زاهر الجيزاني : الشعر الحر.. ملاحظات حول المصطلح والحداثة

zaher algezani1

“بعدما أنزلوني سمعت الرياح

في نواح طويل
تسف النخيل
والخطى وهي تنأى اذن فالجراح
والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل-
لم تمتني
وانصت كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينه
مثل حبل يشد السفينه
وهي تهوي الى القاع
كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
وبين الدجى في سماء الشتاء الحزينه
ثم تغفو على ما تحس المدينه
هذا مقطع من قصيدة المسيح بعد الصلب – للشاعر بدر شاكر السياب نشرت عام – 1957، في أواخر السبعينات انشددت الى قصيدتين مازالت بقية من شحنتهما راسبة الى اليوم في داخلي، هما (المسيح بعد الصلب) للسياب، و(مرثية للعمر الجميل) للشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي، كنت وقتها أسأل كيف استطاع السياب أن يضبط ويسيطر على اربعة خطوط؟، تتناوب الحركة بانتظام:
حركة الصورة
حركة الموسيقى
حركة القافية
حركة المعنى
والسيطرة هذه هي التي جعلت القصيدة ذات تأثير حتى اليوم – ورغم اعجابي بتقنيتها العالية أيضا أود أن أشير إلى فشلها في الاخلاص الى حركة الحداثة التي انطلقت شعريا في بداية الخمسينات وأفكارا تنويرية ومطالبات تحديث في بدايات القرن العشرين، وفي المحصلة تبقى هذه التعليقات وجهة نظر، فالقصيدة في مستوى العمق تجمعت من معرفة دينية وتصورات ملزمة تعمل في ديناميكية ماكرة لألغاء العقل ومحاصرته ويبدو أن ثقافةالحداثة الشعرية وضعت نفسها في –ورطة- منذ البداية.
2
منذ أن علقت القصيدة العمودية في عظمة المتنبي وزمنه بقي الشعر العربي رهينا للتقليد ولم يغير الجواهري وأحمد شوقي وبدوي الجبل من المعادلة فقد كانوا ثلاثة أصداء مميزة لذلك الصوت العظيم وزمنه (..أنا الطائر المحكي والآخر الصدى)، وبمجيء السياب والبياتي، تأسس صوت أخر وزمن مختلف وتغيرت القواعد القديمة، واثبت الشعر اخلاصه لخط العقل الذي ظهر في العراق على يد الزهاوي، الايمان بالعقل مصدر هداية وليس بالروح الغامضة المجهولة، وتحرير الشعر من شروطه القديمة القاسية (تجربته الاولى في الشعر المرسل)، وفي الشام على يد الكواكبي(كتاب طبائع الاستبداد) وفي مصر على يد لطفي السيد، الذي دعا الى التمسك بالتعليم الحديث سفينة نجاة من الغرق في الخرافة التي يبرع المعممون في نشرها على نطاق واسع.
في العراق وفي خطين متوازيين تم تطبيق دعوة الزهاوي، الخط الأول جيل السياب الشعري والخط الثاني جيل علي الوردي الأكاديمي.
في الستينات حدث سجال ساخن بين الدكتور علي الوردي الذي يمثل اتجاه الايمان بالعقل والشيخ جلال الدين الحنفي، الذي يمثل اتجاه الايمان بالروح، كان الجدل حول وجود “الطنطل” في البيوت المهجورة، وطلب الوردي من الشيخ أن يذهبا الى بيت مهجور( عرف بكثرة الطناطل الساكنة فيه)وليقضيا ليلتهما هناك وفعلا ذهبا، في هذا الرهان فاز الوردي وخسر الحنفي، ليس هناك طنطل ولاهم يحزنون.
3
