عتقد أنني محق في التحاور مع شاعر مثل صلاح حسن فهو يجمع نقيضين لطالما تفرد بهما شعرية تروج لحاضنة التفكير بالوجود وطبيعة إنسانية تتمسك بماهية صراخ التمرد الاجتماعي ووفقا لمعادلة الجمع بين النقيضين يكون الشعر هو الدافع الأكثر اقترابا من عقيدتنا وتفسيرنا لما يكتب له من نصوص مسرحية وشعرية أو يوميات تسعفنا بمظاهر غرائبية تدين لها مدينة الشعر بنطق الحقيقة . يؤكد في متن هذا الحوار على إننا وريثو ثقافة الشعر وعليه فالتمرد غايته القصوى ولكن أي تمرد يريد ليلقي بنظرة أخيرة على نص مثل رماد المسلة لا بد أن ولادة نص يقوي رهان السعادة هو ذاته النص الذي يخرج صاحبه إلى المنفى فيدعوه إلى التأمل وتقصي الأثر لقد بدا لي منذ كتابة نصه (المحذوف في عدم اتضاح العبارة ) إلى نصوصه الأخيرة بأنه يسعى إلى الشعر بكل ما أوتي من قوة حتى ولو كانت عدسة رؤاه تكمن في جلب المفارقة واقتناص لحظة تتنوع فيها صناعة كتابة الشعر .ز ان نصوصه تقوم على تفاصيل كثيرة ولهذا تمسكت بالتحاور معه رغم كل الظروف التي تبعدني عنه حتى لحظة رؤيته مؤخرا في مدينة الحلة لنتصافح ونتحاور ثانية في الشعر والسرد والسياسة لكن ظل هذا الحوار هو النسخة التي أريد تدوينها للقارئ لإيماني بما جاء فيها من جديد وممتع
**من (رماد المسلة) شعرا إلى (قربان التاريخ) رحلة وتاريخا أين يكمن صلاح حسن الشاعر والمسرحي ؟
يكمن في الاثنين بسبب اختلاف الخطاب الثقافي وطريقة معالجة الموضوع . أحيانا يعجز الشعر عن معالجة موضوع معين فأستعين بالسرد من اجل إعطاء هذا الموضوع حقه من خلال تقليبه على كافة أوجهه . وأحيانا بالمادة الدرامية إذا كان الموضوع يستوعب أكثر من صوت وأكثر من طبقة في العمق ، بالإضافة إلى طبيعة الحالة النفسية التي أمر بها .. إذ غالبا ما يأتي الشعر مسبوقا برجة عنيفة لا يوقفها غير امتصاص فعلها العنيف عن طريق الاستجابة الوجدانية لهذه الرجة .في ” رماد المسلة ” كما وصف ذلك المفكر الراحل محمد مبارك اختزال لقرون من الألم العراقي في نص واحد . فكان هناك تكثيف في اللغة والقفز على دلالاتها وحتى الخروج على نظمها عن طريق تغيير وظيفتها الدلالية هذه . إما في ” قربان التاريخ ” فهو بمثابة شهادة على ما جرى لنا في العراق وخارجه ، على ما جرى للعراق من خلال حياة فرد واحد .. فالإحداث تقع وتمحي بسرعة دون إن نستطيع تدوينها كلها ، أنا حاولت إن أدون ما استطيع تدوينه في هذا الكتاب . وقد استخدمت أسلوبا مختلفا في الكتابة هذه المرة هي طريقة ” الروي ” بعيدا عن البلاغة واللغة المقعرة . فقد افترضت إنني اجلس في مقهى أو بيت أو شارع ولدي عدد من الناس يريدون إن يستمعوا إلى حكاية وينبغي علي إن اروي لهم هذه الحكاية بلغة بسيطة وواضحة وشاملة . ولحسن الحظ فقد نجح هذا الأسلوب في هذا الكتاب ، واغلب المقالات التي تناولت الكتاب أشارت إلى نجاح هذا الأسلوب .
**اسمح لي أن نبدأ من نصك الشعري ( المحذوف … في عدم اتضاح العبارة ) يرى آخرون سواء من جيلك الشعري أو ممن لحقهم أن الانطلاقة الشعرية الحقيقية لصلاح حسن شاعرا بدأت من هذا النص ،كيف ترى هذه الرؤية وما مدى صحتها؟
هذا صحيح ، انطلاقتي الشعرية بدأت من هذا النص . لقد أدركت في وقت مبكر وبعد الاطلاع على الكثير من تجارب الشعراء الكبار العرب وغير العرب بان الشاعر الأصيل والمبدع لا يمكن ان يصل إلى ما وصل إليه دون أن يكون لديه مشروع شعري ناضج ومفكر فيه . وهذا ما خططت له وعملت عليه فجاء ” المحذوف ” الذي استغرقت في كتابته أربع سنوات وهو كما تعرف يتألف من أربعة أقسام استغرق كل قسم مني سنة كاملة لكتابته كما خططت لذلك . وقد جعلت لكل قسم من هذا النص شكله البصري الخاص به وصوته وطبقته في العمق . فالقسم الأول جاء على هيئة مناخ عام للنص وفي الوقت نفسه يحمل بذور ما سوف يتبعه من أقسام مكملة . أما ” رماد المسلة ” فكان بمثابة قمة الهرم ، حيث وضعت به كل طاقتي الشعرية . ما أريد قوله هنا انه ينبغي على كل شاعر أن يكون لدي مشروع شعري حتى يكون شاعرا حقيقيا ، ففي هذه الحالة يعرف الشاعر ماذا يريد القول وعندما يعرف ماذا يريد أن يقول ، يعرف الشكل الذي سوف يظهر به نصه ويعرف متى ينبغي أن ينتهي النص ، بحيث يبقى مشدودا ورصينا ومكثفا .
**لقد تسنى لي أن اقرأ نصك ( رماد المسلة ) في مجلة الأقلام يومها وقلت في نفسي أن صلاح زاوج بين الملحمي والشعري في هذا النص وكنت أتمنى لو تسير على هذا الخط لكن فوجئت عندما قرأت مجموعتك (خارج ببوصلة عاطلة ) ثمة تغيير في مسارك الشعري إلا تتفق معي أن أسلوب صلاح حسن في الشعرية لم يتخذ مساره بعد ؟
أوافقك الرأي في الشق الأول من السؤال ، أما الشق الثاني فيحتاج إلى توضيح . لقد أشرت قبل قليل إلى أهمية ان يكون للشاعر مشروع شعري ، وقد كان هذا حاصلا في ” المحذوف ” الذي اكتمل كنص وكمشروع ومن العبث تكراره ، لذلك ينبغي على الشاعر أن يفكر بمشروع آخر مختلف . وهذا ما حدث في مجموعة ” خارج ببوصلة عاطلة ” . علينا ان ننتبه إلى التغير الحاصل في ظروف كتابة كل عمل شعري . فالمحذوف مثلا كتب في العراق في ظروف يعرفها الجميع وخارج ببوصلة عاطلة كتب في أماكن كثيرة مثل سوريا والأردن وهولندا . عندما تقرأ نصوص هذا الديوان ستجد تأثير الزمان والمكان وهامش الحرية واضحا . إذن هناك أكثر من مناخ في هذه المجموعة وأكثر من تجربة تجعلها تختلف عن المحذوف ، وهذا شيء منطقي كما أظن . فيما يتعلق بالشق الأخير من السؤال أحيلك إلى نصي الطويل الجديد ” الخروج من أور ” الذي من المؤسف انه صدر باللغة الهولندية قبل العربية ، وسوف تجد أن مساري الشعري لا يتخذ اتجاها واحدا ، بل هناك منعطفات كثيرة فيه وهذا من دواعي التجديد والإبداع وليس من دواعي الضعف ، فما الفائدة من السير على ارض حرثت كثيرا .
**ما هي الأسس التي انطلقت منها في كتابك( قربان التاريخ) فهذا الكتاب يجمع بين اليومي والسياسي هل هو صدمة شاعر تأثر بحدث انثيالات لم تعطنا من لهب العقل إلا رماد مسلة صلاح حسن ؟
أنا انطلق من أساس واحد في كل أعمالي سواء الشعرية او المسرحية او النثرية هو الهم العراقي والألم العراقي الذي لم يتوقف منذ آلاف السنين . أنا اشعر أنني لم أغادر العراق مطلقا ، وفي كل نصوصي هناك حرارة واضحة تلامس الواقع العراقي في العمق . هذا هو الأساس الثابت الذي انطلق منه في كل ما اكتبه . في ” قربان التاريخ ” تجد السياسة والحرب والشعر والحزن والخوف ، في المقابل هناك حالات ومواقف إنسانية في الكتاب لا تستطيع معها إلا أن تضحك رغم انه ضحك اسود أحيانا . رماد المسلة تنبأت بالخراب الذي حصل ويحصل الآن والمحذوف في أقسامه الأولى تنبأ بما حدث في الانتفاضة والحروب التي تلتها ، لذلك فأن ما كتبته منذ ” رماد المسلة ” وحتى ” قربان التاريخ ” هو سلسلة واحدة تتناول الألم والهم العراقي ولكن بأساليب مختلفة مرة بالشعر ومرة بالمسرح ومرة بالنثر كما هو حاصل في ” قربان التاريخ ” . لقد تحول كل شيء في العراق الآن إلى رماد مسلتي مازالت شاهدة على ذلك كما تقول أنت
*سأنتقل معك إلى تأثير الجو الهولندي كم اثر فيك شعريا هذا المكان ؟
الشعر الهولندي لا يعالج موضوعات كبيرة دائما لأنه مشغول باليومي والمألوف بسبب طبيعة الحياة الهولندية الهادئة لذلك لم يكن ثمة تأثير على شعري ، لكن التأثير الحقيقي هو في أجواء الحرية في هولندا . على سبيل المثال ، عندما اكتب لا أفكر بالرقيب لأنه ببساطة غير موجود هناك ، لذلك لا اضطر إلى الشك في ردود أفعال القارئ . على العكس من ذلك كنت عندما أريد إن انشر نصوصي في الصحف والمجلات العربية أتردد كثيرا قبل أن أرسلها للنشر ، ويحدث أحيانا إن يقوم الناشر بحذف بعض المقاطع من القصيدة أو تحوير بعض الكلمات لأنها لا تتناسب مع خط هذه الصحف . حتى الآن في العراق يعتذرون عن نشر بعض نصوصي لأنها تتجاوز كما يقولون الخطوط الحمر التي يبدو أنها زادت بعد الاحتلال وسقوط الصنم . في هولندا استطيع أن انشر أي شيء دون أن يعترض احد هذا هو التأثير الحقيقي على شعري في الفترة الأخيرة ، سلاسة وشفافية وصدق وعمق ووضوح أيضا .
*هل ساعدك المنفى في أن تكون شاعرا يخطف في كل عام جائزة مهمة وماذا تمثل جائزة ( دنيا ) إليك هل أعطتك نشوة البقاء طويلا في المنفى أم استطاعت فعلا ومثلما تقول أن تخفف عنك عبئا نفسيا ؟
قبل ان أجيبك على السؤال أود أن أوضح قضية في غاية الأهمية حول العيش في المنفى . هناك طريقتان للعيش في المنفى : الأولى هي أن تتقوقع على ذاتك وتطٌلق المجتمع الذي تعيش فيه وترفض ثقافته ولا تتعلم لغته ولا تعاشر أهله فتصاب بالنتيجة بالكآبة وبعض الإمراض النفسية المدمرة وتتعطل عن القيام بأي عمل مثمر . الطريقة الثانية : هي الانخراط بثقافة المجتمع الجديد وتعلم اللغة ومجاورة الآخر المختلف طالما كان هذا الآخر المختلف يسمح بقبول الآخر ويعطيه فرصة للمشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ، وبالتالي تصبح عنصرا فاعلا في ثقافة هذا المجتمع الجديد . أنا اخترت الطريقة الثانية وثابرت طيلة الوقت على استثمار الفرصة التي منحتها هولندا لي وكانت النتيجة كما ترى ، أربعة دواوين شعرية باللغة الهولندية وثلاث جوائز شعرية ومشاركات في المهرجانات ولقاءات في التلفزيون والصحافة وفوق كل ذلك تقدير ومحبة بلا حدود كل هذا خفف من عبء المنفى علي لأنني وجدت أصدقاء جددا ومحبين وأهلا جددا . أما الجوائز فهي كما يقال استحقاق للمثابرة والعمل الدؤوب وفي الوقت نفسه إثبات للذات وتحقيقها . جائزة دنيا حصل عليها شعراء عالميون كبار وأنا افتخر كعراقي بحصولي عليها مرتين
.
*كيف تصف لي المشهد الشعري العراقي ومن الأسماء المهمة التي لت تزل تأخذ مدارا مهما في العراق ؟
بدون مبالغة ولا تنطع المشهد الشعري العراق ي مشهد ساطع وفوار في داخل العراق وخارجه ويقدم في كل يوم اسما جديدا ولا داعي لذكر الأسماء فهي أكثر من أن تعد ، ولولا الوضع الكارثي في عراق اليوم لشاهدنا انجازات الشعر العراقي وتأثيره في المشهد العربي كله .