في روايته (اعترافات كائن) الفائزة بجائزة موقع الروائي عام 2008 والصادرةعن دار التكوين-دمشق-2009/يقدم لنا ابراهيم الغالبي حدثا متكاملا ومغريا للقارىء عبر رواية لا تحتشد بالكثير من الشخصيات ،بل أن الشخصيات الفاعلة التي ترسم مسار الاحداث عبر علاقاتها وتفاعلاتها هي ثلاثة ليس أكثر/ثائر المجدول وزوجته خمائل وصديقه هاشم المقرب من اوساط السلطة قبل التغيير / وعداها لا تؤدي الا ادوارا ثانوية تعزز المسار السردي ولايتحصّل عن استبعادها تأثير واضح على الثيمة الاساس للرواية.
محور الاحداث هو ثائر المجدول الشاب الذي اعتقل بتهمة اغتيال أحد رجال السلطة ( وهي تهمة ملفقة كما يتضح الامر للقارىء) وفي السجن سيلاقي ابشع التعذيب ويرى زملاء السجن يتعرضون له ومنهم الشيخ راضي المتدين وكذلك المثقف “ابوبلقيس” حيث تنمو الشخصيتان لتمثلا رمزيا أهم شريحتين كانتا مستهدفتين من السلطة، وهناك في أقبية التعذيب الوحشي ستبتر ذكورة ثائر المجدول لأنه رفض اغتصاب فتاة سجينة، وسترافقه لعنة فعلتهم أمام زوجته وحبيبته “خمائل” ومنذ اليوم الاول لخروجه من السجن بتوسط “صديقه” هاشم، الذي قال له وكأنه يعرف ما جرى لثائر: لقد فعلوها بك إذن../ص11 من الرواية.
بسلاسة السرد وانسيابه سيعرف القارىء ومن دون فرصة للخيال او التأويل ان هاشم سيتولى ملأ الفراغ في بيت ثائر مقابل بذله المال لانقاذه من السجن، وسيواصل دوره الخائن هذا حتى بعد اطلاق سراح ثائر المعاق جنسيا، حتى تنتهي حياته على يد مجموعة من الشباب وهو مختف في بيت ثائر بعد ان اسقطت قوات الاحتلال مؤسسات وجبروت النظام الذي كان مستقويا به، ودفنه ثائر في حديقة البيت من دون كفن ولا غسل ولاحتى توجيه نحو القبلة مع كلب احمر سبق لثائر ان فرغ فيه شحنات انتقامه. وفي هذه المقبرة المصغرة والرمزية طبعا سيقبر زوجته خمائل بعد تعذيبها بقسوة وسادية طبق فيه كل وسائل واساليب التعذيب الوحشي الذي مورس ضده في السجن، حتى انه ختم حفلته البشعة باستخدام الموس لاستئصال أنوثتها – تماما كما فعلوا به – بعد ان انتزع اعترافاتها بما فعلته بصحبة هاشم عند غيابه، من دون الالتفات إلى انها تردت الى ذاك المنحدر سعيا منها لانقاذه هو زوجها ثائر وكانت تنتظر رجولته لكنها فوجئت بفقدانه لها.
الرواية بشخصياتها المعدودة وطولها المتوسط 140 صفحة، واحداثها المتضامنة تقريبا استطاعت ان توجز لنا بشاعة وقسوة وتفاهة الحال العراقي في السنوات القلائل قبل الاحتلال الامريكي للعراق، ومن خلال هذا الايجاز قدم لنا ابراهيم الغالبي عرضا رمزيا لقراءته الذكية والواعية وتشخيصه للامراض النفسية والاجتماعية التي يمكن ان يصاب بها الافراد او المجتمعات كنتيجة لسادية السلطة وتفاهة ممثليها وكنتيجة ايضا لما سيحدث عند ضعف التحصين الاخلاقي والمبدئي واختلال منظومة الوعي عند الشرائح المضطهدة، فالمازوشية السلبية/جلد الذات والتهيوء للانتحار هربا من واقع مر، هذه السلبية تحولت الى سلبية مضادة تمثلت في الانهزام والاستخذاء في مواجهة هاشم الرمز الواضح لسلطة سلبته اعز ما وهبته الحياة، واستمر بهذ الخضوع حتى بعد لجوء هاشم اليه فارا من مصير ينتظره ولولا قيام الشباب بتصفيته جسديا لواصل استغلاله فراش الزوجية في بيت ثائر / هذا الفراش وهذا البيت يمثل معادلا رمزيا للوطن المغتصب كله، والذي استمر اغتصابه واهانته حتى بعد انتصار قوات الاحتلال، الى ان قام ابناء البلد بانفسهم في ايقاف الجريمة التي كان هاشم متلبسا بها في اخر لحظات حياته مع رجاء الفتاة الهاربة والمحتمية بهذا البيت الذي عجز صاحبه حتى عن حماية نفسه، لكنه/ثائر العاجز/ سيتحول الى جلاد بشع و”شجاع ” لامثيل له بالجريمة والسادية مع ضحيته وضحية هاشم وهي خمائل ويمارس معها صنوف التعذيب والبشاعة المستنسخة عن بشاعة السلطة معه في السجن، وانتهى الامر بان دفنها مع الكلب الاحمر ومع هاشم في حديقة البيت.
هذا المحتوى المثقل بتوقفات وصف تطول احيانا ، والذي عرضه الروائي ابراهيم الغالبي بشكل سردي اعتيادي تنمو احداثه ووقائعه مع تواصل القراءة بعيدا عن اي محاولة للتجريب او مغامرة في البناء العام للرواية، وركز جهده الابداعي لعرض الواقع برمزية واضحة ومعبرة مع الاشتغال الجاد على رسم شخصياته بموضوعية تحسب له فبدا اغلب الثلاثة كشخصيات مرضية غير سوية وحتى الشيخ راضي وابوبلقيس والفتاة رجاء كلهم كانوا يفتقرون للتوازن النفسي والاخلاقي وتصدر عنهم افعالا متناقضة ، وابرز الامثلة هو ثائر المجدول حيث يرضى بالعمل في حراسة احد المقرات الحزبية مع انه كان عرضة لسخريتهم وكانوا سببا لما حدث له بل انه يتفانى في الحراسة والاخلاص لهم ويستخدم السلاح ويطلق النار لكنه بالمقابل لايقوم بأي فعل ضد هاشم حتى بعد ان يكتشف بالعين المباشرة خيانته لفراشه وحتى بعد ان يتحول هاشم الى كائن هش هارب ومتنكر، وهكذا خمائل التي ارتضت ان تبيع جسدها لانقاذ زوجها ثم تمرغت اكثر في وحل الأحدار والخيانة حتى بعد اطلاق سراح زوجها.
ويبقى السؤال : هل استطاع ابراهيم ان يقدم سردا عاكسا للواقع العراقي الخارجي؟ الاجابة نعم طبعا فقد كان كل تركيزه على عرض المضمون الواقعي من دون الالتفات الى الشكل الفني للعرض، ولعل اهتمام الروائي بقرائه وضرورة الاتصال الميسر معهم هو الدافع الاساس لهذا التركيز.
تحية للروائي ابراهيم الغالبي لما قدمه في هذه الرواية وتحية أخرى وهو يهديني نسخة منها عند الاحتفال بفوزه بجائزة مهمة أخرى وهي الجائزة الاولى لمسابقة الروائي الراحل محمد الحمراني .
جابر خليفة جابر
Jabir_kh@yahoo.com
جابر خليفة جابر : إعترافات كائن .. قراءة
تعليقات الفيسبوك