في قصيدة السياب تم تكسير السطور الموزونة، وبذلك ألغيت القاعدة العروضية (نظام الصدر والعجز) وتحركت القافية بحرية بعد أن كانت ثابتة في مكان واحد مايقرب من الف سنة، أعطى هذا التحلل من القيود القديمة حرية ذات مساحة مريحة لحركة القصيدة الجديدة، واتاح لها امكانية ادخال (السرد والاقتباس والجمل الاعتراضية والانتقال من بحر الى بحر)، كما فعل السياب في هذه القصيدة التي تعد من بواكير انجازات الحداثة الشعرية في العالم العربي.
والشعر الحر تسمية اطلقتها نازك الملائكة على هذا الشكل وهي متطابقة وصحيحة في اعتقادي، وما قاله أمين الريحاني عام 1910 عن قصائد النثر (هتاف الأودية) التي نشرها آنذاك “أنها شعر حر”، فهذا القول يفتقر الى تدقيق ومقارنة بين شكل وآخر، كذلك الأمر مع أحمد زكي أبو شادي عام 1926 الذي سمى ديوانه-الشفق الباكي- شعرا حرا ولم يكن كذلك فهو على غرار هذا البيت المقتبس من ديوانه (الشفق الباكي):
مرت ملايينها لمحا كثانية
وخلفت حيرة كبرى لمن فهموا
ما الخلق؟ ما هذه الدنيا ومنشؤها؟
ما الفكر؟ ما الجوهر الباقي؟وما العدمُ؟
4
الشعر الحر، هذه هي التسمية التي نقلت الى العربية عنوانا للشكل الشعري الجديد الذي ابتكره شعراء عراقيون في اوائل الخمسينات، نلاحظ في الشعر الانكليزي كما في الشعر العربي أن هناك ثلاثة عناصر أساسية في العروض(الوزن، التفعيلة، القافية)، (ميتر)(فوت)(رايم) Metre-foot-rhyme.
طبعا الكلمة هي الوحدة الاولى الاساسية التي تقوم عليها التفعيلة وفي العربية الكلمة تتكون من حروف وكل حرف ممسوك بحركة وتحتوي الكلمة العربية في الأغلب على ثلاث حركات (الضم، الفتح، الكسر، والسكون)، والكلمة الانكليزية تختلف عن العربية فهي تتكون من مقاطع، ربما من مقطع واحد أو مقطعين أوثلاثة وهذه المقاطع تصنف الى مقطع منبور ومقطع غير منبور ومثلما تتكون التفعيلة في الكلمة العربية من خلال الحرف، وحركته ففي الانكليزية من خلال المقطع لذلك فالسطر الشعري العربي يحسب بعدد حروفه بينما السطر الشعري الانكليزي يحسب بعدد مقاطعه ربما يتضمن المقطع الواحد ثلاثة حروف- مثل:
(فاي – نين – شل)، المؤلفة من تسعة حروف، تحسب وزنيا من ثلاثة مقاطع، المقطع fi-nan-cial
او كلمة:
(can)
الاول غير منبور والثاني منبور والثالث غير منبور وهذا التقطيع يقابل ما عندنا(متحرك+متحرك ساكن+متحرك)، وفي المحصلة النهائية تعمل الحروف العربية والمقاطع الانكليزية في تقسيمين اثنين–في العربية حرف ساكن وحرف متحرك-وفي الانكليزية مقطع منبور(مشدد) ومقطع غير منبور(مخفف)، في الوزن الايامبي يتألف السطر الشعري من خمسة مقاطع منبورة وخمسة غير منبورة وهكذا تتساوى بقية الاسطر وفي نهاية كل سطر قافية.
في الشعر الحر الانكليزي الغيت المقاطع الخمسة المنبورة والغيت القافية من نهاية السطر واصبح المقطع المنبور حرا في انتقاله من سطر الى سطر، وحرا في عدده، ولم يتقيد في العدد خمسة، كذلك القافية ايضا تحررت فهي ممكن أن تكون في وسط السطر أو في نهايته وفي كثير من الاحيان لا تحتوي السطور على مقاطع منبورة أو قواف.
ويعتبر شعر والت ويتمن نموذجا للشعر الامريكي الحر، وشعره يسمح لمقاطع منبورة وقواف في بعض الاحيان.
