
تقول جوليا كرستفيا ((النص ترحال لنصوص أُخر وتداخل نصي ففي فضائه تتقاطع وتتنافس ملفوظات عديدة أومنتج مقتطعة من نصوص أخرى . ص86 /علم النص)) وهنا لابد من الوقوف على بعض تعريفات التناص :)هو احتواء نص أدبي ما تضمينا أو تلميحا أواقتباسا أو إشارة من نصوصا سبقته تأريخيا …التناص نظريا وتطبيقا /احمد الزعبي ص9) كما يعتبرالدكتور محمد ونان جاسم :(التناص نوع من أنواع المفارقة يمنح النص الشعرية ، لأنه يعتمد في بنائها على العدول والإنزياح السرديين وكذلك على تضاد المدلول بين نصين مختلفين زمانيا، تناسلا وولدا نصا جديدا..المفارقة في القصص….ص108)ومن عتبة العنوان تطرقنا المفارقة بتسمية المجموعة(أسفل الحرب..أسفل الحياة) للتناقض والتضاد الشاسع ما بين الحياة والحرب التي تقتل الحياة ، وتوقف عجلتها وتخلف الويلات . (البيضاني) بهذه العنونة يشير إلى عذابه وألمه عبر مجموعة تكفلت وزارة حقوق الإنسان بطبعها ،احتوت على إحدى وعشرين قصة قصيرة وقصيرة جداً ، كان الموت ملكاً متوج بأغلب القصص ، عروشه التضاد والفنتازيا والتداخل والتقاطع النصي ،تنعكس رؤياه في مرآته الكبيرة حيث روحه الباذلة الشفيفة ، ففي قصة (ترقين قيد) كان المكان مغلق ومساحة الرؤية مساحة المرآة كل فضاء انعكاس الحياة ، وبفيض تخيلي لرجل وحيد أدركه الموت ، وما زال يحلم بمن أحب رغم تواجد الأعداء البوليسية ، وحركة الأشخاص الغازية بحدود المرآة يحكمهم الإطار وتنوعهم (ظلمة ، وأعداء ، وحساد ، وصورة حرمان ، وروح المحب )[وصل رتل من الرجال يحملون معاول وفؤوس ، ثم بدأوا الحفر حال وصولهم مكان الحادث ثم تبعهم أربعة من رجال الشرطة مع كلابهم البوليسية ومعهم المرأة الجميلة التي كان يحلم بها منذ سنوات..ص5] ومن قصة (أسفل الحياة) صور لنا ألمه بلغة وافرة تنقلنا دون الإلتفاته للزمن ومفرقتها التناصية أن الراوي الميت قام بكل عمل ولم يترك أحداً يتدخل وبعد أنْ أكمل ملفاته وأرقامها [أغلق الإضبارة واستعان بخبير ينقل المدونات إلى الواقع ،استل عموده الفقري وعظامه بأجمعها بإستثناء الجمجمة ورزمها في حقيبة ، جمع اللحم ورزمه في حقيبة أخرى ، سار الولد يحمل الحقيبتين ، وقف على حافة حفرة عميقة ، وأراد أنْ يطمر نفسه ، دخل الحفرة تمدد فيها ، شعر بالراحة والإطمئنان ، نام..وقد ظلت الحقيبتان على حافة الحفرة والهواء يقلب اضبارة حياته في مكان ما والى جانبها جمجمة لا علاقة لها بما حدث …ص15] واراه أديبا هجرته الحياة ولافتة بالية لا تلتفت إليها العيون . ومن قصة (موت مائي) يطل على القارئ بأنواع الموت والتشضي من صفير الريح إلى استرخاء الترك المتعمد ومختلف أولاده المارقين ، والبارّين ، والمحبين ،فكان ولده الذي يعزّه كثيراً[تناول مبضعاً وعمل شقاً تحت الثدي الأيسر بأربعة أصابع وعلى مرأى من أمه التي قضت ساعتين من العدة ، أخرج القلب ، ورفعه إلى الأعلى ، تدافع أخوته معه ، كل يريد أن يحمله وهم يصرخون ماأحلى قلب أبي !! هذا هو قلب ابي ؟ فتقطع بين أيديهم ارباً اربا وكل ما ظل بحوزتي هو إني دفنت بلا قلب ..تحت الماء..ص19] غلف الحبَّ بفنتازيا المفارقة وعلى لسانه حين دفن .يرى (البيضاني) أنَّ سنينه مجرد دوائر أوجدها على وجه نهر نتيجة لقذف حجر أو حفنة رمل ، وتتشابه في تكوينها مع الخاتم قد يكون للزواج إلا أنها تحتاج لأصبع كبير ، وما يشهده من إنهيار في عالم القيم ماهي إلا مفارقة زمنية وحذف حياتي ، لأن القيم لا يحملها ويتمسك بها سوى الفقراء والطيبون الأكثر صدقاً وأكثر جهلاً بمطامع الحياة .
اعتمد القاص الكبير( سعدون البيضاني ) بخبرته الواسعة بعالم السرد ثيمة (كسر أفق التوقع ) ليعطي القارئ نكهة أدبية ،وأضاف إلى قصصه النفي والقلب ، وفيه يكون معنى النص المرجعي مقلوباً والمقطع الدخيل منفياً كليا محققا تضادا بين المنتج والنص المرجعي.فمن قصة (على حافة من سوق الجمعة) وهي الحجم الأكبر في المجموعة والتي تكونت من إحدى عشر صفحة ، وبإسلوبه الأدبي وحبكة الأحداث والقارئ يلتقط الجمل لنهاية المشوار السردي [وهل يصح أن يتدخل أحد في شؤون أمه؟ أنها تمارس حقها ، هو ابن عمك ومتزوج من أختك؟ أشعل سيجارة جديدة ونفث وضحك عاليا وانصرف ، وهي تنظر إلى الدخان وهو يخرج متقطعا على شكل دفعات مع القهقهات التي اختلطت بقهقهات البائعات المتمرسات اللائي كن يتابعن الموضوع بعناية ، وهي تنظر إلى آخر خيط من الدخان وقد بدأ الولد يضيع في الزحام وقد ترك كيس الفاصوليا مثلما تركه أبوه قبله بقليل.. ص46 ]. لعينه الباصرة بحوادث الأيام وما يشهده من تدهور في الثقافة العامة ، وما يعيش بزمن المزايدات كان له حلم فـ(الشروع بالحلم) معضلة لديه ، لم يبدأ حلمه إلى الآن رغم كل المحاولات التي هيمنت عليها الخيبات ، وطلب المساعدة فكان آخرها [حك رأسه كمن يفكر،لعق زاوية فمه بطرف لسانه ، ياولد نصيحتي لك أن ترشح نفسك للبرلمان أو تدون مذكراتك محارباً أو محاصراً ، قالها وفرّ راكضاً بكل ما أوتي من قوة..ص65] يمتلك القاص مساحة فكرية واسعة ، وهو يخيط الأزمنة ويداخلها لن تشعر بانتقالاته من زمن الإمبراطوريات في العصر الطباشيري وولوجه الفضائيات وطائرات الأواكس وعصر الأنترنيت ، ففي كثير من الأحيان تطفو على يم السرد المحلى بمكامن العاطفة والتفكير ، حيث قصة (الإمبراطورية الأخيرة ) ولذة المزج بأزمنة الحكاية وحبكة الرصف البنائي للقصة والإبحار الممتع مابين الحياة تحت الأرض وظاهرها ،حتى تصطدم بنص داخلي[وفي احد الجمع حضر أباطرة وملوك ورؤساء ورجال دين والبابا ومراسلي شبكات التلفزيون والقنوات الفضائية لنقل بعض الوقائع ففوجئوا بخطبة بليغة من احد التماثيل،اصطك الناس من هول المفاجأة وساد السكون حتى ليسمع صوت الإبرة على التراب..ص75] ومن صورة مشابهة للحاكم الذي هدم أركان خاصة في شخصية الفرد العراقي.[قيل أن الإمبراطور أدركه المرض وعندما وافته المنية جردوه من ثيابه وقذفوه إلى الأعلى ليستقر على الأرض مخلفاً إمبراطورية من ندم..ص77] وشح القاص قصصه بمفارقات السخرية عن طريق التهكم والإستهزاء لزيف الوعود والعهود أما عن واقع حال لعالم بانت شروخ المادة على تعامله الحياتي أو على مستوى عالمه السياسي ، مما جعل للتناص أن يؤدي وظيفة المعادل الموضوعي في المجموعة ، كما إن الجنس برز بصورة واضحة بأغلب قصصها ،إضافة إلى ما أوجده من تعارضاً بين اللغة الأدبية واللغة العملية بعالمه التخيلي والواقع الذي يعيشه ، وزود نصوصه بمفارقات استرجاعية أعتمد بها على عامل الزمان الخفي بأغلب قصصه القصيرة جدا ، ففي [الرئيس ، رأس حتى….مزاد علني] أجمل الوخزات السريعة الموحية كعلامات تذكيرية بأن السياسة مفسدة لأجمل تكوين من الخلق ولأنقل للقارئ الكريم قصة (الرأس)[منذ زمن بعيد كانت الأمنية تراوده ، أن يضع رأسه في راحة كفه وينهال عليه بالضرب لنزع الاعتراف ، عندما تحققت الأمنية وشاهد رأسه متورما على راحة يده صرخ بأعلى صوته انه لا يشبهني ونسي أن يعيده إلى مكانه دون العبث بمحتوياته..ص88] بقي للبيضاني وصية أشبه بنصيحة لعمل الخير ان كل ما تملك لن يحضرك يوم الحساب حتى لو كتبوا على كفنك سورة يوسف وسورة يس ودعاء العديلة ،مالم تقدم بقبولهن لأنك تحشر عارياً. أعلم بأني لم أستطع إيفاء الكاتب الكبير والقلب الرحب حقه ، لقلة خبرتي وصغر حجم مركبي في هذا اليم المتلاطم الذي ينحني إليه الأفق وتنكسر به اضواء الكواكب .