قال أديب من أدباء المقاهي مرَّة أنـَّه ما من أديب في العراق لمْ يبعْ واحدا ً من كتبه بعامل الاضطرار والحاجة ، منتحلا ً شتى المعاذير والمسوِّغات لذلك ، من قبيل أنـَّه يستطيع الاستغناء عنه لانتفاء حاجته له ، فقدْ لا يعينه في تثبيت واقعة أو توثيق خبر ، فيما لو شرع بالكتابة مستقبلا ً ، وكذلك عسى أنْ يصير إلى حيازة أديب ثان ٍ يفيد منه بدل أنْ يبقيه في مكتبته مثل حلية أو زينة ذهبَتْ نضارتها ، وهو تسويغ يُرضي به نفسه ويشيع فيها لونا ً من الرَّاحة وهدوء البال كي لا يعتريها التسخُّط والنقمة على الحياة التي ألجأته محنها وشدائدها وظروفها القاسية لتعريض ذاته للخجالة أمام المارَّة ومشتري الكتاب الذي يسومه بأهون الأثمان .
والمؤسي أنْ يباع غير كتاب في السُّوق ، دون أنْ يُلتفتَ إلى أنـَّه مُهْدَىً إلى شخصه من مؤلفه الأصلي ولمْ ينتهِ له بالشِّراء ، فيلزم هنا مسح عبارات الإهداء المدوَّنة في الصَّفحة التالية للغلافِ الخارجي ، كي لا يُفسَّر ذلك على أنـَّه استهانة بالمؤلف واستخفاف بقدره وزراية بموهبته ، وكذا فقد أمكن حيازة بعض المؤلفات بطريقة الإهداء من أصحابها وقد كابدوا النصب والعناء في إعدادها وتحملوا المشقات في ترتيب مادَّتها والتدليل على صحَّة توجهاتها وما تنطوي عليه وتتسم به من انطباعات ووجهات نظر هي والحقُّ والسَّداد وابتغاء الخير والصَّالح العام في غاية من التوافق والإجماع على الرُّجحان والحصافة غير أنـَّها آلتْ إلى مَنْ يبخس قيمتها ويجهل شأنها مهما تكنْ المقتضيات والدَّواعي للجود بها والتنازل عنها .
على أنَّ هناك مَنْ يعتصم بغير هذا المزاج والطبع ، فرغم علمه أنَّ حياته موقوتة وأنَّ مكثه في هذه الدُّنيا مرهون بقدر ، وإنَّ هذه الدَّوريات والمصنفات المرتبة والمصفوفة في رفوف مكتبته ، وتضلُّ ساكنة في مكانها ليل نهار وقد لا تمتدُّ لها يد مدَّة طويلة ولا تنظر في صفحاتها عين ، فإنـَّه يضنُّ بها أنْ تهجره وتغادره إنْ لم يفتكـَّر في زيادتها ومضاعفتها ورفدها بأشباهها من المظان والكنوز المعرفية .
وقد راعني أنْ أشاهد من على شاشة التلفزيون أديبا ً مهتما ً بالثقافة العربية وهو يلقي حديثه حولها ، ويبدو أنَّ المخرج التلفزيوني شاء أنْ يكون التصوير في بيت الرَّجل الذي اتخذ لنفسه في الآونة الأخيرة هيئة خاصة بأشياخ التراث والمشغوفينَ به والمنقطعينَ لدرسه ، فأمكن تطابق هذه الهيئة وآلاف الكتب حيث يجلس على مقربة منها ، ممَّا يوحي بالمهابة والرَّوعة والجلال ، ويعيد لنا مشهدا ً ًلعكوف الجاحظ على القراءة والتنقيب والمتابعة في أمس البعيد ، فيا لله تحمُّل رجل ِاليوم وصبره وحرصه على ذخائره رغم ما مرَّ به من ضوائق وتصاريف محرجة .
من مشترياتي من نفائس الآثار والكتب المعروضة للبيع الجزء الثاني من كتاب ( حقائق لبنانية ) للشَّيخ بشارة خليل الخوري الرَّئيس الأسبق للجمهورية اللبنانية ، وقد أنجز بمطابع باسيل إخوان عام 1960م ، على أنـَّه من منشورات أوراق لبنانية المنجزة في درعون – حريصا بلبنان ، بنسخها البالغ تعدادها تسعا ً ًوتسعين ، كلُّ هذه المسميات والعنوانات لاتهمُّ القارئ بحال سوى أنْ يجتلي صورة مضخـَّمة لحال بلد الإشعاع الذي تنتشر فيه مصادر النشر والطباعة هنا وهناك وليس في بيروت فقط ، ويبدو أنـَّه لمْ يُؤَلـَّفْ لغرض الاتجار والتكسُّب منه إنـَّما لكشف الأسرار والحقائق والملابسات وراء حصول هذا الرَّجأ من الدُّنيا العربية على استقلاله بعد جلاء القوات الأجنبية عنه ، فلا مراء أنْ يقدِّمه ويهديه للسَّاسة وذوي الاختصاص والدِّراية بالصِّعاب والعثرات التي تعترض طريق المكافحينَ في سبيل حريَّة أوطانهم ، وفي الصَّفحة الثالثة عشرة التي تلي المقدمة الرَّائعة التي كتبها سياسي لبناني يدعى فيليب تقلا ، يتصدَّره نص عنوانه وصيَّة ، وهو ليس غير نصيحة الشَّاعر الإنجليزي ريديارد كبلن لولده ، وكبلن هذا هو كبلنج شاعر الإمبراطورية البريطانية وصاحب المقولة المشهورة :- ” الشَّرق شرق والغرب غرب ولنْ يلتقيا ” ، ونظر له مثقفونا إنـَّه عنوان للرَّجعية والتزمُّتِ والتعصُّب ومثل للذهنية المتحجِّرة والتفكير الذميم المنغلق وغير المتطلع لنهضة بقية الشُّعوب أو يشوم لهذا الشَّرق خيرا ً ، ونقطة الضَّعف في الكتاب منذ بدايته وقبل تمحيص ما ورد فيه من آراء ونظرات والوثوق بصدقها وصوابيتها هي أنَّ هذه القصيدة منقولة من كتاب ( عمالقة وأقزام ) للصُّحفي المشهور مصطفى أمين والصَّادر عن مؤسَّسة أخبار اليوم المصرية ، وسبق للرَّحالة والطيَّار المغامر ورئيس الدِّيوان الملكي في بلاد النيل أحمد حسنين أنْ نقلها للعربية عام 1912م ، أيَّام دراسته بأكسفورد ، وقدْ قرأها آلاف المرَّات محاولا ً أنْ يجعلَ حياته سائرة على هديها لاسِيَّما أنَّ منها هذا المقطع :- ” إذا استقبلتَ النصر كما تستقبل الهزيمة سواءً بسواء ، وإذا استطعْتَ أنْ تتحمل نتيجة أقوالك ، وأنْ تشهدَ المعول يهدم كلَّ ما كرَّسْتَ من أجله حياتك وتنحني لتبني من جديد ما تهدَّم ……. ” ، لكننا لمْ نعثرْ على إشارة للمرجع الذي احتوى هذا النص .
وسبقَ لي أنْ اطلعْتُ في أحد كتب مارون عبود على نقد مجامل لكتاب ( حقائق لبنانية ) ، ولا مراء أنَّ الرَّئيس اللبناني كان على جانب كبير من الثقافة القانونية والتاريخية والأدبية ، والعجيب أنْ كان من مشترياتي قبله بشهر كتاب ( لبنان بين الحقيقة والظلال ) يزعم مؤلفه زكي النقاش أنـَّه دراسة تحليلية ونقد موضوعي لكتاب ( حقائق لبنانية ) ، ونحسبه ما جاء إلا ليفنـِّد ما اشتمل عليه من روايات وحكايا ، ويدمغ المؤلف وقد باتَ لا يضرُّ ولا ينفع بعدما أدبر عنه السُّلطان بالتلفيق والبهتان وانتحال الحقائق وتشويه الصَّحيح منها .
ولكن كيف وصل هذا السِّفر إلى شارع المتنبي ببغداد حيث سوق الكتب ونسخته واحدة من تسعة وتسعين مثلها طـُبعَتْ لتهدى إلى الخاصة من السِّياسيينَ والمفكرين ؟ ، فهل عرضَها صاحبها المهداة له وهو نصير عسيران للبيع في سوق بيروت وجلبها من هناك شخص هوايته السَّفر ثمَّ باعها فيما بعد ؟ .
والمهم إنـَّها بالنسبة لهواة جمع التحف والنفائس تعدُّ لقية لا تقدَّر بثمن ، خاصة أنـَّها تشير إلى كونها هدية المؤلف إلى أحد الصَّفوة من المقرَّبينَ الذين تربطهم به أواصر متينة وعلائق وثيقة ، وكذا نقرأ الآتي :- ” إلى حضرة الأستاذ نصير عسيران مع أصدق العواطف وأطيب الأمنيات / بشارة خليل الخوري 1960م ” .
ولو كان المشتري غيري إذنْ لأوسع بائعه ، لو كان يعرفه ذما ً ولوما ً وتقريعا ً ، على أنـَّه لمْ ينتبه على جودته ونفاسته وأهميته في سرد قصَّة الكفاح الباسل لشعب لبنان ، فضلا ًعن اشتماله في صفحاته الأخيرة مصورات نادرة لسفرات الرَّئيس وزياراته حواضر في الشَّمال والجنوب وحفاوة الجمهور بها ، وأخرى تعكس وتوثق مشاهد من استقبال أوَّل رئيس للبنان في العهد الاستقلالي لرؤساء الدُّول الشَّقيقة والصَّديقة ، وكذلك الملوك ورجال الدِّين والشُّعراء المعروفينَ ، فهو من هذا الوجه لا يحسُنُ أنْ يُفرَّط فيه ويُهْمَلُ بين ركام الكتب المستعملة ، علما ً أنـِّي أبصرْتُ مئات المعجبينَ من الجنسين ِ يتهافتون أمام نزار قبَّاني قبل قرابة أربعين عاما ً ، للحصول على توقيعه في دفاتر مذكراتهم ، وكان تبدو بقية من وراء الشَّباب في ملامحه ، وأنا بدوري اليوم أحصل على صورة مكتملة لخط بشارة الخوري وتوقيعه وهو في ذروة الهرم وعِيَافِ منصب الرِّئاسة الذي حُلـِّئَ عنه بفعل مناورات ودسائس ومكايد اقتضاها إهمال غير مقصود لمعايش الناس ، فوطنيته لا يُزايَد عليها ، ويُمارَى فيها ، إلا إذا نصَلَ من ماضيه وأيَّام صراعه وجهاده حيال القوى الباطشة ، دون حرية لبنان وتآخي طوائفه ، وأخرى مصطنعة منحولة إجترحها ذوو الأطماع والحسَدَة والمنافقون وراكبو الموجات الذين لا تخلو أرض الله منهم .