أيضا الشعر العربي الحر امتاز بالسمات ذاتها فهو شعر يمتد فيه السطر وينكمش بحرية، فحركته غير منتظمة في الطول والقصر، والمقطع اعلاه من قصيدة السياب كله سطر واحد طويل جدا، لكن الشاعر قطع السطر الطويل الى سطور صغيرة، وصفها بهذا الشكل لابراز تأثير القافية، ستلاحظ هنا ان السطر حر تستطيع أن توقفه تبعا لأبراز التفعيلة أو توقفه تبعا لابراز المعنى والقافية هنا حرة في اختيار مكانها من السطر وعدد التفعيلات لا يتساوى في الاسطر كل هذه الحرية في الشكل تجيز لنا العودة الى مصطلح (الشعر الحر).
5
سمى جبرا ابراهيم جبرا قصائد النثر التي كتبها ونشرها عام 1957 – شعرا حرا ( تموز في المدينة)، وأنا ممن يميلون الى وصف قصيدة النثر (بالنثر) وانها ليست شعرا في اطار شروط وقواعد اللغة الشعرية، فقصيدة الشعر لاتنتج الا داخل نظام لغة الشعر المعروفة شروطه وقواعده وقصيدة النثر لا تنتج الا في نظام لغة النثر المعروفة أيضا شروطه وقواعده، لا اتحدث هنا عن (الشعرية ونظام الازاحة)الموجود حتى في الكلام اليومي بين الناس، لكن اتحدث عن الشعر والنثر كنظامين منفصلين في اجراءات اللغة، فالشعر يخلق قصيدته من لغة الشعر والنثر يخلق قصيدته من لغة النثر فالاساس المشترك هنا كلانا نكتب (قصيدة).
قصيدتك تجمع أجزاءها من لغة الشعر، وقصيدتي أجمع أجزاءها من لغة النثر.
في عام 2010 استضافتني جماعة –الحلة-(واريد أن أنوه هنا بهذه الجماعات الادبية الجديدة المتمركزة في كل محافظات العراق وهي لا تنافس فقط بغداد كورش ثقافية منتجة بل تجاوز البعض منها المركز في عرض منظور تحليلي جديد للنص الادبي والثقافي عموما )، في الحلة أشار الناقد باقر جاسم الحريص دائما على أدواته النقدية في مداخلته، ان القصيدة والشعر في الانكليزية كلمتان مشتقتان من بعضهما:
Poetry-poem
في المقابل كلمتا (قصيدة وشعر) في العربية بعيدتان عن بعضهما ومنفصلتان.
شخصيا أعتبر قصيدة النثر (شكلا ماصا) للأشكال المجاورة له، قصيدة النثر تندس في وصلات السرد حتى كأنها قصة قصيرة مضغوطة وفي الحوار أو تغرق في فائض من الصور الشعرية المتلاحقة، فشكلها الحقيقي أميبي لهذا فهي اكتشاف هائل في الأخص اذا وضع هذا الاكتشاف في يد مهرة وموهوبين، لذلك لا أتفق مع رأي جبرا فقصيدة النثر ليست شعرا حرا ولا أجد ضيرا من ابقاء مصطلح (الشعر الحر)تسمية لشعر التفعيلة وشعر التفعيلة تسمية جانبية – فرعية للشعر الحر.

6
ابتداء من انجاز السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري دخل الشعر العربي زمنا جديدا مختلفا وحقق عظمته بعيدا عن عظمة المتنبي، ثم توالت التحولات الشعرية صعودا بعد ذلك، لكن في هذه القصيدة وقصائد غيرها للسياب ومعظم شعر البياتي ونازك وادونيس في (هذا هو اسمي، والتحولات في أقاليم الليل والنهار)، وصلاح عبد الصبور في (مأساة الحلاج)، وحتى قصيدة (مرثية للعمر الجميل) لحجازي، ثمة مشكلة في عمق الحداثة وكأن الحداثة الشعرية ثورة حدثت على السطح ولم تلامس الداخل العميق، ثورة على الشكل الخارجي للقصيدة (اما حركة موضوعها، زاوية الرؤية، الرؤيا، بصيرة الشاعر الحديث) مازالت قديمة، تعيد انتاج الخرافة كما مبثوثة في كتب العماء والجهل.

ولي عودة الى هذه النقطة بتفصيل أكثر.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *