يا الله.. تعذبني رائحة التفاح.. ما زالت تعذبني.. تذكرني دائما, بأن اكره جدتي مرة اخرى!
كانت الغرفة المغلقة النوافذ, عبقة جدا برائحة التفاح.. وكأن الكون كله واقع تحت غواية حزن التفاح.
اسمع صوتها.. من غيرها, جدتي طبعا, وهي ترص كتاكيت خالتي, , غسان وسلوى, تحشرهما بمطبخها المظلم, حيث كنت انال عقوبتي منها بصمت, تهمس فيهم: كلوا بسرعة.. لا داعي ان تعرف تلك البومة, اني اطعمتكم التفاح اليوم, فتطالب بحصتها مثلكم!
وكنت اسمع صوت خدش اسنانهم فوق حبات التفاح, وأشم رائحته تفوح مثل غمامة تدوخني وهي تخرج من المطبخ.. هذه ليست جدة.. سأضربها على ظهرها حين اكبر.!
::::::::::::::::::::
قال زوج خالتي: اسمعي هيفاء, سخني المياه قليلا, فأصابع الطفلة تتجمد تحت صقيع الماء البارد.. مياه الشتاء ستكسر اصابعها يا روحي, والله خطية !
لاتهتم..” سمعتُها ترد عليه” والاحسن ان لاتتدخل حبيبي.. كما انه ليس هناك كثير من الصحون .. فقط صحون العشاء.. وانا متعبة اريد النوم.. دعها تحلل لقمتها في بيتي!
في المدرسة, قبل تحية العلم, اجلس قريبا من منقلة ” الفراشة” ام حسين.. تدخن سيجارتها كلما ادارت المديرة لها ظهرها.. وتنفث دخانها بعيدا, وتطرد فضيحتها بكلتا يديها, وصوت المديرة يأتي من داخل غرفته الادارة: ترة داشم الريحة ام حسين !
دائما الروائح تفضح الخطايا.. !
أضع كفاي بحضن النار , بوسط لهيبها الصغير لاتدفأ, قريبا جدا من فم النار لعل اصابعي تشبع منها وتحتفظ بها, لتكف عن الارتجاف.. فأزرار صدريتي مقطعة تكشف عن عمودي الفقري,جدتي لا ترى جيدا لتخيطها لي, وخالتي تدفعني عنها كلما طلبت منها خياطة ازرارها, وانا لا اعرف كيف اثبتها. ربتت ام حسين على ظهري وهي تقول: يمة اشكد ضعيفة انتي .. البسي بلوز الجو بارد.
قلت لها: ما عندي!
جرتني نحو الادارة, وانا ارتجف من البرد, والخوف.. طرقت الباب موجهة قولها للمديرة التي التفت الينا: ست.. هاي البنية فقيرة نريد نسجلها بمعونة الشتاء !
سألتني المديرة: اين والدك؟ صوتي اكثر نحولا مني وخائفا مثلي: ما ادري ست.
امك تشتغل بالحكومة.. ؟ والله ست ما ادري.. ما شفت امي منذ اعوام.. انا لا اعيش معها.. يمكن ماتت !
قالت مديرتي: مع من تعيشين؟
مع جدتي وبيت خالتي ست. كدت اقول لها ان جدتي تطعم ابناء خالتي التفاح.. وخالتي توقظني منذ الفجر لاغسل صحون العشاء بالماء البارد.. وترفض خياطة ازرار صدريتي.. لكني سكتّ.
جرتني المديرة من يدي وكنت اختض, وجرس الدرس يرن .. مَدَتْ يدها لضفيرتي .. مسحت رأسي.. الله.. مسحت رأسي.. ثم قالت: طيب, سنسجل اسمك بطلبات معونة الشتاء.. امض لصفك الان.
ركضت بكل طاقتي والهواء يجرح وجهي.. قبل ان ادخل الصف طرقت الباب بقوة وصوت المعلمة يصرخ بي: اين كنتِ؟ ونلت صفعة على خدي قبل ان..
هذه ايضا سأتذكر ان اكرهها , لا احد من الكبار يعرف كم تؤلم صفعة صباحية على خد بارد!
::::::::::::::::::::
قالت معلمة العربي,: طلعوا دفاتر الانشاء.
ودفتر انشائي نحيل مثلي وعارٍ. خطت المعلمة على السبورة, اكتب في واحد من المواضيع التالية: مدرستي احبها. رحلة مدرسية في فصل الربيع. او ما تراه مناسبا من المواضيع.
طبعا انا لن اكتب عن مدرستي, كما أني لا اعرف شيئا عن رحلة مدرسية, فاخترت كتابة” ما تراه مناسبا من مواضيع”.
نادتني المعلمة في الفرصة الطويلة, وهي فسحة وقت يأكل الطلاب فيها اشياء كثيرة يحضرونها من بيوتهم, ويلعبون, ويصرخون, وانا لا اجد فيها ما افعله, سوى ان افكر ماذا اكل باسم, من الصف الخامس, وماذا يوجد في كيس لمياء” واحسدهم طبعا. في الفرصة الطويلة, دائما افكر اني جائعة وبردانة, ومنقلة ام حسين داخل غرفتة الادارة, وممنوع علينا دخولها.
كان صوت معلمة العربي, غاضبا وهي تشير لدفتري النحيل مثلي, ويرتجف كلما مرت به ” شوية” ريح.. ربما العالم كله يرتجف امام عصا المعلم: ما هذا؟
قلت: دفتري ست.
عرفت أني سأنال عقوبة, فهو لم يكن مجلدا, رفضت خالتي اعطائي ثمن شراء ورق لتجليده.
اعرف انه دفتر الانشاء, ولكن, ماذا كتبتي به؟ قلت موضوع الانشاء ست.
قالت: ماما , انت مجنونة؟؟
لا,ست.
تعالي وأقرأي امامي ما كتبتي.. ثم نظرت نحو المعلمات. كنت أرتعش مثل الارنب الذي ركض فوق الثلج بالغابة في فلم الاطفال ليوم البارحة, يلاحقه بوزالثعلب.. المعلمات كن ساكتات ينظرن اليّ.. فقلت , وكنت سأبكي وارتعش: حاضر ست.
” اكتب ما تراه مناسبا من مواضيع”
انا اكره جدتي.. والله العظيم سأضربها على ظهرها حين اكبر .. لانها لاتعطيني ” لفة” ولا تسمح لي بأن اكل تفاحة مثل اولاد خالتي, وهي تحبهم جدا وتبوس رؤوسهم لكنها تضربني.. وترفض ان اجلس مع ” الخطار” لاني ” كما تقول هي” افشلهم دائما , فأشرب قنينة الببسي على اخرها, فتسميني جوعية ! ولا تتركني اجلس معهم قريبا من المدفأة.
جدتي لاتحبني, وانا اكرهها. البارحة امرتني حمل سلة الازبال الكبيرة, وقالت ارميها بالحاوية. السلة ثقيلة وحاوية الازبال عالية, وانا نحيلة, جررتها وحدي ساعدني احمد صديق ابن خالتي, وضعت حجرين فوق بعضهما لاصل فتحتها , وحين رفعت السلة سقطت الازبال فوق رأسي وثيابي: قشور البيض, والطعام المتعفن, واوساخ البيت, وفوط خالتي الصحية, وايضا قشور التفاح, فزوج خالتي يقشر التفاح قبل اكله.. وللتفاح نفس الرائحة حتى في قشوره.. وحتى حين يكون ازبال تبقى رائحت حلوة و تفوح.
عدت باكية للمنزل وكأني سلة ازبال.. ضحك مني اولاد الحي والبنات ضحكن ايضا. ضربتني جدتي لاني لوثت ثيابي, وقالت: يا بومة .. تبقين ثولة !
جدتي تعضني, رغم انها لاتملك اسنان كافية لعضي, فتحمر ذراعي فيهزا مني ابناء خالتي .. هؤلاء ايضا لااحبهم.
اكملت القراءة.. وبكيت . اظن اني اقترفت خطأ كان يجب ان اكتب عن مدرستي افضل..
هكذا فكرت.
لكن المعلمة فتحت حقيبتها, وسحبت منديلا منها, وقالت: خذي.. امسحي انفكَ.
هذه المرة الاولى التي تعطيني فيها منديلا. َنظَرتْ في وجهي.. وانا اقف قبالتها لا ادري ماذا يمكن ان افعل, ولم اكن اعرف ماذا ستفعل بي والمعلمات ايضا, كن ساكتات خلفي. رأيت دموعي فوق دفتر انشائي. قالت معلمتي بهدوء: روحي للصف بنتي.
فمشيت. لم اصدق انها لم تضربني رغم ان دفتري كان بغير غلاف للتجليد.
:::::::::::::::::::
قصت خالتي ضفيرتي صارخة بغضب: ما بقي علينا الا القمل.. يا ثولة, يا قذرة, الا تعرفين معنى الاستحمام, وقد اصبحت بحجم الجحش!
لم ينفعني ان اقول لها: ولكن المياه دائما باردة خالتي, جدتي لا تقبل ان اغتسل مثلهم بالماء الساخن. واشرت لابناء خالتي. وهي لاتسمح استعمال الشامبو ايضا.
اغسليه بالصابون يا قذرة. ونادت غاضبة على جدتي: تعالي يا امي لنضع على رأسها قليلا من النفط.. هذه المقملة القذرة,, ماذا فعلت يا ربي لابتلي بها. وشدتني من شعري بقسوة فصحت من آلمي: لج آخ يمة.
صبتا على رأسي قدر استطاعتهن نفطا , لم اكن اعرف ان النفط يحرق بدون نار فجمجتي تأز, واحرقتا ضفيرتي بزاوية الحديقة, كان شعري يلتهب متلويا وسط النار وضفيرتي تصرخ برائحة كريهة .. ربما بسبب القمل!
بقيت لاكثر من اسبوع مثار سخرية بالمدرسة.. ولم اكن اسمع سوى كلمة واحدة: مقملة !
تمنيت لو عندي اختا. كنت سألعب معها واحبها مثل اختي.. وأسرق لها من مطبخ جدتي تفاحة نتقاسمها.. وسأقص لها حكاية. سأدعو لربي كل يوم قبل النوم: يا ربي الله يخليك أعطيني اختي !
الساحة كبيرة, وفيها شجرة وحيدة وعالية, اقف تحتها واراقب هؤلاء الذين يلعبون.. جميل ان الشجرة مثلي لا تلعب.
::::::::::::::::::::::::::::::
حصتي من الضرب كانت عنيفة حين حملت معونتي الشتوية للبيت كنت فرحة بها, حذاء اسود يشبه الحذاء المرسوم بكتاب القراءة الخلدونية, وصدرية صوفية” تخبل” وجاكيت ازرق.
كنت اسمع صوت خالتي وهي تكاد تجن: لكم هاي فضحتنا بين العالم والناس ! معقولة يعني.. تاخذ اعانات مدرسية..؟ وركضت لتشرب كاس ماء ولم تنتبه لي وانا اقول لها بدون صوت : بس اني يا خالة.. على طول بردانة!
أشتكتني خالتي لزوجها عند عودته من العمل. دخل مسرعا مع حقيبته الجلدية المليئة بالاوراق, وكنت اكنس الحديقة, فجلست تحت شجرة النارنج المُ بقايا اوراقها المتساقطة, ترمقني خالتي بغضب, لم ينتبه زوجها حتى اللحظة لشعري, فحاذاني وهو يسألني: ماذا فعلتِ بشعرك؟ ورفع يده ليضعها على رأسي, لكن صوت خالتي كان اقرب اليه يحذره: اتركها.. لاتضع يدك على رأسها, فهي مقملة, والان متسولة ايضا!
قلب عمي شفته ودخل البيت وهو يهز رأسه, ولم اعرف لماذا هزه, سيركض نحوه غسان المدلل فيحمله على ظهره, ويبوس سلوى.. وسيكرهني هو الاخر. اخر مرة رأيت فيها ابي كنت اقف عند أعلى الدرج وتحَجرتْ ولم انزل اليه, نظر بوجهي صامتا , وصامتا هز رأسه وتركني ” وجان هماتين ابجي”, لو ان زوج خالتي هو ابي, هل كان سيضربني ؟ زوج خالتي يقبلهم كل يوم, اعتقد انه سيُقبلني أيضا لو كنت بدل سلوى لاني أشطر منها, واغسل الصحون ولا اكسرها وانظف الحديقة التي يحبها, وما كان ليضحك مني لاني مقملة .. وكنت سأرجوه ليحملني لمرة واحدة .. واحدة فقط على ظهره!
كنت اجلس تماما امام كومة اوراق النارنج الذابلة.. اراقب قطة مقطوعة الذَنبُ ووحيدة , تقف محتمية
خلف شجرة الاس .. قطة سأشارك بها اختي, لما تجي من عند الله!
:::::::::::::::::::::::::::::::
حملت خالتي ثياب المعونة للمدرسة, ودخلت غاضبة لغرفة المديرة, قالت وهي ترمقني بنظرة تأكلني بها اكلا: نحن لسنا فقراء لنستلم معونة شتوية منكم.
هزت المديرة رأسها وأجابت: اكسوها اذن!
كنت اقف قرب الباب.. لم تخرج خالتي من الادارة الا بعد ان دوى صوت كفها على خدي. لكنهم البسوني بعد ذلك بلوزة ابنها تحت صدريتي, وكانت تحك جلدي كثيرا حتى يحمر.
::::::::::::::
كنت اسمع بربرة الف هر في بطني.. حملت بطانيتي ودخلت زحفا تحت سرير جدتي, وارخيت شرشفها فوقي.. كانت الغرفة معتمة.. سمعتها تسألني : ماذا تفعلين يا بنت؟
فقلت : بردانة يا بيبي..راح اختل من الهوا . نامي انتِ.
وكان الهواء المتسرب من تحت الباب يستدل على فراشي النحيل ويدخل معي تحت بطانيتي” نيالها بيبيتي” لديها بطانيتين. لماذا ترقص عظامنا وتقرقر مثل بطن الجائع حينما نبرد؟
اريد ان انام بسرعة.. لاني سافتح عيني على الصباح, والصباح يعني فطورا ويعني شاي ومدفأة.. اغمض عيني بقوة.. اقتربت مني الهرة المقطوعة الذنب.. اجفلت لملمسها الناعم, لكني بعد لحظة واحدة شعرت بها كمدفأة قرب قدمي, فنمت.
سننام كل يوم معا.. ونتدفأ.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
اغلقت نجوى دفترها الاسود, وعلى صفحته الاولى والقديمة, كَتَبَتْ” دفتري”.. ثم اسمها. وضعته بحجرها.. واطلقت تنهيدة طويلة.. وقفت امام المرآة ونظرت مطولا في عينيها.. في عمق المرآة تقف الى جانبها, غمامة طفلة صغيرة, تبدو عينيها وسط وجهها الناحل اكثر أتساعا من حقيقتهما, مقطوعة الشعر كذيل هرها القديم, سحبت الطفلة الغمامة طرف قميص نوم نجوى واخفت خلفه وجهها.. مضت نجوى نحو سريرها, و مدت يدها نحو الطفلة وهمست: تعالي , حبيبتي سننام.
رفعت دثار فراشها الثقيل, ودست دفترها الاسود تحت وسادتها.. جلست لبرهة في وسط سريرها وهي تفكر, مطيلة النظر نحو صحن ممتليء بالتفاح.. شدت انفاسا عميقة لرئتيها.. يالعطر التفاح أنه يُذكرني دائما…..!؟
استدارت نحو الجدار.. استلقت تحت الغطاء يلتف حول كتفيها شعرها الطويل الاسود, كأنه ذراعان, وقبل ان تاخذها سنن نومها تساءلت متنهدة : اتراني بعد كل هذا الزمن ما زلت اتذكر ان…..؟
تكورت حول نفسها كتلك الطفلة التي كانتها.. ثم نامت.
قصة جميلة متماسكة البناء وثيمتها عميقة ولغتها صافية فرحت بها جدا وأعمدها ككاتبة أنتظر منها الكثير
ليتها تكون روايه .نحتاج لتفاصيل لنشبع ..رسمتي البؤس بوضوح
السيد سلام ابراهيم اشكر لك مرورك الكريم ورأيك الجميل الذي اسعدني جدا.
السيدة جمانة, تحياتي لك وومتنة لتعليقك الرائع.
تقديري لكم
كم يحاصرني الدمع الثقيل كلما مررت بعباد الشمس وهو راكع عند المساء ، إنه يقول بلا شكك هكذا هو حال اليتيم دائماً ، إنه تائه بلا دليل وغائم بلا مطر ، إنه هو !!
تخلدين يا ذكرى إلى مثل هذه الأيام التي هي حري بنا أن نتذكرها ونرسمها بين شغاف قلوبنا !
أحسنت في نصويرك هذه المعانات ، ما أجمل أن يصور الأنسان لواعجه ولواعج الأيام والسنين الغابرة في باكورة أعماله الخالدة ، دمت مبدعة إلى الأبد !!
الشاعر
عبدالزهرة لازم شباري
الشاعر عبد الزهرة لازم شبارة, تعليقك الكريم على قصتي هو بمثابة قصيدة جميلة طربت لها روحي. ممتنة لك ولكريم مرورك
While I was reading, what have written, I remember: winter days following when we were children. The same feeling, same suffering, and the same pain I do not what are these hot things run like a flood from my eyes while I continue reading your short and powerful words
ذكرى محمد نادر المبدعة العراقية الكبيرة ….بهدوء تدخلك لجة اجواءها التي تفترضها عوالما لشخصيات تنوء بالمواجع وترسم ملامحها بدقة لتقيم طويلا في مخيلة المتلقي…انها تقدم اختزالا لسيرة الوجع في متن حكائي يشدك اليه حد الخوف منه لفرط ما يلفك بنسيجه المحكم…انها قدرة النفاذ الى البعيد باسلوب شيق ومفردة رشيقة مشبعة الدلالة وتكثيف صوري ثر…كل المحبة وفيض الاحترام الكبيرة ذكرى محمد نادر
العزيز باسم عبد الكريم: مساء الورد اسعدني ان قصتي راقت لذائقتك رغم الدموع التي سببتها لك, ولكنها دموعا تطمنني على اني ما زلت قيد التأثير في الكتابة! تقديري ومودتي
المبدع الكبير فيصل جواد: مساء الورد لطيب روحك. حينما تأتي كلمة بحق اي نص ابداعي من مبدع مثلك فأني اتوقف امامها مليا, ليس فقط لسعادتي بها, وانما لما تحملني بها من مسؤولية عالية. فأن ذائقة مبدع مثلك ليس من السهل ارضاؤها! مودتي دائمة.