حسين سرمك حسن : عندما تكون “الشعرية” مصيدة للفن السردي :
رواية “ذاكرة أرانجا” أنموذجا (1)

hussein sarmak 4mohammad alwanكنتُ – ومازلتُ – من بين النقّاد الذين يؤكدون وبقوة واستمرار على أن يكون للرواية خصوصا وفن السرد عموما لغته ، وللشعر لغته . وعندما يشعر الكاتب بالحاجة لتوظيف اللغة الشعرية في نصه الروائي أو القصصي عليه أن يستخدمها بمقادير محسوبة تخدم الموقف المحدد في الرواية والكشف الدقيق عن مشاعر الشخصية الروائية المعنية. وبخلاف ذلك نحصل على نص لا هو رواية ولا هو شعر . وتمرّر هذه الحالة الخاطئة خلف ستار أطروحة “تداخل الأجناس” الحداثية التي يجب التعامل معها بحذر .
وقد تفشت في الرواية العربية ظاهرة مربكة نتيجة هذا الخلط بين حاجات السرد وحاجات الشعر، وتمثل في أن النص السردي أصبح حوارا ووصفا واستعادات وسلوكيات شخصيات، هجينا من جانب، ولا يخدم حاجة الكاتب وكذلك المتلقي في تحقيق التوصيل “الدقيق” لأفكار وصراعات الشخصيات ورؤى الكاتب من خلفهم طبعا من جانب آخر. يظهر الأمر وكأن الروائي الذي صار شاعرا يتحدّث بلسان كل الشخصيات مهما كانت بسيطة . فالمثقف القرّاء وحامل الشهادات في الرواية يتحدث بنفس طريقة بائعة الخبز الأمية البسيطة، وكلهم حين يقبّل حبيبه يسقط القمر على طريقة ماركيز. وصارت الرواية تحفل بافعال طيران الأشخاص وانتفاخهم وسقوط الشهب عند لقائهم بأحبتهم وخروج عوالم من أنوفهم مثلما صارت البائعة المتجوّلة تتحدث عن القضم بالقبلات وأنين الكواكب في الأسرّة .. إلخ.
وهنا تحضرني مداخلة مهمة للروائي “إلياس خوري” في مناقشات محور الترجمة خلال لقاء الروائيين العرب والفرنسيين الذي عقد في باريس في عام 1988حين قال ردّا على ما طرحه الناشرون الفرنسيون من أن الكتابة الروائية العربية بحاجة إلى تعديل “شعري” كي تترجم وتُقبل في الغرب :
(نحن من العبث أن نفكر بأنه يجب أن نعدّل في طريقتنا في الكتابة (…) كي نُقرأ في الغرب. فمهما فعلنا – لا أعتقد أن كاتبا عربياً على استعداد أن يجعل النساء تطير كما عند ماركيز. إذا كان هذا الغرائبي هو المطلوب من العالم الثالث ، فلا تؤاخذوني ، من الصعب أن نستجيب لمقاييس لا علاقة لها بتجربتنا).
ولأنني قد تحدثت عن هذه المعضلة في مناسبات سابقة كثيرة ، أجد أن لا حاجة للإيغال في المقدمة ، وسأتناول الآن رواية الكاتب “محمد علوان جابر” “ذاكرة أرانجا” الصادرة عن دار فضاءات نهاية العام الحالي من هذه الزاوية فقط ، أي من زاوية الإفراط في استخدام اللغة الشعرية على حساب لغة القص من جانب، وتغليب المنظور الشعري على حساب المنظور السردي “العملي” إذا جاز الوصف من جانب آخر.
ويهمني أولا التذكير بأنني قد طرحت رأيي في مهارة الصديق محمد علوان جبر القصصية وأسلوبه المتفرّد في فن القصة القصيرة وذلك في دراستي عن قصته القيرة “الرأس المقطوع”، والتي حملت مجموعة محمد القصصية الأخيرة كلمة منها على غلافها الأخير.
كما يهمني ثانيا التأكيد على أنني عندما أقول من هذه الزاوية فقط – زاوية الإفراط في استخدام اللغة الشعرية على حساب لغة السرد – فإن هذا لا يلغي إيجابيات وحسنات الرواية وكاتبها أبدا ، وهي إيجابيات كثيرة . كما أن ما أثبته هنا – ثالثا – هو وجهة نظر شخصية قد لا يصلح الأخذ بها . إنه اجتهاد جاء بعد دراسة وتحليل عميق وصبور وثلاث قراءات لأحداث الرواية. ولكن النقد – حاله حال أي مسلك معرفي إنساني – عرضة للخلاف والخطأ والعثرات وعدم الإتفاق والنسبية في بناء الأحكام .
  # لعل من عثرات الرواية الجسيمة فنيا هو اختيار الروائي لشخص مصاب بمرض المنغولية – MONGOLISM ليكون شخصية فاعلة وذات دور مهم في الرواية وهو “سلام” شقيق إبراهيم الأصغر. ولو كان دور سلام – كما يحصل في بعض الروايات والأفلام – دور مستلم أو ضحية سلبية لكان الأمر ممكنا وهيّنا. لكن الروائي لم يمنحه دورا إيجابيا محاورا وفاعلا حسب ، بل حمّله – وهنا واحدة من آفات وسموم الرواية الحداثوية الغربية – حوارات داخلية وخارجية بلغة شعرية عالية أحيانا. خذ مثلا:
– على الصفحة الأولى من الرواية وبدءا من استهلالها يدور هذا الحوار بين سلام وشقيقه إبراهيم الشاعر والرسام والكاتب، يتبعه حوار داخلي (مونولوج) وتداعيات يدور في ذهن سلام :
(- لا أعرف من أنا
– بدأت تكذب … أيها المترهل !
أيها المترهل. كرّرتها لمرّات وأنا أضحك. حقا . بدأ جسد سلام يترهل، تحوّل إلى مجرد فم مفتوح يبتسم وهو يمضغ الطعام ، لكنه يكف عن المضغ ويزيح أقراص الخبز جانبا حينما أحدثه.
ثم نفهم من الحوار أن سلام المنغولي هو الذي اختار لقب “عازف الناي” لأخيه إبراهيم وهو يعلق على سرعة حديث إبراهيم بالقول :
(أجل هكذا. لكي افهم. هذه السرعة تصيبني بالإختناق وتزيد المسافة بيني وبينك يا عازف – ص 7).
ونتوقع من هذا المدخل أن إبراهيم يستخدم شقيقه سلام كأداة لترجيع أفكاره وإنعكاسها وكمتنفس مسالم لإحباطاته وصراعاته في ظل توتر العلاقة الدائم مع أبيه. لكن كلما سرنا مع أحداث الرواية ظهر أن الأمر خلاف ذلك. فابراهيم ومن ورائه الكاتب بطبيعة الحال يتعامل مع سلام ككائن متكامل العقل بل مثقف من الدرجة الأولى. ولا يترك لنا الكاتب فرصة وضع أي احتمال غير احتمال تقابل عقليتين “شاعريتين” حين يحدّثنا عن سلوكه مع سلام :
(حينما تطول فترة الصمت بيننا – والتي أتعمدها – في أغلب الأحيان – أحدثه عن تبخّر العالم الحقيقي من ذهني حينما تتحدث عنها (صدّقني يا سلام . أحسّ بالوحدة الكاملة وأنا أدخل إليها عبرك ! سلام كم أنا وحيد خارج وداخل القصص والحكايات التي تخصّها – ص 62).
في موضع آخر يحاور سلام المنغولي نفسه عن حديث إبراهيم معه : (كم كنت أتمنى أن يصمت، أو يقلل من نبرة صوته التي كانت تتصاعد وتستفز الصمت في آخر الليل الذي أمسك المدينة مهيمنا عليها بقوّة. حينما يصمت عازف الناي لبرهة منشغلا بإعداد كأس جديدة له، يتصاعد الليل في صمت الغرفة وسكونها . ولا يقطع هذا السكون إلا سعال أبي – ص 29) .
ثم اقرأ هذا الحوار أيها القارىء الكريم واحكم ص186 :
يقول سلام : (حدّثني عن خطافات ملوّنة تخرج من حقل كبير يعيش فيه. وحينما اصطدم بوجهي الجامد، شرح لي بسرعة معنى الخطافات .
أشياء تشبه المخالب الحادة، حركتها ارتدادات صمّاء ، تريد أن تضرب الأشياء حولنا. المخالب هي أرواح هائمة في السماء تقترب من الأرض لتأخذ ثأرها منّا نحن.
-لماذا ..؟
-لا أحد يعرف . إنها اشياء قاسية مرت بمراحل تحوّل كبيرة، صمّاء ومخيفة تتحول بسلاسة إلى روح. وقد تسقط هذه المخالب إذا اقتربت من الأرض، ويكون لسقوطها دويّ يشبه سيارة تسير بسرعة على الإسفلت وتدور دورة قاسية ثم تسقط على جنبها .. تدور وتحتك بالإسفلت وتطلق شررا وأصواتا بلا معنى ؛ أصواتا غريبة تشبه امتصاص كتل قاسية .
– ما هو الإمتصاص ؟
-لا أعرف . لكنني أعرف أنه مرعب. أقصد أنّ الأمر مرعب كما أتخيّله. أمّا إذا عشناه فهو مرعب أكثر . أعتقد إذا عشناه بأي شكل ما. يتصاعد حاجبك الحاجز من أعلى بطنك إلى مكان قريب من فمك. تصوّر حجابا حاجزا يخرج من الفم. أي دورة هذه التي يفعلها المخلب الساقط على الأرض المتحفّز للإنقضاض علينا – ص 186) .
والإمتصاص ليس مشبها به يضفي على الصورة التي يتحدث عنها إبراهيم الرعب . المص هو شرب الشيء شربا رفيقا ولا أثر للقوة أو العنف فيه (م ص ص : مَصَّ الشيء يَمَصُّهُ بالفتح مَصًّا و امْتَصَّهُ أيضا و التَّمَصُّصُ المَصُّ في مُهلة و أَمَصَّهُ الشيء فمَصَّه و المَصْمَصَةُ المضمضة ولكن بطرف اللسان والمضمضة بالفم كله والفرق بينهما شبيه بالفرق بين القبصة والقبضة وفي الحديث { كنا نُمَصْمِصُ من اللّبن ولا نُمَصْمِص من التمر }..)
هكذا أجهض الإنشغال الشعري الصورة المهمة.
وألتمس العذر من صديقي محمد، فقد أعدت هذا المقطع أكثر من خمس مرات وبهدوء فلم أفهم معنى الخطافات ولا دورها أو وظيفتها في سياق الرواية ولا صلتها بما قبلها ولا بما بعدها من وقائع أو حوارات. ولكنها تبقى قطعة سريالية وشعرية جميلة .
وهذه هي مقدمة الفصل السادس (من الصفحة 185 إلى الصفحة 194) الذي ينقلنا الكاتب فيه وبصورة مفاجئة قاطعا أكثر من عشر سنوات إلى حرب الثمانينيات . نقلة تتم من جديد – وياللغرابة – على لسان سلام المنغولي فنفهم الآن أن الخطافات تشبيه للقنابل التي كانت تتساقط على الجنود كالمطر. ولكن هل القنابل خطافات؟ وهل الأخيرة سيارة منقلبة تحتك بالإسفلت؟ وهل هي أرواح هائمة في السماء تبحث عن ثأرها في الأصل ؟ ..
هذه القفزة عبر أكثر من عشر سنوات تنتهي في الصفحة 194 ليبدأ الفصل السابع وإذا بنا في دمشق ثم في بيروت . ولكن متى ؟ في بداية السبعينيات قبل اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 حيث أمضى إبراهيم سنتين في بيروت !! كيف سنقنع القارىء بان حركة الزمان “الشعرية” هذه هي المتطابقة مع حركته السردية . مثلا هل جاء موت سلام في ختام الرواية (الفصل الثامن) بعد عودة إبراهيم من بيروت ؟ أم بعد الحرب في نهاية الثمانينيات ؟ أم متى ؟ أي متابع “سردي” يعرف الجواب ؟ لكن لماذا هذا التعقيد والإرباك ؟ أليس خراب الحرب انضاف إلى خراب تجربته في بيروت (خصوصا حبّه من طرف واحد لروز ماري صاحبة الكاليري في بيروت ، وفقدانه حبيبته أسماء /إجلايا في قلعة صالح بالعراق ) ؟ أم أن خراب الحرب جاء متوسطا المتصل الحياتي بين سجن أبيه الثاني وسفره إلى بيروت ؟ هذا ليس مستحيلا في الشعر .. ولكنه مستحيل ومربك في السرد .
# يقول إبراهيم : (يحبها [= سلام يحب إجلايا] لأني حدّثته عن إبنة عم الأمير “مشكين” التي تشبه إبنة عمّنا أسماء إبنة قلعة صالح ، التي مات ابوها وقررت أمّها أن تقيم في بيتنا العامر. يومها كنت أعد نفسي للسفر وحينما سألني لماذا .. إلخ – ص 62).
وسوف يتساءل القارىء عن الكيفية التي سوف يستوعب بها صبي منغولي مسميات شخصيات دستويفسكي (الأمير مشكين وإجلايا ونستاسيا) وسلوكياتها وفلسفاتها ؟!
ولعل التناشز واضح بين “إجلايا” إبنة سنت بطرسبورغ، و”أسماء” إبنة قلعة صالح لكن الإختيار والإستعارة الإسمية محكومة بضرورات “شعرية” إكتسحت المناخ الثقافي العراقي والعربي في الستينيات خصوصا. كما أن إبراهيم ليس بالأمير مشكين الذي يعدّه بعض النقاد المتخصصين بأدب دستويفسكي خليطا من المسيح ودون كيشوت. وأسماء ليست إجلايا التي تعاطفت مع الأمير الذي قتلته إنسانيته العالية ولم يتفهمه أحد أكثر منها.
وهنا تستوقفنا ملاحظة فنّية مهمة وهي أن أسماء ذكرها الكاتب في بداية الرواية (الصفحة الثامنة) ثم عاد إليها بعد خمسين صفحة (الصفحة 61) ، وسيتركها من جديد وتختفي من ذاكرة القارىء ليعود إليها بعد أكثر من مئة صفحة أخرى ليتذكرها في الصفحة 195 وهي تستعيد رسالة وجهها إليها إبراهيم من بيروت.
# وتتفاقم هذه المشكلة، عندما يحعل الكاتب سلام المنغولي هو صاحب الصوت الذي ينهي الرواية في فصلها الأخير (الفصل الثامن)، الذي يستهله سلام بمخاطبة إبراهيم :
(- بدأتُ أطير يا عازف . تعال . اقترب مني لكي أفهم. لكنه يصمت .. “يا عازف اقترب منّي. يطوف الصمت شلالات من الضوء الأبيض يتصاعد من الأسفل إلى الأعلى، ضوء خيطي يشع في وجهه.. بحثت عنه دون جدوى . لقد تركني منذ قليل. وقف أمامي ولوّح لي تلويحة غامضة لم أفقه منها شيئا. وفيما أنا ساهم أحدق في وجهه مباشرة، كان يبدو لي بشكل لم أعرفه فيه من قبل. بدا وجهه منخسفا. إعوجّ وجهه وبدا بشكل يشبه الهلال.. كنت أعاني كثيرا من يدي فهي جامدة قرب جسدي – ص 224).
إن هذه التحولات في جسد إبراهيم (وجهه مثلا ) وفي جسد سلام (يده مثلا )، يطرحها الكاتب لأن حواس وإدراكات سلام بدأت تضطرب . لكن لماذا؟ الجواب لأنه يُحتضر، وبدأ يلفظ أنفاسه. وهذه طامة كبرى . فقد أناط الكاتب بسلام أن يطرح لنا تجربة الموت التي عجز عن تصويرها عتاة الروائيين وأفضل الشخصيات الروائية . إن تجربة الموت والإحساس بها هي تجربة شديدة التعقيد وبالغة التركيب يستعصي وصفها على أفضل العقول. لكن سلام المنغولي يصفها بصورة شعرية لا تُصدّق، ويرسم لنا لوحة العبور النهائي من عالم الحياة إلى عالم الموت :
(-هل أنا نائم ..؟
-هل أنا ميّت ..؟
حسناً. إذا كنتُ نائما وهذا قريب من الحقيقة، فأنا نائم على خشبة أو صندوق خشبي يسير وسط تيارات هائلة من الغموض. وإزاء غموض ما يجري أنجح في فتح عيني الواحدة على سعتها. أرى غابات من النخيل وهي تطبق على طريق مستقيم ، يتعرّج مخترقا النخيل التي تكاد أطرافه الشوكية الحادة أن تلامس جسدي المسجى على الخشبة، تلامسني آلاف السعفات الصفراء المتيبسة المليئة بالغبار التي تشبه آلاف الأذرع القاسية وهي تمتد نحوي وأنا أخترق الطريق بسرعة هائلة (….) بدت بوضوح سيارة تحمل صندوقا خشبيا في أعلاها، وتخيلت نفسي نائما وسط الصندوق، لكي أفسر الإرتجاج العنيف في حركة الهدهدة التي لم أعد أطيقها. لكن ما شفع لي أني سمعت صوتك ذاته، المتدفّق البطىء. اعتذرتَ كثيرا لأنك بعتَ لوحة إجلايا. وحدّثتني عن ألمك وأنت تعجز عن رسم نسخة أخرى من الإسكيتش (!!) أو اللوحة. واعتذرت كثيرا مني لأنك كنت تمضي وقتك بعيدا عني. لكني مددتُ يداً أخرجتها من الصندوق . وبدأت بمسح دموعك ..
– لا تبك يا عازف
– لا تتركني يا عازف
واصلت السيارة اختراقها الافق المشروخ بآلاف السعفات ، التي تراكمت على بعضها . وشكلت سدّا منع الهدهدة. وبتُّ أدخلُ ببطء في دخان صمت هائل أطبق عليّ – من ص 225 إلى نهاية الرواية ص 227).
# مصيدة شعرية الطفولة :
وعملية استدعاء ذكريات الطفولة والمراهقة التي يقوم بها إبراهيم والتي يقوم بها أبوه على امتداد مسار الرواية لا تخلو من إشكال مربك أيضا. فحينما يتصدى الروائي – اي روائي – لهذه المهمة فإنه ينبغي أن يكون حذرا من استخدام لغة لا تناسب المستوى التعليمي للشخصية المعنية والبيئة الإجتماعية والثقافية المحيطة بها . وسوف يقف الروائي أمام معضلة مفادها هل سيعبّر عن ذكريات الطفل الذي كانه بعقلية ولغة الراشد التي لا يضر أن تلجأ إلى الشعر وحتى مصطلحات الفلسفة وهنا تضعف المصداقية التعبيرية وقد تصل حدود التلفيق البارد، أم بانفعالات وتعبيرات الطفولة الفجّة الأكثر صدقا ولكنها أقل (حداثة) وشعرية الأمر الذي قد يعكس خطأً فقر مخزون الروائي وإمكاناته السردية و “واقعيته” التي صارت مكروهة من نقاد الحداثة؟
لنأخذ علاقة إبراهيم وهو طفل – ولننتبه إلى مرحلته العمرية التي لا تتجاوز العشر سنوات بالتاكيد من خلال متابعة وقت زواج أبيه من (نجمة) وتطوّعه في الخدمة في الجيش وانتقاله بسبب ذلك إلى كركوك وسكنه في البيت ذي الغرف الثمان ووقوع إنقلاب شباط – . لقد نشأت اندفاعة عاطفية متحمّسة من قبل إبراهيم تجاه “سعدية” زوج الشيخ راضي. وهي اندفاعة ملتهبة أوديبيّة المضمون في الواقع. كان المحفّز الاساسي (الرمزي) الذي يثير أحاسيسه الجنسية والإنفعالية نحو سعدية هو (الرائحة)؛ الرائحة التي يشمها من ثياب سعدية والتي تشبه الرائحة التي تنبعث حينما يسقط المطر على الأرض الترابية (ص 66). وتصل لحظات الإنفعال والإستثارة تلك درجتها القصوى عندما (تحمّمه) سعدية وتفرك آلته الصغيرة بالليفة. وحين يذكر تفصيلات جسدها وبروز نهديها العاليين على طريقة “فؤاد التكرلي” المتيم بعلو النهدين، فهي ذكريات “متوازنة” تناسب سنّه آنذاك. وحتى عندما يتحدّث إبراهيم لسلام بلسان الراشد : (صدّقني. أتذكر بكل عنفوان وإلى يومي هذا الرائحة المنبعثة من الأرض الترابية (..) الخصر الدقيق والحوض الواسع. كذلك نهداها اللذان لم تفلح كل محاولاتها في إخفاء بروزهما… إلخ – ص 67).
فإنها ذكريات مصوغة بلغة ومضامين يمكن أن تناسب “لغة المشاعر” لدى الطفل أو لغة “الشعر” لدى الراشد. ولكن عندما يشرح إبراهيم الرجل لسلام الطفل كيف كان يتبصص على الأزواج وهم يمارسون الجنس مع زوجاتهم في (الكلل – الناموسيات) الثمان بعنفوان خجول وكيف أنه (أواصل من مكاني المحاذي لـ (كلّة) أبي لعبة اختراق “اللامتناهي” – ص 65) فهنا يحصل إرباك شديد. بل فوضى في مبرّر التعبير، وفي مرجعيته. فلا إبراهيم الطفل بقادر على إدراك اللامتناهي وضرورة اختراقه وهو الغِرّ الذي تغسل له أمّه في (الطشت) .. ولا إبراهيم الرجل السارد بمستطيع إقناعنا بأن بعض الأطفال قادرون على اختراق اللامتناهي من خلال (الكلّه). ثم أي لامتناهي هذا .. فيزيائي أم فلسفي أم شعري ؟ وهل ترك هذا اللامتناهي – مهما كان نوعه – أماكنه المعروفة ليستقر في بيت متهرىء في حيّ العرصة بكركوك يسكنه نائب عريف كان يعمل مهرّبا ؟
# الشعرية ومستوى الشخصيات :
يجب أن يكون الحديث والحوار مناسبا لمستوى الشخصيات كما قلنا . وهذا ما لم يحصل في الكثير من مواقف الرواية . لنأخذ على سبيل المثال “سعدية” زوج الشيخ راضي، وكانا يسكنان إحدى الغرف الثمان في البيت القديم الذي سكنت فيه عائلة ابراهيم في كركوك وهو طفل. وهي إمرأة أمّية ريفية بالتأكيد في المرحلة التي يتحدث عنها ابراهيم. تزوج زوجها الشيخ عليها وصار يزورها لماما كل يوم خميس وبصورة لا تطفىء حاجاتها الجنسية. إستمع إليها وهي تخاطب زوجها الشيخ على السرير بعبارات ينقلها إلينا إبراهيم -الطفل الساذج أم الكبير الراشد؟!- :
(دع استغفاراتك للرب جانبا. صدّقني سيدي الشيخ أنهم يصهلون طوال الليل. كل ليلة يصهلون من أول الليل حتى الفجر. أحسّ أني محاصرة باستغفاراتك وأنا مشدودة إلى لغة اللهاث . أبقى ملتصقة بالسرير. أفتح ساقي على سعتهما والكلمات تتكسر في حنجرتي التي ليست من اللهاث – ص 73).
# وتشتعل حماسة الكاتب – أي كاتب – الشعرية في المواقف العاطفية بطبيعة الحال . فالإنفعال الجنسي مثلا يرخي قيود السيطرة العقلية المنطقية للـ “أنا” ويطلق حفزات “الهو” وطرقه في “التفكير الأولي – primary thinking ” بما تتميّز به من استعارات ومجازات وقفز على حدود الزمان والمكان وغيرها وهي أساسا من مميزات التفكير الشعري. ولو فرضنا أن الروائي يتناول مشهدا فيه حوار بين شخصيتين سياسيتين فمن المؤكد أن الطبيعة السردية العقلانية المنطقية هي التي ستكون الغالبة. لكن على الروائي أن يكون صاحيا دائما فهو ليس “الشخصية” التي تتحدث بتلقائيتها وبلا ضوابط . وأطروحة الراوي العليم وغير العليم واستقلال الشخصية وغيرها لا تعني “موت المؤلف” أبدا ولا اضمحلال سيطرته . فهو خالق العمل وضابطه. لقد تعزّزت علاقة حسن بشكيب الطالب الشيوعي الذي كان يسكن معه الغرفة نفسها في فندق “العمارة الكبير” ببغداد. فقاده الأخير ذات يوم، وحين شاهد نظراته الذئبية الجائعة إلى النساء في الشوارع، إلى بيت للدعارة في منطقة “حافظ القاضي” . وهناك تعرّف إلى المومس “سمر”. ولا أعلم – وهذه ملاحظة عرضية لكنها عميقة – لماذا لا نلتفت إلى ظاهرة أن الكثير من الشخصيات الروائية السياسية الثورية تكون من رواد دور الدعارة ولديها علاقة متينة مع إحدى المومسات المظلومات يحاول مساعدتها وتعليمها أحيانا للإرتفاع بإنسانيتها و”تحريرها”. هل لهذه الظاهرة صلة بارتباط العمل السياسي السري خصوصا بالمركب الأوديبي وحوافز الثورة على الأب وقتله ولتصريف الحفزات المحارمية المكبوتة وتفريج ضغوط “عقدة الإنقاذ” ؟ .
ومع سمر يجد حسن متنفسا لرغباته الجنسية المحتبسة . ويصف لنا الكاتب واحدة من لحظات إلتحامه بها :
(كانت تُدخله بين فخذيها كلما تحسّ به منتصبا .. يدفع نفسه عميقا فيها، ضاربا بشيئه تلك الأعماق السحيقة – ص 38).
فأي أعماق سحيقة هذه التي في فرج “سمر” المومس؟
إنها الأعماق السحيقة الشعرية .
ووسط الهياج الوصفي والتوتر الإنفعالي الذي تنتقل عدواه إلى القارىء فتغيّب بصره وبصيرته أحيانا. وقد تتناغم إستجابتنا مع مخطط الكاتب الذي أراد أن يظهر لنا براءة حسن وهو بين يدي المومس سمر المحترفتين فننسى أنه “شيطان” جنسي يكفيه أنه حدّثنا عن الكيفية التي أخرج فيها قضيبه للصبية البريئة (سليمة) في قريته التي غادرها مكرها بعد انفضاح علاقتهما :
(زواجنا الذي حدثتها عنه كثيرا، الأمر الذي جعلها تتسامح وأنا أمسك يدها وأتحدث معها بحرية أكثر عن رجولتي التي كنت أريها لها من خلال فتحة في سروالي الداخلي موهما إياها أنني لا أدري ماذا يجري في الأسفل؛ أسفل الجسد .. وأدرك ماذا تعني [= الحسرات] وهي تنطلق من فم فتاة في أول بلوغها جيدا، فأتمادى أكثر – ص 44).
# في بداية الفصل الرابع ينقل لنا الكاتب الحوار التالي :
(- لقد كبرتَ با هوبي ..
قالتها زايرة “سِكنة” وهي تضحك … “صحيح لقد كبرت يا زايرة. قبل الزلزال وبعده. زلزال الماء الأزرق، في مدينة الماء الأزرق. لقد كان للأمر أصداء هائلة علينا . ليس زلزالا بل الكثير من العلامات التي عصفت بنا . ليس علي فقط، بل علينا كلنا – ص 123).
وقد يتساءل القارىء هل هذا هو الحوار الذي يوجّه إلى إنسانة بسيطة وأمّية مثل “زايرة سكنه” ؟
وقفة سريعة :
على الصفحة 106 نقل هوبي عن رفيقه في السجن “سامر” أن مدينة الديوانية هي “مدينة الماء الأزرق” ! وأنا من الديوانية وأعرف أن نهر الديوانية هو فرع ثانوي من الفرات العظيم (الفرع الرئيسي يمر بقضاء الدغارة) ، وهو فرع لون مائه “خاكي” بسبب كثرة مادة الغرين وقلّة عمقه. فمن اين جاءه اللون الأزرق؟
عودة إلى الحوار بين هوبي والزايرة سكنة :
وتابع معي تكملة الحوار بين هوبي والزايرة “سِكنة” :
(أحداث سريعة بدءاً من السجن وفقدان ذلك البيت في كركوك الذي لم يكن بيتا فقط ، بل كان ذاكرة حياة كبيرة امتدت بنا من أقاصي العالم إلى اقصاه – نفس الصفحة).
ستجد بداية هذا الحديث معقولة إذ يوجهه حسن إلى إمرأة عجوز بسيطة بمستوى “زايرة” يخبرها بسجنه وضياع بيته . ولكنك سرعان ما ستجد الإفراط الذي لا لزوم له (حياة كبيرة امتدت بنا من أقاصي العالم إلى أقصاه!!) . فالزايرة تعرف أنه سكن البصرة ثم كركوك. وهي نفسها لن تصدق بهذا التعبير المفرط.
إن من مقاتل الفن الروائي العربي ، بل الإبداع العربي كله والثقافة العربية كلها هو أنه صار فن وإبداع وثقافة “نخبة” بسبب هذه اللغة المتعالية التي لا يفهمها سوى زملاء الكاتب من القراء ، بسبب خدعة الحداثة وما بعد الحداثة الغربية التي نقلناها بتقليد مشوّه معتقدين أننا أكملنا النهضة على غرار أوروبا ودخلنا الحداثة وها نحن نعد حقائبنا لنركب قطار ما بعد الحداثة التفكيكي !!
ثم يستدرك هوبي ويقول عن الزايرة “سِكنة” :
(كانت تضحك وأنا ساهم أتطلع في وجهها الذي يذكرني بوجه أمّي حسنة، وجه حفرته الأخاديد “وقطعاً لم أقصد البيت الذي صادره الحرس القومي ، بل كنت اقصد بيت العرصة الكبير” ثم أضافت :
–    حسن أو هوبي .. لا يهم. المهم أن لا يكون هوبي في ورطة – ص 124)
فمن الذي سألها عن المفاضلة بين حسن وهوبي ؟ أنا لا أعرف.
ثم هناك أسوأ الأسئلة : من هي الزايره “سِكنة” ؟
لقد أقحمها الكاتب في مسار الرواية على الصفحة 123 ولم نسمع بها سابقا أبدا!! ما هو دورها وما هي وظيفتها ؟
والمصيبة أنها بعد ثلاث صفحات سوف تختفي من ساحة الرواية !!
وهو لا يتردد في الحديث للزايرة “سكنة” المسكينة عن الشيوعيين الذين احبّهم قبل السجن وفي السجن وبعده (طوال السنة التي أمضيتها بينهم ، كنت أسمع كلمات جديدة لم اسمعها من قبل : النضال ، الوطن، السعادة، الحب. وقد يسهب أحدهم وهو يتحدث عن الموت والشهادة وأعداء الجمال. يا “سكنة” كلهم طيبون لا تفارق الإبتسامة وجوههم – ص 127).
لنقفز سريعا الآن لنرى لماذا وقع هوبي/ حسن في كارثة السجن مرة ثانية ، وبسبب من ؟
لقد حصل هوبي على مبلغ جيّد تعويضا عن سنوات خدمته، وخُصص له راتب تقاعدي بعد سقوط انقلاب شباط وتغيّر الأوضاع. ساعده المبلغ على المجىء إلى بغداد وشراء بيت في مدينة الثورة/ الجوادر . كما قام بتأجير مقهى أصبح موردا لرزق جيد حيث صار مقرا لفريق رياضي. لقد ساعده في إدارة المقهى إبنه إبراهيم ومهدي الأسود والأخير أحد أعضاء الفريق الرياضي. تحسّنت أحوال هوبي المادية كثيرا. وحتى وضعه النفسي بدأ بالتحسن (بدأت رائحة الزنازين تخفت وأنا في أوج عملي) كما يقول (ص 171). ولكن المقهى من حيث لا يدري هوبي أصبح وكرا للشيوعيين. وهذه ظاهرة غريبة لدى العاملين في الأحزاب الثورية العراقية. فهم يختارون مقهى ليكون وكرا لهم فيورطون صاحب المقهى ويقطعون رزقه عند أي “كبسة” من أجهزة السلطة.
لقد كانت المجموعة الشيوعية التي استخدمت مقهى هوبي وكرا لها هي مجموعة “أبو ماجد”. ولأول مرة نسمع كاتبا يصف مجموعة شيوعية بأنها مرفّهة وتدخن السجائر الأجنبية في حين أن كل الروايات السابقة – محليا وعربيا وعالميا – على هذه الرواية تعرضهم ككادحين مسحوقين. الكاتب نفسه عرض نموذج (شكيب) المسحوق طالب الكلية الذي ينام مجانا في فندق زاير محيبس (ويعتاش على مساعدة أخيه التاجر وصاحب الفندق إبن عم أمّه (شيوعي يعيش على موارد البرجوازية الصغيرة!!) والعريف أكبر وسامر والأستاذ حسين المدرس البسيط . فما الذي حصل لتصبح مجموعة أبو ماجد هذه وفق ما وصفها به حسن/ هوبي :
(مجموعة أبوماجد المكونة من أربعة اصدقاء تربطهم علاقات قوية . فهم موظفون في دوائر الدولة. وهذا واضح من ملابسهم الأنيقة وحلاقتهم واهتمامهم بأشكالهم وتدخينهم سكائر أجنبية وارتدائهم ساعات فاخرة – ص 164).
وقد لا تكون هذه الملاحظة جوهرية جدا ، ولكن لنتابع ما الذي فعله أفراد الجماعة بحسن وإبنه ابراهيم وعائلته. لقد وثقّوا علاقتهم بالصبي إبراهيم وبدأوا يرسلونه في مشاوير لتوصيل رسائل حزبية! وفي كل العالم يحرّم تشغيل الأطفال في السياسة. ولكن “الثوريين” العرب لا يترددون في ذلك. ثم الأدهى من ذلك كما يقول هوبي :
(إقتحمت قوات من الجيش والشرطة ورجال الأمن المقهى وحاصرتها، ومنعت الحركة فيها.. صاح أحدهم في وجهي:
–    أنت صاحب المقهى ..
رأيت بنادق كثيرة مصوبة ناحية رأسي وصدري.. ورأيت بوضوح صناديق خشبية مطلية بلون أبيض وأخضر حملهما رجلان وهما يشيران ناحيتي حيث أوقفوني في أول الصف قبل أن يدفعني أحدهم ناحية السيارة التي تشبه الصندوق – ص 176).
هذه الكارثة .. كارثة سجن حسن للمرة الثانية وفراقه عن عائلته وخراب مقهاه كانت من صنع الرفاق الشيوعيين الذين يحبهم حبا جما كما يقول . كيف سوّلت لهم أنفسهم أن يضعوا صناديق سلاح في مقهى هذا المسكين من دون علمه؟
وهناك خطأ فنّي، فبعد صفحات يقول مهدي الأسود لزوجة هوبي أن رجال الأمن وجدوا صندوقين للسلاح وليست صناديق كما قال هوبي.
المهم أن حسن يعلن – في أكثر من موقف – لزوجته وللشيخ راضي وشكيب ولصديق العسكرية هاشم وحتى لنفسه أن حبّه للشيوعيين يتسلط عليه مثل قدر لا يرد :
(لقد أحببتهم كثيرا. وبتّ كلما ألتقي بأحدهم أعرفه وأميّزه من طريقة كلامه .. لقد سُحرتُ بهم .. فهم أقرب الناس إلى قلوبنا نحن المسحوقين… أحبّهم .. إنهم يشبهون الملائكة .. إلخ – صفحات كثيرة) .
# بين شعرية القدريّة وعلميّة الحتميّة :
ووصف القدرية يحيلنا إلى موضوعة القدرية التي سمعها حسن لأول مرة من فم شكيب. يقول هوبي : (فأنا بسبب هؤلاء الشيوعيين خسرت كل شيء . لكني لا أعلم لماذا أحبهم إلى الحد الذي تتحول كل مجازفة أعيشها بسببهم إلى جسر يقربني منهم. بل إنها تزيد من علاقتي بهم ؛ شكيب وعريف أكبر وسامر الذي تجمعني به زنزانة مكشوفة أمام الجميع.. أمام مخبرين سريين، حيث يقترب الخطر مني في كل لحظة تمر. أجل خطر يكبر ويتحوّل إلى قدر. وأقول لنفسي : قدر جميل لأنه يقترب من بعيد أو قريب بشكيب – ص 108 و109) .
وهو أي حسن يستخدم موضوعة “القدرية” لتبرير ما وقع له من مآس ومحن :
(القدرية كنت أسمعها من شكيب وهو يحدثني عنها. لقد حدثني شكيب عن أشياء كثيرة بلغته البسيطة . كأنه يقرأ في وجهي كل ما سيجري ، وأراد أن أكون مهيئا للأمر كما يراه ، وإلا ما علاقتي بالقدرية وأنا الفلاح البسيط الذي يدخل رحم المدينة من خلاله، الشاب المُلتبس عليه الأمر وهو يجوب الشوارع الملونة، ويخترق أنفاقا تتمثل بأزقة حافظ القاضي، وتلك الثقوب السرية التي كانت تدلني عليها أصابع سمر. آه سمر ومن ثمّ غيرها؛ الكثير من النسوة اللاتي دخلت ممالكهن .
–    القدريّة تعني قدر المرء . وهذا مستل من التراجيديات الإغريقية.
وقبل أن أفاجئه بأي سؤال ، ضحك :
-أجل التراجيديات. هي الحكايات التي كنا نسمعها من افواه أمهاتنا حينما كنا صغارا – 143 و144).
و(لولا القدرية التي كان يشرحها لي حبيبي شكيب ؛ لولاها لما اعتقلت ولما حدث لكم ما حدث – ص 150).
وفي موضع آخر يتقدم شكيب خطوة ابعد وأغرب حين يربط بين القدرية والحتمية في تفسير ما لحق بهوبي من محن : (للأمر علاقة بالقدرية والحتمية التي تخلقها الظروف الموضوعية. إنها أحوالنا الكبيرة التي نخوضها بناء على معطيات واقع ؛ واقع نحلم أن نغيّره. ولكنها أحلامنا الكبيرة حيث لا تسعها المنافذ التي حفرناها في صخوره. المنافذ التي دفعت أنت وأنا والكثير ثمنا كبيرا لنرسمها في صخور الفولاذ الصلدة – ص 164).
أما حسن فإنه يعيد علينا نغمة أن ما لحق به من مصائب كان بسبب إسم هوبي عبد الرزاق (حامل دفتر النفوس المشؤوم. هو السبب في كل هذا . لولاه لبقيت في “المجرية”. وربما أتزوج سليمة وأبقى في حضن أمي حسنة – ص 165).
ولا نعلم كيف سيبقى في القرية وهو الذي أخبرنا بعظمة لسانه أنه طرد منها ولن يستطيع العودة إليها بعد مشكلته مع مهاوش وعائلته مخافة أن يُقتل .. إلخ ؟
وقد يكون مهما أن نشير إلى كثرة إعادة إسم الأم حسنة وقرية المجرية وحبيبة الطفولة نجمة  … إلخ التي عرفناها ولا حاجة لإعادة تذكيرنا بها. ولكن الأهم هو أن شكيب وهو المثقف الشيوعي يخلط بين الحتمية وهي أطروحة شيوعية من ماركس كطريق تطور تاريخي صاعد مرسوم عبر مراحل المادية التاريخية الخمس من خلال تفاعل البنى التحتية من قوى إنتاج وعلاقات إنتاج وغيرها ، وبين القدرية التي هي أشبه بلعبة الحظ والتي قلنا إن فيها قدرا من اختياراتنا الواعية واللاواعية ، وبين فعل الإرادة الحرة الصلبة التي تحفر للأحلام طريقا في الفولاذ الصلب.
وبالمناسبة فإن الكاتب إذا كان يبغي تصميم لعبة يكون فيها إسم هوبي عبد الرزاق لعنة على حسن كنيهر فإن من شروطها أن يكون هوبي الأصلي طرفا نعرف عن لعنته شيئا معينا. أما والأمر مجرد الحصول على دفتر نفوس بالبيع والشراء فإن الحبكة كلها سوف تدور حول حسن الذي نعرف تفاصيل حياته ولا سر في لعناتها مرتبطا بهوبي.
وحسن يريد أن يقدم تفسيرا لهذه الجفوة المحزنة والمربكة بينه وولده إبراهيم. فالخراب الذي أربك علاقتهما يقوم على “قدرية” لا راد لحكمها أشبه بأقدار أبطال التراجيديات اليونانية المأساوية.
لكننا وبشىء من دقة النظر التحليلية نستطيع التفريق بين غطاء القدرية والذي وصفه أرسطو بـ (السقطة أو الهامارتيا) وهو يحلّل تراجيديا البطل في كتاب “الشعر”،  بل أن روح مصير البطل تبرد بالنهايات السعيدة والمسارات المتماسكة والمتصاعدة التي تأتي بلا انكسارات حاسمة . ولم تكن لحسن/ هوبي سقطته الكبرى . ولكن سلسلة تراكمات لأخطاء صغيرة بعضها غير محسوس بقوة، جعلته يعيش مناخ “السقطة” الكبرى ومضاعفاتها. وهي في حقيقتها مجموعة خصائص شخصية تذكّرنا بما يترسخ في الذهن عن مسيرة الأبطال التراجيديين الذين “لو لم يكونوا يستحقون ما يحصل لهم من مصائر” لما حصلت لهم تلك اللعنات التي يأتي بعضها قاصما . ولعل أول هذه السمات هو ما يمكن أن نعبّر عنه بمعضلة (لماذا … لم ؟) ؛

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *