.. لكننا وبشىء من دقة النظر التحليلية نستطيع التفريق بين غطاء القدرية والذي وصفه أرسطو بـ (السقطة أو الهامارتيا) وهو يحلّل تراجيديا البطل في كتاب “الشعر”، بل أن روح مصير البطل تبرد بالنهايات السعيدة والمسارات المتماسكة والمتصاعدة التي تأتي بلا انكسارات حاسمة . ولم تكن لحسن/ هوبي سقطته الكبرى . ولكن سلسلة تراكمات لأخطاء صغيرة بعضها غير محسوس بقوة، جعلته يعيش مناخ “السقطة” الكبرى ومضاعفاتها. وهي في حقيقتها مجموعة خصائص شخصية تذكّرنا بما يترسخ في الذهن عن مسيرة الأبطال التراجيديين الذين “لو لم يكونوا يستحقون ما يحصل لهم من مصائر” لما حصلت لهم تلك اللعنات التي يأتي بعضها قاصما . ولعل أول هذه السمات هو ما يمكن أن نعبّر عنه بمعضلة (لماذا … لم ؟) ؛ أي الوقوف المتأخّر ، وبعد أن ينزل الفأس في الرأس كما يقول التعبير العامي بدقّة ، لتأنيب الذات : (لماذا لم أتخذ القرار الفلاني في ذلك الموقف ؟) أو (لماذا لم أنتبه إلى ذلك المؤشر الخطير في تلك الحادثة ؟) و (لماذا لم أقل تلك الكلمة الحاسمة في تلك المحادثة ؟ ) … إلخ .. وتأتي كل التساؤلات هذه عادة ، بعد “خراب البصرة” .
إن الكثير من أفعالنا التي تبدو “قدرية” الطابع وكنها لعنات مصبوبة من الخارج على مسارات حيواتنا هي في الواقع مصائد تنضجها بهدوء أنامل الدوافع المازوخية / تدمير الذات البارعة والماكرة التي تشتغل في ظلمات لاشعورنا . لقد كان هوبي يشاهد الكيفية التي يتحول فيها مقهاه إلى وكر للشيوعيين ، وكيف “جنّدوا” إبنه الحبيب إبراهيم لإداء بعض المهمات أمام عينيه. وهل يُعقل أن صندوقي سلاح يتم إدخالهما إلى المقهى ويحفظان تحت التخوت من دون أن يعرف ذلك؟ ألم ينظر يوما تحت تخوت مقهاه ؟
وقد تمّ إلقاء القبض على العريف أكبر بعد يوم من انقلاب الثامن من شباط وقرر اصدقاؤه ومنهم هوبي مساعدة عائلته فجمعوا مبلغا قدموه لزوجته. أليست سذاجة كبرى أن يأخذ هؤلاء الأصدقاء قائمة باسمائهم ويسلمونها إلى أكبر وهو في السجن السياسي؟ هل هو في عرس أم مأتم/ فاتحة لنقدم له اسماء من قاموا بالواجب؟ في الظاهر قاموا بمبادرة اجتماعية حميدة، وفي الباطن كانوا يرسمون خرابهم الشخصي مع سلطة دموية لا تعرف الرحمة.
ما يهمنا هنا هو أن هوبي استعصى عليه فهم معنى مصطلح “القدرية” وفسّره له شكيب بأنها مثل حكايات الأمهات عن الجنّي والسعلوة لكي يقارب عقليته البسيطة . وبرغم أننا لا نتفق مع تشبيه التراجيديات اليونانية بخرافات الأمهات إلا أن الأشد إلحاحا هو أن ندع القارىء يستمع لهذا الحديث الذي جرى بين هوبي والمدرس حسين بعد ذلك بمدة :
(- رائحة الزنازين تفوح من جسدي رغم أني أغتسل يوميا..
قال حسين وهو يدس غليونا صغيرا في فمه: “هوبي إنها أيام خاصة ؛ أيام ملوّنة بأحداث كبيرة، وسوف تترك الكثير من الذكريات التي تتشابه في وقعها على الجميع. وفي الأغلب، أنها لا تشبه رائحة السجن أو الزنزانة التي تتوهمها يا هوبي. صحيح أنها روائح التصقت بك لاقترانها بصور. صورك وأنت في حيرتك وصورك وأنت تتجاوز ببطء الأحداث التي تحيطك.
– إنها رائحة لم أفلح في التخلّص منها يا حسين
– رائحة ماذا؟ ما هذه الرائحة التي نزعم أنها تحيطنا وتحيل أيامنا إلى علامات ونقاط متباعدة تشبه بعضها. هل يعني هذا أنها خاصّة ؟ أي أنها تخصصت بشيء لا علاقة له بالمرور العادي والروتيني للأيام في تواليها ومرورها دونما أن تترك أثرا يميزها عن غيرها .
حينها أدرك أني بدأت أطير في الهواء وأنا لا أفهم ما يريد أن يقوله أستاذ حسين هذا كما كان يفعل شكيب من قبل وبعده سامر. فيواصل وأنا أهز رأسي :
– الرائحة شيء يتغلغل إلى هنا (وأشار بيده ناحية صدره) . إنها موجودة هناك. طالما هناك شيء ما يمتصها؛ شيء نداعبه فيصدر صوتا ، إذ لم يداعب أيامنا أحد. فهي خرساء. أجل. خرساء تماما.
فأهز رأسي علامة الإيجاب وأطلق صوتا مستغربا:
– خرساء لماذا ؟
– هكذا عزفت الطبيعة أنشودتها الخالدة لكي تتجنب صفة الخرس والإنقطاع التام عن الناس والأشياء التي نعرفها نتقنها ونحن نغوص فيها، فتتحول الأيام إلى علامات ونحن نعيش أيامنا”
يمسكني من يدي وأنا لا أعرف ماذا اقول :
“قد يستدرجنا هذا التحوّل الحزين والمرعب لتوالي الأيام والروائح وهي تنام فينا وكذلك تكبر معنا كل يوم . ربّما ترتدي اشكال جديدة لكنها تبقى تحمل ألقها ذاته.. لونها وعنفوانها في حركة تصاعدية – ص 136 و137).
وسأتحدث عن نفسي للقارىء أولا وللكاتب ثانيا ، وألتمس منهما العذر . لقد قرأت هذا المقطع أكثر من خمس مرات، وفي كل مرة كنت أنفق وقتا أطول من المرة السابقة اقلّب المفردات والجمل والعبارات لكي أصل إلى المعنى الذي يقصده الأستاذ حسين من مصطلح “الرائحة” هذا فلم افلح . فكيف سيفهمها هوبي الجندي البسيط المطرود حاليا ، والمهرّب والفلاح الأبسط سابقا. لقد عُرف عن مثقفي الحزب الشيوعي تلك القدرة الباهرة على اختيار لغة خطاب تناسب مخاطبيهم ومستوياتهم .. وعلى تبسيط أعقد الأفكار . فما الذي حصل للاستاذ حسين لكي يدوّخ هوبي بهذه اللغة الشعرية السريالية ؟ وما الذي فهمه هوبي لكي يتمسك بفكر الاستاذ حسين ؟ صحيح أن هوبي قال لنا بأنه لم يستطع فهم ما قاله حسين ، ولكن من يحدّثنا عن معاناته من “رائحة” الزنازين بهذه الطريقة الشعرية سيكون مبالغا إذا زعم أنه لم يفهم معاني الروائح الأخرى.
# شعريّة الصراع بين الأب والإبن :
وتقف الدوافع نفسها مختلطة مع دوافع أخرى سنتعرض لها قريبا في إرباك الثيمة الأساسية في الرواية. فالرواية تقوم في جانبها المركزي على الصراع المتصاعد والذي لا يهدأ بين الاب (حسن كنيهر) أو (هوبي عبد الرزاق) لاحقا ، وإبنه البكر إبراهيم. فمنذ البداية يعرض لنا الكاتب طبيعة العلاقة الصراعية المتوترة بينهما. وبعد أن يلاحق القارىء المواقف الفعلية بين الطرفين والذكريات المشحونة المستدعاة من قبل الأب والإبن حول سجن الأب وتركه لعائلته، ولإحباطات الإبن، سيشعر أن الملاحظة التي طرحها الأب في بداية الرواية عن موقف إبنه السلبي فيها قدر كبير من المصداقية :
(لم أكن مجرما، لكني لا أعلم لماذا يكرهني بهذا القدر. ربّما أكون مخطئا لانني لا أجد مبررا لهذه الكراهية التي أراها تتحرّك وتنبعث من جسده كرائحة حادة. أراها كامنة بوضوح في عينيه وهما تتسمران في وجهي وأنا أقرّعه على تأخّره. يحدث هذا كل يوم حينما يصل آخر الليل وهو “سكران” – ص 10).
والإبن إبراهيم يقرّ بمظلوميّة الأب في أكثر من موضع حيث يقول : (تركنا هوبي في السجن. كان هذا الشرخ الأول في رحلتنا. لم يكن (هوبي عبد الرزاق) مجرما حتى يحدث ما حدث له – ص 10).
والأب يخبرنا أنه يمكن ألا ينزل ويفتح الباب لإبراهيم ويترك الأم نجمة تقوم بذلك. لكنه كما يظهر لا يستطيع إلا أن يعيد مشهد الخلاف والإنفعال كل ليلة. والأب لا يتردد وفي أكثر من موقف في إعلان حبه لإبنه. فما هو السبب ؟
بالنسبة للأب فإنه يعتقد أن مصدر موقف إبنه السلبي يعود إلى سجنه الأول الذي استمر لمدة سنة. فهو يرى أن إبراهيم قد تاه خلالها. وكانت اللحظة الفاصلة هي زيارة المواجهة الأخيرة التي جاء فيها إبراهيم بمفرده ومن دون أمّه كما هو معتاد. كان الطفل إبراهيم هلعا. يصف الأب لحظات اللقاء الموجعة تلك :
(المنظر أصابني بحزن شديد ، وبقيت هذه الصورة عالقة في ذهني إلى يومنا هذا، يومها احتضنته بقوة وسحبته إلى زاوية في الممر، عانقته بحرارة غريبة، وأنا أبكي بحرقة – ص 11).
وخلال هذه اللحظات المؤلمة يعقد الأب والإبن – كما يقول الأب – اتفاقا غير معلن “غريبا” يوضحه بنفسه :
(كانت لحظة بكائي حدّا فاصلا بيني وبينه، إذ عقدنا عبر هلعنا وحزننا اتفاقا سرّيا لم نعلنه إلى يومنا هذا، أن نحب بعضنا أو نكره بعضنا. نمارس هذه العواطف الحادة دون أن ننسى عفونة وعتمة ذلك الممر المعتم لأحد سجون كركوك أو (المدينة الحجرية) كما يسمّيها- ص 11 و12).
وهو تبرير “شعري” أكثر منه عملي وإجرائي ، ولا يمكن أن يكون الإبن الطفل طرفا في الشعور به آنذاك. ثم يكشف لنا الأب الكيفية التي عمل كلاهما – هو وإبنه – على تأجيج جمرة هذا الصراع وعدم السماح لجذوتها بأن تخفت :
(يجب أن تبقى تلك المشاعر تحمل رائحة الدموع التي ذرفناها يومها، وحقا لم نطعن بهذا الإتفاق. بالنسبة لي كنت أنتهز أي فرصة تتاح لكي أقترب منه؛ أي سبب حتى إذا كان ذلك التقريع المبطن آخر الليل. وكان هو ملتزما تماما باتفاقنا. يكتفي بالنظر في وجهي كأنه يتابع خط الدموع الذي حفر علاماته على وجهي وأنا أبكي في الممر – ص 12).
ويمكن أن نفهم سرّ العداء المغلّف بأشكال شتى للعدوان الأوديبي الذي يختزن عادة في أعماق الإبن ضد الأب عادة وهي تتضمن تضادا وجدانيا – ambivalence تتصارع فيه المشاعر السلبية والإيجابية في وجدان الإبن. لكننا نقف هنا تجاه صراع “مكتسب” في مرحلة لاحقة من نمو الولد وبفعل ظروف خارجية (الحرمان الذي سببه السجن) وبـ “اتفاق” بين طرفي الصراع . لكن دعونا نمضي مع الأب وهو يحاول تبرير هذا الصراع الذي دام حياة كاملة :
(وفي كلّ مرة أقترب منه أشم تلك الرائحة؛ رائحة الهجرة والبقاء وحيدا خلف زنزانات حديدية تطلق في إغلاقها وفتحها أصواتا مرعبة، وكلما اقتربت منه كنت اشمّ رائحة الشهب الكثيرة التي تساقطت وهي تُفصح عمّا كنا نحمله لبعضنا من عاطفة.. أشياء لها علاقة بنوافذ مسلحة بالفولاذ وهي تضخ الضوء ثم تدفعه عبر العتمة العفنة لممرات السجن – ص 12).
إن الأب الأمي البسيط ذا المنحدر الفلاحي والذي علّمه “شكيب” الدروس الأولى في القراءة والكتابة في الفندق ثم انقطعا بسبب إلقاء القبض على حسن بعد اكتشاف تهريبه للآلىء ، لا يمكن – وهو يبكي مع طفله في ممر السجن المغلق الخانق – أن يشعر بشهب أو يراها تتساقط من السماء لتشاركهما لوعة المحنة التي يتقلبان على جمرها. وفوق ذلك فإن الأب كان يشم رائحة تلك الشهب التي لم نعرف عبر تاريخ العلم أن لها رائحة يستطيع الإنسان شمّها. فالسرعة الخارقة التي ينطلق بها الشهاب والبعد الخارق لا يتيح لأي فرد شم رائحتها. لكن هذا الوصف “الأسطوري” وهذه الشهب المنفعلة ورائحتها، يكون ممكنا فقط عندما يكون الأب شاعرا وهذا ما لا يتيحه له مستواه التعليمي والثقافي والاجتماعي. وهنا لا نستطيع سوى أن نمسك بحضور الكاتب الفعلي الذي يتمظهر كلما تفارق الإداء الحواري أو الوصفي أو الفكري أو التأملي مع طبيعة مكونات الشخصية المعنية. وهذه واحدة من النتائج السلبية للإستخدام المفرط للشعر في الرواية . أقول المفرط لأن جرعات محسوبة ودقيقة التوقيت من اللغة الشعرية ضرورية لأي عمل سردي.
وأعود للقول أن سجن الأب الأول لمدة سنة (في سجن كركوك ثم في سجن العمارة) كان ظلما ، ولم يكن له ذنب فيه سوى الموقف الإنساني الرائع الذي اتخذه حين جمع وأصدقاؤه في الوحدة العسكرية مبلغا من المال (ربع دينار من كل جندي) لمساعدة أحد اصدقائهم الجنود الذي ألقي القبض عليه بتهمة الإنتماء للحزب الشيوعي، وكان يحمل قائمة الأسماء في جيبه فتم إلقاء القبض على الجميع بالتهمة نفسها : الشيوعية ! لقد ذاق عذابا شديدا خلال تلك السنة كما يقول برغم أن الكاتب لم يعرض علينا اي مشهد للتعذيب عدا إجراءات السجن القسرية المعروفة. فما هو ذنبه ؟ وهل يحق لأحد أن يحمّله مسؤولية هجران عائلته : زوجته نجمة وطفله إبراهيم ومعاناتهما التي ترتبت على ذلك ؟ بطبيعة الحال تحصل مثل هذه النقمة “الغير مبررة” في نفس الطفل فهو غير قادر على المحاكمات العقلية المتوازنة. ولكن عندما يصبح الشخص راشدا ومثقفا (شاعر وعازف ورسام وكاتب مقالات كما كان حال إبراهيم) وفائق الوعي ومنخرطا في العمل السياسي فإن من المفروض أن يدرك حقيقة الأمور ومسببات الوقائع الحقيقية بكون الأب ضحيّة بريئة لا يد لها في ما حصل ابدا. فكيف إذا كان الإبن نفسه يعلن أكثر من مرّة عن أن أباه كان ضحية مسكينة ؟! ومع ذلك يستمر الصراع بين الطرفين لضرورات لا يمكن تفسيرها إلا على اساس أنها ضرورات سردية شعرية لتأجيج المكوّن الإنفعالي من الحكاية .
# شعريّة المكان :
والحماسة الشعرية نفسها كانت الدافع الأساس وراء تضخيم حضور المكان وفعله وأبعاده النفسية والرمزية بل حتى الجغرافية. ففي بداية الرواية (الصفحة الثامنة إخراجيا والرابعة فعليا)، وحين يسأل سلام إبراهيم عن مصدر كلماته الجميلة وسحرها، وهل هي من الكتب الكثيرة المبعثرة حول سريره ، يجيبه الأخير بالقول :
(كلا. بل وصلتني بتدفّق غريب من أرانجا، مدينة الحيوات، مدينة الضجيج اللامتناهي، مدينة لا علاقة لها بالأشياء رغم أنها مدينة كل الأشياء. مدينة الحجر والماء. قيل أن اسمها الأقدم أريج أو أرابخا أو ليلاني أو كي هرك أو كاركوك. عزيزي سلام: في كل مدينة جديدة أدخلها، لا تبرح مدينتنا الحجرية . إنها دائما معي. ترافقني في كل مكان ذهب إليه. أراها في كل المدن. فهي أنا وهي هوبي ونجمة. الينبوع العميق والبارد الذي أرتشف منه عذوبة لا حدود لها. كنت أعقد الكثير من المقارنات بين المدن التي أزورها وبين المدينة الحجرية التي ما زالت رائحتها عالقة في جسدي. رائحة الحقول الخضر والحدائق المليئة بالروائح النفاذة التي تمتصها الجدران والوجوه. رائحة نهر (الخاصة) والطين الأحمر الذي يرسم أشكالا ومنحنيات ترافق النهر وهو يخترق مدينة الحجر والحصى الملون ؛ حصى خاص بألوان وأشكال مختلفة يهبط من السماء تحمله الملائكة طوال الأيام. وإذ أقترب من ضفاف النهر الصغير أنتقي كل حصاة جديدة جلبتها الملائكة. أعرفها.. وتعرفني – ص 9).
ولكي نفرغ من الملاحظة المكررة نقول إن هذا الحديث لا يمكن أن يفقهه طفل منغولي أبدا ولا تشفع لذلك اي ذريعة سردية فنية أو جمالية.
وإبراهيم عاش في كركوك جزءا من طفولته في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات . وفي ذلك العقد (الستينيات) كانت كركوك عبارة عن شارعين رئيسيين وهي أشبه بمحلة صغيرة نظيفة. فكيف اصبحت (مدينة الضجيج اللامتناهي). وقد عشت فيها أنا أكثر من خمس سنوات في التسعينيات ولم تكن مدينة ضجيج لا متناه. بل كانت بسيطة وهادئة . إن هذا الوصف هو من إرث الروايات الأوروبية – الوجودية خصوصا – التي كانت محقة في الحديث عن صخب المدن الصناعية وضجيجها والغثيان منها. وهذه الموجة لفظت أنفاسها منذ عقود أيضا.
ثم لنتوقف عند هذا الوصف للمدينة: (مدينة لا علاقة لها بالأشياء، رغم أنها مدينة كل الاشياء ). ما هو المقصود بكل الأشياء التي تمتلكها كركوك في الستينيات؟ وما معنى أن لا علاقة لها بالاشياء؟
وقد اشار إبراهيم إلى أن هذه المدينة قد علقت بروحه وذاكرته ووجدانه. ومن الممكن أن تعلق ذكريات هذه المدينة بروحه خصوصا أنها مدينة الطفولة المبكرة ذات الذاكرة البيضاء التي تنطبع عليها الصور والمشاهد والعلاقات بيسر وقوة وعمق. لكن طفولته تقاسمتها أربع مدن هي : ميسان وكركوك (ولادة وطفولة مبكرة)، والبصرة (بعد سجن ابيه أخذه عمّه مع أمّه ليعيشا في بيت خالهما (نعيم) وبغداد. والمدن الأربع يمكن أن تتشارك في التأثير في نفسيته وسلوكه خصوصا بغداد التي كانت الموئل الأخير حيث استقرت العائلة في مدينة الثورة. ولكي تعلق ذكرى مدينة في روح طفل ينبغي أن يكون قد عاش تفصيلاتها بدقة وبهجة ومتعة عالية. إنها المدينة التي سجن فيها أبوه وعانى وأمه فيها من عذاب العوز والوحدة . وهو لم ير منها ما يتيح له أن يسترجع ذكريات تثبت تاثيرها في نفسه. فبالنسبة لنهر الخاصة أو “خاصة صو” – وهو من الأنهار التي تجف صيفا ، وليس له ضباب كثيف – لم يذكره سوى مرة واحدة بعد ذلك (ص 143) وبسرعة. وما شاهده من “مسطحات” مائية هو “بركة” قريبة من دكان البقال ومحطة القطار وحتى انفعاله بالقطارات وحديثه “الرومانسي” عنها. أين اصبحت ؟
وقد ذكر إبراهيم لسلام ايضا أنه كان يقارن كركوك أو أرانجا بالعديد من المدن التي زارها (أراها في كل المدن). لكنه لم يخبرنا عن أي (مدن) زارها سوى دمشق التي مر بها عبورا (ترانزيت) لساعات، وبيروت التي عاش فيها سنتين، وأقام فيها معرضا للرسم في قاعة السيدة روز ماري العراقية التي أحبها من طرف واحد. فعن أي (مدن) يتحدث؟ ومتى زارها ؟
كما أننا لا نمسك بوظيفة لاستعادة الجذر الاسطوري لإسم مدينة كركوك .
ثم هذا “الحصى” الذي ينزل من السماء وتحمله الملائكة !! لا أستطيع التعليق عليه. لكنني أذكر ملاحظة فنية وهي أن كل سطور الحديث السابق الذي وجهه إبراهيم لسلام عن أرانجا كان يجري بلسانه الراشد، ثم إذا به يتحول مباشرة وبلا مقدمات إلى ذكرى جمع الحصى الذي تجلبه الملائكة وهو طفل كما كانت تقول له أمّه، ليدخل صوت سلام يتحدث عن لحظتهما الحاضرة، ليعود صوت إبراهيم الراشد يتحدث عن سجن أبيه ليدخل صوت الأب يتحدث عن سجنه. وأعتقد أن دخول ثلاثة أصوات متعاقبة عبر ثمانية سطور هو أمر مربك وتصدّعي في حين أن لا أحد من شخوص الرواية مصاب بهذا التصدّع. والموقف نفسه يُحكى بصورة مسترخية، ولا حاجة لهذا (التفكّك) السردي. وبعد أن يدخل صوت الأب ويتحدث عن كره إبنه له وخلافاتهما واللقاء الفاصل في السجن ينبثق صوت يسأل:
– هل كان مذعورا ؟
ولم أستطع تحديد مصدر هذا الصوت : هل هو لإبراهيم ؟ هل هو لسلام ؟ وكلاهما لا يصلحان مصدرا لهذا السؤال لأن الأب غير حاضر بينهما!!
ويستمر الأب في تداعياته المؤلمة عن ذلك اللقاء العاصف وإذا بصوت يقطع تلك التداعيات حين يتحدث الأب عن “صورة” فيسأله :
– أي صورة ؟
ويأتي الرد من الأب نفسه :
– صورة وجهك يا إبراهيم – ص 12 ).
والأب غير موجود في المكان الذي يتحدث فيه إبراهيم إلى سلام، وإبراهيم غير موجود في المكان الذي يتداعى فيه ذهن الأب.
وارتباطا بموضوعة المكان فقد كانت القطارات واحدة من مظاهر المدينة التي تهيج أحاسيسه وتنقله إلى عوالم أخرى. كان يحلم بأن يراها. وقد حقق له الطفل حسين إبن الحاج رسن الذي يكبره بعامين ذلك حين شجّعه على عبور الزقاق الذي يفصله عن المحطة وشاهد عربة واحدة فقط ووصف إحساسه آنذاك بالقول :
(حال ما مرت قربنا (العربة)..أحسست أن الأرض ترتج تحت قدمي، لم أنس ذلك المنظر. ومن يومها شكلت القطارات عزيزي سلام الكثير من العلاقات المهمة ، فهي السلوى عند الإحساس بالإختناق، وهي تلك الحركة الرتيبة في صدري صعوده وهبوطه، وهي اللون القوي لبركة الماء .. اللون المسود قريبا من دكان الحاج رسن الذي يشبه الدخان يهيمن في الأجواء بعد مرور القطارات قريبا من العرصة – ص 69) .
هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها إبراهيم عربة قطار واحدة، فخلقت في نفسه ذلك الأثر العميق المعبّر عن الإحساس بالحاجة إلى فضاء أوسع من الحرية والنشاط والحركة ورؤية عوالم جديدة. ثم شاهد القطار كاملا مع أبيه فأثارت في نفسه الصغيرة إنفعالات مضافة :
(حال ما أسمع صوت قطار يخترق مدينة أسمع ذلك اللغط الهائل في عقلي ، وأرى وجوها هلامية تطوف في الساحة المتاحة أمامي وتقترب وهي تحاصرني بأسئلة وأصوات بلا معنى .. إلخ – ص 70) .
هنا خلق الكاتب بصورة موفقة “معاونا” أداتيا – إذا جاز الوصف – لبطله يُسقط عليه مشاعره، ويفرّج عن ضجره ومخاوفه. وعليه ووفق قواعد تنامي الحدث الروائي وتوسيعه المدروس وتماسكه المحكم ينبغي أن تحتل القطارات وما يكافئها ماديا أو معنويا حيّزا مقبلا في الرواية وفي ما سيلي من تطورات في حياة هذه الشخصية. لكننا لن نجد لها حضورا مؤثرا لاحقا عدا إشارة موجزة في الصفحة 95. كما أننا لا نعرف أصلا لماذا يخلق صوت القطار تفككا في عقله ؟ ولا مصدر الوجوه الهلامية التي تحاصره – وهو طفل – بالأسئلة ؟
# في بداية الفصل الثالث يكشف الأب عن مشاعر معادية لابراهيم في البداية وعن صراعهما وكأنهما يلعبان لعبة القط والفأر بتبادل الدورين :
(أنا له بالمرصاد دائما مهما فعل، ومهما اتخذ من سبل لاستغفالي . دائما أفنّد ما يبنيه أو يزعم أنه يبنيه على صعد شتى تدور حول شكوكه في ماضينا، أو ما يردده من كلمات تدور حولي. لم أغفل يوما عن مراقبة ضياعه وتخبّطه، وأصدمه دائما بالمعرفة ، معرفتي بما يفكر به أو ما ينوي أن يفعله بعيدا عني، سواء قبل سفرته إلى بيروت أو بعدها – ص 75) .
ويلعب التوقيت دورا مهما في تماسك وتسلسل أحداث الرواية حتى أن بعض الأحداث حين تُطرح في غير توقيتها المبرر تفقد الكثير من دلالاتها وتأثيرها. يتحدث الأب عن سفر إبراهيم إلى بيروت وليست لدى القارىء أي معلومات عنها. بالعكس سوى إشارة بسيطة على إحدى الصفحات كسبب لضياع أسماء منه. ستأتي رحلة بيروت كحدث فاعل ومؤثر بعد عشرات الصفحات. ثم لنسأل عن السبب الذي يقف فيه الأب لابنه بالمرصاد وتفنيده لكل ما يبنيه. ما هو السبب؟ لا أستطيع تحديد السبب سوى أنه نتيجة لأجواء الصراع “الشعري” بين الطرفين.
وقد يقول قائل إن الصراع بين الأب والإبن يرتبط بتوريط الأب نفسه بنوايا بيض لكن مدمّرة مع الشيوعيين واقتناعه بآرائهم من دون أن يفهمها ويحللها كما قد يستشف من قول إبراهيم لسلام :
(آه. كم اعتذرَ [= الأب] مما حصل. وكنت أوهمه أني أسامحه. لكني يا سلام لا أغفر له ما جرى له وليس لنا. لم يكن يفهم ما كان يريد أن يقوله شكيب –ص 150).
لكن – وفي حركة متناقضة غريبة يسارع إبراهيم الذي أدان أباه على حبّه وانجرافه مع أفكار شكيب وأقواله إلى الإعلان عن حبّه لشكيب من دون أن يراه !! ويقرّ بأن شكيب حوّل أباه إلى شيء آخر !! :
(هذا الشكيب كما يسمّيه، الذي لم أره لكني عرفته من كثرة ما حدّثني عنه. أحببت شكيب بقوة.. احترمته كثيرا، أنا أحلم بأن أقابل شخصا كشكيب الذي حوّل الأب إلى شىء آخر- ص 150 و151).
والأكثر غرابة هو أن الكاتب يجعل سلام المنغولي يعلن أيضا عن حبّه لشكيب بلا مقدمات ومن دون أن يراه أيضا، وذلك في موقف يتضمن أيضا نقلة غريبة ومفاجئة لا تمت للسياق بصلة. فقد كان إبراهيم يتحدث إلى سلام عن رحلة أبيه الثانية إلى كركوك، وكيف قابل هاشم/ أبو فيصل (رفيق العسكرية)، وأخذه الأخير للمبيت معه في البيت. ثم يتحوّل للحديث عن شكيب وكيف أحبّه من دون أن يراه :
-أنا أحببت شكيب.
قالها سلام وهو يتلمظ. “أجل يا عزيزي سلام جميعنا أحببنا شكيب دون أن نراه”.
ثم يتحوّل رأسا للقول : “يومها تذكر هوبي فيصل الصغير الذي عانى من شلل ولادي في يده اليمنى. تحوّل إلى صبي مكتنز، ويسير ببلاهة وهو يحمل صينية الشاي بيده اليسرى. إنه بعمرك تماما – ص 151).
وهذا تحوّل غريب. فمن يتذكر شيئا ينبغي أن يكون الشىء غير حاضر أمام “ذاكرته”. عن أي يوم يتحدث ابراهيم؟ وما علاقة الصبي فيصل بشكيب الذي كان محور حديث ابراهيم وسلام؟
وإذا كان إبراهيم يلقي اللوم والغضب على أبيه لانجراره مع شكيب الشيوعي، فإنّ الكاتب نفسه حدثنا عن فرحة إبراهيم العارمة وهو ينجرف مع مجموعة “أبو ماجد” الشيوعية ونقله لتعليماتهم إلى المعنيين. الإثنان يحبان الشيوعية والشيوعيين ، فلماذا يتقاتلان حول التأثر بأفكارهما ؟ وسوف ننهي الرواية ونحن لا نعلم هل هوبي مع الشيوعيين أم لا . فإذا كان معهم لماذا يتذمر من السجن والعقوبات والطرد؟ وإذا لم يكن معهم فلماذا يرحب بكل شيء يأتي منهم ؟ وبعد صدور الحكم عليه بالسجن لمدة سنة يقول : (ماذا فعلت حتى احتمل كلّ هذا ؟ – ص 111) ثم يصوّر تمزّقاته في الزنزانة.
# لعبة التسميات :
وهنا تأتي أولا موضوعة التسمية البديلة التي اختارها الروائي للأب حسن. فقد كان اسمه الأصلي (حسن كنيهر). ولكن بعد أن ألقي القبض عليه وهو في إحدى رحلات تهريب الأحجار الكريمة التي يجلبها زاير نعيم شقيق زوجته انقطع (مصدر رزقه). وعلى القارىء أن ينتبه إلى أن حسن قد تحوّل من لص قماش إلى مهرّب.. ثم إلى عاشق للافكار الثورية. وهذه سيرة غريبة للكثير من الثوّار من الناحية العملية. وقد لا ينتبه القارىء أيضا إلى أن حسن قد قُبل في الخدمة لعسكرية بعد أن تم تزويده بدفتر نفوس لشخص آخر. وهنا نظيف إلى سيرته سمة “المزوّر”. لقد اشترى له زاير نعيم جنسية مسروقة باسم (هوبي عبد الرزاق).
وكنت أتمنى أن يختار الروائي اسما آخر غير (هوبي) لأننا اعتدنا في العراق على صورة نمطية لـ (هوبي) صبي المقهى أو المسكين الأبله كما تعرضها التمثيليات و المسلسلات العراقية. ولو كنت أباً وإسمي عبد الرزاق، لاخترت لإبني إسم (حسن) مثلا، وليس (هوبي). كما أن من الصعب سماع مصطلحات الغربة والإغتراب والحطام البشري وروائح الزنازين وسقوط الشهب على لسان شخص إسمه (هوبي) كما حصل في الرواية .
ثم تأتي ثانيا قضية اختيار إسم ابراهيم. فقد كان اختيار اسم المولود الجديد إبراهيم بنصيحة من الشيخ راضي حيث قال لهم بأنه نبي الله الذي سخر من القوم الظالمين، كما أن له علاقة بكل الأديان. يقول الكاتب : (فالمسلمون يتمنون أن يكونوا على ملّته – ص 61) . وأبسط مسلم يعرف أنه على ملّة إبراهيم حنيفا، ولا يتمنى أن يكون غير كذلك. والأمر مقرّر دينيا وقرآنيا من الله وليس موضوع تمنّيات .
المهم يواصل إبراهيم شرحه لدراما إسمه الشعرية، فيقول لسلام :
(.. كذلك :
-إنه إسم يصلح لكل الأجيال.
-هكذا أخبرتني – إجلايا – ولكن بعد أكثر من عشرين عاما . حينما كنا نتحدث عن الأسماء ومدى التصاقها بنا – ص 61)
ولا أعرف ما هي قيمة هذه الجملة التي قالتها إجلايا (إسم إبراهيم يصلح لكل الأجيال)، لكي ينتظر إبراهيم عشرين عاما لكي يسمعها وينقلها إلينا. ثم أليست هناك اسماء أخرى تصلح لكل الأجيال مثل إسم الكاتب (محمد) ؟
# مشكلة الإحتقان الإيديولوجي :
وقد أسهم احتقان المواطن العراقي – قارئا وكاتبا – الإيديولوجي في إرباك وتشويش جانب كبير من الثقافة العراقية عموما، والأدب السردي العراقي خصوصا . ما يهمني هنا هو أن هذا الإحتقان يوصل إلى الإنحياز الذي سيضيق حتما من فضاءات رؤية الكاتب ويؤثر حتى في الدوافع والترابطات “الفنّية”. يقول الأب هوبي وهو في السجن :
(المداخل التي كانت مخصصة كممرات تؤدي إلى قاعات كبيرة معدة لاستقبال المجندين الجدد، تحولت إلى زنزانات ضاقت بأعداد من اعتقل. كنا نسمع ونحن في سجننا ما يحدث في المدينة من مجازر واعتقالات بالجملة. كل من يقرأ كتابا يُعتقل. كل من سار يوما في طريقه وحيدا يُحاصر من مجاميع الحرس القومي مواجها رشاشات البورسعيد التي كانت تلمع بين أيدي أوباش لا يعرفون الرحمة أبدا – ص 77).
وعلى الكاتب – اي كاتب يتصدى لكتابة رواية – أن يوفّر المبررات المنطقية لأي تصرّف من تصرفات شخصيات الرواية في البدء والمسار والمنتهى. لقد كانت الأجهزة القمعية دموية السلوك في كل الأماكن ومنها بطبيعة الحال السجون. وفي السجن الذي اعتقل فيه هوبي/ حسن – أبو إبراهيم – كان هناك رمز شرس للسلطة القامعة هو عريف الإنضباط (هاتو الأسود) . كيف كان هذا الشرطي الكريه يسمح لإبراهيم الطفل ببيع المثلجات على السجناء في السجن وقت الزيارة ؟ وهل السجن السياسي الدموي متنزّه ؟ ثم الأهم من هذا أن هذا الوحش حاول منع إبراهيم الطفل من البيع وضربه بالعصا، فكان رد إبراهيم أن ضربه بالثرموس على رأسه فشجّ رأسه وأدماه وهرب. ولم يحصل أي شىء لإبراهيم ؟ فأين السلطة الدموية ؟ وكيف صارت رحيمة بالطفل الذي أهان رمزها القامع؟ والأكثر من ذلك أن هاتو الأسود اختفى وصار السجناء ومنهم أبو ابراهيم يفخرون بهذه الحادثة ويتضاحكون!!
بعد الإعتداء فرّ ابراهيم راكضا ولم يمسكه أحد . ثم وصل إلى بيت صديق أبيه (أبو جواد) في حي “رحيم أوه” بعد أن قفز سياج مدرسة حاصرته فيها الكلاب، وكان رابط الجأش. في حي رحيم أوه بدأ يساعد أبو جواد في عمل المقهى . وذات صباح سمع صوت همس من أحد البيوت المهجورة، فتخيّل الهمس الحميم لأمّه وأبيه، ونظر ولم يرَ سوى هيكلين عظميين، ففر مذعورا. وهذه حركة رعب تُجهض حركة الشجاعة الساحقة التي شج فيها وجه هاتو الوحش وفر في رحلة شائكة جسور بالنسبة لعمره.
# وقفتان لغويتان :
استخدم الكاتب في هذه الرواية مفردة “حالما” بصورة مفرطة تركتُ حسابها بعد الفصل الثاني (إثنتا عشرة مرّة في هذا الفصل فقط) . ولكنه استخدمها بصورة غريبة. فقد فصل المفردتين المكونتين لهذه الكلمة. فكان يقول (حال ما) : حال ما وصلت .. حال ما يختليان .. حال ما أشمّ رائحة الأرض .. وغيرها الكثير. وهو أمر غريب يخالف الفطرة اللغوية العربية. ثم أنه استخدم ربّما وطالما وحيثما بصورة صحيحة. وحتى حالما استخدمها بالصورة المعتادة في الصفحتين 39 (حالما ينتهي من العادة السرّية) و 42(حالما ينهي مهمته مع الزاير) .
وعلى الصفحة 31 يذكر لنا الكاتب وصيّة زاير نعيم لحسن وهو مقبل على رحلته الأولى إلى بغداد :
(ستجد في زاوية الساحة السلّمات الخمس المؤدية إلى زقاق يتوسطه فندق العمارة الكبير. في أول الزقاق وقرب آخر سلّمة ستجد المقهى. وبعده تماما الفندق – ص 31).
وأعتقد أن ما يقصده الكاتب هو (الدرجة) وهي واحدة درجات السلم أو الدرج وليس (السلّمة) التي لم أجد لها أصلا قاموسيا. وقد تكون من تأثيرات العامّية المصرية التي تحت تأثيرها صار كتابنا يستخدمون (الشلة) بدلا من (الثلة) وغيرها.
# اللعب الشعري على أوتار الزمان يجب أن يكون محسوبا :
بعد أن تقرّر أن يُنقل هوبي وبعض رفاقه من سجن كركوك إلى سجن العمارة قال وهو في السيارة العسكرية :
(منذ الصباح … وأنا أهتز مع حركة السيارة وسط الطريق المؤدية إلى العمارة. تملكني سحر العمارة لأنها أقرب إلى نجمة من كركوك.. وكذلك هي أقرب إلى حسنة سيّدة قرية المجرية. حسنة التي ودّعتها منذ زمن بعيد حينما أخفتني تحت عباءتها فجرا حتى وصولي إلى الطريق العام – ص 116 و117).
وحين يسمع القارىء مثل هذا الحديث يتهيّأ مع الراوي نفسيّا لاستعادة ذكرياته مع أمّه الحبيبة.. والأهم قرب لقائه بها بعد فراق قسري طويل. لكن الحرّاس يتلاعبون بأعصاب السجناء، ويحصل شجار بينهم، فيعيدون السجناء بعد أن أشبعوهم ضربا. وفي الصباح التالي يصعد هوبي إلى السيارة العسكرية من جديد وتتحرك بهم نحو العمارة ويتداعى في حوار داخلي يؤكد شوقه المستعر للقاء أمّه حسنة :
(كنتُ أدرك أن كل دقيقة تمرّ تقربني قليلا من العمارة، من نجمة ورائحة أمّي حسنة.. سيّدة المجرية بوجهها المطرّز بالخطوط الزرق – ص 117).
ثم يستعيد في تكرار لا مبرر له وللمرة الثالثة كيف أرسلته أمّه إلى البصرة للعيش مع أخوة نجمة ويشرح كيف أصبح واحدا منهم .. إلخ ويؤكد على دور أمّه في حلّ الخلافات بشخصيتها المتفرّدة وحضورها المهيمن. وفجأة يقول :
(كانت السيارات تخترق الشوارع ببطء. ونحن نتطلع إلى المدينة تنسحب خلفنا ببطء أكثر. كانت حسنة ترافقني طوال السنوات التي أمضيتها بعيدا عنها .. قبل أن أسمع الخبر الذي سقط علي كالصاعقة من الفم المفتوح لزاير نعيم . تلك الكلمة التي لا استطيع أن أنسى وقعها أبدا :
ماتت حسنة !! – ص 118).
أي أن أمّه ماتت قبل سجنه.. فما الذي يجري؟ ومن هي التي سيقابلها في العمارة؟ وهل خدم المسار الروائي هذا اللعب الشعري على أوتار الزمان؟ وهل يصمّم الكاتب بهذه الطريقة مفاجأة للقارىء أم لنفسه ؟
# ظاهرة التكرار :
وأخيرا هناك “التكرارات” التي يعيد فيها الكاتب الحادثة نفسها في أكثر من موقف وصفحة كمجيئه إلى بيت زاير نعيم ووداع أمّه له ونجمة وهوّاش وشط الترك وسرقة الأقمشة والتهريب .. شراء زاير نعيم دفتر النفوس دون علمه .. شراء الدكان في سوق الأكراد .. لبس الأب للدشداشة والعقال ودورانه على الأقارب .. وغيرها الكثير . وهناك الإفراط الذي يسبّبه “التعجيل الشعري” إذا ساغ الوصف كقوله أنه اخترق مدنا كثيرة نحو بيروت وهي دمشق فقط .. وحديثه عن النسوة اللائي دخل ممالكهن بعد “سمر” (ص 144) ولا توجد اي واحدة في الرواية .
حسين سرمك حسن : عندما تكون الشعرية مصيدة للفن السردي: رواية “ذاكرة أرانجا” أنموذجا (2)
تعليقات الفيسبوك