د. فاروق أوهان : المسرح ووسائل الإعلام العروض المسرحية وندوات النقاش
لعروض المؤتمر الرابع عشر للهيئة العالمية لنقّاد المسرح العرض الأول عرض النهاية المفضّل (1)

النقاد المشاركون في المهرجان حضروا من ثلاثين بلدا
النقاد المشاركون في المهرجان حضروا من ثلاثين بلدا

كثيرة هي العروض المسرحية العالمية، وبالذات تلك التي لا تحيد عن تكرار المسرحيات الكلاسيكية، وكأن العالم متوقف، وبالمقابل فإن هناك كم كبير من الأعمال المتهافتة، تتبع الصرعات العالمية، بلا منهج، ومن غير اعتبارات للتساوق الحضاري، ما دام هناك مبدأ يقال عليه التجريب، ولحرصنا على عكس نموذج من أحد مواسم المسرح الفنلندي الذي حضرناه إبان انقعاد المؤتمر 14 للـ “IATC” حيث تقدم للمشاركين فرص لا تتاح لجمهور البلد نفسه من جهة، وفرص للعروض المسرحية لنقاد جاءوا من ثلاثين دولة من طرف آخر، ولكننا اكتشفنا أن خيبات الأمل لا تنحصر في واقع مسرحنا العربي فحسب، وإنما هي مصيبة المسرح في العالم، نتيجة لما يتعرض له من غزو من الأوساط الإعلامية، وموجات العولمة، ونزعة الهوية الشخصية، ولكي نتعرف على معطيات العروض، فقد حرصنا هنا أن نقدم نماذج مما شاهدناه، ومن ثم مناقشاتنا للعروض مع المنتجين وقتها، وماذا كانت الانعكاسات خصوصاً، وإن المؤتمرين كانوا وقتها قد حضروا للمؤتمر ذاته معبأين بعنوانه الذي يعكس خيبة أمل المسرح والثقافة من دور وسائل اإلاعلام وجورها في تهميش الثقافة، وعناصرها الهامة وعلى رأسها المسرح (3).
استبشرنا ونحن ندخل بهو دار الأوبر لكي نشاهد عرض باليه “دون كيشوت”، البلجيكي، برونو كنونكي  واليابانية، كيوتو إتو. وأنا. فقد رأينا عرضاً متواضعاً لباليه فتية، ما عدا أدوار البطولة، متأملين بالأيام القادمة لعلها تزخر بالعروض الهامة، رغم تنويهات “سويلا” رئيسة فرع فنلندا بأن العروض الحالية ليست بشيء يذكر، وليس هناك أي مهرجان مسرحي. أو… كل ذلك كان على الورق، ولا يثير . أو يضير … لكن العوائق، والمحرجات تبدأ من هنا، من سؤال ينشأ لدى كل من يزور بلداً جديداً، وهو قادم من أقاصي الدنيا، لكي يتعرّف في هذه السانحة، “التي ربما لن تتكرر”على  أهم شيء في اختصاصه، فلا يجد ما يغريه فتلك كارثة الكوارث. وعلى الرغم من أن مجلة المسرح الفنلندي تصلنا دورياً منذ أكثر من عشر سنوات، التي تسجل استطلاعات كبيرة عن المسرح الفنلندي، لكن المفاجأة هي في أن نقضي ليالي المؤتمر بغير عروض. أو بمشاهدة عروض لا تنتمي للمسرح فكلا الحالتين كوارث … لهذا تأملنا في الليالي الباقية القادمة،” لكننا عدنا في النهاية فسجلنا أسعد ليلة مسرحية في هلسنكي هي الأولى “. فماذا رأينا يا ترى ؟
حانة فيرا – VEERA (4):  في مسرح المدينة – هلسنكي دعينا لمشاهدة مسرحية حانة فيرا – VEERA VEROTSKA . من تأليف- “بيركّو سايسيو – PIRKKO SAISIO” . وإخراج  ريجا – سينكارانتالا – RAIJA-SINIKA RANTALA  .

وزير الثقافة الفنلندي يحتفي بالمشاركين
وزير الثقافة الفنلندي يحتفي بالمشاركين

فقد تميز العرض بأن حيّز التمثيل يتوسط الجمهور، وكراسي الجمهور ترتفع تدريجياً حتى آخر مقعد… تماماً مثلما نجده في مسرح “اليونكك فيك – YOUNG VIG ” في لندن . أو ما يقاربه، لكن حيّزالمسرحية في مسرح المدينة الفنلندي قد تم استغلاله بالكامل، حتى المدرجات . وهذا ما جعلنا نستبشر منذ البداية بأنه حتى المسارح الغربية قد بدأت تستغني عن الخشبة التقليدية، إلا عند الضرورة . أو ربما كان هذا التقليد تتم ممارسته منذ زمن طويل، ولكن بنَفَسَه التجريبي، فلقد كان مسرح “اليونكك فيك” مختبراً تجريبياً، مضى على مشاهدتنا للمسرحيات التي عرضها “الكراسي، والخادمات، وذو العينين الخضراوان” في مسرح مشابه أكثر من ربع قرن وقتها. وبالتحديد الموسم المسرحي الإنجليزي لعام 1971 . في نفس الوقت الذي كانت تعرض على مسارح الخشبة التقليدية كل من مسرحيات “الشرفة، وحلم ليلة صيف، والرحلة الطويلة في الليل” . وهذا ما سوف يؤكد لنا أن المسرح الأجنبي قد صار يفضّل التحرر من الخشبة التقليدية، ولكن إلى حد معقول، لأنه لم ينجح في كل محاولاته كما سنرى …
وتبدأ مسرحية “حانة فيرا- VEERA” بعودة الشاب الأمي الملول “رودنيRODNEY ”  من الخدمة العسكرية، ويلتقي برواد حانة الحي العمالي في هلسنكي، التي تمتلكها والدته “أوني – AUNE “. وفي هذا الوقت تكون السيدة “لينا – LENA ” قد عادت لتوها من “تالين- TALLINN ” لتبيع الكحول المهربة ل”أُوني” صاحبة الحانة . كما تعود كل من “ليوبا روسيان- LJUBA RUSSIAN ”  العاملة.  و”سباروو فاربونن –  SPARROW VARPUNEN ” لاعبة الجمناسيتك السابقة، وبائعة الهوى حالياً لتلتقيا، فتنتقدا بؤس الحياة، وتقارنا الفروق بين الفسق وبيع الهوى، وتعلقّ “أوني” عليهما بسخرية بالقول: أُوني – كنّ باردات، في هذه الارتباطات لا أحد يلام غير وزارء الحكومة، والشتاء السيء.
وبينما تتضايق”أُوني” من الأقساط المستحقة على الحانة، وتتهاون في الذهاب للبنك، لكي تؤجل موعد الدفعات المستحقة عليه، تستمتع المصورة الصحفية “جيسيكا – JESSICA ” بتصوير “سباروو”، لكن هذه لا  تقدم أي شيء من غير مال تتقاضاه. ويلتقي في هذه الأثناء “رودني”، ب”ليوبا” لأول مرة. وفي الحانة أيضاً تلتقي مصادفة “ميريام – MIRYAM ” الزوجة السابقة للوزير الحالي “سانتالا – SANTALA ” بزوجها “سانتالا”، الذي يكون منشغلاً بالسؤال عن سعر مبالغ فيه لشرب القهوة :
سانتالا – لدينا هنا نظام طموح، يقترب كثيراً من رواتب زبائننا إضافة لما يحصلون عليه من لقاءات اللجان، وأسهم الشركات .
وتسأل “ميريام” مطلقها “سانتالا” هل لاحظ أن “كريتيكين – KRITIKIN ” الزعيم السياسي الروسي الذي التقياه، في الجناح السياسي الأيسر لشباب الإتحاد السوفيتي المزمع قيامه بزيارة للبلاد، فينكر “سانتالا” معرفته بالخبر لأنه لم يعد يقرأ الصحف. “ربما تشير المؤلفة إلى زيرونوفسكي – ZHIRINOVSKI رئيس الحزب القومي الروسي الحالي” . وتكتشف “ليوبا” أن لحظات حبها المدفوعة في لقاء “روندي” الأول قد انتهت. وهنا يظهر السمسار الشاب “آندريا – ANDREI ” ليسأل “رودني” فيما لو رأى أي غريب في جوار الحانة، ويقترح عليه توظيف نقوده في تجارة مربحة سوف يتوالاها هو بنفسه. وفي تجوالهما في الحانة تلتقي كل من “مارغيت – MARGIT ، وتينا – TINA ” مع “سباروو” حينذاك يبدأ عمل السمسار “آندريا” . وتلاحظ “أُوني” أن مبلغاً كبيراً قد اختفى من حصّالة النقود، ويعترف ابنها “رودني” بأنه استثمرها في مكان آمن لدى “آندريا”. وبأحداث موازية نرى أن “بلاك لينا” قد تحولت إلى خبيرة في الفن، وتخطط لمعرض رسوم في الحانة، وتقترح أن يفتتحه كل من “ميريام” والوزير. وبينما يغار “رودني” على “ليوبا” التي تطالب هي بحريتها، وتقترح على “رودني” أن يفعل شيئاً في سبيل مستقبله، لهذا فهو يفكّر بأن يجعل الحانة مكاناً للعروض الفنية.
وتشتبه “مارغيت” بالمعرض الفني، وتطلب من “تينا” أن تلتقط الصور للوحات، والصحف.  ويتبنين بأن “آندريا” قد أدار عملية بالمبلغ الذي أودعه لديه “رودني”. وفجأة تلتهم النيران حانة فيرا بفعل مقصود … وبمفارقات بين هلسنكي، واسترجاع زمني لمعسكر في سبيريا في الماضي كان كل من “سانتالا، وميريا” النشطان السياسيان سابقاً في رحلة خطوبتهما قد حجزا في عربة قطار لشركة “كريتيكين” الذي يبين لهما بأن ستالين عندما بنى سكة القطار هذه، استخدم قوة عمل سجناء سياسيين. وعودة لهلسنكي نرى أن حانة فيرا، قد جددت باسم روسي وهو “فيروتشكا”. وتتأسف “أُوني” لزبنائها القدامى، وتعدهم بالشرب، والأكل الذي لا يستطيعون توفيره.  وفي هذه الأثناء تصل “بلانك لينا” من كوبنهاغن وقد ارتدت معطفاً من الفرو، وقد ظهر أن تجارتها قد نمت بشكل مطلق. أما ما تجده “مارغيت” فغير ذلك، لأنها تيقنت الآن فقط بأن اللوحات المحترقة في معرض “بلانك لينا” قد وجدت في كوبنهاغن وهي في الأصل من مقتنيات كاليري “تيرتياكوف – TRETYAYKOV ” في موسكو. ويصل “كريتيكين” لينصح أهل هلسنكي بالعمل في سوق الاقتصاد الحرّ، ويدعو لشرب نخب النوايا التأريخية مخولاً “رودني” بالعناية بمصالحه كلها. وفي مفارقات أخرى تفقد “أُوني” مطعمها إلى الأبد.
وتقع كل من “جيسيكا، وتينا” بشباك المخدرات التي تدعى “نيفتيانكا-NEFTJANKA ” وهكذا وجدت “جيسيكا” منتحرة في حمامات التغسيل. أما “رودني” ففي طريقه الصاعد يطلب من “ليوبا” زوجة روسية تناسب مقامه، فيتحد كلاهما بالآخر. ويصبح “رودني” وزيراً . وتقول “بلانكا لينا” بأن أسعار الكحول قد تحطمت فصارت أرخص من الخبز. وعندما تخبر مارغيت، “رودني” بأن والدتها قد توفت، وإن اختها وحيدة. لا يهتم ويجيبها بقوله :
روندي – إنها حياة شاذة …
وبعد العرض، وفي بهو مسرح المدينة دار نقاشنا مع الكاتبة، والمخرجة معاً .. ابتدأنا الحوار عن تلك المفارقة التي افترضتها الكاتبة لتحوّل مجتمع كامل في ظروف افترضتها، والمخرجة على أنها الوقت الحالي، “وقت المتغيرات السريعة”. لكن ما الذي جعلها ككاتبة تختار الكاباريه مسرحاً للأحداث، وليس أي مكان آخر لعله مكان تتردد عليه غالب الشرائح الاجتماعية  ولكن ليس كلها. وتساءلنا لماذا لم تجر الأحداث في معمل. أو مستشفى  مثلاً. فكان جواب المؤلفة غامضاً ربما تفاجأت لسؤالنا الطارىء. وقالت لعلكم تقومون أنتم به‍‍‍؟ هكذا دون مبرر. أو  تأني في اعطاء جواب مقنع. وفي سؤالنا للمخرجة عن الأرضية التي تتعامل بها مع النص، وبخاصة مع مؤلف موجود: هل تبدأ مع المؤلفة من الفكرة. أم ينشأ التعاون بعد استلام النص جاهزاً، وقد أشرنا لتجربة فرقة المسرح الجديد التونسية التي تتعامل مع النص من خلال أفكار تطرح في ورشة العمل للتمارين يشاطر حتى الممثل في بناء النص، وبعدها يذهب المؤلف لكتابة ما تم الاتفاق عليه، ولكن بأسلوبه المتميز … فكان جواب المخرجة بأنها تتفق مع المؤلفة على فكرة وتحصل على النص شبه متكامل، وفيما بعد تتم التعديلات. وفي السؤال الثالث المتعلق باختيارها للحيز الذي نفذت فيه المسرحية، وهو الإيحاء لكون المكان هو حانة، وشارع، ومعسكر في نفس الوقت من غير أي تغيير في نصب المعدات، فقط بتظليلها بعيداً عن مساقط النور، ولا يتغير غير الملابس والاكسسوارات الممثل. قالت: إن ذلك يتيح المجال لاختصار الوقت، ولعدم الاطالة في الاظلامات. غير أننا لاحظنا مع هذا أن مدة المسرحية أطول مما هو محتمل سواء للموضوع. أو للجمهور، لعلكم توسمتم توظيف الغناء لابعاد الملل عن الجمهور هذا من جهة . وأثنينا من جهة ثانية على حسن التعامل مع نص توثيقي، دعائي يقترب من حوافي الخطاب السياسي، والتوثيق… وهي مهمة غير سهلة على الرغم من كثير من المفارقات التي لم نستسغها،،، وهذا الذي قلناه لها وقتها هو مجرد انطباعات مباشرة بعد العرض .
وفي رصد هانو هاريو – HANNU HARJU لآراء، وانطباعات النقّاد، أثناء وبعد العرض، أشار تحت عنوان:  ماذا قال النقاد الفنلنديون عن العرض: ماذا نستطيع أن نمنح ما لم تمتلكه الدول الأخرى، هل صورتنا روسية حقاً  إن الصورة الروسية قد نقلت من خلال مسرحية “فيرا فيروتسكا _ VEERA VEROISKA” مسرح المدينة البلدي، ويبدو أنه حساس بالنسبة لأي فرد. فقد وضعت المسرحية، روسية ضمن قائمة الدول الإجرامية. لهذا فإن الوكيل المساعد لوزارة الثقافة الروسي والناقد المسرحي السابق، “ميخاييل شيفدكو” ضحك كثيراً أثناء العرض وعلّق قائلاً  إن الحياة بالنسبة للروس فظيعة، ولكنها ليست فظيعة، فظيعة . وأضاف “هاريو” بأن الرسم الكاريكاتيري لشخصية “فلاديمير جيرونوفسكي – LADIMIR ZHIRIONVSKY” الذي زار “كاليو- KALLIO” ال”تافارنا – TAVERN” جعلت “شيفدكوي” مضحك هو الآخر بشكل كبير. وكثير من المشاهدين تعجبوا لماذا تضمن العرض موسيقى، فالعرض كان أقرب منه للدراما من المسرحية الموسيقية . فلقد اعتنت المسرحية بـ”الأحادية – MONOTONOUS”، وكثير من النقّاد اتفقوا مع اقتراح المخرجة “ريجا- سينكارانتالا – RAIJA-SINIKA RANTALA” بأن العرض يمكن أن يكون أحسن لو تم اجتزاء ثلاثين دقيقة منه . وبدت مارغريتا سوريسون – MARGRARETA SORENSON السويدية متعجبة من الممثلين الفنلديين لكونهم يستطيعون تقديم مسرحية غنائية، ودراما معاّ “تمثيل شامل”. أما النرويجية ” أنغريد-ماغريتا لوندي – INGER-MARGRETHE LUNDE” فتشير للحماس في التقديم .   وكان للكوري ” كيم – يون – جويل – KIM YUN CHEOL” نظرة مختلفة تماماّ، فالتمثيل، والموسيقى كانا أكثر حداثة مما يجب. ولم تكن الموسيقى موفقة في موازنة الدراما.
أما الهنغارية “أنّا فوولدَش – ANNA FOLDES” فقد قالت بأنها استوضحت بنفسها الآن مدى تأثير المتغيرات السياسية التي طرأت على الناس. فإنها ترى بأن الناس الذين يشاركون الآن في الحكم في هنغاريا كانوا هم أنفسهم في العهد السابق على الرغم من تلك المتغيرات ووجد الفلوريدي”جاي هانديلما-JAY HANDELMAN” مسرحية “فيرا فيروفسكا -VEERA VEROISKA” طويلة جداً. وقد غابت عن تقرير هاينو أراء عديدة، ومهمة. بل كانت هي أساس المحاورة الطويلة منها محاورة كل من: ماريا سورديو السكرتير العام للهيئة- البرتغال . وأيرين سودوسكا – سكرتير الرئيس – فرنسا.  إضافة لما أوردناه في المقدمة  من آراء قدمناها نحن.
خيبة الحب في تمبرا :
وعلى مسرح “مدينة” تيمبرا العمالي حضر المشاركون في المؤتمر مسرحية “خيبة الحب” من تأليف،  وإخراج: “جواكو جوها توركّا – JUHA TURKKA JOUKO “: وتتلخّص المسرحية في أن ممثلة هاوية “إيلا روينى – EILA ROINE” تتوسط جمهور المسرح، لتوضح بأنها قد تركت الفرقة بسبب مخرجها السكير المجنون، وتشير بذلك لنفس اسم  المخرج الحقيقي “جواكو توركّا”، وعليها الآن شراء تذكرة الدخول لكي تحضر العرض، وتقوم بشرح تأريخها الطويل مع هذه الفرقة، وهي فرقة مسرح مدينة تمبرا العمالي. وتتحدث عن قراءتها للدور، وعن حبها الناضج . وتشير لادعاء المخرج بأنها امرأة عجوز، ومدمنة لا تعرف أي شيء عن الحب الحقيقي، ومشاعر امرأة ناضجة، فهي تلاحق بحبها شاباً تقع في غرامه، وهو أصغر دكتور فلسفة في فنلندا “باكّا هيمنان -PAKKA HIMANEN” الذي لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين “هو الآخر شخص حقيقي، وحبيب الممثلة الأصلية في الواقع”.
وتبدأ المسرحية فنعرف بأن الممثلة “السيدة” هي المالكة لإحدى أكبر الصحف اليومية المحلية “آموليهتي – AAMULEHTI”، تحب “هيمنان” الذي يظهر على الخشبة، وفي أعداد جريدتها تريد لبلدتها أن تكون مدينة الفلسفة، فاشترت لحبيبها كنيسة، لكي يوصل فلسفته من على منبرها، وطالبت بأن يتحوّل المهرجان المسرحي إلى مهرجان فلسفي، وستصدر جريدتها اليومية مجلة فلسفة أسبوعية، لكن “هيمنان” الفيلسوف الشاب يرغب في إكمال الخدمة الإلزامية. ويريد العريف أن يجعل منه رجلاً، والشاب لا يمكنه أن يكون عسكرياً على طول، لهذا يستقيل العريف، وينتقل كلاهما للعيش مع السيدة.
وهناك شابة في المسرحية هي كنّة السيدة، ليست كاملة التصرّف، ولكنها فتاة لطيفة. ويطلب العريف من السيدة توقيع عقد ليمرّن الشاب حتى يستطيع الدفاع عن نفسه، وعن جسده بصورة خاصة. ويصاب الشاب بصدمة كبيرة عندما يدرك بأنه سوف يبلغ الثانية، والعشرين من العمر قريباً.. وليس في البلاد فيلسوف أصغر منه. لقد أنقذت السيدة حبيبها الشاب الذي تعتبر خبرته الغرامية من لحظات الذكرى في حياته، فالواقع أن صاحبة الصحيفة اليومية هي امرأة وضيعة، وعملها الذي ليس أكثر من تسليم  أعداد الصحيفة للمشتركين، وتعترف بأكاذيبها هذه على سرير الموت…
لعل مسرحية كهذه، وفي مسرح بهذا الوضع، وممثلة مشهورة، وقديرة وبالعمر الحقيقي الذي تشير إليه المسرحية أرقى من أن يقدم عملاً هاوياً مثله. فعلى الرغم من ضحك الجمهور المتواصل، وهو يجلس متحلّقاً في مقاعد نصف دائرية يتابع النص الطويل، والمونولوغات الأطول، وبإيقاع بطيء من غير أية تلوينات أولية، وتأثيرات مشهودة، يضحك، ويتضاحك ربما بشكل دائماً، ولكن على ماذا. إن الضحك كما يبدو ليس إلا لأن العرض امتلأ بالمفارقات الاجتماعية التي لا تمت درامياً للعرض فقط لأن الجمهور أغرته فكرة مشاهدة علاقة غرامية حقيقية على المسرح، وبين جيلين من عمرين مختلفين تماماً، وكثير من الإشارات والتلميحات الفاضحة، ليس من قبل السيدة، والشاب. وإنما من قبل العريف المنفعل من جهة، ومن قبل الشابة التي لا تستقر كثيراً على المسرح، وإنما تثير في كل مرّة تدخل فيها زوبعة من الضحك، لأنها تأتي بتقليعة ما، كأن تأتي تحت تأثير المخدرات. أو تدخل، وقد طلت جسدها العاري بعجينة سكر المعجنات “ICING SUCKER”.
ولعل تقليعة نماذج المسارح الصغيرة التي تسود أوروبا منذ بداية التسعينيات، وبخاصة بعد انهيار الإتحاد السوفيتي الذي لم يفتت المجتمعات فحسب، وإنما تعرض لتفتيت لعناصر الثقافة وبالذات المسرح، وصلت إلى أجزاء غير مترابطة، فكراً “مضموناً”، وشكلاً “الإطار العام”، وجمالاً “المعالجات” ومكاناً “الحيز، سواء في المسرح نفسه. أو  حيز التمثيل”حيثما كان فقط، وإنما تعدى هذا التأثير منه إلى الدول المجاورة. بل إن هذه التقليعة العارمة في انحسار سلطة المسرح وتكّسر أجنحته بكل معانيها المجازية قد طغى عالمياً وصل إلى حدود التقوقع والانزواء، والوحدانية. في العرض الانفرادي، والفقير “ليس بجماليات غروتوفسكي” وإنما بالمضامين، ورداءة المعالجات، لكي يقدم ما يستجدي عواطف الجمهور بكل رخص، وسذاجة، مما جعل السائد يغوص في التفنن في تقليد مسارح الكابري، وصالات الديسكو، دون اقتراب من أية نتيجة فاصطاد المسرح، والمسرحيين فخ له مداخل كثيرة، وشراك مختلفة الوسائل من دون مخارج معقولة لأزمة المتفرج، ضائقة الفرقة المالية. ولهذا كانت أكثر العروض التي شاهدناها في بداية موسم مسرحي لبلد يفترض فيه من الدول التي تركت أثرها الاجتماعي، والثقافي في المسرح، خصوصاً وإن فنلندا من أول الدول التي تعاملت مع كبار المسرحيين المعروفين، فبعد” سترندبيرك، وإبسن” . كانت أول محطة لـ”برتولد بريخت – BERTOLT BRECHT” عند هروبه من نير النازية هي فنلدا، ولعل إدارة المؤتمر كانت قد وضعت في حسابها هذا الشيء عندما جعلت نفس الفندق الذي سكنه بريخت في هلسنكي “HOTEL ARTHUR” الكائن في قلب العاصمة هو مقر المؤتمر، ومسكن المشاركين. هذا إذا ما عرفنا أن أهم مسرحيات “بريخت”  وهي “السيد بونتولا  وتابعه ماتي – HERRN PUNTILA UND SEIN KNECHT MATTI” التي  كتبها هنا في مدينة “تمبرا” وكانت إحدى مصادرها حدوثة محلية، لقصة من  تأليف “هيلاّ  فوولييوكي – HELLA WOULJOKI”، التي تعاونت معه كثيراً. فهل زالت كل تلك التأثيرات العظيمة، إذا ما استثنينا عباقرة التأليف والإخراج المسرحيين وعلى رأسهم “شكسبير، وستانسلافسكي”، وغيرها من الأسماء.
المهم أن مسرحية “خيبة الحب” هي خيبة للمسرح الفنلندي، وللمسرح العالمي، وخيبة ثالثة، وكبيرة التأثير على أقدم، وأهم ممثلة فنلندية “إيلا روينى – EILA ROINE” القدرية، والمتعددة المواهب، لأنها بطلة بحق، لأنها استطاعت في عمرها هذا أن تقاوم الوقوف على الخشبة لمدة ثلاث ساعات طويلة، وبمونولغات، وديالوغات أحدها أطول من الآخر، بينما استرخي الجمهور، وغطّ البعض في النوم، لولا حركة العريف الاستفزازية التي تتجاوز حيز التمثيل لما وراء، وما بين المقاعد . لعلها واحدة من صرعات المخرج الاستفزازية “كما سنرى في المؤتمر الصحفي بينه، وبين النقّاد الذين حضروا من ثلاثين بلداً”.
وعندما نشير للضعف العام، يجب أن نؤ كد بأن هذا لا يشمل مستوى الاتقان المعروف في الأداء، والتقنيات، وحتى التعامل مع الحيّز، والمتممات، وغيرها من ضرورات العرض، وإنما الخلل تجسّد، فيما كان العرض يريد قوله، وبالتالي توصيله إلينا، وما الضرورة لعرض مثل هذا. ولا تضيرنا هنا التعليقات التي سمعناها ، وقرأناها في تقارير أقراننا  ممن شاركونا نفس العرض. بل إن الكثيرين أبدى تعجّبه من خلال مقولة “إن المسرح في الوقت الحاضر قد أصبح صالة، وأصبحت الصالة مسرحاً كبيراً، ويجلس الجمهور في مقاعدهم، ويواجه كلا منهم دراما ضخمة. وعلى الجانب الآخر فإن الممثل عندما يمثل فإن الصالة من أمامه لا تختلف عن مقطوعة صغيرة من دراما ضخمة قد عبرت إليه” فمَن يتفرّج على مَن . وما الغرض من هذا الفعل هنا بالذات في فنلندا أنف القارة الأوروبية قبيل التوغل في أصقاع القطب الشمالي .
فماذا قال النقاد الفنلنديون عن العرض: يعلّق الفنلندي “الرجل الوحيد‍‍‍‍ من بين منظمات المؤتمر النساء”هانّو هاريو-  ANNU HARJU في مقالة كتبها لجريدة سانومات هلسنين – HELESINGIN SANOMAT . بتاريخ 26 . 1 . 1996بقوله : كما في مسرحياته السابقة تستقطب مسرحية “توركا”، “خيبة الحب” الأمور التي لا يمكن تطبيقها، “الشحنات، المفارقات الكوميدية”، تختلط بالعناصر الاجتماعية الهابطة، وتستنتج مواقف غير ضرورية، لكن الحب موضوع حقيقي في المسرحية، إنها تجعل كل واحد مجنوناً دراماتيكياً. المسرحية هي مزج بين الفارس العسكري، وكوميديات مولييرية قديمة. وها نحن نرى أن “إيلا روينى” مثلت دور السيدة بعظمتها المعهودة .
وتحت عنوان “الجمهور بدأ يتحلّى هو الآخر ” بقلم: آن فالينورو – ANNE VALINORO  . جريدة آموليهتي – AAMULEHTI . 26. 1. 1996 الفنلندية ” لا يخلق “توركا” فوقـــــمسرح. أو تغريب بريختي فقط، وإنما أيضاً يكسبك بتمسرح المسرحية. الطريقة مرتبطة باللحظة الحاضرة، وهي طريقة مضحكة للاستفسارات بأسئلة مسلّية مثل: “هذا موت برجوازي في  تيمبرا” وإذا هو كذلك، فما يكون معنى مسرح تمبرا العمالي إذن؟ ماذا يعجب الناس في شاب فقط “من غير الاشارة لموهبته. أو مستوى أدائه” حتى، ولو كان دكتور في الفلسفة، كقائد لمحادثات عامة. هل يمكن لامرأة في الرابعة والسبعين أن تحب شاباً في الثانية والعشرين “نعم تلك هي صباح أخرى، ولكن هل تعرض صباح المغنية اللبنانية حياتها الشخصية على المسرح، إنها حتى في المقابلات الودية لأجهزة الإعلام تتحاشى الكثير من الخصوصيات. بينما تبلغ صفاقة المخرج الفنلندي هنا أن يكشف الكثير من الحياة الداخلية للبطلة، ليس في السرير، رغم وجوده، ولكن في بعض التفصيلات التي لا تبدو حتى لهما كزوجين اعتيادية” . وتعود “آن فاليننو” للتأييد بقولها بأن الممثلين دخلوا في هذه المسرحية في صيغة تنويمية كاملة. “قد تعني تنويماً مغناطيسياً في الظاهر، ولكنها تنويمة عابثة، وخشنة”. يبدو لنا الممثلون في المسرحية أنهم  كثيرو الحلاوة، “ربما لكثرة ما استخدموا – الآيسنغ شوكر”، بينما لم تسهل كل هذه التحليات الحال على الجمهور، لأنه تعب، من التركيز الشديد  في متابعة الحوارات الطويلة لكي يصل إلى زبدة معقولة، من بين كل هذه الفقاعات .
وللفنلندية ” سونا فوري –  SUNA VUORI. من صحيفة تورون سانومات TURUN SANOMAT.  26 . 1 . 1996. مقالة بعنوان الحب محطة اعتناء تقول فيها : يعطي “توركا” الجمهور أكثر، مما يريد. أو أقل،  وهو بعد هذا كله، محطم للمثل الصنمية في بلادنا، يسخر من كل شيء، ويزّور كل شيء، لأنه يقدّس الأشخاص الجيدين في مدينة تمبرا. إن النقطة الرئيسية في الفكرة هي التضخم في المشاعر. التطرّف، والتعطّش الدائم للحب والخوف. إن عالم “توركا” هو الخوف من الموت، يتحوّل هذا الخوف من الداخل إلى الخارج. بعناية مؤقتة، ولأجله تؤدي الشخصيات نفسها بتأثر تقديسي. إن العرض يميت من الضحك ، بسرية ثورية، وسخرية دقيقة، مما تعكسه العلاقة الداخلية، وكذلك ما للحظاتها من سمعة.. لكن الممثلين غاصوا في النص أكثر من اللازم،  أما الممثلة القديرة “إيلا روينى” فقد كانت مبدعة بشكل غير معقول.
وبعنوان ” غسيل توركّا البارد” تقول تيبوا كولمالا – TEPPO KULAMA. من صحيفة كيسكيسومالاينن – KESKISUOMALAINEN  بتأريخ. 26. 1. 1996: يمكن أن تدعى هذه المسرحية تراجيكوميديا. لأنها تجعل الجمهور يضحك على المفارقات الحوارية، والحدثية، بخطوط ذكّية للمعاناة الفنلندية، لكن التراجيكوميديا تنسحب للتفاصيل. فالنقاط الرئيسية في فكرة المسرحية هي: الدعاية والنشر، التضخم، الأفكار، المشاعر، التلطّف والتعّطش للحب، والخوف. لم تصل المعالجة لأي تطهير، بأي وجه من الوجوه للمعاني. أكثر من كونها قفزة لشيء أعمق. فدخل الممثلون في مسرحية نقيضة “ANTI – PLAY” حددت من خلال مسرح معقول .
فماذا قال النقّاد المشاركون من خارج فنلندا – توركا كان مصدر للغضب، والحماس : اقتنع الكثيرون بالطاقة التي حملها عرض “خيبة الحب” لمخرجها “توركّا” لمسرح تمبرا العمالي، ولكن  بتأثيره السلبي الذي فاق كل شيء… ليس هناك إيقاع في طريقة العرض الذي اعتمد اللغة بشكل أساس، ولم يك أكثر من ضوضاء محتدمة بالكامل، ضوضاء تقتنص الجمهور من كل جهة، وتتربص له، كما أشار البريطاني”يان هربرت- IAN HERBERT”، رئيس تحرير، وصاحب مجلة  RECORD” للنقد المسرحي.  ولم تتفق الأمريكية “كلوديا هاريس – CLAUDIA HARRIS” على ذلك بل قالت: بأن العرض كان تنافسياً، ومحتدماً كما لو حوصر في “تابو – TABOO”، فحتى ولو لم أتكلّم الفنلندية كليةً، فقد لاحظت أن المسرحية قد ولّدت لغة، وهيأت كلمات كما لدى “جميس جويس – JAMES JOYCE”. بينما أشار الكوري “كيم” لقد اتخذت المسرحية من غنى”توركّا” الأدبي الكبير، ومسرحيته مليئة بالمراجع النصوصية للأدب الغربي، تبدأ مع “فاوست”. والبناء العادي عبارة عن مونولغات متتالية، الواحد خلف الآخر، تصف عدم القدرة على التواصل مع الحياة الحديثة. وأضافه “كيم”: إن موضوع لغة “توركّا” يعطي انطباعاً لدى النقّاد “على الأقل الذين لم يناموا في العرض، أوالذين لم يتركوا المسرح في فترة الاستراحة”، عن مرونة اللغة الفنلندية ومطاوعتها. فلقد نهض الخطاب الذي ألقاه الشاب، بمستوى أدهش النقّاد، لما لقابلية الممثل الشاب بأداء دوره، وبمقدرته العالية أثناء العرض. مما يبين أن الممثلين الفنلنديين أكثر قابلية، وحضوراً من غيرهم في بلدان أخرى في مجال اللغة .. لكن القابلية الجسدية كانت ضعيفة، كذلك كان يبدو المخرج “توركّا” الذي وضع صيغة لانفعالات محددة لشخصياته، بينما كانت هناك طاقة ضخمة في العرض، ولكنها حبيسة، ولهذا لم يكن هناك احساس بالواقعية. وشخّصت النرويجية “أنغرد” كل الكلايش النرويجية التي بدت متفاوتة، كما في السيركك الفنلندي. أو أحد أنواع الكوميديا ديلالارته.
اللقاء مع المخرج في معمل الكيبلات – التلفونات
ولقد كان للنقّاد موعد مع “توركّا” نفسه، فأبدوا اهتمامهم بأهداف المخرج، فهل كان يريدهم أن يضحكوا؟ هل أراد أن يستفزهم؟ أو على الأقل أن يجعلهم مرعوبين. وقد قال “توركّا”: كنت أريد أن أدمّر كل شيء بثورية، من خلال المولوغات. ومن جهة ثانية فإن الضحك يجعل المشاهد يشعر بالدهشة، مقارنة بشخصيات المسرحية. هذا ما جاء في تعليق “هانو هاريّو” في تقريره الذي كتبه في نهاية المؤتمر…. ولأننا توقعنا الكثير قبل لقائنا بالمخرج، فلقد صعقنا من منظر المخرج الخارجي، وعدائيته لكل ما حوله بالكامل، فهو يرفض التحدث بلغته، أو قيام من يترجم له. أما حواره معنا بالإنكليزية فم يكن ينتمي لها ولا لأية لغة… هو خليط غير مفهوم من أنصاف الكلمات بالإنكليزية، وبعض الأقل بالفرنسية، وغالب ما يريد قوله “نطقاً” فعبارة عن تكرار لحروف التلكؤ “أمممم … أأأأأ … آآآآييي … إلخ” متبوعة بتلويحات تلميحية، وحركات عشوائية عنيفة الفعل، برأس حليق، وعيون رهيبة شنيعة الاستفزاز. “كأنه سجين سياسي هارب لتوه من التعذيب. أو مريض نفسي جئنا لمقابلته في مستشفى الأمراض العقلية” وبين كل هذا الخليط ليس هناك أي جواب مفهوم للتساؤلات على العموم، ومع كل نهاية سؤال معاناة عن أي نوع من الجواب سيكون. فقد أصبحنا نتوقع أجوبة افتراضية من ضحكات. أو  تشنجات ساخرة، تأتي من خلال بعض الكلمات التي لا رابط لها بالموضوع، ولكنها تدل على العدائية الكاملة. وعندما يتنازل لكي يقوم الناقد الفنلندي الوحيد “هانو هاريّو” بالترجمة رداً على تساؤل… يعترض “توركا” عليه، مشيراً إلى أن ما ترجمه غير صحيح، وإن “هاريّو” كاذب لا يتفق مع ما يترجمه الآن، لأنه قد وقف ضد المسرحية .. في مقالاته …
ويخال لنا في لحظات أننا قد انعزلنا عن جو المسرح بالكامل، وإننا لسنا إلا في إحد المصحات العقلية التي اخترقت علينا الزمن فجأة، ودون موعد … ربما لأننا كنا نتوقع بعد عرض متعب ليلة البارحة في مدينة “تمبرا” أن يأتينا المخرج لمتحف المسرح في هلسنكي كي يزيح عنا كثيراً من الغموض الذي سطا علينا أثناء العرض … لكننا لاقينا تعقيدات أشد . بل إننا ما إن نخرج من دوّامة التأتآت، حتى ندخل لدوّامة هستيريا الضحك، ولا شيء غيره، ولقد كان رده على تساؤل بريء لـ”يان هربرت” عن طبيعة الجمهور، ولمن يقدم مسرحه أستفزازياً، لتصوره أن ذلك انتقاص منه شخصياً مما دفعني لتحديه بالقول: بأن غالبنا لم ير مخرجاً … ولكنه لم يعلق على لا على السؤال ولا على التعقيب، ربما لأنه لم يفهم مساق التساؤل، ولا إلى أين يقود، وإلا لما وفرّ جهده في دوّامة تشنجات جديدة، وهرب الكثير منا للتجول من جديد في المتحف… استعداداّ لحفل الغذاء المفترض إقامته في شركة الهواتف التي تستضيف المتحف المسرحي في إحدى قاعاتها “الهناغرية”. لا حباً بالمسرح، وإنما ترويجاً لبضاعة العصر، وهي الهواتف النقالة التي تشتهر بها فنلندا، وعلى رأسها “AKIA ” المدينة تتوسط المسافة بين هلسنكي، وتمبرا، كنا مررنا بها ليلة ذهابنا، وعودتنا لمشاهدة مسرحية “خيبة الحب” في تمبرا.
سيرانو دوبيرجراك
وشاهدنا مسرحية “سيرانو دو برجراك”  من تأليف “ادموند روستان” وإخراج – ريجا – سينكارانتالا – RAIJA-SINIKA RANTALA نفس مخرجة “حانة فيرا” ولما دخلنا الصالة. بل الاستوديو الصغير، داخل المسرح الوطني، وجدنا المقاعد مكتظّة على الرغم من عددنا المحدود  وضيق حيز التمثيل بحيث يتداخل حيّز العرض، ومقاعدنا وكأننا في داخل ساحة وغى سوف تقع وشيكاً. ومع هذا حبسنا أنفاسنا، لتوقعنا تقديم مختصر للمسرحية التقليدية، لكن ما حصل كان العكس. إن الحيز كان مزدحماً بالممثلين، وقد حشروا بين الجمهور، هم، والأثاث، والسلاح، وملابس عصر النهضة. وهكذا عانينا من ضيق الرؤية، كأننا نرى الأحداث في المقاعد الأولى لصالة عرض سينمائية بشاشة عريضة، تتطاير المشاهد من زوايا أعيننا، خشينا على أعيننا من الازورار وربما الحول. بل خفنا من أن نتلقى أحد الضربات الطائشة. ربما صرنا نخشى أيضاً أن نلتصق كثيراً بالممثلين فنمسح لهم عرقهم، بعد أن زكمت أنفاسنا منها. وهذا الوضع ما نوهنا عنه في البداية، وهو عدم تقدير وضع المسرحية في الحيّز المطلوب لها، ربما وجدت  المخرجة في نفسها ميلاً لتكرار تجربتها مع مسرحية “حانة فيرا”، ولكنها لم توفق لعدة عوامل من أهمها: أن مسرحية سيرانوا ديبرجراك، العنيفة الحركة، والتي يغلب عليها الفارس، بحاجة لمساحة كبيرة للحركة، وبخاصة مشاهد المبارزات، إضافة للمقالب. فهل غاب عن المخرجة ذلك؟ أم أن هاجس الانفتاح على الجمهور جعلها لا تقدّر مخاطر مجازفة كهذه، وإلى ماذا سوف يوصلها توجه مكرر من نوعه لديها، ربما استسهلت الخلطة، فصارت لديها مثل نمط تلبسه لأي مسرحية تخرجها، على الأقل لو أنها اختارت مساحة أكبر كتلك التي وظفتها في مسرحية “حانة فيرا”، ربما تكون أكثر اقناعاً، وتجاوباً. لهذا جاءت الانطباعات متناقضة جداً، غلب على بعضها المجاملة الكبيرة، ومن أسماء لم نعتدها معنا. ولكن التنافر في التقيّم كان غالباً، فمنا من هرب إلى أقرب حانة منتظراً انفضاض العرض والنقاش ليعود مع العائدين، وبعضنا الآخر لم يستطع النوم في العرض رغم نعاسه لخوفه من صعقة على رأسه.
أما من أعجب بالعرض فلعله قرأ عن ممثل فنلندا المشهور، جازف هذا بتمثيل شخصية “سيرانوديبرجراك” رغم تجاوزه سن الخمسين، ولقد أجاد فعلاً، لكن الانهاك كان بادياً عليه في نهاية المسرحية، وهو يقود مجموعة الممثلين الذين بدوا أمامه كالهواة. لم نقاوم كثيراً لمناقشة العرض لكن “هانو هاريو” كان على عادته قد جمّع بعض الآراء جاءت كالآتي: خلال الخمس دقائق الأولى بدا “إسكو سالمينن – ESKO SALMINEN” الممثل الفنلندي الشهير، أكبر سنناً بكثير من أن يمثل مسرحية رومانتيكية، وفيما بعد ظهرت قدراته أثناء العرض، هذا ما قالته “آنّا فوولدش – ANNA FOLDES “: لقد سألنا عن “سيرانو دو بيريجراك”، وعن المسرح الوطني الفنلندي، فكل “سيرانو” كنت قد شاهدته سابقاً كانت معروضة على مسرح كبير . فال”WILLENSAUNA” هي مساحة كبيرة للتركيز، لقد شعرت في حقيقة الأمر، بأنني قد كنت هناك خصوصاً عندما سقطت الشمعة بجانبي.. وقالت البلغارية “كالينا ستيبانفا – KALINA STIPANVA” بأن المساحة التي مثلت فيها مسرحية “سيرانو” لم تكن موفقة. فبالإضافة لأن إيقاع المسرحية كان بطيئاً، فإن المسرح الفنلندي هو كبير، وبعيد أكثر من حجم – XXL  “تي  -شيرت – T – SHIRT”. بينما نجد المساحة كبيرة في أي مكان آخر، إن ضيق المساحة قد خلق ضعف في انشداد الجمهور، ولي شخصياً.
كان عرض مسرحية الأب صرعة كبيرة
وآخر مسرحية كانت “الأب – أوغست سترندبرغ” ولكي لا نبقى من دون معاناة، فقد جاءت هذه المرة على يد فرقة سويدية تعرض في هلسنكي، “ويبدو أن ذلك عادي جد، في الدول الاسكندنافية المتجاورة.  بل إن نسبة غير قليلة من الجمهور الفنلندي تتكلم اللغة السويدية” خيّل لنا أننا سوف نشاهد عرضاً متميزاً يتوازى على الأقل مع ما عرفناه عن العبقري “أوغست سترندبرغ”، ومن فرقة مسرحية تحمل نفس تراثه، فبعد جهد كبير ومعاناة دامت طوال العرض من دون فترة استراحة انتهى العرض البارد والكئيب، وكأننا نشاهد إحدى الفرق الهاوية المدرسية في الخمسينيات القرن الماضي. برودة في كافة عناصر العرض، سواء بالمعالجة الإخراجية، أو في التمثيل . وبعد مداخلات عديدة بين معجب جداً، وبين متحفظ مستاء، سألنا المخرج، وهيئة الانتاج الآتي:
– هل يموت السويدون هكذا بكل برود مثل طقسهم ؟ وهل مشاعرهم ثلجية لهذه الدرجة ؟
كانت ردة الفعل عنيفة، ومفاجئة… بعد كل تلك المحاباة الأوروبية، فبادرنا المخرج بجواب عبارة عن سؤال وكأنه ديك منفوش انتهى لتوه من صرع آخر الديكة في الحلبة، فبدونا له مشاكسين غير لبقين:
– من أي بلد جئت ؟
– أنا إنسان عالمي، وما دخل الهوية في نقاش مسرحي.
وحاول “يان هربرت”، بأسلوبه الديبلوماسي هذه المرّة أن يقرّب. أو يهدئ الجو، “يبدو أننا في هيئتنا يفهم بعضنا البعض الآخر، ونتناوب التفاعل، منذ عرفنا بعضنا قبل عشر سنوات، فقد كنت في اليوم السابق قد لاحقت سؤاله مع “توركا”مخرج مسرحية خيبة الحب .. وها هو اليوم يخشى صداماً من نوع آخر” فقال :
–  فاروق يقصد بقوله أن برودة الموت لا تعكس جيشان الانفعال لمعاناة الأب .
وبدا التفسير أكثر استفزازاً فقلنا مباشرة للمخرج .. لم نشاهد أبرد من موت الأب في مسرحيتكم هذه،  كأنه يموت بلطف، وقد ارتضى مصيره، لا لأنه مات من تأزم كبته، وغيظ من سيطرة المرأة عليه. وهذا ما لا يتوافق حتى مع سيرة حياة سترندبرغ الكاتب نفسه. أو حتى ما عكسه في مسرحية الآنسة… لقد شاهدنا عرضاً مميزاً للمخرج العراقي عوني كرومي “ركزنا على الموطن، كجواب غير مباشر والذبح فيما بعد” يذبح البطل عصفوراً حياً على المسرح أمام المس جوليا.  وتعمدنا قول هذا في السياق لنرى الفزع على وجهه، في رودود أفعاله الذي اعتدناها عندما يعرفون أننا من العراق الدامي ذو السمعة الشريرة وقتها، ومع كل من يفجع بنا، وكأننا بربر عندما يتعرفون على جنسيتنا، ربما أنهم يجهلون. أو فاتهم من أية حضارات العريقة تحديرنا. ونحسب أن لسان حاله قال: أجل فأنتم بربر. ظهر من تعبيره الذي تبع كلمة حسناً، حسناً…
غير أن آيرين “سكرتيرة الرئيس” انبرت للمخرج، والممثلة الرئيسية لكي تلومهم على ضعف التعبير، وسذاجة التفسير.. وشناعة المعالجة التي لم تعهد تفسيراً لها سواء في بولندا. أو فرنسا. أما “هانو هاريو” فقال: كان للنقاد نجاح ملحوظ بحضورهم مسرحية أوغست سترندبرغ ” الأب – VIIRU’S FADREN” فقد ساعد أن نقّاد من كوريا، وتشيلي، واليابان، وبلغاريا كانوا يعرفون المسرحية جيداً، لكن هذا لا يعني أنه جزء  كبير من النجاح.. ويضيف “هاريو”: العرض كان عن علاقة واقعية بين الرجل والمرأة. فإن ناقد له وجهة نظر هي انعكاس لرؤية بلاده.. فلقد ترجمت الناقدة اليابانية الشابة على كون هذا ما يتم الحديث عنه في الحياة اليابانية الحاصلة: هل ما يزال الرجل هو الكل؟ إن التسلطية التي خلقها “توركّا” جعلتها تفكر بالوضع ببلادها.
ومقارنة بالعروض الفنلندية فإن مسرحية الأب تعتبر معقولة. فلقد حركّت المسرحية الدمع في أعين النرويجية “أنغرد”. ولقد أشارت المسرحية بوضوح إلى مواقف الناس، أحدهم ضد الآخر. في لحظة واحدة كنت أنا في جهة الأب، ولحظة أخرى أصبحت في طرفها. ليس هناك مسافات بين المفكرين في كل من  عروض النرويجيين، والسويديين تقريباً، فأكثر النقّاد الأجانب اندهشوا من التنوع، والخصوصية عن مجموع المسرح الفنلندي، ودعم الدولة في دول معروفة بالرفاهية. وأشار الفلوريدي “هاي هانديلما – JAY HANDELMAN”:  بأن المعاني تجلب ثمارها بدرجة مميزة للمسرح السويدي فلقد كان العرض بطيئاً بعيداً عن لغة “برودواي” المعروفة.
الخاتمة
رغم كل ما يقال بعد هذا فإن بعض من ناقشوا لم يكونوا في حقيقة الأمر غير انطباعيين. ومن جهة أخرى بدا لنا أن بعضهم قد جاء ليتلمس هنا حرفة النقد … دون حياء.. وتذكرنا وقتها تعبير جميل ساقه الفنان المبدع المغترب في النرويج “الدكتور فاضل سوداني” بأن ما لدينا في الشرق . أعمق، وأكبر، وأكثر ممارسة، وصراحة . ولكننا نبخس حق بعضنا البعض، ولا نفسح لبعضنا فرص التعبير عن الرأي … ما يعوزنا هو تلك الحرية المشروطة للفرد تجاه زميله … إضافة لذلك التحييز الذي لاحظناه من تحفظات غير معهودة لدينا كما حصل مع التشيلية  “حديثة العهد في الهيئة”  أذكر أنها تحاشتنا، خصوصاً بعد أن عقبنا على حديثها عندما كانت تتكلم عن إيلندي، وفكتور جارا، معنا والبرتغالية واالبولندي، بقولنا: بأننا نتقاسم وبلادها تأريخاً مشتركاً، وأصرّت حتى آخر يوم عدم التحية، رغم أننا كنا نتبادل الحوارات قبلها … ” .
ولعل القارئ بعد هذه الانطباعات يخرج بخيبة أمل كبيرة … فإذا هذا يحدث في بلد غربي يتربع المسرح بالنمط الأوروبي فيه منذ ما لا يقل عن أربعة قرون. فما حالنا نحن؟ أليس الوضع لدينا أكثر بؤساً.. نقول لا  لأن ما لدينا هو نوع من الوعي الموسوعي، والتنوع في تناول الثقافة، ومنها المسرح.. ولا نبقى أسرى مدرسة، ونمط معين .. بل نتابع كل التطورات في العالم حتى على صعيد تفكيرنا الذاتي لهذا يأتون لاحتلال بلادنا ليفرغوها من مضامينها، وعلمائها لأننا في نظرهم لا نستحق ما وهبناه من طبيعة، وحضارة، وكأنهم هم الذي أسسوها على أرضنا، وجئناً نحن من البادية لنرتع فيها من غير وجه حق،، مفارقات تنطلي حتى على الشريحة المثقفة الأوروبية والذين نتعايش معهم مهنياًّ، قهم يؤمنون بها من غير تفكير، لأن لوسائل الإعلام المعولمة هاجس، هو تسطيح الثقافة، حتى بروادها، وتفريغهم من التعبير على المسرح بالفكر الذي يحمله كهوية، وينقله كرسالة، فأين ذهب عمالقة المسرح، لقد انزووا في كواليس المسرح لأن الإعلام لا يبرز غير التافه والسطحي.
وللمزيد زوروا موقع المؤلف: https://sites.google.com/site/faroukohan/
(1)    عضو الهيئة العالمية لنقّاد المسرح
(2)    عقد في سبتمبر 1996.
(3)    سوف ننشر أهم الأوراق التي ناقشت محور الندوة بعنوان المسرح ووسائل الاتصال.
(4)    حرصنا على إيراد أسماء المسرحيات، والذوات باللاتينية لكونها لا تترجم بالضبط من لغة معجمة غريبة وهي الفلندية كشقيقتها الهنغارية.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *