، وينال العقاب، وينهال عليه اللوم والتقريع. ولا بد لهذا الفرد، أن يكون أحد توابع السلطة، وربما تابعًا للملك، فلماذا لا يكون أنكيدو نفسه، وبخاصة بعد أن أنهى رسالته؟
ولن يطال اللوم، ولا الحساب الملك، لأنه ملك بالدرجة الأولى، وأنه ثلث إنسان ليس إلا، فهو معصوم عن الخطأ، وإن ما فعله من شرور ليس إلا من وراء تحقيقه لرغبات أنكيدو البدوي، وهو الخل الذي وهبته لغلغامش أرورو، وآنو. وهو تسويغ آخر لأن ينال أنكيدو العقاب، وليس غلغامش، سواء أكان عقابًا مشروطًا، أو عقابًا ظاهريّا، أو عقابًا كاملا غير منقوص.
وعلينا الآن أن نضيف بعض التساؤلات:
فلماذا أرسل شمش ثمانية رياح عاتية لتضرب عيني خمبابا، وتشل يديه؟
وما كانت تلك القوة التي احتجت، فأقامت ذلك الإعصار فيما بعد؟ أليست قوة تابعة لأحد الآلهة المحتجين في نيرغال؟ ومع هذا فقد تكررت تلك الاحتجاجات أيضًا خارج حلم غلغامش، وعلى أرض الواقع.
ومن جهة ثانية ما الفترة الزمنية الواقعية، التي فصلت بين مواقعة غلغامش، وأنكيدو لخمبابا، وبين موعد الاغتسال على البئر، ذلك الاغتسال المتأني، والذي لا يأتي إلا بعد أن يكون المحارب قد انتهى من كل شيء، ومضت فترة طويلة على المعركة، وارتاح جسده، وباله بالتأكيد.
وما دامت الدنيا بذلك التوصيف لحاله، فهل من وصية ما، صدرت من فئة معينة في مجلس حكماء آلهة نيرغال. لأن علينا ألا ننسى تحذيرات ننسون الملكة، والإلهة، والأم، وملاحظاتها لابنها من عدم نسيان تقديم القرابين، والاغتسال عند البئر.
أيكون البئر في الشمال عند حافة جبال الأرز، أم أنه على حوافي الصحراء الفاصلة بين الفرات والجبال؟..
إن وجود البئر، في أي من هذه الأمكنة يثبت بعده عن ساحة المعركة أولا، وأن لهذا البئر خاصية معينة لدى الأمة الأُروكاجينية. وإلا لماذا تخصص البئر، ولو أن الملحمة ذكرته بالاسم لصار شاهدًا معروفًا حتى الآن، وربما يكون للبئر اسم معروف وقتها، وربما يكون هذا الاسم في الوثائق، ولكنه غير مترجم من لدن الآثاريين أنفسهم، ونحن بانتظار الحقائق التي ستكشفها العلوم الآثارية مستقبلا.
فالبئر هنا بديل عن النهر في الميثولوجية السومرية، وفي مياهه غسل للجروح من دمائها، ودماء العدو العالقة، ومن ثم فإن غلغامش سوف يقدم تكاريس التقديس، والتضحية، والفداء، ولهذا عليه أن يغتسل من كل الآثام التي جرت له من جرَّاء الغزو، والتقتيل. ولكي يكون كامل النظافة عليه أن يغسل كل جزء في جسده، ومنها سلاحه، وأعضاؤه كلها.
ولما كانت عشتار من المغرمين بأنصاف الآلهة بعد أن تدلهت في حب الكثيرين لأن والدها آنو قد طمعها ودللها، فتسلت بالمغرمين، والمعجبين. وقلبت أشكالهم، وأجناسهم حسب هواها، وقد جاءت الآن لتغرم بغلغامش، أو تتسلى به، وقد سبق لها أن عرضت عليه حالها فضها، ولكنها عندما رأت سلاحه، لم تتوان من التهافت عليه، ونيله مهما كلفتها النتائج، أما غلغامش العارف بتاريخها، وسوابقها، فقد عيَّرها بكل ما فعلته مع الآخرين، ونبهها إلى أنه متحذر منها، وعليها أن تبتعد عنه.
إلى هنا لم تكن عشتار تدير بالا لمصير خمبابا، ولكنها عندما لاقت الرفض البات من غلغامش، تباكت لدى الرب آنو، والدها وتحججت على غلغامش بأنه قتل خمبابا حارس الأرز. وليس على غلغامش إلا أن ينال جزاء ما فعله، ولن يكون إلا ببعث الثور السماوي لينتقم لخمبابا، وهو في الحقيقة وسيلة عشتار للانتقام، ليس إلا، لكي تروضه على الأقل، وأن ينصاع لرغباتها.
أما وإن الثور السماوي تعود أشلاؤه مجزأة إلى عشتار، وقد مزقه أنكيدو وغلغامش شر تمزيق، فإن على عشتار أن تجد لها وسيلة جديدة للانتقام، أليست هي التي مسخت أحباءها، وقد أغرموا بها قآيست المفترضة التي تفنغبة تافهة، يمكن الترفيه عنها داخل البلاد، ولكن العادة التي، فكيف يكون حال من يرفضها، وله مساعد؟ عليها الانتظار لابتكار طريقة جديدة للانتقام، كما فعلت مع تموز، أو ربما ستفعل معه فيما بعد.
إن البئر إذن هو المكان الخاص بالتبرك قبل تقديم الشكر للإله شمش، حامي غلغامش في معاركه. وذلك بتوصية من أمه ننسون الإلهة، ومفسرة الأحلام، والأم – كما أسلفنا -. وهو البديل المادي للنهر رمز البركات، والحكمة، والعقاب في الميثولوجية السومرية. ولهذا جرت أمامه المناورة ، والمحاجة الكبيرة بين غلغامش، وعشتار.
ولكن ألا يتبادر للذهن، في هذه الحالة بين المكان الجغرافي للبئر، والمحيط المعنوي، أين كان أنكيدو، وهل اختفى، أم نام، أم كان حاضرًا لهذه المناورات بجلِّها؟ أيكون من حكمة الراوي الأسطوري تحاشي ذكر موقف ومكان أنكيدو في هذه الحالة، وهو الخل، والتوأم، والمساعد في كل الظروف، بل هو اللصيق لغلغامش في كل مكان داخل أوروك، فكيف وغلغامش بعيد عن مملكته، وفي البراري التي يعرفها جيدًا أنكيدو، ويعرف مخاطرها.
أيكون في تحاشي الراوي الأسطوري للملحمة لحال أنكيدو حكمة ما؟ لعلنا نكتشف ذلك في القريب العاجل، هنا، أو في الوثائق المعاصرة الجديدة.
وربما لأن عشتار كانت تريد أن تبوح لغلغامش بأمور تتنازل فيها عن ألوهيتها، ومنزلتها الكبيرة أمام الآخرين من أنصاف الآلهة، (ثلثا غلغامش الإله، ولم تقدر نسبة الألوهية بالنسبة لأنكيدو، رغم أنه مصنوع من مادة سماوية، ومن غير أب، أو حتى أم) ومنهم أنكيدو الذي انتهت مهمته، وصفته عندما اقترن بحكمته في غلغامش، فذاب كل ما لديه في ثلث الإله. ومنها أن عشتار لم تتوان في أن تعد غلغامش بعربة من لازورد وذهب: كما تعده ببيت الزوجية الذي سيدخله وهو محمل بشذا الأرز. أليس غيرتها على الأرز هي الأخرى غيرة لم تستثر ضد غلغامش إلا عندما رفضها، وعيرها بحاله، وموقعها بالنسبة له؟

الرياح ومن أي اتجاه، وإلى أين؟
إن قياس الرياح في الملحمة، فيه الكثير من الأمور الطقسية، والمناخية الهامة، والتي تشير إلى معرفة مناسبة، واطلاع عميق بأمور المناخ في مواسمها من جهة، وطرق توجهها من جهة ثانية.
فهناك:
ريح الجنوب / وريح الشمال / وريح الشرق / وريح الغرب.
كذلك هناك:
الرياح الشيطانية.. وتتمثل بالأعاصير والعواصف.
وهناك:
الرياح الرباعية / والرياح السباعية.
والزوابع / والرياح الداهمة.
وبناء عليه هناك تسميات لمركبات فلكية للآلهة، مثل:
مركبة العاصفة الرهيبة / وطاقم جر المركبة، والطاقم قد يكون: مدمر، أو عتي، أو ساحق، أو طيَّار.
وللطاقم أنياب سامة، ولهم أسنان حادة كالباطش، والفاتك.
ما قصة الثور السماوي، وما جنسه:
فما هو كيان وحال الثور السماوي إذن؟ هل هو حقّا جرادة، أو رمز لسرب جراد، واحدها يتوافق وصفه وصفات الثور السماوي، ربما يكون الاشتباه حاصلا من اشتراك التسمية بين الثور الضخم، والجراد الصغير، اختلاف في نسبة الحجم، ليس إلا.
إن وصفًا عامّا لجسم الثور السماوي لا يعطينا سوى انعكاس لمستوى تفكير الأمة الأروكاجينية، في تشكيل ميناتوراتها على الهوى الذي يتناسب وفظاعة، أو غرابة الوحش الذي يريدونه مبالغًا في وصفياته. فللثور السماوي رأس حمار، ورجلا حصان، وجسد أفعى، وجناحا صقر.
هذا المستوى من الصفات ليس غريبًا على التفكير لذلك العصر، فهو ثور سماوي، لأنه ليس شبيهًا بالثيران العادية، لأن له رأس حمار، ورجلي حصان، وجسد أفعى، وجناحي صقر، ولكل هذه الأجزاء صفاته المناسبة للقوة، وللسماوية. فرأس الحمار بالتأكيد لها أهمية في الميثولوجيا الأوركاجينية من حيث الحكمة، ورجاحة العقل، والرجلان لها قوة وسرعة وثوب الحصان، وتوثبه المناسب في البرية الأوروكية، وبالتالي فإن للجسد الأفعواني لولبيته، وسرعة انسيابه، أما جناحا الصقر للقوة الطائرة، وللمنعة في الجو.
ولهذا فإن هذه الصفات لثور سماوي متفرد في قوته ووحشيته بشكل لا يمكن لأي بطل أن يقاومه، ولو كان هذا البطل ثلثاه لإله، وأنكيدو المصنوع من مادة سماوية، هو أحد الميناتورات البشرية، ليش شبيهًا بالثور السماوي، ولكنهما مشتركان بعملية الصنع، ولكن أنكيدو الذي تأنس، عازه أن يكون له أم في مجتمع يقدر دور الأم، ويعظمه، ولهذا تكفلت شمخة بتأنيسه، وصارت هي أمه، وامرأته، والأرض التي غرس فيها زرعه، ولأن البطولة لا تعني الملكية فلم يحتج أنكيدو لنبوءة حتى يقال عنه كما قيل عن غيره من الملوك، والسلاطين، والأنبياء؟ بأن ولادته كانت خارقة، ولكن بفارق آخر، أكبر وأهم وهو أنه مجهول الوالدين لا الوالد فقط.
أما الثور السماوي فلربما يكون مفردة (لثوير – تصغير ثور) شبيه بالجراد، أو هو سرب من الجراد، خلص أنكيدو، وغلغامش شعبهما من زحف هذا الفاتك الصامت، وطشَّره إلى فُتات. لأن الجراد لا يأتي أفرادًا بل إنه يجيء بجحافل من ملايين الأعداد. ولأن الجراد ثور لا يشبه الثور العادي، فهي دعي بالسماوي في مصطلحات الأمة الأُروكاجينية.
فما الثور السماوي يا ترى؟ إن صفة السماوية للثور صفة رمزية، تدور في فلك القوة، والعظمة، والجسد الذي لم يدجن، كما حصل مع أنكيدو الذي دجنته الإنسانية بقوة الأنثى شمخة. وهذا الثور الغازي الذي استطاع غلغامش، بمساعدة أنكيدو أن يخلصا البشرية الأُروكاجينية من ولاته غزو ليس شبيهًا بالثيران الحقيقية، ولا الثيران المجنحة فيما بعد، بل إن تلك الثيران الصنمية، ما هي أمساخ للثور السماوي وضعها الآشوريون على بوابات مدنهم لكي يحرس كل اثنين منهما بوابة من بوابات مدينة ما، فهي الثيران التي تبعد القوة الشريرة، وغائلاتها عن أبواب المدن التي تحسرها، ربما لأنها كثيران أكثر مسخًا من كل الوحوش القادمة، ولهذا تخيفها، أو هذه الغازية تهابها. ولربما لم يستطع إنسان تدجين هذه الآفة، ولا فتلها بسهولة لكثرتها، فحاول أكلها – كما يأكل أهل الناصرية، وجنوب العراق الجراد، عندما تأتي جحافله، ويتغذون به، ويستطعمونه – لأن هذا الثور السماوي آفة يأكل الأخضر واليابس معًا. وما على البشر إلا قتله، وأكله، أو أكل لم تستوعبه المعدة، ولم يسهل ابتلاعه بالكامل، آفة تفسد الأرض، ويخرج منها روائح كريهة تؤدي للفساد، وإلى الوباء.
فهل ترك الثور السماوي الذي قتله، غلغامش، وأنكيدو، ومزَّقاه شرَّ تمزيق، هل ترك خلفه وباء بعد القضاء عليه بعد موته، وتوزيع أشلائه، ومنها ما وصل إلى عشتار التي كانت تحوم في سماء أرض المعركة؟
إن الآفة التي تأكل الأخضر واليابس، وليس باستطاعة البشر تفادي شرورها، بالقتل لكثرتها كالجراد، فما عليهم غير أكلها، ولكن إذا كانت الآفة بهذه الشرور ربما تترك وراءها وباء في الأرض، أو في البطن( ). وهذا الوباء الذي جاء أوروك، لم يذكر موت أبناء الشعب بالآلاف.. رجالا، ونساء، وأطفالا، وإنما ذكرت الملحمة البطل الذي مات من جرَّاء قتله للثور السماوي، وهو الفدية المطلوبة من عشتار لدى والدها آنو. إن موت أنكيدو كان محتمًا بأية حجة كانت، سواء لفداء شعب أوروك، أو لفداء ملكها غلغامش، أو لانتهاء دوره الذي جاء هو به إلى أرض أوروك، وعليه أن يعود لا من فوق، وإنما إلى أسفل في رحلة طويلة، في ظاهرة جلب البكو، والمكو اللذين سقطا تحت يد غلغامش، أو سهوًا، واللذين تطالب عشتار بهما من غلغامش، وإلا فإنها قد أنذرت أوروك بويلات لا تحصى ولا تقارن بما حصل للأمة الأُروكاجينية من ويلات جرَّاءها( ).
مرض، وموت أنكيدو( ):
إن المناجاة التي أطلقها أنكيدو وهو على فراش المرض، تثير الاستغراب، لكنه لم يناجِ شيئًا آخر بكثرة ما ناجى، ولعن الباب، سبب بلائه، ومن هنا نرى أن للباب – سواء باب بيت الزواج المقدَّس العتيق الذي رفسه فكسر. أو الباب الجديد الذي أحضر خشب الأرز من أجله، وصنعه الحكماء من المهرة النجارين – فهذا الباب كما يبدو ليس بابًا طبيعيّا فحسب، ولكنه الباب المقدَّس، الباب الرمز، الباب المدخل للعالم الجديد، والحكمة الجديدة.
فما قصة هذا الباب، أو البوابة، أو الأبواب، أو المدخل مع أنكيدو؟ أليس غريبًا أن يبدأ لقاء أنكيدو بغلغامش، وينتهي مع الباب؟
إن سبب مرضه المشئوم، هو أنه أثر على غلغامش، وأقنعه بضرورة غزو جبال الأرز، لجلب خشب الأرز البديع والقوي لصناعة أبواب بيوت الزواج المقدَّسة.
ولولا ما قرأناه في الملحمة عن صناعة البكو، والمكو من شجرة الصفصاف التي وجدتها عشتار، قادمة مع مياه الفرات في أيام الربيع حيث يفيض النهر العظيم، ويجرف معه كل ما يخطر على البال، إلا شجرة الصفصاف النادرة في الجنوب، وتفاصيل الحكاية الأسطورية، لما أيقنا بأن لعشتار كثيرًا من المثالب بالقدر الذي تتمتع به من سمعة لدى الشعوب الشرقية، فهي إلهة الحاضرة منذ الصبيحة، ونجمة الصبح البراقة، ومع هذا لها عواطف، وأخطاء، بل ونزوات.
فلماذا تحتاج أبواب أوروك لخشب الأرز، وخشب الصفصاف متوفر حتمًا كما عرفنا، ولولا الحكاية التي تؤكد على أن شجرة الصفصاف التي جلبتها عشتار، هي الوحيدة فإن الأمر اختلف، لهذا لا بد أن يكون في شجر الصفصاف ما يمنع غلغامش من اقتنائه، قد يكون لأنه شجر عشتار، أو لأن ما في أرض أوروك كمية من الأشجار لا تتناسب وصناعة أبواب بيوت الزواج المقدسة، وقد لا يكون بعيدًا أن يعتبر ذلك الخشب وضيعًا قياسًا لقدسية أبواب بيوت الزواج المقدسة.
وبهذا يحق لعشتار هنا أن تناور على جهتين اثنتين، فلو أن أنكيدو أقنع غلغامش باقتنائه خشب شجرة الصفصاف، لثارت ثائرة عشتار، ولطالبت بحقها فيه، ولاشتكت أمام مجلس حكماء آلهة أوروك باكية إلى أبيها آنو بالمظالم التي يقترفها غلغامش، وخل أنكيدو ضدها، ولكنها هنا أيضًا وبحجة الدفاع عن جمال جبال الأرز التي كانت أشجار الأرز تكللها، وتزينها، قد قلبت الدنيا وأقعدتها في نيرغال، وسمح لها المجلس بإرسال الثور السماوي، ولكن الثور تمزق بقوة غلغامش، وحكمة أنكيدو، فما العمل الآن؟ ألا يحق لعشتار، وهي الإلهة المدللة، والمدلهة بحب غلغامش، أن تنتقم بعد أن أفلست مما لديها، وها هي العنوسة الدهرية تطاردها، فما العمل غير الانتقام من العدو – الحبيب، أيمكن قتله وهو ثلث إله؟ وماذا لو قتلته؟ فإن العذاب سوف يلاحقها هي، وليس القتيل نفسه، عليها أن تعذبه إذن، وتجعله يندب حظه، ويتأسف على الأيام التي كانت، والحب الذي ضاع، من جرَّاء الرفض الذي قابلها به. أن تعذبه بقتل خلِّه غيلة، وبخديعة ماكرة.
وكالمنتقم اللئيم، والذي يقابل الصفعة بصفعات مع الأيام، ويظل يطالب بحقوقه حتى الممات، لا بد لها أن تجد شيئًا يبرر حجتها بالانتقام، وعليها قبل ذلك أن تصلح الأمور مع الخصم، وتبدي له التسامح لكي يعتقد أن المقابل له قد عفا عما كان، وفعلا تدعي عشتار ذلك أمام غلغامش، ولكنها تشتكيه من فعل فاعل، أودى بآلتي البكو والمكو( ) إلى الأعماق، فالفاعل قد تعمَّد إسقاط الآلتين إلى أعماق نيرغال، وليس لأي أحد أن يقوم بمهمة جلبهما إلا مَن له القدرة على الذهاب والعودة سالمًا. وليس إلا من يكون نصفه، أو ثلثه إلهًا بقادر على ذلك، فقد سبق (أو لحق) أن صار ما صار مع تموز وعذاباته في محاولة العودة، ولكن دون فائدة ما لم يفتده أحد.
ولقصة شجرة الصفصاف فرغم أن عشتار وهبت الصفصاف لأرض أوروك كما يبدو من الحكاية لكن من سكنها ليس إلا عناصر شريرة ثلاثة، ولهذا لم يتكاثر، فلو حصل كذلك لكان أكثر غنى من الأرز فيما لو تم الاعتناء به، فهو وكما تقول الأسطورة بأنه مأوى للحياة، ووحوش الأرض. وهي بالمقابل مرتع وملاذ لسكن الطيور أما جذعها فمكان لحوريات العالم.
فشجرة الصفصاف باسقة رائعة، فلماذا تطلب عشتار قطعها؟ أي قطع كل شجرة للصفصاف؟ ألأنها لم تجد في الصفصاف ما يلبي غاياتها، أو لأنها لم تر فائدة للناس فيها، لهذا قررت قطعها لكي تستفيد من خشبها، وبالمرَّة لكي تعبر عن فائدة الصفصاف في صنع أشياء ثمينة للاستعمال، ولراحة، وإمتاع البشرية. فمنها أمرت بصنع سرير ومن بقاياها صنعت آلتي البكو، والمكو الموسيقيتين. أما ما بقي( ) فمنه يمكن صنع كثير من إكسسوارات التمائم لعشتار، تهبها من يتشفع بها.
فلماذا يا ترى جاء في الأسطورة أن إنانا – عشتار أرادت قطع الشجرة، وهي مأوى لثلاثة كائنات من الأحياء والجان، ألم تكن عشتار متصورة أن في زرعها للصفصاف فائدة للآخرين، ويا ترى هل تصورت أن الصفصاف سيكون لها وحدها، عقيمًا، وواحد الاستعمال. أم أن غاية عشتار منذ البداية أن تنمي خشب شجر الصفصاف لكي تصنع منه ما يفيدها في حياتها اليومية، ومنها صناعة السرير، وآلتي البكو، والمكو اللتين فقدتهما، وبهما كانت تستمتع وهي مستلقية على السرير في الغالب، فمن سوف يدفع الثمن، إن التهمة الأولى وقعت على غلغامش الذي ادعت إنانا – عشتار بأنه هو الذي أسقطهما في أغوار العالم السفلي، عن عمد، أو عن قصد، لا يهمُّ الأمر، إنما ما يهمُّ عشتار، هو أن تحصل على آلتيها، خصوصًا، أنه لم يعد في أرض أوروك من شجر صفصاف يمكن أن يعاد تصنيع مثيلتي الآلتين.
إذن على المقصر أن يدفع الثمن، والمقصِّر هو غلغامش، وفي حالته يمكن أن يفتديه من يعوض عنه – تمامًا مثلما تم التعويض عن تموز لكي يخرج من نيرغال – ويجوز بهذه الحالة القول: إن الشجر يرمز للحياة، بل هو الحياة بعينها، وإن من يقطع الشجر، إنما يقطع الحياة، وكل رموزها. ومقام لعيش الأحياء، وشجر الصفصاف هو بهذه الحالة يكون في خدمة الآلهة لكي تتكاثر، خصوصًا وأن هذه الآلهة “أي عشتار” هي التي جلبت شجرة الصفصاف، واكتشفت فوائدها عندما رأتها في أعالي الفرات، ورأت البشر هناك ينعمون بخيراتها، لهذا استزرعتها حالما دفعتها مياه فيضان سيد البحار، نهر الفرات العظيم نفسه، بفعل أبسو رب المياه الذي دفعها في نهر الفرات، وهو يعرف إلى أين سيصل مصيرها. فلماذا لا تقوم عشتار في كل سنة بنفس المهمة عند الفيضان، أيعقل أن يبخل أبسو بجوده من جديد، وهل عقمت الجبال عن إنجاب صفصافات أخريات غير الأولى التي حصل عليها المشكلة؟
إن هذه الحكاية الأسطورية كما يبدو إحدى جذور محصلة قدوم الصيف بعد الربيع، وصراع الموسم السابق (القديم) ، وأربابه مع الفصل اللاحق (الجديد) وأربابه من جهة، وتقاليد نظام اقتصادي ما، ضد تقاليد نظام اقتصادي سبقه، وهكذا. ففي الربيع مثلا تجلب الفيضانات كثيرًا من الأشياء، يستفيد منها كل نظام اقتصادي كما يريد للمزارع فإن مجيء شجرة صفصاف مع الفيض الجارف هي هبة كبيرة لا بد أن يعتني بها، ويزرعها. أما فقدان الشجرة، وقد تكون الوحيدة من نوعها، والوحيدة بعددها فأمر كبير بالنسبة للمزارع. ولهذا تنشأ الأساطير الهامة حول مواضيع كهذه بالتأكيد. ومنها موت مسبب، أو رمز، أو رب الفصل السابق كما يحصل في الطبيعة، بتغلُّب الابن على الجد؟
ومن هنا أيضًا نشأت معادلة تعلقت بالباب: أي بين الباب وسرِّه، وبين الثور السماوي، وسرِّه هو الآخر. فقد تقطعت أوصال الثور السماوي إربًا، وأكله الناس كالبرشام عند كاثوليك المسيحيين، أو البراتة لدى اليزيدية (المزدكية). فهل أكل الناس حقّا لحم الثور السماوي، أم أن ما أكلوه لا يعدو غير جراد. أو أية آفة أخرى لا يقضى عليها فتكًا إلا بالأكل، ولكن ما تبقى من الثور السماوي هو الفخذ الذي رماه أنكيدو في وجه عشتار، فهل هو فخذ واحد؟ أم أفخاد الجراد التي لا تؤكل لأنها ليس إلا ما يشبه الأعواد الجافة لسيقان النباتات؟ وهذا الفخذ، أو الأفخاذ التي رميت إلى أعلى، لا بد أنها عائدة من جديد إلى الأرض، وأفسدتها ليعم الوباء، والطاعون؟ وباء يعادل الطوفان، لكنه لم يذكر؟ كما ذكر وباء الطاعون الذي عمّ شعب طيبة لما تزوج أوديب أمه عن غير قصد، أو ربما لأن النظام الجديد حرم معاشرة صلة الرحم؟
إن العلاقة بين الباب والثور السماوي إذن هي كعلاقة الباب والزواج المقدَّس بالنظام الجديد. فهل لعن أنكيدو الباب لأنه سبب البلاء الذي حلَّ؟ وباء كان أم حربًا؟ أم تغييرًا؟
وإذا كانت أوراق شجرة الصفصاف تشفي من الأمراض، فإن تقطيع الشجرة، أو أشجار الصفصاف والاستفادة منها له غرضه هو الآخر؟ الأوراق أولا، والسرير للشفاء – ربما -.. أما آلتا البكو والمكو للشفاء الروحي، وهما الأهم كما يبدو في عقلية أوروك، وشعب أوروكاجينا وقتها.
إن الصفصاف الذي جيء به، واستقر في أرض أوروك، هو الآخر ليس بشجرة واحدة، وهو ربما يكون أيضًا، نظامًا جديدًا للزراعة، فآوت إلى هذه الشجرة (الأشجار)، وهذا النظام ثلاثة أنواع من الأحياء، فما كانت يا ترى الحكمة في تقطيع الشجرة، ومن مسببها، غير رغبة عشتار؟
ويأتي السؤال هنا؟ بالقول: ما رمز سقوط آلتي البكو، والمكو في هاوية العالم السفلي؟ سواء أكان في الهاوية، أو في النهر، في الماء أو الفراغ. وما دامت عشتار قد انتشلتها من النهر كما تقول الأسطورة، فإن باستطاعة عشتار انتشالها مرَّة أخرى، وعليها مهما كان الأمر أن تجد حلا لمعضلتها من غير لوم الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى فإن للنهر، أو العالم الآخر حقّا في استعادة ما وهب. ولأن النهر، وما فيه يأتي، ويذهب، فإنه يأخذ معه ما قد وهب. ولا يترك شيئًا، أو ينساه، كذلك العالم الآخر، سفليّا كان، أم علويّا سماويّا. وبهذا يحق القول بأن العالم الآخر كالنهر إذا وهب أعاد ما وهبه، لكنه لا يعيد الكرة في إعادة ما كان قد وهبه، وأخذه، وهذه بلية البشرية، كلها منذ الخليقة. مثله مثل الزمن، والعمر يأخذه أيضًا ما يصادفه في طريقه معه، وعلى من يريد جلب حاجاته، ومنها حياة عزيزة عليه، أن يلحق بالنهر، والزمن، ويسبق التيار، ويتحمل في العودة السباحة عكس التيار.
وإذا ما كان الوباء قد عم أوروك، فماء النهر قد يغسل ما يخلفه الوباء من أدران، وعلى أنكيدو الذي قاد حملاته على جبال الأرز، أن يتحمل الأرز مع، أو عوضًا عن غلغامش، ولا بد من هجمة يقودها أنكيدو على النهر، وأن يسبق التيار الذي أخذ البكو، والمكو، ومن ثم يعود عكس التيار ليعيدهما إلى غلغامش المبتلى بمحاجة عشتار له. وهذه السباحة انقياد لشيء يبعد الوباء، وينقذ البكو، والمكو منه.. وهما ربما يكونان الدواء الشافي ضد الوباء، والعلاج الروحي لمن أصابه الوباء بأدرانه مثلا.
ولكن كيف لمحتضر أن يصارع التيار؟ ما دام فيه إنقاذ للجميع، فالمحاولة، المجازفة لو جاز التعبير أحسن من الموت بلا شيء، الموت على الفراش من غير مصارعة هامة، أو معركة فيها كسب، أو خسارة، هكذا كانت تقاليد الموت في قديم الزمان، الموت فداءً، أو في ساحة المعركة، وليس الموت على الفراش من غير رقم يسجله البطل، بطلة الأمة. وإذن فإن القضية هي تضحية، وضحية بشرية فداء للملك، لبطل الأمة، ولا يمكن أن يكون الفادي بأقل منزلة من المفتدى. أي أن أنكيدو الفادي، هو كفؤ لغلغامش، وأن عشتار لا تريد غير أحدهما، والحقيقة أنها ما تزال تأمل بغلغامش بعد هبوط أنكيدو على الأقل، فلربما يكون هو أي أنكيدو الذي أوغر صدر غلغامش عليها، وإلا فمن أين لغلغامش تلك المعلومات عن أحباء إنانا – عشتار، وضحاياها في عين الوقت. وربما يكون للفدية لون آخر، ومعنى يتعلق بمعنى الفدية، والفداء في تفكير شعب أوروكاجينا الجمعي آن ذاك.
وإذن فإن الضحية القديمة كانت البديل، وليس الأصل. أي أن أنكيدو هو المضحي عن ذنوب غلغامش – ربما هي ذنوب الأمة الأوروكاجينية – لكي يكفِّر عنه – عنها وعوضًا عما يمكن أن يصيب أمة أوروك، وليس لغلغامش وحده.. أو أن يصار إلى مجاعة لسبع سنين مثلا – كما صار في الميثولوجيات اللاحقة، وبخاصة التوراتية منها عن الفراعنة.
إن بديل غلغامش الملك، أو الملك تموز في الماضي – أو اللاحق، هو تضحية بملك الملوك يسوع المسيح، حيث عادت الأمور لتنسب الملوكية العليا لنبي، أو متنب. وكأن الأسطورة صارت ثنائية التعبير عندما لم تكتف عشتار – إستر الأمة الهيرودية برأس يوحنا المعمدان كبديل، وإنما لاحقت النبي ملك الملوك، وصلبته.
أما غلغامش فسوف يتقمص دور أنكيدو فيما بعد، أي أن يكون فاديًا جديدًا للموت، وكأنه مسيح من نوع آخر.
وعليه فإن هناك محاور كثيرة، ومتعددة في نظرة الإنسان لذلك العصر حول مصيره، وفلسفة الموت والحياة، والبقاء آنذاك، تمتزج بين الأحلام وتفسيرها، والآمال والأساطير التي نشأت عنها، وتفرعت الواحدة تلو الأخرى، كأسطورة الجوع والشبع، وأسطورة البقاء، وما نشأ من تتابع الفصول، وتغلب عناصر أحدهما على الآخر، كل هذه التفرعات، والاشتقاقات تتداخل – كأسطورة موت تموز باعتباره رمزًا لموت المحاصيل بعد إعطائها الثمار.
إن موت أنكيدو، يكون باعتباره رمزًا للحيوان لا للمحاصيل، ولتوالد الأحياء من جديد، وتعاقبها من جيل إلى جيل آخر، لهذا فإن موت أنكيدو يعني من جهة أخرى موت الحكمة، والرعي في وقت واحد، أو تحولها لا فناءها، بعدما أدت غرضها، فهل في مهنة الرعي من حكم، وهل كل راع هو راع صالح، بفلسفة وحكمة الكاثوليكية المسيحية بالذات؟ أليست التضحية المسيحية في كل قدَّاس إلهي للصلاة هي إعادة لمدلولات مهنة الرعي، كحياة وموت الفادي أنكيدو الضحية، وكبش الفداء للأمة الأوروكاجينية؟
نعم إن أنكيدو هو كبش الفداء لغلغامش، ولكن لوقت معين، كما صار يوحنا المعمدان كبش فداء للفادي يسوع المسيح، ولحين أيضًا، على الرغم من أن كلا من غلغامش والمسيح هما من ثلثي إله، ومع هذا فقد حق عليهما الموت، لأن ثلثهما الثالث هو من الطبيعة البشرية، ومسألة الثلث هي الجذر الحقيقي لمبدأ التثليث (الأقانيم الثلاثة).
لهذا يبدو لنا بأن شخصية أنكيدو متكررة في التاريخ بأنماط متشابهة، ومتعددة الأشكال، ولكن رسالتها الروحية، والعقلية واحدة، رغم اختلاف موقعها بين الشخصية الأولى كالملك، أو النبي، أو الرسول المبشر بالنبي، وهكذا. فقبل ألفي عام جاء يوحنا المعمدان من الصحراء، بدويّا، بل وراعيًا ليعتقد الناس بأنه هو المسيح الذي جاء ليخلص البشر من خطاياهم، ويصالح بينهم وبين ربهم بعد وقوعهم في الخطيئة الأصلية، كما اعتقدوا وقتها. ولكنه – أي يوحنا – جاء ليبشر بالمسيح الآتي من بعده، وقد قام هو بتعميد المسيح نفسه في نهر الأردن، ولم يعمد نفسه، أو يعمده أحد، لأن معتقده غير متطابق مع معتقد ابن خالته المسيح بن يوسف النجار.
فلو كان كل من يوحنا المعمدان، والمسيح متفقين في رسالتيهما لكان أحدهما قد صب في الآخر مثلما ذاب أنكيدو – الصنو الحكيم – في غلغامش. وبما أن عقلية المجتمعات في تطور دائم ما دام الإنسان فيها مفكرًا عاقلا، فإن معتقداتها في تطور هي الأخرى، وبتحرر أكثر. بل وتخدم غرض التصور الجديد. ورغم أن يوحنا، لم يدع أنه المسيح، فقد سجن، وعذب، وقُطعت رأسه من قبل أمة تذبح أنبياءها دائمًا. ولعل ذلك نتيجة للصراع بين أربع معتقدات هي: الوثنية الرومانية التي كانت ذات السيادة على الكل. والتوحيدية اليهودية، والتوحيدية المعذانية (الصابئية)، والتوحيدية النصرانية (المسيحية) فيما بعد.
ولكن لو أخذنا المسألة من جانب آخر، فإن غلغامش هو مسيح من نوع أقدم، يمثل روحية العصر الذي عاشه، فهو جبار بمعاني عصره، بينما اتهم المسيح بالجبروت الساحر، أما الحكيم أنكيدو فإن حكمته البدوية، ومعرفته لأمور الحيوان، والبراري هي التي أهلته لترويض غلغامش، فماذا فعل يوحنا مع المسيح قبل مجيئهما على التوالي، وما الرسالة التي حاول تثبيتها لحين مجيء المسيح من بعده؟
إن سجن، وتعذيب، وذبح يوحنا قد تم بعد مجيء المسيح، ولكن ذلك لم يذكر في تعاليم المسيح، ولا في أمثلة رسله، فلماذا هذا التغيب، ألأن كليهما مختلفان، وأن الأقدم قد فسح المجال أمام القادم الجديد. وعلام التضحية، وفي أي موسم من مواسم السنة كانت التضحية بيوحنا المعمدان؟
لقد كان دور يوحنا المعمدان قصيرًا جدّا، ولم تسمح الظروف التي عاشها للبقاء، ومعاشرة، ومزاملة من بشّر به هو. أي المسيح، ولربما يكون فعل التضحية بيوحنا بقطع رأسه هو أحد الأمور التي تطلبتها حواس اليهودية هيروديا، وهل يمكن أن يختلف الأمر تاريخيّا، ويتم الخلط بين المسيح والمعمدان باسمين مختلفين، رغم أن المعمودية لم تتم إلا على يد يوحنا ابن سارة خالة المسيح، وشمعون الشيخ.
إن مجيء أنكيدو هو تأكيد على انتقال مجتمع الرعي إلى الوضع الاقتصادي للمجتمع الزراعي، لعل ما تبقى من رموز آلية مجتمع الرعي في النظام الجديد يخبرنا عن ذلك، فإن توارد مفردات مثل أكل العشب، وأكل الحبوب، أما الشواء فهو من أكل أهل نيرغال، أمواتًا كانوا أم آلهة. أما في آكي (الأرض) فإن الشواء من أكل الملوك فقط لأنهم ممثلو الآلهة على الأرض. في حين أن الخبز، والجعة (الحنطة، والشعير، ومنتجاتهما)، فليس من راع فطن، ومحافظ على تقاليد مهنته، ونظامه الاقتصادي التفريط بهما، اللَّهم إلا لكي يقدمها نذورًا للآلهة، ولهذا اختلفت العطايا والضحايا باختلاف أنظمة العيش الاقتصادية.
فالراعي لا يقدم أثمن ما لديه من ماشية إلا للآلهة. كما فعل الصياد، والمزارع من قبله، فتضحية المزارع تكون ليس بالأحسن فقط، وإنما بأول قطفة من محصول، ومعنى هذا أن تقديم النذور لابد أن يكون من أجود ما يتوفر، وإلا لما اعتبرت الهدية، قربانًا مقدَّسًا بانتفاء معنى التضحية بذاتها.
إن أنكيدو الذي يتراجع عن لعنة البغي شمخة، لا يتراجع عن لعنة الباب، فهل للبغي، والبغاء علاقة ما بالوباء الذي حلَّ بعد قتل الثور السماوي، وهل كانت بذور البلاء في ممارسة الجنس مشاعيّا، وقد أبدل النظام بقيادة ابنة الشعب شمخة العاهرة التائبة.
إن لعنة أنكيدو للبغي تأتي في الصيغة التالية: تعالي أيتها البغي، سأُنزل عليك لعنة كبرى، فليكن من فضلات المدينة طعامك، ولتكن الطرق المظلمة مأواك، وليكن تحت الجدار موقفك، وليلطم الصاحي، والسكران خدك.. لأنك جلبت عليَّ البلاء.
فهل تكون شمخة هي صنو عشتار على الأرض، مثل أنكيدو صنو غلغامش، وخلِّه. وهل لشمش علاقة بالعاهرة الأرضية شمخة، عندما يذكّر أنكيدو بأن شمخة هي التي علمته أكل الخبز، والشراب، ولبس الحُلل. وأن شمخة هي التي أعطته غلغامش الوسيم – أي ربما أوصلته إليه، أو وفقت بينهما – وجعلته ينام في فراش الشرف – فماذا يعني فراش الشرف هذا، أو فراشها، أي فراش الزوجية، واللذة الجنسية، أم فراش الأسياد، والملوك، فراش غلغامش – لو جاز التعبير؟ كما وفرت شمخة له مقعد الراحة على يساره، فجعل غلغامش أمراء الأرض يقبلون قدميه (أي قدمي أنكيدو). وفي محنته هذه فإن أوروك كلها تندبه. وسوف يرتدي غلغامش جلد الأسد، لكي يزهد فيما بعد رحيله، ويتقشف بلبسه جلد المتوحشين، فيلبس الجلود بدلا عن الأقمشة الناعمة، الصوف، والكتان. فكما يبدو فإن المتحضرين في مدن بلاد أوروكاجينا، وأوروك يزهدون عن لبس الناعم من الملابس، ويهيمون في البراري بعد موت عزيز لهم. كما حصل مع غلغامش الذي هجر الملك، وتاه في البرية، وهاجر إلى حيث يجد الحقيقة المرَّة التي لا تتبدل مهما فعل، وهي فناء البشر، وموته، مهما عظم أمره.
ولهذا فإن تأثير كلام شمش على أنكيدو، جعله يعيد النظر فيها، ويقوم للدعوة بالخير لها وتعداد مزاياها، بقوله: إن كل الشباب يحلون الزنار لها، ويعطونها اللازورد، والعقيق، والذهب. أهي شمخة ذاتها، أم شمخة المرأة – كليلى قيس أم ليلى النموذج – لأن الرجال لا ينامون مع النساء ما لم يحلوا زنارهم، فيقضون معهن وطرهم. ولكن شمخة المرأة النموذج هي التي يقدمها الكهنة إلى حضرة الآلهة، حيث تهجر الزوجات بسببها حتى ولو كانت الواحدة منهن أمّا لسبعة أولاد( ).
ولأن شمخة هي سيدة الرجال – وهذا تذكير بعشتار الأرضية، أو عشتار الأوروكاجينية التي تدعى بشمخة – ولديها يأوي كافة الرجال، ويتعلمون لديها فنون الحب، فهل لأن زوجاتهم لا يوفرن لهم ذلك؟ أم لأن شمخة هي الأخرى رمز للمرأة التي يحل كل الرجال لها زنارهم، فيغدقون عليها بالعقيق، واللازورد، والذهب، فهذه تقاليد مجتمع تتصارع فيه سيطرة الرجل في بداية تكوينها، مع سلطة المرأة التي بدأت تنحسر، ويأفل مجدها.
إن الفدية المبكرة للمصالحة بين البشر والآلهة، أو بين غلغامش والآلهة من جهة، وبين غلغامش ورعاياه من جهة ثانية، قد أصبحت في زمن المسيح فدية للمصالحة بين البشر، في شخصية أبي البشر (آدم) الذي اقترف الخطيئة الأصلية بالمفهوم الكاثوليكي، وعلى المسيح أن يفدي نفسه في سبيل تحرير آدم وذريته من آثام الخطيئة الأصلية( ).
إن أنكيدو الذي صار، وتكوَّن في أحلام غلغامش قبل أن يهبط، هو الصنيعة المتخيلة للأمة الأروكاجينية، والذي تأنس على يد المحظية شمخة، صار أول المقربين إلى غلغامش، والصاحب، والخل الوفي للجبار غلغامش، رغم أنه جاء ليصارعه، ويقتل روح العداء للشعب فيه، وبهذا نقل الحكمة الكامنة في ضمير الأمة الأروكاجينية، التي لم تكن لتطلب تغيير القائد، أو قتله، وإنما أرادت تغيير سلوكه، ربما لأن الملحمة وجدت من الأجدى ترجيح هذه الحلول دون المجازفة في جبار جيد لا تعرف مزاياه، وعلى الأمة أن تبحث عن حلول جديدة لها. أما دور أنكيدو فيما بعد أن أصبح الخل الحبيب لغلغامش، فإنه دور صار كالعراف، يقتصر على تفسير أحلام غلغامش – ليس بديلا عن أمه ننسون – وأن يكون التابع له، والحامي الغيور للدفاع عن الخل الذي وجده فيه – لكي يأتي الوقت الذي يقوم أنكيدو بالتضحية مكان غلغامش في النزول إلى نيرغال لكي يعود بالبكو، والمكو من هنا، ولكن هيهات للنازل أن يصعد – كل هذا يتساوق وما تريده الأسطورة، ومنها أن أنكيدو هو الذي أوحى لغلغامش بأن لا مناص من قتل خمبابا ورمي جثته في العراء – وهذا هو أقسى عقاب للعدو .
ومثلما سيحصل في أسبوع آلام المسيح، ويوم الجمعة العظيمة بالذات فإن رؤية الأمة للمصير القاتم، والمحتوم( ) فإن ترجمة ذلك المصير تتجسد في غضب الظواهر الطبيعية على البشر، ففي كل تلك المصائب العظيمة – موت أنكيدو، ويوم الجمعة العظيمة – تخسف الشمس مثلا، إن رمز الفداء الأول في البشرية العاقلة التي نعرفها حتى الآن تاريخيّا، وسياسيّا، واجتماعيّا هي أن أنكيدو كان أول فدية بشرية للمصالحة بين البشر، والآلهة، خصوصًا وأن هذه الفدية ارتبطت بكل من الباب والثور السماوي من جهة، والعقاب في النهر المقدس من جهة أخرى. هذا النهر الذي جلب شجرة الصفصاف، وأخذ منتجاتها (البكو، والمكو) هو بالتأكيد الماضي، والحاضر، والمستقبل، وهو الغائب في الماضي، والغائب في المستقبل، هو المصير المجهول، وهو العالم الآخر.
وقد اختلفت التفسيرات حول موت أنكيدو، وتفسيراته لذلك العالم، حتى إن هذه التفسيرات انتقلت معانيها، وطرق تقليد الأساطير التي تتحدث عن القادمين من العالم الآخر، وما رأوه هناك، ومنها ما يذكره المؤرخ الباحث عبد المعطي خان في كتابه الأساطير والخرافات عند العرب( ) فيقول: إن هيرودوت قد اعترف بقوله: إن الهلنستينيين مدينون بالكثير لثقافات الشرق القديم، ومعتقداته، وميثولوجياته، وبخاصة أرض بابل التي أخذ الهلنستينيون عنها الكثير من الإنجازات الحضارية الهامة، وبخاصة ما يقولونه لملكهم في مجلس الشورى: أيها الملك لقد كنا نطيعك في مجلس الشورى، فاستمع إلينا وخذ بمشورتنا.
سادسًا: الحكمة، وفلسفة الخلود:
هذه العقلية لا يمكننا أن نأتي بها إلى جمهورنا، من غير أن نضع مساحة مناسبة لنا، ومساحة أخرى بين الماضي، وبين الوقت الحاضر. إن المطلوب هنا، هو تقديم محاورة عصرية، أو معاصرة لما كان. أو لما يمكن أن يكون. إن التقدم في سياق أحداث الملحمة، يكشف بشمولية الدرامية الجوهرية للملحمة. لكن هذه الملحمة لا يمكننا أن نقدمها، وفي هذا العصر بتلك الميلودرامية، وإلا أدت إلى الملل في الترجيعات، والتكرار، حتى ولو كان الحدث مأساويّا قاسيًا. فبعد الإعادة الثالثة يملُّ المشاهد، بل ويبدأ بالتفكير، ومن ثم الاستهزاء والسخرية. وبهذا يكون التصاعد الدرامي في الملحمة المسرحية بشكل شمولي.
ولقد جاء هذا السؤال في الفترة التمهيدية لحكمة غلغامش، وترويضه، فكما تم ترويض أنكيدو من الحيوانية التي سكنته، وصُعِّد بدرجات إلى حضرية أوروكاجينيا فإن غلغامش نفسه قد تم ترويضه هو الآخر في النهاية من خلال سيرته مع أنكيدو في البداية التي كانت فترة تمهيدية، أثناء وبعد موت أنكيدو. وبعدها جاءت سيرته الهامة عندما بدأ رحلته للبحث عن المجهول. ويبدو أن فعل الترويض في الجزء الأخير قد أخذ مفعوله الناجع، خصوصًا بعد عودة غلغامش، وفقدانه لزهرة الحياة التي سرقتها الأفعى، وهو غاف في مركب عودته. فتخاذل غلغامش حتى ارتضى أن يكون دليلا للقادمين الجدد إلى عالم نيرغال السفلي وهذا ما يدلنا على درجات التنسُّك والتصوف في ذلك العهد.
وعليه فإن غلغامش بهذا يكون قد خامره الشك في مصيره، وقد تساءل نفسه عن نهاية مصيره هو الآخر، بهذا المعنى -: ألا يكون مصيري كمثل مصير أنكيدو، فدخل الخوف في جوفي – وبخوفه على نفسه من الموت تضاعفت أزمته، وتفاقمت لأنه كما يبدو لم يبحث غلغامش عن الخلود إلا لنفسه، أي لمصيره، ولم يحزن إلا على نفسه في فقدانه لأنكيدو.
وهو، أي غلغامش الذي كتب المأساتين، أو كُتبتا له: مأساة حزن غلغامش لموت صديقه أنكيدو؛ ومأساة خوفه من موته هو نفسه. ورغم أن ثلثيه من مادة الآلهة، أي أن ثلثيه إله، بينما هو يعيش بين البشر كإنسان، ومع هذا فقد مات غلغامش كما يموت غيره من بني البشر – ربما يكون غلغامش صورة متقدمة للمسيح في ذلك الأوان ! ومن غير عذابات كالعذاب الذي تحمله كل من أنكيدو، والمسيح معًا، ومع هذا كله فلم يمنع من ترقب غلغامش للموت، حاله حال أية دابة حية على البسيطة، وكل مادة حية قابلة للفناء، والتحول من حالة إلى أخرى، وليس مادة من نار لا تفنى كالمادة التي صنع منها الجان، لا تفنى، ولكنها تُطفأ لحين. فما فائدة هذا الكيان لوجود المبطن – كيان بلا وجود – كيان المستتر في الكيان الآخر، وكأنه شيء ما في الدنيا من غير أن يكون، كيان لا يأكل حياته، بل إن حياته هي التي تأكله. كذلك حال الإنسان، فرغم أنه يرى نفسه كقطب الكون، والوجه الآخر له، لكنه ينسى أنه حلقة صغيرة، وضئيلة في سلسلة طويلة، ومتشعبة تبدأ بالأمنية، وتنتهي أو لا تنتهي بما لا ندري، أو بلا شيء.
فهل كان سؤال غلغامش لأنكيدو وهو يحتضر، أو بين السماوين – في مرحلة الانتقال المطهرية – سؤالا حيَّر الأمة الإنسانية برمتها منذ وجدت كائنات حية ومفكِّرة، سؤالا للتأكُّد والتأكيد عن صحة وجود عالم يعيشون هناك، أو صحة وجود الهناك كما تصفه الأساطير، والميثولوجيات. أم أن سؤال غلغامش كان منحصرًا في أحوال أنكيدو في الهناك، وأحوال من لقيهم حقّا؟ ويبدو للباحثين المعنيين في أمور الأساطير القديمة أنه لم تكن أحوال أنكيدو، ولا المنتقلين إلى هناك ممن لقيهم أنكيدو تعني غلغامش بقدر ما يعنيه أمر وجود، أو عدم وجود الهناك في الواقع كما هو متخيَّل، ولكن غلغامش لم يحصل على الجواب الشافي – هذا إذا ما كان هناك جواب حقّا – لأن أنكيدو في الواقع لم يكن في حال أن يعطيه التقرير لما رآه حقّا، ولكنه تقرير الحكماء من حوله، وبمعية غلغامش، كما فعلوا، ويفعلون دائمًا لتحقيق تسمية الأرباب، وصناعة الآلهة كل على مزية يريدونها.
وأهم ما في الأمر هو أن غلغامش لم يحصل على الجواب من أنكيدو، بل إن ما أدهشه في الحقيقة هو أن يفقد هو الجبار، وثلثا الإله خلَّه، وحبيبه، وبينما كان أنكيدو على شفا الموت، لم يكن يخاطر غلغامش أن يسأله هذا السؤال، إلا لأنه يريد أن يطمئن على الخلِّ، في العالم الذي رحل إليه، وهل سيدوم وجوده هناك حتى يعود، أو ينتقل هو – غلغامش – إليه، ليعيشا معًا كما عاشا هنا. ولهذا سأله عن أحوال من لقيهم، لكن لا جواب – شافٍ أو غير شاف – وصل غلغامش من أنكيدو؛ لأنه لم يكن يملك القرار في رحلته إلى الفناء، كما لم يملك قرار ميلاده، أو اختفائه. ولهذا فالجواب ليس سهلا، وعلى أنكيدو إذن أن يجمع الأدلة في مهمة افتراضية، ويكتب عنها.
ومع أن أهل ذلك الزمان قد كانت لهم فيما يبدو معلومات متيسرة عن العالم الآخر “نيرغال”، مما تصوروه غالبًا، فقد انعكس في توصية غلغامش لأنكيدو، (وهو ألا يلبس كذا.. إلا إذا..) ربما هي توصيات صاغها العرافون، وبررها وأيدها الكهنة، وسنها الحكام.
إن السعار الذي أصاب غلغامش، والهياج الذي اعتراه، فنتف شعره، وخلع ثيابه حزنًا على الخيل، أو على نفسه من نفسه، هو أن غلغامش قد تيقن بصدق بأن مصيره لن يكون بأفضل من مصير الخليل الذي وجده، ورحل عنه بلا إنذار.
لهذا لم يدفن أنكيدو، كما جرت العادة في دفن الموتى، بل إن غلغامش، أمر بصنع ناؤوس يليق بأنكيدو، جاء الناؤوس ليمثل حاجتين، هما التابوت، التمثال، طالما جسم الشكل الخارجي للناؤوس بتمثال أنكيدو المصنوع من الذهب واللازورد( ).
أما عن تقشف غلغامش، من جرَّاء حزنه على خليله، فهو – بالإضافة إلى حزنه، ونتفه لشعره العادة السائدة للحزن وقتها – فإنه ارتدى جلد الأسد، وهذه كناية عن العودة للمجتمع البدائي، أو التعود على لبس الخشن من الملابس بدلا من ملابس الرفاهية التي هي ملابس الصوف على الأغلب، وبذلك تكون ملابس الجلود، أي جلد الحيوانات فهي ملابس الرعاة، أو صيادي الوحوش.
أما السؤال الوارد هنا، فهو لماذا يكون جلد الأسد لا غيره هو ما لبسه غلغامش حزنًا على خلِّه أنكيدو، فهل لأن الملك لا يليق له  حتى في حزنه إلا أن يلبس جلد ملك الغابة مثله، أم لأن الأسد هو الحيوان المألوف في بيئة الأمة الأوروكاجينية؟
وبخصوص أن يطلق الرجل شعره حزنًا أيضًا فإن المعروف أن شعور أهل تلك الفترة طويلة، ما لم يكن للملوك حسابات أخرى، وتحسين للشعر بالشكل المطلوب حتى ولو كان طويلا، المهم أن يطلق غلغامش شعره، يعني أنه لا يعتني بشعره، مثلما يفعل مع ملابسه، وهندامه، وهكذا..
أما الهيام في البرية، فهو غير العيش فيها بوعي وبقصد، فالهيام في أي مكان يعني التيه، ولا يعني التعرف على الموجود، ولا العيش بوعي فيه.. لهذا فمعنى الهيام هو فقدان الإحساس بما يحيط.. فهل يكون الهيام في البرية نوعًا من أنواع عقاب النفس، أم حاجة للتأمل.. إن التأمل غير التيه والهيام، وهما تهويم للعقل على عكس التأمل الذي يعيد للعقل صفاءه، وللنفس استقرارها.
ربما يكون للهيام نوع من التمهيد لصياغة شخصية غلغامش بالشكل الجديد، واستعداد جديد للمرحلة القادمة، تصديقًا لقول شمش الموجه إلى أنكيدو.. حيث نال غلغامش بسؤاله لأنكيدو عن سبب سفره، أول درجات الوعي بحالة الإنسان، ومصيره غير المعروف، وهو سبب هام للسؤال عن الخلود رسميّا.
إن سؤال غلغامش عن أحوال العالم الآخر، ومن ثم بحثه عن السؤال بنفسه، في رحلته الطويلة التي انتهت بسرقة الحية لعشبة الخلود في طريق عودته ليس إلا تعبيرًا عن اعتراض البشر على القدر المحتوم الذي وجدوا فيه.
فلماذا جاءوا؟
وإلى أين هم ذاهبون؟
فهل من المصادفة مجيئهم بالضرورة؟ وبهذا التشكيل لكل منهم على نحو فردي، وبهذه الخصوصية؟
ولماذا قدر عليهم الرحيل دون رغبة منهم، مثلما جاءوا بلا قرار منهم.
بل إن بعضهم يرحل قبل الآخر، وبالمصادفة من غير أن يهرم، أو يمرض.. أليس هذا محيرًا لإنسان ذلك العصر؟ بل وإنسان عصرنا الحالي أيضًا؟
وتدور الأسئلة الحائرة الواحد تلو الآخر فما دام الإنسان بهذا الزوال السريع قياسًا للأجرام السماوية، فإنها بالتأكيد ذات قدرة كبيرة، وإن لهذه الأجرام سطوة على الإنسان، وقدرة بالتالي.
أليس غريبًا أن تبقى كل الأشياء المادية، بينما يرحل الإنسان عنها ودونها مخلفًا إياها وراءه، أو بالأحرى هي التي تخلفه وراءها بعد أن كان محركها، وأعظم من يحركها، ويقوم بتفعيلها. وبينما يرحل عنها، وقد فقد القدرة على الحركة، والحياة يتركها بلا إرادة، ولا قوة حتى على حملها معه، ولكن إلى أين؟
ولو أن يعينه القوم على الرحيل، لجاءت الآفات لتأكله، وتأتي عليه.. تفتك به، ويفسد كل جميل فيه.. إذن لا بد من الدفن والمواراة، والدفن طبعًا سيكون تحت الأرض، وليس فوق الرءوس في المساء.
فالجسد لا بد له أن يوارى تحت التراب لأن هناك أدوات التفسيخ الجهنمية التي تفعل واجبها في إعادة ما كان إلى عناصره الأولية في الطبيعة. أما الروح التي تصعد من الجسد، فلأنها مثل الهواء، لا بد لها أن تصعد إلى فوق فتتجلى إلى أعلى الكواكب السماوية؟
وإذن فإن نزول أنكيدو إلى العالم السفلي، هو نزول كما كان أو حصل مع تموز.. هو نزول للعقاب، فما هي جريمته؟ فهل هي مما فعلته أيديهما لهذا فعلى إنانا – عشتار أن تنقذ الأول الذي ناب عنها، وتجعل الثاني ينوب عن غلغامش في جريمة إسقاط آلتي “البكو، والمكو” في النهر، (الهاوية، العالم المجهول – الآخر – نيرغال)؟ لهذا فإن غلغامش قد حرص على أن يحنِّط جسد أنكيدو في ناؤوس، ريثما يذهب هو في رحلته للبحث عن الخلود، ويعود لكي ينقذ، أو يعيد أنكيدو من جديد، وهذا الذي لم يحصل حتى الآن فإن الذي يذهب لا يعود كالثواني التي تمر من غير عودة، لكنها تعود بشكل جديد. هذا هو قانون الطبيعة وسننها؛ لهذا لم تفد رحلة غلغامش إلى الأعالي حيث أتونابيشتم، ولا رحيله في عتامات المياه في الأهوار، ولا تلك الزهرة التي سرقتها الحية منه، وهو مُلْتَهٍ بالاستحمام من جديد، لعل عشتار التي لها هواية التفرج على المستحمِّين، ومنهم بالذات غلغامش، هي التي تنكرت في زي الحية، ولبست جسدها، وسرقت الزهرة لكي تحظى بحب غلغامش عندما يعجز عن إحياء خليله أنكيدو.
مقطع من الكلام عن آكي:
يقول الباحث د. يانوش مارسيوش في كتابه الموسوم أقنوم الأقانيم( ): إن العقاب الذي لاقاه أنكيدو بموته، هو ترضية، ومساومة بين طرفي النزاع (غلغامش – عشتار)، وبين شفيعيهما في آكي حيث مجلس أرباب أوروك. لأن كفة الصراع بين الأرباب مالت هذه المرة إلى جهة عشتار، وضد أنكيدو، بخاصة، وإن المهمة التي ذهب – نزل إليها قد تمت بنجاح، وصار غلغامش بطلا حكيمًا، وليس بطلا دكتاتورًا، خصوصًا عندما ارتضى بالقوانين الجديدة لبيت الزواج المقدس، وإبداله لبابه (أبواب)( ). وعليه فالعقاب يمكن في هذه المرة أن يرتضي بالبديل، وهو أنكيدو الذي حقق رسالته، وبهذا انتهت مهمته( ).
وهنا لا بد للدور أن ينعكس مكررًا من الإنسان إلى شفعائه، ومن الشفيع إلى الإنسان حيث ينتصر الأقوى، أو الأكثر حيلة، وهذا بحد ذاته يخلق نوعًا من البرمجة لاختصاص الشفيع، وصفته، بما فيها حججه، ووسائل دفاعه عن مشفوعه، بينما يقوم الشفيع الآخر بالتتابع لتفادي وسائل دفاع ضديَّة، أو الانتقام منه لما جرى، وربما العكس، وهكذا بالتتابع.
وعليه فإنه يحق لنا القول بأن الكثير من أموات البشر تحوم أرواحهم حولنا، أو نحن الذين نود أن يبقوا معنا فلا ننفك نتخيلهم ونتمنى أن يكونوا معنا، حتى يتجسدوا فينا، أو من خلالنا في شبه واقع استعصى هذا التفسير على أجدادنا الأسبقين، فقاموا ليصنعوا لأنفسهم أربابًا مشابهين لأسلافهم، ومختلف الصفات، والمهمات، والمهن.
وبالحقيقة فإن ما يمكن تفسيره هنا ليس أكثر من دعوة داخلية لسمو النفس البشرية لكي تتخلص من سجنها الجسدي، وتبقى أبدًا طالما أن الجسد الذي تتنكبه، ويحملها لن يفتأ أن يهرم ويموت، فلماذا تتعلق هي به ما دام التواجد من خلاله مرحليّا، لا يرضي طموحات الروح، وما دام في إمكان الطبيعة توفير وسيط آخر، نباتي، أو حيواني للروح بعد انعتاقها من الجسد الذي فني، أو أفنته رغبات الروح ذاتها؟ وعليه فهذه واحدة من تأملات فئة من المعتقدات تداخلت في أشكال عقائدية، لم تصل هي الأخرى لأكثر من الأوهام، والتهويمات، والتصورات الخارجة عن أرض الواقع، بميتافيزيقات خارج الجسد، وليس داخله، ربما حققت بعض الذوات ونتيجة للترسخ الكامل في المعتقد بعض الطفرات، كالطفو فوق الأرض، أو الماء، أو التخاطر، ولكن الحلول في جسد، أو كيان آخر لم يسبق بشهادة علمية، وواقعية معروفة حتى الآن.
وعندما لم يجد الكائن البشري مندوحة من كل تأملاته وآماله اتخذ له أربابًا، وفرد لكل شخصية بشرية، وخاصية بدنية، وصفة أخلاقية كيانًا لرب يمثلها من فوق، ليكون هذا الرب معينًا وقت الشدائد لو استجاب؟ ربما هي دعوة، أو أمل في الخلاص، والتخلص من المصير المحتوم، وهو الموت، والفناء؟
ويذكِّرنا هذا كله بما وصلت إليه البشرية من توحد، وتفرد في صياغة تخصص للأرباب، وذلك ما وجدناه في الملاحم الإغريقية التي انعكست من خلال شعراء ملحميين، ومسرحيين فيما بعد، وظفوا كل تلك الآمال في آداب عصرهم. بل واستخلصوا منها كثيرًا من العبر، وناقشوا من خلالها مختلف الأعراف، والقوانين التي كانت سائدة، والتي لا بد أن تتبدل بحكم تطور الأعراف الاجتماعية، وتبدل الحكم وسننه، وأبرز مثال على ذلك هو معضلة دفن الموتى من المعدومين بناء على حكم بالتجريم، كما في مسرحية أنتيغون:
وعليه فإن ما يسترعي الانتباه في هذه الخصوصية، قد جاء فيما ورد من تعليمات جاءت في متن الملحمة، وسياق تفصيلاتها من خلال توجيهات كاتب الأسطورة، وبعضها جاء على لسان أنكيدو، والبعض الآخر على لسان الأرباب المختصين، وذلك على النحو التالي:
1- إن أيام البشر معدودة “فدعني أسير أمامك، ولينادني فمك، سر ولا تخف” فإذا هلكت أنا أكون قد صنعت اسمًا لنفسي “كلام أنكيدو”.
2- الخوف عليه لا بد أن يسير أنكيدو أمامه “أي أمام غلغامش”، وهو أقوى أيضًا، وأكثر تدريبًا في الصحارى، والبراري.
3- إن رؤية أنكيدو عن عالم الأموات قبل المعري ودانتي بعشرات القرون تتمثل في قوله: تكدس تيجان الملوك.. رداؤهم من أجنحة مكسوة بالريش.. هو نوع من وصف العالم الآخر، وهو عالم افتراضي، تخيلي.
4- وعن موته يقول أنكيدو: من يسقط في القتال يكون مباركًا، أما من يموت في الفراش فهو الذل.. وللتأكيد على الوباء، وليس الصراع، لكن ذلك يوحي لتأويل جديد، ربما ليقول أنكيدو، لو أنه صارع الوباء حتى الموت، ولو كان بألف رجل، أو صارع من دسَّ له السم بألف رجل، أو أن يشلَّه عدوه بالسُّم، ويبقى هو طريح الفراش حتى يغادر الحياة، ويموت..
5- فأنكيدو بذلك يشارك البشر مصيرهم؛ لأنهم عندما خلقوا لم يكونوا يعرفون الأنانوكي آكلي الخبز، لا ولم يعرفوا لبس الثياب، بل كانوا يأكلون النباتات بأفواههم، ويشربون الماء من الينابيع والجداول..
6- وأخيرًا يفسر الباحث يانوش الحلمين الأصليين بشكل مناسب، عن الروح الواحدة في جسدين اثنين “للخل، وظل الحبيب للحبيب” فهما واحد في اثنين، أقنوم ثنائي، متجلّ، ومتحد. ولكنه منفصل في كيانين جاء الأخير – أنكيدو – لغرض زرع الحكمة في الأول – غلغامش – ( ) كما مرض ومات أنكيدو الذي مرض ومات، بينما بقية الحكمة مزروعة بذورها الأولية في كيان غلغامش، مما أهله هذا، وبعد التدريب الذي حصل عليه من أنكيدو في الرحيل – رحيلهما إلى بلاد الأرز – لكي يرحل للبحث عن سرِّ الخلود. فما هو العنصر الثالث بينهما؟ لماذا هما خلان ثنائيان – خل وخليله، وليس: خل وخليلان لكي تدار العملية العقلية، والجمالية بأقانيم ثلاثة؟
المعادلة الجبرية بين خلين:
ربما يكون التفسير الأقرب هو من خلال معادلة جبرية، توضح بميزانها ما يمكن أن يشير إلى ما نقصده، وهو أن كلا من غلغامش، وأنكيدو ثلثهما إله – مهما حاولنا تبريرًا لألوهية أنكيدو – هو بتصورنا جزء من التنحية الدارونية لخصوصية أنكيدو، أمام غلغامش، وذلك من خلال ملحمة اختصت ببطولة غلغامش المطلقة.
فلماذا يشير راوي، أو كاتب الملحمة لبطل ثانوي، وأمامه نموذج يريد لأمته أن ترى مزاياه، وتقتدي به؟
وبهذا علينا حساب المعادلة بالتصور الآتي: إن لكل من أنكيدو، وغلغامش ثلثه الإلهي، يجتمع بفعل الصفة الروحية بثلثيه البشريين ليكونا باتحادهما النظري ثنائيّا ثالثًا، هو الثنائي الروحي لكل منهما. وبهذا يكون لدينا ثلاثة أخلَّة ثنائيون، خل روحي ثنائي، وخلان ثنائيان بشريان. وذلك كالآتي:
ثلثا غلغامش البشريان + ثلثه الإلهي = ثلثا أنكيدو البشريان + ثلثه الإلهي
وبهذا تكون الثلاثية بعناصرها، أهم من الرباعية، أو الثنائية. لأن هناك رابطًا عميقًا بين العلاقة الثلاثية أكثر عنها من العلاقتين (الثنائية، والرباعية)، فبينهما تكون روابط العلاقة الثلاثية، هي ثنائية بحد ذاتها. أي بالارتباط الزوجي من كل جهة، لكل واحد من الثلاثة، فإن كل عنصر يرتبط من جانبيه بالعنصرين الآخرين، بينما يكون الربط بين الثنائي من طرف واحد. وهذا ما يحصل بالنسبة للروابط الرباعية، فلكل اثنين في الرباعي اتصال بعلاقة فردية مع الثنائي الآخر، أما في العلاقة الثلاثية فالأمر أكثر ارتباطًا لأن كلا من العناصر الثلاثة له ارتباطان كما أشرنا، وهكذا.
الرموز في الملحمة:
أولا: النهر المقدس هو نهر الفرات، وعلى من يحلف، ويؤدي القسم لا بد أن ينزل في الفرات، فإذا لم يغرق، ينجو من العقاب. فهل كان لشجرة الصفصاف القادمة من أعالي الفرات معنى آخر غير القسم؟ وهل لا يشمل القسم سوى الإنسان والخاطئ بشكل خاص؟ إذ ربما تكون شجرة الصفصاف ملكًا لأحد أخلَّ بالطبيعة، وهو مثلا من قطع الشجرة، أو اقتلعها، فاستولت عليها إنانا – عشتار فحاولت إنباتها ربما لكي تعيد له الحياة كما كانت معتقدات ذلك الزمان تدور في هذه الأطر مثلا.
ثانيًا: تجميع صفات، ومحاسن الطبيعة، والحيوانات في مخلوق واحد كالثور المجنح، أو الميناتور هو تجميع لطواطم القبائل في كيان خرافي واحد، أو تجميع محاسن الحياة في مخلوق مؤلَّه لكي يتمثل من كل كائن بخصلة تميزه.

الخاتمة
إن الملحمة في الأصل قد فصلت بين عالمين:
الأول واقعي معاش.
الآخر غيبي مثالي هو أحد أشكال اليوتوبيات التي تخيلها الإنسان لعالم سعيد سيعيشه فيما بعد.
لهذا فإن تصوير أهل اليوتوبيا ليس أكثر من أناس لهم نفس طبائع البشر، ومشاكلهم، وانفعالاتهم، ومؤامراتهم هو ما يؤكد خلق الإنسان لأربابه، ويوتوبياتهم. وهذا ما يعرفنا بأن هذه الملحمة، ورغم قدمها السحيق في التاريخ، لم تخترق الماورائية بأي شكل من الأشكال، بل إنها خلقت عالمًا افتراضيّا ليوتوبيا سعيدة، أو يوتوبيات لسعادة المعذبين في الأرض، ولأبطال الأمة، وقديسيها. كل هذا انعكاس لمعاناة أهل ذلك الزمان، ومشاكلهم؛ فقاموا ومنذ البداية بتسويغها من خلال قوى أخرى خارجية، هي المثال الأفضل الذي يراه الإنسان لكمال الأخلاق، والعدل، وصاغوا لها ربانية سلطوية تتناسب ودور كل منها، ومرتبته بالنسبة لدرجات الأرباب في القائمة الطويلة.
إن هذه اليوتوبيات نفسها، تتبادل الدور مع أحلام أهل ذلك الزمان، وآمالهم، ولهذا نشأ فن العرافة، وتفسير الأحلام منذ ذلك الوقت. فإذا ما استعصى الأمر عليهم، صاغوا للمعضلة ملحمة، وأسطورة فيها تخريجات مناسبة للفرد، وللأمة، أو أبطالها.
النزول إلى نيرغال:
أولا: لم يتضح لدينا ما معنى أن يتجاوز كاتب ملحمة غلغامش ذكر تموز، أو ديموزي، وبخاصة في معضلة النزول إلى نيرغال، حيث كان لا بد من استبدال أحد بتموز للتعوض عن مكانه في نيرغال، عندما رفضت ملكة العالم السفلي صعوده إلا ببديل، وهذا يعني أن البديل لن يعود ما لم يعوضه أحد، وهكذا.
قد يكون لأن غلغامش هو ملك رفض، أو صيغت له مسألة الرفض. لكي يمارس طقوس النزول، وهي بالتالي صيغة الموت، والفناء لملك جبار، وهذا تأكيد زمني بأن تموز – ديموزي الملك الذي كان يضحى به، وكان آخر تموز – ملك قد بدل هذا القانون، قد ملك قبل غلغامش، وأن ديموزي الملك ربما يعتبر من الأساطير القديمة لزمن غلغامش الملك. لهذا لم يشر إلى مسألة ديموزي، وكأن هذا الذي سيحصل هو عرف متداول، وعلى المذنب إما النزول إلى العالم السفلي، أو النزول إلى النهر، وكلاهما نزول من غير رجعة.
وعلينا الآن مناقشة إصرار عشتار لنزول أحد لجلب البكو، والمكو، وهي تعرف بأن من ينزل لا يعود من غير بديل، كما حصل مع إنانا – عشتار في أسطورة بعث ديموزي – تموز فإذا كانت إنانا قد تحدت إلهة العالم السفلي في السابق مع حكاية بعث تموز، فهي هنا لن تعيد الكرة، ولهذا لم تصر على نزول غلغامش، وإنما أرادت من يجلب لها البكو، والمكو فحبذا لو يكون أنكيدو لكي تتخلص منه، ويتفرغ غلغامش لحبها فيما تتصور.
إن تحدي إنانا – عشتار لربة العالم السفلي في بعث تموز كان لقياس مدى قوتها بالنسبة لقوة ربة العالم السفلي، ولكن بعدما تلقت الدرس السابق ليس لها أن تجازف من جديد.
والمحير هنا ما ولع عشتار في مسألة النزول إذا ما أخذناها على علاتها من غير ربطها بتفسير الأسطورة التي ابتدعها البشر لنفسهم، وهي موت الزرع، وانبعاثه من جديد في فصل الربيع، فإن حجة وسقوط، أو إسقاط البكو، والمكو في الهاوية، أو النهر هي إما للإيقاع بغلغامش لكي يصبح أسيرها، أو للتخلص من أنكيدو صنو الحكمة، وخل غلغامش الذي ينافسها على حب غلغامش كضرتها. وبالتأكيد فإن لرجاحة عقل أنكيدو في صياغة شخصية غلغامش الجديدة تأثيره هو الآخر.
ثانيًا: إن أنكيدو شخصية فذة، وذات قوة تهتز من خلالها كل كيانات الباحث الداخلية، سواء برغباتها، أو بهواجسها التي لا تنطفئ نيرانها للبوح بأسرار نجهلها، والبحث عن الحقيقة. ليست هي بالطبع حقيقة مطلقة، وليست حقيقة ذاتية بحتة، ولكن بشيء من الموضوعية الصارمة، محاطة بتلك المثالية التي جعلت أنكيدو يقبل أن يكون كبش الفداء، بدلا من بطل الأمة غلغامش، مهما كانت قناعته بفطنة وهبته إياها طبيعته الحكيمة التي كانت قد شكَّلته صنوًا مناسبًا لذلك الجبار، والقاسي غلغامش.
ثالثًا: والآن كيف لنا أن ننسى ذلك الوعي الجديد الذي تشكَّل لدى غلغامش، وهو يطمئن من نده الذي صار فيما بعد صنوه، وخله، فيقوم بالتفكير للتحرُّك خارج البلاد من أجل تنفيس طاقته فيها – ربما لأول مرَّة – فقد يكون مبرر الذهاب إلى بلاد الأرز واهيًا – في جلب خشب الأرز – وإنما هو مبرر لغزو بلاد غنية، أو منافسة بالتأكيد، وهذا المبرر لن يكون ذا أهمية كبيرة قياسًا لمبدأ الغزو، اللهم في معيار ما ذكرناه من تبديل أبواب الشريعة وقوانينها.
فلو نظرنا إلى عمر نبات البردي، ومقاومته في صناعة البيوت، ومقاومة الزمن حتى في تكاثره، لوجدنا أن الطموح للحصول على خشب الأرز ليس أكثر من حجة واهية، أو غير أكيدة؛ لأن البردي في بيئته، رغم أنه كثير، ولا يملأ العين، إلا أن الناس تستخدمه في شتى الأغراض، ولهذا يبقى السبب في جلب خشب الأرز هو ما يتعلق بتبديل الشريعة، ونية الغزو للحصول على موارد أكثر، وضم مقاطعات أكبر لدولة أوروكاجينة العظمى.
هذا الرأي يهيئ لمسألة أكثر خطورة تتعلق بأنكيدو نفسه، فكيف لو نازع غلغامش شخصية محبوبة لدى شعب أوركاجينا، وهي شخصية أنكيدو الذي زكاه غلغامش أمامها، ففاز بحب الشعب خصوصًا بعد الانتصارات التي صارت على يده في جبال الأرز، حتى ولو كان صديقه، وخله، وساعده الأيمن. فالمعلوم أن كل بطل قومي بعد الانتصار تزداد شعبيته بشكل يمكن أن يهدد كيان السلطة، متمثلة بقائدها، ورئيس البلاد، رغم أن المنتصر في الغزو لم يكن أنكيدو لوحده، وإنما حصل الانتصار باسم القائد غلغامش، ولكن ليس إلا بفعل ومساعدة أنكيدو قائد الجيوش البدوية، وحتى فيما بعد العودة من غزو جبال الأرز، فإن قتل الثور السماوي لم يكن بمعونة الجيوش، ولم يكن دور أنكيدو مساعدًا، وإنما رئيسيّا، فإذا ما اعتبرنا أن مجيء الثور السماوي لم يكن غير وباء عم البلاد، وكان أنكيدو هو المنقذ، وبالتالي الضحية فالخطورة على غلغامش هي أعظم في هذه الحالة لهذا كان لا بد من التخلص من أنكيدو بأية حجة، حتى ولو تم بهذا التواطؤ مع عشتار، ومؤامراتها، ولكن إلى حين.
فعلى الرغم من كل المزايا التي منحها الانتصار لغلغامش، إلا أن الشعب يعرف ما هو دور أنكيدو، ولهذا ازدادت شعبيته، فخافت السلطة من تفاقم الأمر فحرصت هي على تدبير أمر آخر لأنكيدو، وهو ما لا بد من أن يكون الفداء لقائد البلاد ما دام أقرب وأقوى، وأخلص خل لغلغامش، وعليه هو أن ينزل إلى العالم السفلي لكي يجلب البكو، والمكو التي تهدد عشتار من خلال فقدانهما بالانتقام.
إن القضاء على الصديق الخصم، حتى ولو كان حبيبًا لدودًا. وبما أن العلنية قد خصمت منذ أول لقاء القوة والمكانة لأنكيدو دون منازع، لهذا احتواه غلغامش كما يفعل من لا يستطيع رد يد قوية فيقبلها، ويضعها على رأسه إلى حين. وعلى الزمن أن يظهر كل الأمور، بما فيها “الغيلة الحبيبة”، كقبلة الخيانة، وهي أحسن وسيلة. ولكن لا بد من الحنكة. لهذا توافقت نوايا غلغامش، وإنانا – عشتار في تقديم  التضحية للعالم السفلي – نيرغال. وعلى الكهنة أن يسوغوا للأمر تبريراتهم، ويقدموا للشعب ألف حجة وحجة يتعلق كله بقرار الأرباب، ورغبات الإرادات العليا.
رابعًا: إن وصف بشاعة وقوة الخصم للمنتصر أمام رعيته تعني الكثير، أي أنها تضيف للبطل القومي صفات أكثر، وتعطي تلك الدرجة الخاصة من البطولة لبطلها، وربما لا تكون تلك الصفات حقيقية، ولكنها تسويغ للمباهاة أمام العدو، أو من له نية في التعدي من جهة، وللأعداء الداخليين بالمرة، فقد يكون موقع الغزوة ليس أكثر من الوصول إلى السفوح الجنوبية لموقع بلاد الأرز الشمالية الغربية؛ لأن الوصول إلى بلاد الأرز، في عمقها ليس بأقل خطورة من تجاوز البحار الجنوبية، وعتاماتها ومتاهاتها، خصوصًا، وأننا افترضنا أن شعب جبال الأرز متقدم حضاريّا بشكل مميز، وقدراته العسكرية، والتكنولوجية أكثر تطورًا، فقد يكون بافتراضنا الذي وضعناه في ملحمتنا المسرحية “هبوط وصعود أنكيدو” متطورًا صناعيّا، لا يحجزه غير عبور بحر عريض، هو البحر الأحمر مثلا، ومع هذا فالبحر الأحمر ليس آمنًا كما عرفنا من أسطورة عبور موسى وقومه هربًا من عساكر فرعون، لو صحت الرواية، وتحققت في نفس المكان.
ومع هذا فلصناعة الأبواب من خشب الأرز مباهاة أخرى من نوع جديد، قد تكون رمزًا آخر للسيطرة على أقدس ما للغريم من كنوز، وهي تجريده من أغلى ثروة وطنية لديه، وهي أشجار الأرز، ويمكن لغازٍ أن يخلع بوابات غابات الأرز بتسويغات أفضل منها عن الانتصار على الغريم وغزو بلاده.
خامسًا: هنا إذن مفصل القضية التي تنازعتنا، ونحن ندرس هدف نزول أنكيدو إلى نيرغال، وما دخل قصة غرام إنانا – عشتار بغلغامش، وكأنها مادة محشورة في الملحمة. فلقد افتعلت إنانا أمر سقوط آلتي الطرب في نيرغال، لكي تستجير بغلغامش خافية نقمتها عليه، فيرى هذا فيها تسامحًا من نوع مختلف، لم ينتبه إلى ما يُرمى من ورائه؛ لأن شيمة الأبطال تبعدهم عن الشك فيمن يكيد لهم، ولولا انشغال أنكيدو بالهم نفسه، لكان انتبه هو لهذا الأمر، وأبعاد المكيدة التي تبيتها إنانا – عشتار له.
تمامًا مثلما حصل معهما عندما توسل خمبابا بهما لكيلا يقتلاه، وأن يتركاه حيّا، حتى ولو أصبح لهما خادمًا، فأصر أنكيدو على عدم تركه؛ لأن بتر المعضلة من أصلها أنجح وسيلة للبقاء. رغم أن غلغامش كان قد ظهرت عليه بوادر الموافقة والليونة.
لهذا فإن هدف إنانا – عشتار هنا هو التخلص من أنكيدو ليس لكي يتفرغ لها غلغامش فحسب، وإنما أيضًا لكي تنكب غلغامش بخله، لهذا شجعت أنكيدو، بل ولم ترفض كعادتها أن يكون البديل حاضرًا، رغم تمنع غلغامش، ورفضه.
ويكون غلغامش كالمنوم عندما يوافق على أن يكون أنكيدو بديلا له، كما هو مشار إليه في المقطع التالي “يشعر بنعاس شديد، يتثاءب، ولكن الكلام يأتي منسابًا كأن أحدهم قد لقنه إياه”.
ولهذا ما تزال إنانا – عشتار تخاف من كل ما يسمى أنكيدو حتى بعد تغير الظروف، والمصائر على مرِّ الأزمان، ورغم أنها نالت من أنكيدو، ومن غلغامش معًا، لكن لسوء حظها أنها بدلا من اقتراب غلغامش منها، فقد زادت نقمته عليها، كما زاد أعداؤها في مجلس حكماء آكي، ونيرغال معًا. ونالت هي الأخرى عقابها منهم لكثرة الأخطاء التي اقترفتها، لعل ذلك كما تؤكد عليه ملحمة “هبوط وصعود أنكيدو” المسرحية( ).
 هوامش القسم الثاني :
12- الأساطير الإغريقية تجتمع على الكثير من الصراعات بين الأرباب، لاختلاف صفاتهم، والرسالة التي يحملونها مثل: عقاب زيوس لبروميثيوس لأنه أعطى الإنسان سرَّ استخدام النار، وعقاب سيزيف، وهيرا، وميديا، إضافة لملاحقة جنيات الشر للخير. راجع أيضًا: كتاب:
13- مثل الوباء الذي حصل في طيبة أيام أوديب الملك سليل أسرة أغاممنون فيما بعد . ولماذا الاستغراب فإن وباء طيبة لم يحدث إلا نتيجة أفعال مخالفة لشرائع الحياة الأخلاقية، والجنسية، وهي زواج الابن من أمه، وهي شريعة نضجت في العصور الإغريقية المبكرّة .
14- يأتي في الملحمة أن مرض أنكيدو قد دام اثني عشر يومًا، وبعدها توفي، ولما كانت الحسابات في بلاد الرافدين، ومنذ فجر التاريخ تتبع النظام السباعي، ومكرراته القمرية، فإن اليومين الباقيين للأربعة عشر يومًا هي حساب آخر، ربما يكون للهبوط، والتعلق ما بين الأرض والسماء في حالة تشبه المطهر المسيحية.
15- يعتقد علماء الآثار بأن هاتين الآلتين هما آلتان موسيقيتان مصنوعتان من الخشب.
16- يمكن أن نعيد هذه الحكاية الشعبية إلى بعض جذورها والتي تقول : لا أنا ولا أبي كذاب، : صنعت ألف باب، ومن القشط والمشط  صنعت للجمل قبقاب، لا أنا ولا أبي، ولا جد جدي كذاب.
17- قد يتوراد من صيغة حلّ الزنّار، معنى أن الرجال يحلون زنار شمخة، لكن الأقرب لوصف الحال أن الرجال يحلون زنارهم، وهي التي تحل زنارها أيضًا، أما أن يحل الرجال زنار شمخة من غير حلهم لزنانيرهم، فليس هناك من فائدة تذكر، أو فعل تواصل يفعل.
18- أيكون أبو البشر، شيئًا شبيهًا بغلغامش الذي حطم بيت الزوجية المقدّس واقترف أفعالا بحق الأمة الأوروكاجينية من قبل أبي البشر نفسه؟
19- راجع كتاب السير الدينية، جذور طقوس الجمعة الحزينة، مركز الحضارة العربية 2005 .
20- الأساطير والخرافات عند العرب، د. عبد المعطي خان، دار الحداثة، بيروت 1981.
21- لعل تحنيط الفراعنة لموتاهم، هو الآخر يعود في أحد أسبابه:إلى أمل عودة الروح، أو إيجاد حل لمشكلة سفر الفقيد، وعندما يكون هناك حل فإن الجسد – الوعاء سوف يضم الروح العائدة من منفاها، ولربما أوعزت هذه العلوم، ونواياها بعد آلاف السنين بتجميد جسد الإنسان الحي من الراغبين في البقاء لما بعد فترة، أي مائة سنة، ومع هذا لم يتوصل العلماء في الوقت الحاضر للحل، وخدع من وضع أمواله في يد شركات التجميد، فقد تفتقت للعلماء فكر، وسبل جديدة في إطالة عمر الإنسان، وما تزال.
22- الأقانيم السبعة، أو أقنوم الأقانيم، يانوش مارسيوش – دار كلتي كلتورا، بودابست، المجر.
23- ربما هي أبواب أحكام القانون الأخلاقي الجديد . أي أن القانون الجديد تختلف أبواب أحكامه عن أبواب القانون البائد.
24- تراجعنا هذه الفكرة في أن الحكام في العصور القديمة، وحرصًا على السرية التامة لرسائلهم، أن يعدموا كل ما له صلة بالرسالة، من ناسخها، إلى حاملها، وحتى قارئها، أو سامعها ممن ليس لهم صلة مباشرة بالأمر، وعلى العموم فإن الرسائل في سالف الأيام كانت تحفّظ للحامل، لكيلا تقرأ، أو تسرق، ويكون الحامل من الثقات، وممن يتفانون في توصيل الرسالة، ويعرفون مسبقًا مصيرهم، وبهذا يكونون فدائيين برغبتهم، خصوصًا لو كانوا مؤمنين مبدئيّا بما يحملونه، أو ربما مغسولي الدماغ . وهنا لا بد أن نتذكر بفخر لفتة سعد الله ونوس إلى هذه الإشارة التاريخية التي جسد من خلالها مسرحية عظيمة هي مغامرة رأس المملوك جابر.
25- كما يحدث في هذه الأيام عند إقلاع مركبة فضائية لتزويد محطة مدارية في الكون بالطاقة .. فعندما تنتهي مهمتها، تعود، أو تحرق .

المراجع

1 – جذور المادية الديالكتيكية – هيراقليطس، ثيوكاريس كيسيديس، ترجمة حاتم سلمان، دار الفارابي، بيروت.
2 – لغز عشتار الألوهة المؤنثة, أصل الدين والأسطورة، فراس السوّاح، دار سومر للدراسات والنشر والتوزيع، نيقوسيا – 1986
3 – منعطفات المخيلة البشرية، صموئيل هنري هوكك، ترجمة صبحي حديدي، دار الحوار للنشر، دمشق– 1983.
4 – من سومر إلى التوراة، د. فاضل عبد الواحد علي، سينا للنشر، القاهرة – 1996
5 – عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين القديم، نائل حنون، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد – 1986
6 – تموز، عقيدة الخلود والتقمص في الشرق القديم، أنطوان مورتكات، ترجمة توفيق سليمان، دار المجد للنشر، دمشق – 1985
7 – عشتار ومأساة تموز، الدكتور فاضل عبد الواحد علي، وزارة الإعلام، بغداد – 1973.
8- The 12th planet “book 1 of the earth chornicles”, By: Zecharia sitchin, avon books, an imprint of harper collins publisher.
9 – ملحمة غلغامش، طه باقر، وزارة الإعلام، بغداد 1975.

فيديو التعريف بملحمة هبوط وصعود إنكيدو الملحمية: http://www.youtube.com/watch?v=4cqKHtGIhq4
و‘http://www.yanabeealiraq.com/article/fro/fro230511.html

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *