عايدة الربيعي : التصوير هو التعبير الصامت عن الأشياء الصارخة

“ينبغي أن نرسم ما لانراه ولن نراه أبداً”.
حين  يحمل الإنسان روحاً صبورة خالقة لكائن إبداعي جديد، سيكون حينها فناناً رساماً مصوراً. حينها ستلمس عينه ولاتبصر فحسب، وحين يبصر البحر يرى شفافية تتكاثف تدريجياً لتترك رسوما على الرمل، ويلمح صخور القاع تهتز وتتثنى تتوامض الوانها وتنبض، هكذا يرى الاشياء تتكرر دون ان تتكرر. سيكون هكذا حدود تصوره للطبيعة، ومدى إدراكه لأشكالها فتمتزج عنده تلك الصور وتتفاعل لتشترك في تحديد معالم اللوحة التي ترتسم في ذهنه (الحدود البايلوجية للبصر الإنساني). أن الفرق بين الإنسان العادي والإنسان الفنان ان الثاني يحس بوجود عوالم أخرى غير منظورة من وراء هذا العالم المنظور.
“كان  الفنان يفرض صورته في فنه في السابق،  ثم أضفى على الصورة مسحة من القداسة أو الخلود أو المثالية ..حتى تضاءل هذا الإحساس باللامنظور بعد أن تحصن بمدينته فكاد يحصر بصره داخل آفاقها ، انعكس ذلك في الفن ، فأصبح ” علم المنظور” أحد الشواغل الرئيسية التي تشغل ذهن الفنان”.(1)
من الاسباب المهمة التي ساهمت في عملية التجديد في الرسم  هو نجاح التصوير الشمسي في تسجيل مظاهر الأشياء أدى هذا بجماعة من الرسامين العصريين إلى ازدراء الرسم التقليدي ، وإلى البحث عن اسلوب جديد في التعبير لايعتمد على محاكاة الطبيعة، فبدأ الرسامون الحوشيون  Fauvistse  بما يسمونه تحريف الطبيعة  Distortion في رسوماتهم , فكان – الرسام الحوشي- يحرف عمدا مظاهر الأشياء ويغير في حجومها ونسبها والوانها ليؤكد التعبير العاطفي الذي يقصده. في البدء علينا التفريق بين مايسمى بالرسم Drawing ، والتصوير  Painting أو (التلوين الزيتي).
اولاً الرَّسم (*) في اللغة : العلامة . وعند المنطقيين : قسم من المُعَّرف مقابل للحد. ومنه تام وناقص.
اما الرَّسم ((Drawing كفن تشكيلي : هو الفن الجميل الذي  يقوم على تمثيل الطبيعة بحيها وجامدها بقلم الرصاص،  بالتعبيرعن موضوع أو فكرة بلون واحد فقط ودرجاته، اوالرسم بقلم الرصاص من الفاتح الى القاتم . بأي نوع من انواع الالوان على الاسطح المختلفة والمتوافقة والمتباينة من ناحية الخامة والملمس. ويستخدم الرسم في عدة اغراض: الاسكتشات السريعة: وهي عبارة عن خطوط سريعة لمنظر متحرك او ثابت او فكرة متخيلة يرغب الرسام في تسجيلها.يرسمها لمزاجه الخاص او ارضاءا للاخر.
أما بالنسبة ل “فن التصوير ( ( Painting أو ( التصوير الزيتي) :  هو عمل ابتكاري وفن من الفنون التشكيلية وهو عملية تسجيل العناصر المرئية والمجردة ،باستعمال أنواع الخطوط و الأشكال والمساحات والقيم اللونية و الضوئية المنسجمة فيما بينها و المعبرة عن ذات الأشياء ، هو عمل فني متكامل  قائم بذاته يمثل صورة متكاملة لموضوع ما ينفذ بدقة كبيرة بحيث تراعى فيه العلاقات الجمالية في الخط و المساحة و اللون والقواتم و الفواتح بطريقة منسجمة. وهو احد اشكال الفنون التشكيلية  وقد عُرف منذ أقدم العصور، وكان سائدا عند قدماء الآشوريين والمصريين واليونانيين . منذ كانت مادة التلوين في الفن القديم ” الأنكوستا، والتامبيرا، والفرسكو” هو فن يختلف عن :
” التصويرالفوتوغرافي” ((Photography،  الذي هو فن إثبات الصور الحاصلة بواسطة غريفة سوداء مظلمة على صحيفة سريعة التأثر بالنور وهي كلمة يونانية مكونة من شقين Photos  ، وGraph  ، والمراد به التشكيل بواسطة الضوء أو التسجيل بواسطة الوسائط الكيميائية والميكانيكية على شكل صورة دائمة تتكون على طبقة من مادة حساسة للضوء..
بمعنى ان الرسم والتصوير(التلوين الزيتي) هو ليس تصويرا للواقع لكنه انعكاس عنه. ومساحة اللوحة لاتمثل عالم الشكل وأنما أبعاده المبعثرة في الالوان والخطوط ومساحة التظليل والبياض التي تخفي بين طياتها الضوء المسلط على الشكل لإبراز معالمه وقراءة تفاصيله وملامحه الغارقة في بحر البياض ذاته. من هنا يتجلى لنا أن لفظة ” تصوير ” تطلق على تمثيل الأشياء وتشكيلها مع اختلاف الأدوات المستخدمة في هذا التمثيل من خلال تجميع عناصر وخامات مخصوصة يراد بها تكوين تلك الصورة بالألوان كما ورد في تعريف التصوير بأنه فن تمثيل الأشخاص والأشياء بالألوان وبفرشاه الرسم او بأي أداة اخرى .وعليه فان فن التصوير(  ليس مهمته نسخ الواقع ليكون مطابقاً للأصل وأنما مهمته تحفيز الناظر وسبر ثقافته لإيجاد صلات ووشائج مع اللوحة والواقع)، فالرؤى تختلف باختلاف مستوى “ثقافة الناظر “وزاوية النظر تعكس رؤية وشكل جديد. والرسام المصور يبتهج حين تتعدد الرؤى والقراءة لتفاصيل عمله الإبداعي ويرفض الإفصاح عن أسرار وأهداف عمله الإبداعي، لأن مهنته كرسام مصور صناعة الألغاز للفوز بالحلول المتعددة التي يقدمها الجمهورمثلما يفعل الشاعر في استخدامه التورية او المجازات الذهنية الأخرى. يعتقد ((سولا جيس))”أن فن الرسم ليس انعكاس مباشر للواقع، لأن الواقع تعكسه ثقافة الناظر”  وإن كان فن التصويرالشمسي  انعكاس مباشر للواقع فإن فن الرسم والتصوير هو انعكاس غير مباشر عنه، فمسعاه الأساس إبراز الأبعاد الخفية للواقع التي تكون غير مرئية للناظر. فقد يركز الرسام الفنان على عمق الحزن في الوجه أو أبعاد السعادة أو آثار الزمن الناخرة لمساحة الوجه أو الجمال الكامن في المساحات غير الظاهرة من الجسد.. تعبر ((تريستان كوريبير)) عن ذلك قائلةً : “ينبغي أن نرسم ما لانراه ولن نراه أبداً” ومن سجايا الرسام- الفنان(المصور) ان  يكون عادة مرهف الحس، يمتلك قدرة في التقاط تفاصيل الجمال بسرعة ويحس به، ليعكسه إحساساً في عمله الإبداعي. والرسام الفنان لايرسم بيده، وأنما بروحه وقلمه الذي يمثل أحد مجسات روحه التي تخط أحاسيسه ومشاعره. . وريشته ليست أداة للتلوين، وأنما (مجساً لعكس ترددات الروح) ومااصدق هذا !!  فهي تضرب بوحي ترددات الروح المتحسسة لتفاصيل الجمال، لأنها تستمد أحكامها في التلوين من عوالم كونية جسدت الجمال في الواقع غير المرئي. يقول ((روسكن))”أن روح الشرير لاتقدر أن تفهم الجمال والكمال، (الروح الحية، الطاهرة والشريفة)  هي وحدها قادرة على فهمها لأنهما من شاكلتها”. روح الرسام-الفنان روح صبورة خالقة لكائن إبداعي جديد، ينطق ويحاكي الجمهور المثقف الذي يجيد فك رموز وألغاز اللوحة التي يمنحها الفنان جزءًا من روحه ليتقاسم معها السعادة.
يمتاز فن الرسم بالدقة وبالذوق الرفيع وبالصبر الذي لاحدود له في بناء أجزاء المخلوق الإبداعي بتناسق جميل يعكس مظاهر الجمال والكمال فيه، ليمارس دوره في الحياة مع أقرانه من الكائنات الإبداعية الأخرى. يرى ((هرمان هسه))”أن فن الرسم شيء مدهش حقاً، لأنه يمنح الفنان السعادة والصبر”. إن سعادة الفنان بصناعة مخلوقه الإبداعي المفصح عن تفاصيل جماله المثير للأسئلة والألغاز الفنية الذي يشد الناظر إليه ويجبره على التحاور والتعليق الفني، سعادة لايمكن أن يفهمها غير الفنان المدرك لعملية المخاض النفسي والحسي الذي ينتاب الرسام-الفنان عند صناعة كل جزء من أجزاء مخلوقه الإبداعي انما يفصح  عن تفاصيله الجمالية. يعتقد ((بتهوفن)) “لايفصح الفنان عن سعادته بعمله الفني، أنه يخفيها في داخله”. الرسام-الفنان يجسد الأحاسيس والجمال في اللوحة ويعبر عن قصيدة الشعر بكل أبعادها الحسية بالألوان، كل لون فيها نغمة حسية-موسيقية وكل خط منحي فيها يمثل بحراً من بحور الشعر. فن الرسم أصعب أنواع الفنون لأنه تعبير صامت عن أشياء صارخة، وتسليط الضوء على الزوايا المعتمة في الواقع وبحث متواصل للكشف عن تفاصيل غير مرئية اسدلت الأيام والسنين والأحداث الستار عليها.
ان  الانجازات الكثيرة التي تحققت في عالمنا اليوم أثرت بشكل واضح على التصوير في عالم الفن فظهرت  الكثير من المصطلحات لاتجاهات فنية عديدة. فاصطلح على تسمية المذاهب والمدارس الفنية التي ظهرت في مجال الفنون الجميلة منذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789 وانهيار النظام الاقطاعي في اوربا ، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1914- 1917) (بالمذاهب او المدارس الحديثة) . بينما يطلق اسم ” الفن المعاصر ” على الاتجاهات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم . فتعددت المذاهب الفنية وتوالت حركاتها منذ مطلع القرن التاسع عشر .. ظهرت الرومانتية والطبيعية والواقعية. وبعد ازدهار المذهب التأثيري او التأثري..وفي القرن العشرين ظهرت مذاهب جديدة كالتكعيبية والوحشية والمستقبلية. ثم انبثقت من المجتمع الإنساني طائفة من الفنانين ضربوا بالقيم الجمالية ليخرجوا بتجربة لهم تسمى ” الدادا”  التي ختمت بالسريالية التي تغوص في اعمال اللاشعور والتجريدية التي تسعى الى البحث في جمال الأشكال اللاموضوعية والهندسية. وسمي ” بالتصوير المعاصر” ((Contemporary Painting  .
ان أئمة المذاهب الحديثة استطاعوا ان يستخدموا، وان يبتكروا اساليب فنية  جديدة في مجال فن الرسم والتصوير لم تكن معهودة من قبل في القرون السابقة للقرن العشرين  وذلك عن طريق تلك المحاولات الابداعية التي اتخذت شتى الطرق الإدائية في مختلف أبداعاتهم الفنية( بحسب نظريات الفن المعاصر) و تبقى تلك الإبداعات – الفنون الجميلة الحديثة والمعاصرة – هي الاعمال التي نحس بجمالها وتسعدنا بما فيها من معان وافكار واكتشافات للعلاقات الجمالية والشكلية. ويبقى الفنان وكما يعتبر نفسه هو اول من تقع عيناه على معالم جمال هذا الكون واول من يمعن فيه النظر ويتأمله ليعكس مافيه من  الحياة باحساس وعاطفة وجدانية معبرة. انه مسعى لفك ألغاز وأبجدية تفاصيل الواقع غير المرئي لجعلها تفاصيل مرئية تحفز أحاسيس ومشاعر الناظر على قراءة تفاصيل الجمال الحقيقي للواقع غير المرئي .
____________
(*)والرسم التام مايتركب من الجنس القريب والخاصة كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق، وعند الصوفية : هو العادة. حيث يقال في اصطلاح أهل السلوك : للرسم عادة. إذن فعلى الإنسان أن يبدأ أولا بتصفية نيته من شوائب النفس ودواعي الشيطان. وهذا يحصل بقوة العلم. وقيل: الرسم هو الخلق وصفاته لأن الرسوم هي الآثار. وكل ماسوى الله آثاره الناشئة من أفعاله.
رسوم العلم ورقوم العلوم : هي مشاعر الإنسان لأنها رسوم الأسماء الإلهية كالتعليم والسميع والبصير ظهرت على ستور الهياكل البدنية المُرخاة على باب القرار بين الحق والخلق. فمن عرف نفسه وصفاتها كلها بأنها آثار الحق وصفاته ورسوم أسمائه وصورها فقد عرف الحق.
2012م.
________________
(1) مقولة لرمسيس يونان.
* فنون مابعد الحداثة، د.هويدا السباعي- القاهرة 2008.
*دراسات في الفن، رمسيس يونان- الهيئة المصرية ، القاهرة 2006

ملاحظة : الآراء الواردة في النصوص والمقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *